الولاء والبراء بين الغلو والجفاء في ضوء الكتاب والسنة
الولاء والبراء بين الغلو والجفاء في ضوء الكتاب والسنة
ناشر
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
ژانرها
[المقدّمة]
الولاء والبراء بين الغلو والجفاء
في ضوء الكتاب والسنة إعداد د. حاتم بن عارف بن ناصر الشريف كلية الدعوة - جامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدّمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى تابعيهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أمّتنا تعيش مرحلةً جديدة في تاريخها، وتقف على مفترق طرق، وتحتاج إلى تعاون علمائها ومفكّريها وأصحابِ القرار فيها، ليقوموا بتصحيح أخطاء ماضيها، وإصلاح حاضرها، وإضاءة مستقبلها.
وفي هذه المرحلة الحرجة تقع أمّتُنا وعقائدُها تحت ضغوط رهيبة، تكاد تجتثّها من أساسها، لولا قوّةُ دينها وتأييدُ ربّها ﷿.
ومن هذه العقائد التي وُجّهت إليها سهامُ الأعداء، وانجرَّ وراءهم بعضُ البُسطاء، واندفع خلفهم غُلاةٌ وجُفاة: عقيدةُ الولاء والبراء.
وزاد الأمر خطورةً، عندما غلا بعضُ المسلمين في هذا المعتقد إفراطًا أو تفريطًا. وأصبح هذا المعتقدُ مَحَلَّ اتّهام، وأُلْصِقَتْ به كثيرٌ من الفظائع والاعتداءات.
ولا أحسب أنّ تلك الاتهامات والسهامِ الجائرة كانت كلُّها بسبب تلك الفظائع والاعتداءات، ولا أظن أن أسباب هذه المعاداة كُلَّها لجهل المُعَادِين بحقيقة (الولاء والبراء) في الإسلام. ولكنهم علموا مكانة هذا المعتقد من الإسلام، وأنه حصنُ الإسلام الذي يحميه من الاجتياح، وعِزّةُ المسلمين التي تقيهم من الذوبان في المجتمعات الأخرى بدينها وتقاليدها المخالفة لدين الله تعالى. فوجدوا الفرصة الآن سانحةً للانقضاض على هذا المعتقد، ومحاولةِ إلغائه من حياة المسلمين وكيانهم.
إننا أمام هجمةٍ تغزونا في الصميم، وتعرف ما هو المَقْتَلُ منّا. فواجبٌ علينا أن نقدِّرَ الموقفَ قَدْرَه، وأنْ نعرف أنّ اليومَ يومٌ له ما وراءه، وأننا نواجه حَرْبَ استئصالٍ حقيقيّة.
ولهذا فقد جاء البحث في بيان حقيقة معتقد (الولاء والبراء)، ومكانتِه في دين الله، وعدم معارضته للسماحة والرحمة والوسطيّة التي انفرد بها الإسلام، وأن هذا المعتقد بريءٌ من غُلوّ الإفراط والتفريط. ولذلك فقد تناولتُ هذا الموضوع في خمسة مباحث:
1 / 1
الأول: حقيقة الولاء والبراء.
الثاني: أدلة الولاء والبراء.
الثالث: علاقته بأصل الإيمان.
الرابع: توافقُه مع سماحة الإسلام.
الخامس: مظاهرُ الغلوّ فيه وبراءتُه منها.
ثم ختمتُ البحث بأهم النتائج والتوصيات.
وقد حرصتُ في كل ما أذكره أن أستدلّ له بالأدلّة الصحيحة من الكتاب وثابت السنّة، وأن أنقل أقوال أهل العلم في فهم هذه النصوص من أصحابِ المدارس المختلفة، حتى لا يُتّهم أصحابُ مدرسةٍ أو معتقدٍ ما أنّهم أصحابُ رأيٍ خاصٍّ بهم حول (الولاء والبراء) . مع أنه لا يخفى على أهل العلم أن (الولاء والبراء) محطّ إجماع بين جميع أهل القبلة، بل هو معتقدٌ لا يخلو منه أتباعُ دين أو مذهب.
وأرجو أن أكون بهذا الطرح قد حقّقتُ شيئًا في سبيل الدفاع عن أُمّتي وعن دينها ووُجودها.
والله أسأل أن يُحسن المقاصد، وأن يتقبّلَ أعمالنا ويُضاعفَ لنا أجرها، وأن يرينا ثمارها الطيّبة في الدنيا والآخرة.
والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتّقى حدَّه.
[المبحث الأول حقيقةُ الولاء والبراء]
المبحث الأول
حقيقةُ الولاء والبراء تعريف الولاء والبراء في اللغة: الوَلْيُ في اللغة هو القُرْب (١) هذا هو الأصل الذي ترجعُ إليه بقية المعاني المشتقّة من هذا الأصل.
وأما بَرِئ، فبمعنى: تَنَزَّهَ وتباعَدَ (٢) فالتباعُدُ من الشيء ومزايلتُه هو أحدُ أَصْلَيْ معنى هذه الكلمة (٣) والأصل الثاني هو: الخَلْقُ، ومنه اسمه تعالى (البارئ) (٤) . ومن الأصل الأول (وهو التباعُدُ من الشيء ومُزَايلته): البُرْءُ هو السلامة من المرض، والبراءةُ من العيب والمكروه (٥) .
_________
(١) الصحاح للجوهري - ولي - (٦ / ٢٥٢٨)، وتهذيب اللغة للأزهري (١٥ / ٤٤٧) .
(٢) تهذيب اللغة للأزهري (١٥ / ٢٦٩) .
(٣) مقاييس اللغة لابن فارس (١ / ٢٣٦) .
(٤) المصدر السابق.
(٥) المصدر السابق.
1 / 2
والبَرَاءُ: مصدر بَرِئتُ (١) ولأنه مصدر فلا يُجمع ولا يُثَنَّى ولا يؤنّث، فتقول: رجُلٌ بَرَاء، ورجلان بَرَاء، ورجالٌ بَرَاء، وامرأةُ بَرَاء (٢) . أمّا إذا قُلتَ: بريءٌ، تجمع، وتثني، وتؤنث، فتقول للجمع: بريؤون وبِراء (بكسر الباء)، وللمثنى بريئان، وللمؤنث بريئة وبريئات (٣) .
