ولم يطل بنا الوقوف بعد ذلك، فسار صاحبي المنتصر في طريقه، وأمرني أن أسير وراءه، وجعل يهز رجليه ويغني. وسرت وراءه في شيء يشبه الذهول، أتحرك بلا وعي كالآلة الصماء.
وكاد النهار ينصرم وأنا أجرر قدمي وراء الجواد، وتمشى التعب في مفاصلي وعروقي، واستولى الضيق على نفسي، ولاح لي الفضاء مثل لجة البحر الهائج لا تقع العين فيه إلا على سر مجهول. ثم أقبل الليل بعد أن كادت نفسي تزهق، فدعوت الله أن يبعث الفرج. ونظرت إلى الفارس في حقد، وأخذت أتلو بعض آي من القرآن. وما كان أشد فرحي عندما رأيته يقف فجأة كأن شيئا أمسكه، ونزل عن جواده وجعل يمشي وينظر حوله ليختار مكانا للمبيت. وكنا قد بلغنا جانب غابة عظيمة لا تبلغ العين آخرها، قد اكتست أرضها بالعشب الأخضر، وتشابكت في أعلاها الغصون. فجلست لألقف أنفاسي وأريح أعضائي. ولم يلبث الظلام أن أرخى سدوله، ثم طلع القمر وكان شعاعه يفيض على الغابة جمالا باهرا. وهدأ حر النهار إلا ما بقي منه كامنا في الهواء إذا هب رخاء من الغرب. وأخذ نور القمر يزداد حتى تخلل فرجات الأغصان، وكسا البساط العشبي الذي تحتها، وتراقصت الظلال وتلاعبت كلما هبت نسمة من النسمات. فاسترعى ذلك الجمال بصري وجلست ساعة أتأمله. وكانت المتعة التي أصبتها كافية لإزالة تعبي واضطرابي، وشعرت بنشوة تملأ صدري، ورأيت صاحبي الفارس قد خلع قلنسوته ووضع جعبته وإداوته على الأرض، وأطلق فرسه يرعى، وجعل يسير في أطراف الغابة يجمع الأحطاب. فاسترحت إلى منظره الإنساني وأنس قلبي إليه، وأخذت أنفاسي تعود إلى هدوئها، ودب البشر إلى نفسي.
ولما شعرت بما داخل نفسي من الخفة قمت متجها إلى الفارس وقلت له مستعيرا لفظه: «عفارم أيها الشجاع!»
ولم أقصد من قولي شيئا سوى أن أحدثه، وما كدت أفاتحه بهذه الكلمة حتى استجاب وأقبل على حديثي منطلقا كأنني فككت بالكلمة عقدة لسانه. وسأعيد ما قاله لي بلغتي؛ فقد كانت لغته رطانة لا تفهم إذا نقلتها عنه نصا. قال باسما: سأهيئ لنفسي طعاما وشرابا، نعم فإني أهيئ طعامي بيدي دائما، ولا أحب أكلا إلا إذا طبخته وسويته، ومازجت بين ما يقلى منه وما يسلق، وقدرت ملحه وذررت عليه الأفاويه بمقدار.
ثم استمر يضرب الأمثال مما صنع، ويذكر الصنوف وتواريخ صنعها، وهو في أثناء ذلك يذهب ويجيء يجمع الأحطاب في ضوء القمر. فقلت له باسما: «هذا بديع، ولا شك في أنك رجل ماهر.» فنظر إلي مسرورا وبدت نواجذه السوداء من فمه الأهتم، ثم مال على جعبته وأخذ ينكشها قائلا: «ليس هنا إلا بقايا مجففة، ولو كان في الوقت فسحة لكان عشائي لحما طريا.» ثم أشار بيده إلى الغابة وقال: «سأريك في الغد إذا بقينا هنا كيف أسدد الرمية، وكيف أثبت الطير في كبد السماء.»
فقلت له باسما: «إن من كان مثلك لم تعص له الوحوش أمرا.»
فقال مرتاحا: «وإذا شئت فإني أريك كيف أطعن بالرمح، وكيف أحطم بالدبوس؛ فإني صاحب السبق في هذه الفنون جميعا.»
فضحكت ضحكة لأخفي الرعشة التي سرت في جسمي، وقلت مبادرا: «لا، لا، ليس في هذه الحال التي نحن فيها ما يدعو إلى رمح أو سيف.»
فمضى في حديثه، وجعل يصف لي مغامراته ومنازلاته، وكلما بدا على وجهي أثر من قوله زاد حماسة، حتى كان أحيانا يمسك عن العمل لكي يشير بيديه. وفطنت إلى أنني أضيع عليه بعض وقته، فانتهزت فرصة سكوته لحظة وهو مشغول بقدح زنده ليوري به نارا، فتسللت ذاهبا نحو الغابة، ووقفت أتأمل أشجارها، ومالت نفسي إلى أن أجول فيها جولة ثم أعود بعد أن يكون صاحبي قد هيأ طعامه.
وسرت في الغابة، وكان للهواء فيها عطر خفيف من رائحة الأوراق والأزهار، وكانت ألوان الشجر مختلفة وأشكاله متباينة، فمنه ما كان غزير الورق، ومنه ما كان عاريا، ومنه ما كان ضخم الجذع وما كان دقيقا يتسلق متوكئا على غيره. وجعلت أتنقل في الغابة من بقعة ضاحية يغمرها نور القمر إلى أخرى ظليلة تتراقص فوقها الظلال، وكان الليل الساجي يفعل في نفسي فعل السحر، فلم أشعر بمرور الزمن ولا بطول السير، ولم أتلفت إلى ورائي لأنظر أين صرت من صاحبي، حتى رأيتني بعد حين أمام صخرة وعرة لم أنظرها إلا عندما صرت على خطوات قليلة منها، كأنها خرجت فجأة من جوف الأرض لتعترض سبيلي. فاتجهت نحوها فوجدتها ربوة مهشمة مدببة الجوانب كأن سطحها كله من أنياب وأظفار، وهي تنطوي على كهف يبعث الرهبة في النفس، تخرج من ثناياه قناة فيها ماء صاف كأنه بلور مذاب، ينساب جاريا وهو يغني بخرير يلذ للأسماع، خافت يشبه التهانف بالضحك في مزاح العذارى. وكان يهبط إلى حوض من الصخر مهشم مصقول يلمع النور فوقه، فإذا هو يبدو أخضر مثل قطعة من الزبرجد من أثر ما عليه من الطحلب الدقيق. فوقفت لحظات أتأمل المنظر البديع، وكانت عيني لم تقع من قبل على مثله، فشملتني نشوة، واهتزت نفسي طربا، ونسيت ما كان من هجرتي ووحدتي، حتى لقد نسيت جوعي، ووجدتني أدندن بالغناء. وتواردت علي الألحان المشجية، فجلست على جانب الصخرة وغبت في غمرة أشجاني، وجعلت أقلب عيني وأتمتع بالمنظر، وملأت صدري من الهواء العطر، ووجدت كل حواسي نصيبا من اللذة من خرير الماء منسابا في جداوله، إلى ريح الزهر المشتعل في خمائله، إلى لون الورد الناعس في غلائله.
صفحه نامشخص