هذا هو معنى الوَلاء والبراء في اللغة.
تعريف الولاء والبراء في الاصطلاح: بالنظر في أدّلة الكتاب والسنّة وُجد أن معتقد الولاء والبراء يرجع إلى معنيين اثنين بالتحديد، هما: الحُبُّ والنُّصْرةُ في الولاء، وضِدُّهما في البراء. ولا يخفى أن هذِين المعنيين من معانيهما في اللغة، كما سبق بيانه.
وعلى هذا فالولاء شرعًا، هو: حُبُّ الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباعِه المسلمين، ونُصْرةُ الله تعالى ورسولِه ودينِ الإسلام وأتباعِه المسلمين.
والبراء هو: بُغْضُ الطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى (من الأصنام الماديّة والمعنويّة: كالأهواء والآراء)، وبُغْضُ الكفر (بجميع ملله) وأتباعِه الكافرين، ومعاداة ذلك كُلِّه.
وبذلك نعلم، أننا عندما نقول: إن ركني الولاء والبراء هما: الحب والنصرة في الولاء، والبغض والعداوة في البراء، فنحن نعني بالنصرة وبالعداوة هنا النصرة القلبيّةَ والعداوةَ القلبيّة، أي تمنِّي انتصار الإسلام وأهله وتمنِّي اندحار الكفر وأهله. أمّا النصرة العملية والعداوة العمليّة فهما ثمرةٌ لذلك المعتقد، لا بُدّ من ظهورها على الجوارح، كما سبق.
[المبحث الثاني أدلّة الولاء والبراء]
المبحث الثاني
أدلّة الولاء والبراء إن معتقد الولاء والبراء معتقدٌ يقيني، لا يُمكن التشكيك فيه، لارتباطه بأصل الإيمان. ولذلك فإن أدلّته أكثر من أن تحصى، خاصةً إذا أدخلنا في أدلّته كل ما دلّ عليه من منطوق ومفهوم. ولذلك فقد تعاضَدَ في إثبات هذا المعتقد أدلةٌ متكاثرة من: الكتاب، والسنة، والإجماع.
ولذلك فإني سأكتفي هنا بذكر قطرةٍ من بحر هذه الأدلّة:
_________
(١) المقصور والممدود للفراء (٢٦)، والمقصور والممدود لأبي علي القالي (٣٥٩) .
(٢) المصدران السابقان، وتهذيبِ اللغة للأزهري (١٥ / ٢٦٩) .
(٣) تهذيب اللغة للأزهري (١٥ / ٢٦٩) .
1 / 3
[أدلّته من الكتاب العزيز]
أدلّته من الكتاب العزيز يقول الله تعالى في الولاء: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة: ٥٥ - ٥٦]
وقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ٧١] قال ابن جرير: «وأمّا المؤمنون والمؤمنات، وهم المصدّقون بالله ورسوله وآيات كتابه، فإن صفتهم أن بعضهم أنصارُ بعض وأعوانهم» (١) .
_________
(١) تفسير الطبري (١١ / ٥٥٦)، ونحوه في الوجيز للواحدي (١ / ٤٧٢) .
1 / 4
وأما البراء، فقال تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: ٢٨] قال ابن جرير في تفسيرها «ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكُفّارَ ظَهْرًا وأنصارًا، توالونهم على دينهم (١) وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتَدُلّونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ [آل عمران: ٢٨] يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ اللهُ منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافونهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتُضمروا لهم العداوة، ولا تُشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل» (٢) .
والنصوص في ذلك كثيرة، وسيأتي غيرها في المبحث الآتي:
[أدلّته من السنة]
أدلّته من السنة أمّا في الولاء، فيقول ﷺ: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفهم مَثَلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تَدَاعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى» (٣) .
وقال ﷺ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بَعْضُه بعضًا» (٤) .
وقال ﷺ: «المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يُسْلِمُه.» (٥) .
_________
(١) هذا نصٌّ صريح أن الموالاة المخرجة من الملّة هي الموالاة على الدين، لا مطلق الموالاة.
(٢) تفسير الطبري (٥ / ٣١٥)، ونحوه مصرِّحًا بكفر الموالي للكفار كُلٌّ من الواحدي في الوجيز (١ / ٢٠٦)، والزمخشري في الكشاف (١ / ١٨٣) .
(٣) أخرجه البخاري (رقم ٦٠١١)، ومسلم (رقم ٢٥٨٦) .
(٤) أخرجه البخاري (رقم ٢٤٤٦)، ومسلم (رقم ٢٥٨٥) .
(٥) أخرجه البخاري (رقم ٢٤٤٢، ٦٩٥١)، ومسلم (رقم ٢٥٨٠) .
1 / 5
وقال ﷺ: «والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنّةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أولا أدلّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلامَ بينكم» (١) .
وأمّا في البراء، فيقول ﷺ، «في حديث جرير بن عبد الله البجلي، عندما جاء ليبايعه على الإسلام، فقال جريرٌ لرسول الله ﷺ: يا رسول الله، اشْترطْ عليَّ، فقال ﷺ: «أُبَايِعُك على أن تعبد الله ولا تُشْرِكَ به شيئًا، وتُقيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتنصحَ المسلم، وتفارقَ المشرك [وفي رواية: وتبرأ من الكافر]»» (٢) .
[الاستدلال للولاء والبراء بالإجماع]
الاستدلال للولاء والبراء بالإجماع لا شك أنّ أمرًا هذا هو ظهوره في أدلّة الكتاب والسنّة، اجتمع فيه أن يكون حُكمًا مقطوعًا به، لكونه قطعيَّ الثبوت والدِّلالة، مع تضافر الأدلّة وتواردها عليه أنه سيكون من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة. ولذلك فإننا لا نحتاج في مثله إلى نصٍّ من عالم على الإجماع فيه، بل يكفي أن نستحضر أدلّته وحقيقته وعلاقتَه بأصل الإيمان، لنوقن أن الولاء والبراءَ محلُّ إجماعٍ حقيقيٍّ بين الأُمّة.
ومع ذلك فقد نُقِل الإجماعُ في ذلك:
فقد قال ابن حَزْم (ت٤٥٦هـ) في (المُحَلّى): «وصَحَّ أن قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٥١] (إنما هو ظاهره، بأنه كافر من جملة الكفار فقط، وهذا حقٌّ، لا يختلف فيه اثنان من المسلمين» (٣) .
_________
(١) أخرجه مسلم (رقم ٥٤) .
(٢) أخرجه الإمام أحمد (رقم ١٩١٥٣، ١٩١٦٢، ١٩١٦٣، ١٩١٦٥، ١٩١٨٢، ١٩٢١٩، ١٩٢٣٣، ١٩٢٣٨)، والنسائي ٧ / ١٤٧ - ١٤٨ رقم ٤١٧٥، ٤١٧٦، ٤١٧٧)، من حديث أبي وائل شقيق بن سلمة، واختُلف عنه: فمن راوٍ له عنه عن جرير بغير واسطة، ومن راوٍ له عنه عن أبي نُحَيلة عن جرير. وقد رجّح ابن معين الأولى، كما في تاريخه (رقم ٢٨١٤)، وانظر علل الدارقطني (٤ / ٩١ / ب) . ولو صحّ الوجه الثاني، فأبو نُحَيلة أثبت له جماعةٌ الصحبة، وإن خالف في ذلك أبو حاتم الرازي، فمثله مقبول الحديث. وعلى هذا فالحديث صحيح.
(٣) المحلّى لابن حزم (١١ / ١٣٨) .
1 / 6
وأنَّى نشك في صحّة هذا الإجماع، وفي أمّ القرآن: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٦ - ٧] وقد أجمع المفسرون أن: المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى (١) .
[المبحث الثالث علاقته بأصل الإيمان]
المبحث الثالث
علاقته بأصل الإيمان إن كُلّ مبدأ ومذهب يعتقده جماعةٌ من الناس، ويخالفهم فيه آخرون، لا بُدَّ أن يُحْدِث اجتماعُ تلك الجماعة عليه بينهم تعاونًا وتناصرًا فيه، ولا بُدَّ أن يُحدِثَ عند مخالفيهم محاولاتٍ في تغيير مبادئ تلك الجماعة ومذاهبها. وهذا سيؤدّي إلى التصادم وإلى المعاداة بينهما، واللذان يختلفان في حِدّتهما وضعفهما بحسب مقدار التبايُنِ بين المبدأين والمذهبين، وبحسب سعة وشمول كُلِّ مبدأٍ: لمناحي المعتقد القلبي، وللواقع العملي، ولوجوه الحياة المتعدّدة.
هذه سُنّةٌ كونيّةٌ مشاهدةٌ، لا تحتاج إلى استدلال، بغير شاهد الوُجُود المرئيّ المعلوم.
ولا يقتصر هذا الصِّراع بين الأديان فقط، بل بين كل مبدأين أو مذهبين متعارضين. فهذا في العصر الحديث الصِّراعُ الذي كان محتدمًا بين الاشتراكيّة والرأس ماليّة، ولم يزل. وهذا الصراع بين الديمقراطيّة والدكتاتوريّة وأنظمة الحكم الأخرى. بل هذا الصِّراع في الأنظمة الديمقراطية بين الأحزاب المختلفة.
إن اعتقاد المرء أنه على حقّ في مسألةٍ ما، وأن من خالفه على باطل، واعتقادَ المخالِف في نفسه أنه هو الذي على الحق، لا بُدَّ أن يُحدث بين الاثنين تفاصُلًا وعدمَ التقاء، بقدر أهميّة المسألة المختَلفِ فيها. ولن يزول هذا التَّفَاصُل إلا بهلاك المختلفَيْنِ، أو أحدهما، أو بأن يتابع أحدهما الآخر ويترك ما كان عليه.
_________
(١) نقل الإجماع: ابن أبي حاتم، والماوردي، وأبو الليث السمرقندي، والشوكاني، وصِدِّيق حسن خان. انظر: الإجماع في التفسير لمحمد بن عبد العزيز الخضيري (١٣٧ - ١٣٨) .
1 / 7
لذلك كان مُعْتَقَدُ الولاء والبراء في الإسلام مرتبطًا بوجود الإسلام، فما دام في الأرض مسلمٌ موحِّد، وفي الأرض كافر أو مشرك فلا بُدَّ من أن يكون هناك ولاءٌ وبراء، لا من قبل المسلم وَحْدَهُ، بل من قِبَل مُخالِفِه أيضًا.
ولمّا كان الإسلام دينَ الله تعالى، وما سواه أديانًا باطلةً، ولمّا كان الإسلامُ دينًا تشملُ أحكامُه شؤونَ الحياة الدنيا والآخرة جميعَهما، ويحتكمُ إليه المسلم في كل معتقداته القلبيّة وأقواله وأفعاله، وهو مرجعه في تحديد طبيعة علاقاته الفرديّة والاجتماعية مع المسلمين وغير المسلمين كان لا بُدَّ أن تكون لعقيدة الولاء والبراء فيه مكانةٌ عظمى، بل هي مكانةٌ مرتبطةٌ بأصل الإيمان، فلا بقاء للإيمان بغير ولاء وبراء، وذهاب الولاء والبراء يعني ذهاب الإيمان كله رأسًا.
يقول الله تعالى: ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ - وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٨٠ - ٨١]
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة (ت٧٢٨هـ) في كتاب (الإيمان): «فذكر جملةً شرطيّةً تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: ٨١] فَدَلَّ على أن الإيمان المذكورَ ينفي اتّخاذَهم أولياءَ ويُضادُّه، ولا يجتمع الإيمان واتخاذَهم أولياءَ في القلب. ودلَّ ذلك أن من اتّخذهم أولياء ما فَعل الإيمانَ الواجبَ من الإيمان بالله والنبيِّ وما أُنزل إليه.
وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام ظاهرٌ واضح من الآية، لكني أحببتُ بيانَ فهم أئمة الإسلام لها (١) .
_________
(١) وانظر موافقة الزمخشري لذلك أيضًا في الكشاف (١ / ٣٥٨) .
1 / 8
ولهذا التلازم بين أصل (الإيمان) و(الولاء والبراء)، جاء في كتاب الله تعالى خبرٌ بنفي وجود مؤمن يحبّ الكافرين لكفرهم، فهذا لا يُمكن أن يكون موجودًا أصلًا، لأنه لا يجتمع حُب النقيضين في قلبٍ واحدٍ أبدًا.
قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: ٢٢]
[المبحث الرابع توافق الولاء والبراء مع سماحة الإسلام]
المبحث الرابع
توافق (الولاء والبراء) مع سماحة الإسلام بعد أن بيّنّا أدلّة عقيدة (الولاء والبراء)، وعلاقتهما بأصل الإيمان، فإنه لا يبقى هناك شك في أنها إحدى أُسُس الدين الإسلامي العظام. وهذا يعني أنّها لا بُدّ أن تصطبغ بصبغة الإسلام الكبرى، وهي الوسطيّةُ والسماحة والرحمة.
فقد قال الله تعالى عن نبيّه ﷺ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧]
وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] ([البقرة ١٤٣] .
وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]
وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]
فالمعادلة السهلة، والنتيجة القطعيّة: أن (الولاء والبراء) ما دام أنه من الإسلام، فهو وَسطٌ وسَمْحٌ ورحمة. لا يشك في هذه النتيجة مسلم، ولا غير مسلم إذا كان منصفًا.
1 / 9
ومع ذلك فلا بُدّ من بيان عدم تعارض معتقد (الولاء والبراء) مع مبادئ الوسطيّة والسماحة والرحمة، وذلك يظهر من خلال النقاط الآتية التي لا تزيد على أن تكون أمثلة لعدم تعارض (الولاء والبراء) مع سماحة الإسلام:
أوّلًا: لا يُجبر أحدٌ من الكفار الأصليِّين على الدخول في الإسلام.
قال الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] ثانيًا: أنّ لأهل الذمّة التنقّل في أي البلاد حيث شاؤوا، بلا استثناء، إلا الحرم. ولهم سكنى أي بلد شاؤوا من بلاد الإسلام أو غيرها، حاشا جزيرة العرب.
وهذا كُلّه محلّ إجماع (١) إلا المرور بالحرم ففيه خلافٌ، الراجح فيه عدم الجواز (٢) .
ثالثًا: حفظ العهد الذي بيننا وبين الكفار، إذا وَفَّوْا هُمْ بعهدهم وذمّتهم.
قال الله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: ٤]
«وعن أبي رافع ﵁ (وكان قبطيًّا)، قال: بعثتني قريشٌ إلى رسول الله ﷺ، فلما رأيت رسول الله ﷺ أُلقيَ في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم أبدًا، فقال رسول الله ﷺ: «إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البُرُد. ولكن ارجع، فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن، فارجع» . قال: فذهبتُ، ثم أتيتُ النبيَّ ﷺ، فأسلمتُ» (٣) .
_________
(١) انظر: مراتب الإجماع لابن حزم (١٢٢)، وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم (١ / ١٧٥- ١٩١) .
(٢) انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم (١ / ١٨٨ - ١٩١) .
(٣) أخرجه الإمام أحمد (رقم ٢٣٨٥٧)، وأبو داود (رقم ٢٧٥٢)، والنسائي في الكبرى (رقم ٨٦٢١)، وابن حبان في صحيحه (رقم ٤٨٧٧) . وإسناده صحيح.
1 / 10
يقول ابن حزم في (مراتب الإجماع): «واتفقوا أن الوفاء بالعهود التي نصَّ القرآنُ على جوازها ووجوبها، وذُكرت بصفاتها وأسمائها، وذُكرت في السنة كذلك، وأجمعت الأمّة على وجوبها أو جوازها، فإن الوفاء بها فرضٌ، وإعطاؤها جائز» (١) .
رابعًا: حرمة دماء أهل الذمّة والمعاهدين، إذا وَفَّوْا بذمتهم وعهدهم.
قال ﷺ: «من قَتَل معاهَدًا لم يرَحْ رائحةَ الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عامًا» (٢) .
وقال ﷺ: «أيُّما رجلٍ أمِنَ رجلًا على دمه ثم قتله، فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتولُ كافرًا» (٣) .
خامسًا: الوصيّة بأهل الذمّة، وصيانة أعراضهم وأموالهم، وحفظ كرامتهم.
قال ﷺ: «إنكم ستفحتون أرضًا يُذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإنّ لهم ذِمّةً ورحمًا» (٤) .
وقال عمر بن الخطاب ﵁: «أُوصي الخليفة من بعدي بذمّة الله وذمّة رسوله ﷺ: أن يُوَفَّى لهم بعهدهم، وأن يُقاتَل مِنْ ورائهم، وأن لا يكلَّفُوا فوق طاقتهم» (٥) .
وقد ذكر ابن حزم شروط أهل الذمّة، ثم نقل الاتفاق أنهم إذا فعلوا ذلك «فقد حَرُمت دماءُ كُلِّ من وَفَّى بذلك، ومالُه، وأهلُه، وظُلْمُهُ» (٦) .
سادسًا: أن اختلاف الدين لا يُلْغي حقَّ ذوي القربى.
قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: ١٥] ([لقمان ٠١٥] .
_________
(١) مراتب الإجماع لابن حزم (١٢٣) .
(٢) أخرجه البخاري (رقم ٣١٦٦) .
(٣) أخرجه الإمام أحمد (رقم ٢١٩٤٦، ٢١٩٤٧، ٢١٩٤٨)، والبخاري في التاريخ الكبير (٣ / ٣٢٢ - ٣٢٣)، والنسائي في الكبرى (رقم ٨٧٣٩- ٨٧٤٠)، وابن ماجة (رقم ٢٦٨٨)، وابن حبان في صحيحه (رقم ٥٩٨٢)، والحاكم وصححه (٤ / ٣٥٣)، من حديث عَمرو بن الحمق ﵁. والحديث صحيح.
(٤) أخرجه مسلم (رقم ٢٥٤٣) .
(٥) أخرجه البخاري (رقم ١٣٩٢) .
(٦) مراتب الإجماع (١١٦) .
1 / 11
«وعن أسماء بنت أبي بكر ﵄، قالت: قَدِمتْ عليَّ أُمّي، وهي مُشركة، في عهد قريش إذْ عاهدهم. فاسْتَفْتَيْتُ رسولَ الله ﷺ، فقلتُ: يا رسول الله، قدمت عليّ أُمّي وهي راغبة، أفأَصِلُ أُمي؟ قال: صِلِي أُمَّك» (١) .
سابعًا: أن البرّ والإحسان والعَدْلَ حقٌّ لكل مْنْ لم يقاتل المسلمين أو يُظاهر على قتالهم، بل حتى المقاتل يجوز بِرُّهُ والإحسان إليه إذا لم يقوِّه ذلك على قتال المسلمين وأذاهم.
قال الله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة: ٨ - ٩]
وأمّا العَدْل فهو فرضٌ واجب لكل أحد، حتى من نُبغضه بحقّ، ممن عادانا وقاتلنا من الكفار.
يقول الله تعالى في ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٨]
وقال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: ١٩٠]
ولذلك لا يجوز لنا أن نخون من خاننا؛ لأن الخيانة والغدر ليسا من العدل.
قال ﷺ: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ من خانك» (٢) .
_________
(١) أخرجه البخاري (رقم ٢٦٢٠، ٣١٨٣، ٥٩٧٨، ٥٩٧٩)، ومسلم (رقم ١٠٠٣) .
(٢) أخرجه أبو داود (رقم ٣٥٢٩)، والترمذي وحَسّنه (رقم ١٢٦٤)، والحاكم وصححه (٢ / ٤٦) وإسناده لا ينزل عن درجة الحسن. وله شواهد: انظر: سنن أبي داود (رقم ٣٥٢٨)، ومسند الإمام أحمد (رقم ١٥٤٢٤) .
1 / 12
ولذلك فقد حذّر النبيّ ﷺ من دُعاء المظلوم ولو كان كافرًا، فقال ﷺ: «اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافرًا، فإنه ليس دونها حجاب» (١) .
وبذلك يؤكد الإسلام على فرض العدل مع غير المسلمين، بأقوى تأكيد، والعَدْلُ رأس كُلّ فضيلة.
فبهذه الأخلاق والآداب يُعامل المسلمون غيرَ المسلمين، وهذه الأخلاقُ والآداب من دين الإسلام، يأمرهم بها كتابُ ربهم وسُنَّةُ نبيّهم ﷺ. وما دامت من دين الله تعالى، فلا يمكن أن تتعارض مع حكم آخر من دين الله تعالى أيضًا، وهو (الولاء والبراء) .
ولا شك أن بعضَ جهلة المسلمين (فضلًا عمّن سواهم) ظنّوا أن بين تلك الآداب و(الولاء والبراء) تعارضًا، وأنه لا يُمكن أن يجمع المسلم بينهما. فمال بعضهم إلى التفريط في (الولاء والبراء) غلوًّا في تطبيق تلك الآداب، ومال ببعضهم الآخر إلى الإفراط في تلك الآداب غلوًّا في (الولاء والبراء) . ودين الله وسط، بين الغالي والجافي.
وبيان عدم تعارض تلك الآداب مع (الولاء والبراء): أن تلك الآداب إذا أردنا أن تكون شرعيّةً محبوبةً لله تعالى، فيجب أن نلتزم بها: طاعةً لأمر الله تعالى وأمر رسوله ﷺ، مع بُغض الكفار لكفرهم، ومع عدم نُصرة غير المسلمين على المسلمين؛ فنحن نلتزم بتلك الآداب لا حُبًّا للكفار، ولكن إقامةً للعدل والإحسان الذي أُمرنا به.
_________
(١) أخرجه الإمام أحمد (رقم ١٢٥٤٩)، وابن معين في تاريخه (رقم ٥٢٨١)، والضياء في المختارة (٧ / ٢٩٣-٢٩٤ رقم ٢٧٤٨ - ٢٧٤٩)، وفي إسناده رجل فيه جهالة. لكن للحديث شواهد: فانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (رقم ٧٦٧)، ومسند الإمام أحمد (رقم ٨٧٩٥) . ويشهد له قصةٌ في صحيح البخاري (رقم ٤٣٩، ٣٨٣٥)، وانظر تعليق الحافظ ابن حجر على هذا الحديث في فتح الباري (١ / ٥٣٥) .
1 / 13
وقد عقد الإمام القرافي فصلًا لبيان الفرق بين الأمر بعدم موالاة الكفار والأمر ببر أهل الذمة منهم والإحسان إليهم، قال فيه ﵀: " وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة تعيَّن علينا أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب، ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع، وصار من قبيل ما نُهي نهى في الآية وغيرها" (١) ثم فصل كلامه بذكر بعض الأمثلة. ويلحظ أن القرافي أطلق في مواطن أنّ المحرَّم هو الوُدُّ الباطن، وإن كان سياق كلامه يدل على مقصوده. وهذا أوانُ تحرير هذه المسألة، وهو من مُكمِّلات بيان سماحة معتقد الولاء والبراء.
ذلك أن الحُبَّ القلبي لغير المسلمين ليس شيئًا واحدًا، فمنه ما ينقض (الولاء والبراء) من أساسه، ويَكْفُرُ صاحبُه بمجرّده. ومنه ما يَنْقُصُ من (الولاء والبراء) ولا يَنْقُضُهُ، فيكون معصيةً تَنْقُصُ الإيمانَ ولا تنفيه. ومنه مالا يؤثر في كمال الإيمان وفي معتقد (الولاء والبراء)، لكونه مباحًا من المباحات.
أمّا الحبّ القلبيُّ الذي يَنْقُضُ (الولاء والبراء) وينفي أساسَ الإيمان: فهو حُبُّ الكافر لكُفْره.
وأمّا الحبُّ القلبي الذي لا يصل إلى حدّ النَقْض، لكنه يُنْقِصُ الإيمانَ، ويدل على ضعفٍ في معتقد (الولاء والبراء)، فهو: محبّة الشخص (كافرًا أو مسلمًا) لِفسْقِه أو لمعصيةٍ يقترفها. فهذا إثمٌ ولا شك، ولكنه لا يصل إلى درجة الكفر لكونه لا ينافي أصل الإيمان؛ إذْ لايزال في المسلمين من يحبّ المعاصي ويقترفها، ولم يكفّرهم أحدٌ من أهل السنة. وهذا الحبّ قد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، وقد لا يكون كذلك، بحسب حال المحبوب ومعصيته، فمن أحبّ محبوبًا لارتكابه الكبائر، فهذا الحب كبيرة، ومن أحبّه لصغيرة يرتكبها، فلا يزيد إثمه على إثم من ارتكبها. وهذا التقرير واضح الالتئام، بيِّنُ المأخذ، بحمد الله تعالى.
_________
(١) الفروق للقرافي (٣ / ١٥-١٦) .
1 / 14
وأمّا الحبّ المباح فهو الحب الطبيعي، وهو الخارج عمَا سبق. كحبّ الوالد لولده الكافر، أو الوَلَدِ لوالديه الكافرين، أو الرجل لزوجه الكتابيّة، أو المرْءِ لمن أحسنَ إليه وأعانه من الكفار. فهذا الحُبّ مباح، ما دام لم يؤثر في بُغْضه لكفر الكافرين، وفسق الفاسقين، ومعصية العاصين. أمّا إذا أثّر في بُغْضه، فإنه يعود إلى أحد القسمين السابقين، بما فيهما من تفصيل.
والدليل على أن الحُبّ الطبيعي للكافر قد لا يؤثّر في كمال الإيمان، لكونه مباحًا، بالشرط الآنف ذكره: قولُه تعالى عن نبيّه ﷺ في وصف حاله مع عمِّه أبي طالب الذي مات على الكفر: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: ٥٦] (١) . فأثبت اللهُ تعالى على نبيّه ﷺ محبَّةَ عمّه الكافر، ولم يَعْتَبْ عليه هذه المحبّة، ولا لامَهُ عليها؛ فدلّ ذلك على عدم مخالفتها لكمال الإيمان، وأنَّى تخالفه وقد وقعت من أكمل الناس إيمانًا ﷺ؟!
[المبحث الخامس مظاهر الغُلُوِّ في الولاء والبراء وبراءتُه منها]
[مظاهر غُلُوِّ الإفراط]
المبحث الخامس مظاهر الغُلُوِّ في (الولاء والبراء) وبراءتُه منها الغُلُوّ في (الولاء والبراء)، له وجهان: غُلُوّ إفراطٍ، وغُلُوّ تفريط.
أو قُلْ: غُلُوٌّ، وجفاء.
أمّا مظاهر غلوّ الإفراط، فترجع إلى مظهرين بارزين: المظهر الأول: التكفيرُ بالأعمال الظاهرة التي تخالف موجبات (الولاء والبراء)، بسبب عدم فهم مناط التكفير في (الولاء والبراء) .
_________
(١) قال الطبري في تفسيره (١٨ / ٢٨٢): «إنك يا محمد لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هدايته وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ أن يهديه من خَلْقه، بتوفيقه للإيمان بالله وبرسوله. ولو قيل: معناه: إنك لا تهدي من أحببته؛ لقرابته منك، ولكن الله يهدي من يشاء = كان مذهبًا» .
1 / 15
فقد سبق أن مناط التكفير في (الولاء والبراء) هو عَمَلُ القلب، فحُبّ الكافر لكُفْره، أو تمنِّي نصرة دين الكفار على دين المسلمين، هذا هو الكفر في (الولاء والبراء) . أمّا مجرّد النصرة العمليّة للكفار على المسلمين، فهي وحدها لا يُمكن أن يُكَفَّر بها؛ لاحتمال أن صاحبها مازال يُحبُّ دين الإسلام ويتمنّى نصرته، لكن ضَعْفَ إيمانه جعله يُقدِّمُ أمرًا دنيويًّا ومصلحةً عاجلة على الآخرة.
ودليل هذا التقرير: «قصةُ حاطب بن أبي بلتعة ﵁، عندما كاتب كفارَ مكّة سِرًّا، يخبرهم بعزم رسول الله ﷺ أن يغزوهم، وعلم النبي ﷺ بذلك، فأرسل مَن أخذ الكتاب مِمّن خرج ليصل به إلى كفار مكة. ودعا حاطبًا، فقال له ﷺ: «يا حاطب، ما هذا؟!»، قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله! إني كنتُ أمرأً مُلْصَقًا في قريش (وكان حليفًا لهم، ليس من أنفسهم)، وكان مِمّن معك من المهاجرين لهم قراباتٌ يحمون أهليهم، فأحببتُ-إذ فاتني ذلك من النسب فيهم- أن أتّخذَ فيهم يدًا، يحمون بها قرابتي. ولم أفعلْه كُفْرًا، ولا ارتدادًا عن ديني، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي ﷺ: «صدق» . فقال عمر: دَعْني- يا رسول الله - أضربْ عُنُقَ هذا المنافق؟ فقال ﷺ: «إنه قد شهد بدرًا، وما يُدريك. . لعلّ الله اطَّلعَ على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم» (١) .
وقد صَرّحَ شيخُ الإسلام ابن تيميّة: أنّ ما وقع من حاطب بن أبي بلتعة ذنبٌ وليس كفرًا (٢) .
_________
(١) انظر: صحيح البخاري (رقم ٣٠٠٧، ٣٠٨١، ٣٩٨٣، ٤٢٧٤، ٤٨٩٠، ٦٢٥٩، ٦٩٣٩) وصحيح مسلم (رقم ٢٤٩٤، ٢٤٩٥) .
(٢) انظر: شرح حديث جبريل ﵇ الإيمان الأوسط - (٤٠٢ - ٤٠٣)، ومجموع الفتاوى (٧ / ٥٢٢ - ٥٢٣) . بل إن شيخ الإسلام مع تكفيره للتتار، قال عمن يقاتل المسلمين مع التتار (٢٨ / ٥٥٢): " وأيضًا لا يقاتل معهم - غير مكره - إلا فاسق، أو مبتدع، أو زنديق. . ". فها هو فصل أصناف المقاتلين معهم، ولم يجعلهم قسمًا واحدًا، ولم يكفر بمجرد القتال معهم.
1 / 16
فدلَّ هذا الحديث أن النصرة العملية ذنب، لكنها ليست كفرًا وحدها؛ لأن ما وقع من حاطب نُصْرةٌ (وليس حُبًّا)، ومع ذلك لم يكن ذلك منه كفرًا؛ لأنه لم يكن عن تَمَنٍّ لنصرة دين الكفار على الإسلام.
ويدل على ذلك أيضًا حديث سهل بن بيضاء، «وهو أنه كان مسلمًا بمكة يُخفي إسلامه، ثم إنه خرج مع المشركين ببدر، ووقع في الأسر. فقال النبي ﷺ: لا ينفلتن منهم أحدّ إلا بفداء أو ضربه عنق. فقال ابن مسعود: يا رسول الله، إلا سهل من بيضاء، فإني قد سمعته يذكر الإسلام فقال ﷺ بعد سكتة: إلا سهل بن بيضاء» (١) .
المظهر الثاني: التطبيق الخاطئ للبراء من الكفّار.
وذلك كاستباحة دماء الذِّمّيين أو المعاهدين أو أموالهم، أو معاملتهم بغلظةٍ وعُنْف من دون سبب يُسوِّغُ ذلك؛ إلا ادّعاء أن هذا هو مقتضى (الولاء والبراء) . مع أن الرفق واللطف بهم هو المأمور به، بشرط أن لا يَدُلّ على عُلُوّ الكافر على المسلم (كما سبق) .
ولا شك أن تلك الأعمال (من استباحة الدماء والغلظة والعنف) ليست من (الولاء والبراء) في شيء، بل إن (البراءَ) منها براء!
وقد تقدَّمَ بيان سماحة عقيدة (الولاء والبراء)، وعدم تعارضها مع ما أمرنا به الشارعُ من البر والإحسان بالكفار غير المحاربين، ومن العَدْل مع المحاربين.
وإنّما أُتي غلاةُ هذا المظهر من أحد أمرين، يرجعان كلاهما إلى ضعف فقه المسألة في قلوبهم، وهما:
_________
(١) أخرجه الإمام أحمد (رقم ٣٦٣٢، ٣٦٣٣، ٣٦٣٤)، والترمذي وحسنه (رقم ١٧١٤، ٣٠٨٤)، والحاكم وصححه (٣ / ٢١-٢٢) . وهو من حديث أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، وهو لم يسمع من أبيه، لكنه كان عالمًا بحديثه؛ لذلك جرى المحدثون على قبول حديثه عن أبيه، ما لم يأت بخبر منكر، وهذا ما قرّره ابن رجب في شرح العلل (١ / ٢٩٨) نقلًا عن علي بن المديني ويعقوب بن شيبة. وهذا ما يفسر تحسين الترمذي لحديثه هذا، مع تعليقه عليه بعدم سماعه من أبيه.
1 / 17
الأول: عدم شمول النظرة إلى أدلّة الكتاب والسنة التي مع وضوح عقيدة (الولاء والبراء) فيها، فقد أمرت بآدابٍ وأخلاقٍ نُعَاملُ بها غيرَ المسلمين. فيقتصرون على الجانب الأوّل، مع إغفال أو استشكال الجانب الثاني. فيقودهم ذلك إلى تطبيق خطأٍ للبراء، لا يُقِرُّهم عليه دينُهم؛ لأنهم انطلقوا في تطبيقهم للبراء بغير قيدٍ أو ضابط.
الثاني: عدم مراعاة فقه المصالح والمفاسد، بأن دَرْءَ المفسدة مقدَّمٌ على جَلْب المصلحة، وأنه تُدْفَعُ أشد المفسدتين بأخفّهما.
وفقه المصالح والمفاسد بابٌ عظيمٌ جدًّا من أبواب الفقه الإسلامي، بل لقد قامت الشريعةُ كلها عليه. ولذلك فإن إدراكه، والتطبيقَ الصحيحَ له، ليس في قدرة أكثر الناس، وإنما هو بابٌ لا يلجه إلا العلماء الربّانيون الفقهاءُ في دين الله تعالى.
وعلاقة ضعف هذا الفقه في غُلاة هذا المظهر من (البراء) بظهوره منهم: هو أنّ المسلمين اليوم يعيشون حالة استضعافٍ، وهم مستهدَفون من غيرهم، طمعًا في ثرواتهم، وخوفًا من يقظتهم وعودتهم إلى سابق مجدهم. ولا شك أن لهذه الحالة أحكامًا وأعذارًا ليست لحالة عز الإسلام وأهله، فلا يصحُّ أن نطالب المستضعَفَ بما نطالب به العزيزَ القاهرَ لعدوّه.
فالغفلة عن هذا الواقع الأسيف، هي سبب الغفلة عن فقه المصالح والمفاسد عند غلاة البراء.
[مظاهر غلو التفريط]
ولغُلّوِّ التفريط مظهران الأول: مهاجمة عقيدة (الولاء والبراء)، والمطالبة بإلغائها، بحجّة أنها تؤصّل ثقافة الكراهية للآخرين، وتؤجّج نار التطرُّف والغُلُوّ.
وهؤلاء إن قصدوا (الولاء والبراء) الذي ورد في تلك الآيات وهاتيك الأحاديث النبويّة، وأجمعت عليه الأمّة، وكان من أمور الدين المعلومة منه بالضرورة فلا نخوض معهم في هذه الجُزئيّة أصلًا، وإنما ندعوهم إلى الإسلام أوّلًا؛ فإذا هُمْ أجابونا إلى ذلك، ودخلوا في الإسلام، فإن قلوبهم حينها سَتَنْطِوي على (الولاء والبراء) الشرعيّ. وليسوا في حاجةٍ إلى أكثر من ذلك، لارتباط (الولاء والبراء) بأصل الإيمان، كما قدّمناه.
1 / 18
وإن قصدوا (الولاء والبراء) الخاطئ الذي هو مظهرٌ من مظاهر غُلُوّ الإفراط فيه فليس من الإنصاف أن يُحمَّلَ هذا المعتقدُ الصحيحُ جَريرةَ خطأ المخطئين فيه، ولا أن نقابل غلوَّهم بغُلُوٍّ في الطرف الآخر.
الثاني: مهاجمة مظاهر (الولاء والبراء) الشرعية الصحيحة، ومحاولة تذويبها، بإشاعة عادات الكفار وتقاليدهم بين المسلمين.
لقد كان لعقيدة (الولاء والبراء) في نصوص الكتاب والسنة ذلك الحظُّ الوافر الذي لا يكاد يغلبه وفورًا ووضوحًا إلا نصوص التوحيد! بل إن نصوص التوحيد نفسَها هي من نصوص (الولاء والبراء) !! وشَرَع الله لنا أحكامًا كثيرةً، مبنيّةً على النهي عن التشبُّه بالكفار، بل على الأمر بمخالفتهم، وذلك أيضًا في نصوص وافرة، وصنّف العلماء في جمعها وفقهها كتبًا عديدة، قديمًا وحديثًا.
وما هذه الأحكام الإلهيّة إلا لغرض ترسيخ (البراء) من الكفار في قلوب المسلمين، ولجعله واقعًا عمليًّا ومعنىً حيًّا في المجتمع المسلم.
حيث إن المعتقَدَ إذا لم يكن له واقعٌ في الحياة، فإنه لا يعدو أن يكون أفكارًا جوفاء، وخيالاتٍ ليس لها أيّ ثمرة.
فتطبيقُ مظاهر (الولاء والبراء) الصحيحة شرعٌ لا مناصَ من التزامه والعمل به، وإلا كنا قد شابهنا اليهود الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
فكيف يرضى مسلمٌ لمجتمعه أن يذوب في المجتمعات الأخرى، وأن ينخلع من حضارته وتاريخه؟! هل هذا من صدق الانتماء لأمتنا؟! أم أنّه دليل العمالة للأعداء؟!!
[الخاتمة]
[أهمّ نتائج البحث]
الخاتمة أهمّ نتائج البحث ١- أن تعريف (الولاء والبراء) هو: حُبُّ الله تعالى، ورسوله ﷺ، ودينه، والمسلمين، ونصرتهم؛ وبُغْضُ الطواغيتِ التي تُعبد من دون الله والكُفْرِ، والكافرين، وعداوتُهم.
٢ - أن هذا المعتقد دَلّت النصوص المستفيضة القطعية عليه من القرآن والسنة، وأجمعت عليه الأمة.
٣ - أن (الولاء والبراء) معتقدٌ مرتبطٌ بأصل الإيمان، فلا إيمان بتاتًا بغير (ولاء وبراء)، ولا يمكن أن يُوجد إسلامٌ أو مسلمون بغيره.
1 / 19
٤ - أن (الولاء والبراء) ليس خاصًّا بالمسلمين، بل كُلُّ أتباع مذهبٍ أو دينٍ، لا بُدّ أن يكون بينهم ولاء، وأن يكون عندهم براءٌ ممن خالفهم.
٥ - أن (الولاء والبراء) فِطْرةٌ رُكّبَ عليها البشر كلّهم، ولا بُدّ من بقائه على وجه الأرض، ما دام بين الناس اختلافُ عقائد ومناهج.
٦ - أن (الولاء والبراء) ما دام من دين الإسلام، فلا بُدّ أنه مُصْطَبِغٌ بسماحته ورحمته ووسطيّته.
٧ - أن (الولاء والبراء) لا يُعارِضُ حُرّيةَ بقاءِ الكافر الأصليِّ على دينه، ولا حُرِّيَتَهُ في التنقّل في بلاد المسلمين (سوى الحرم)، ولا سكنى بلاد المسلمين بصورة دائمة (سوى جزيرة العرب)، ولا يعارض ما يقرّره الدينُ من حُرْمة دماء أهل الذمّة والمعاهدين وأموالهم وأعراضهم وكرامتهم، ولا يعارض الوصيّةَ بهم، ولا الرفقَ واللطفَ في معاملتهم (بشرط أن لا يدل ذلك الرفقُ واللطفُ على عُلُوّ الكافر على المسلم)، ولا يعارضُ بقاءَ حَقِّ ذوي القربى الكافرين، ولا يعارضُ العَدْلَ حتى مع المحاربين.
٨ - أن (الولاء والبراء) بناءً على ذلك ليس معتقدًا يخجلُ منه المسلمون، بل هو مطلبٌ عادل، لا تخلو أمةٌ تريدُ العزّةَ لأبنائها مِنْ أن تعتقدَه وتتبنّاه منهجًا لها.
٩ - أن الغلو في (الولاء والبراء) خطأٌ لا يَخُصُّ (الولاءَ والبراء)، ولا يخصُّه عند المسلمين وحدهم. فالغلوّ ظاهرةٌ لا يخلو منها مجتمع بشري، على أي دين أو مذهب.
١٠ - أن غُلاةَ (الولاء والبراء) بين جانبي إفراطٍ وتفريط.
١١ - أن غلاة الإفراط سبب غلوّهم في (الولاء والبراء) عدم فَهْمهم لمناط التكفير فيه، أو عدم ضبطهم للبراء بالضوابط الشرعية في تعاملهم مع غير المسلمين.
١٢ - أن غلاة التفريط في (الولاء والبراء) سببُ غُلُوّهم إمّا انعدامُ الإيمان في قلوبهم، أو جهلهم بحقيقة (الولاء والبراء) الشرعيّ الصحيح، أو وقوعهم تحت ضغط الهزيمة النفسيّة أمام الغرب.
[التوصيات]
أمّا أهمّ التوصيات، فهي ١ - وجوب ترسيخ معتقد (الولاء والبراء) بين المسلمين على الوجه الأكمل؛ لأنه بغيره لن يبقى للمسلمين باقية، فهو سياجُ أمانهم من الذوبان في الأديان والعقائد الأخرى.
1 / 20