التحفة السنية شرح منظومة ابن أبي داود الحائية
التحفة السنية شرح منظومة ابن أبي داود الحائية
ناشر
مطابع أضواء المنتدى
ژانرها
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد.. فهذا شرح مختصر للقصيدة السنية والمنظومة البهية المشهورة بـ (الحائية) لناظمها الإمام المحقق والحافظ المتقن شيخ بغداد أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ابن صاحب السنن الإمام المعروف رحمهما الله.
وهي منظومة شائعة الذكر، رفيعة الشأن، عذبة الألفاظ، سهلة الحفظ، لها مكانة عالية ومنزلة رفيعة عند أهل العلم في قديم الزمان وحديثه، وقد تواتر نقلها عن ابن أبي داود رحمة الله فقد رواها عنه غير واحد من أهل العلم كالآجري، وابن بطة، وابن شاهين وغيرهم، وثلاثتهم من تلاميذ الناظم، وتناولها غير واحد من أهل العلم بالشرح.
1 / 3
قال الذهبي ﵀ منوهًا بهذه المنظومة مبينًا لأهميتها: " هذه القصيدة متواترة عن ناظمها رواها الآجري وصنف لها شرحًا، وأبو عبد الله ابن بطة في الإبانة"١، وممن شرحها ابن البناء ٢، وشروحاتهم لا أعلم لها وجودًا، وممن شرحها أيضًا الإمام السفاريني وشرحه لها مطبوع في مجلدين بعنوان "لوائح الأنوار السَنية ولواقح الأفكار السُنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية في عقيدة أهل الآثار السلفية".
وقد سميت هذا الشرح "التحفة السَنية شرح منظومة ابن أبي داود الحائية" وأصله دروس ألقيتها في مسجد الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية عام ١٤١٧هـ كتبه عني أحد طلاب العلم فيها وهو الأخ الفاضل يحيى بن علي يحيى، ثم قمت بمراجعته والإضافة عليه وتنقيحه حسب الاستطاعة، وهو جهد المقل وبضاعة الضعيف المقصر، فما كان فيه من حق وصواب فهو من الله وحده، وما كان فيه من خطأ ونقص فهو بسبب ضعفي وقصوري وقلة علمي، ولا يفوتني هنا أن أشكر كل من قدم أي نوع من أنواع المساعدة والتعاون في سبيل إخراج هذا الكتاب سواء في صفه وتنضيده، أو مراجعته وتصحيحه، أو طباعته ونشره، وأسأل الله أن يجزي الجميع خير الجزاء، كما أسأله أن ينفع به ويتقبله بقبول حسن ويجعله لوجهه خالصًا ولعبادة نافعًا إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
١ العلو (٢/١٢٢٣) . ٢ ذكر ذلك ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (١/٣٥) .
1 / 4
ترجمة موجزة للناظم ابن أبي داود١
اسمه ونسبه وكنيته: هو الإمام العلامة الحافظ شيخ بغداد، عبد الله بن الإمام أبي داود سليمان بن الأشعث، أبو بكر السجستاني.
ولادته: ولد الإمام أبو بكر بن أبي داود بسجستان في سنة ثلاثين ومائتين (٢٣٠ هـ) .
نشأته وطلبه للعلم: سافر به أبوه وهو صغير من سجستان يطوف به شرقًا وغربًا بخراسان وأصبهان وبغداد والكوفة ومكة والمدينة والشام ومصر وغيرها يسمع ويكتب، واستوطن ببغداد، وكان أول شيخ سمع منه محمد بن أسلم الطوسي، وسر أبوه بذلك؛ لجلالة محمد بن أسلم.
وكان ذا أهمية عالية منذ صغره في التحصيل والطلب، ومن دلائل هذه الهمة قوله ﵀:"دخلت الكوفة ومعي درهم واحد، فأخذت به ثلاثين مد باقلا، فكنت آكل منه، وأكتب عن أبي سعيد الأشج، فما فرغ الباقلا حتى كتبت عنه ثلاثين ألف حديث ما بين مقطوع ومرسل"٢
وكان حافظًا متقنًا، قال رحمة الله: "حدثت من حفظي بأصبهان بستة وثلاثين ألف حديث، ألزموني الوهم فيها في سبعة أحاديث فلما انصرفت
١ يراجع في ترجمته سير أعلام النبلاء (١٣/٢٢١ وما بعدها) . ٢ تاريخ بغداد (٩/٤٦٦-٤٦٧) .
1 / 5
وجدت في كتابي خمسة منها على ما كنت أحدثهم به".١
ويقول تلميذه أبو حفص ابن شاهين مبينًا قوة حفظه: "أملى علينا ابن أبي داود سنين وما رأيت بيده كتابًا، إنما كان يملي حفظًا فكان يقعد على المنبر بعدما كبر ويقعد دونه بدرجة ابنه أبو معمر بيده كتاب فيقول حديث كذا فيسرده من حفظه حتى يأتي على المجلس".
بعض شيوخه: روى عن أبيه، وأحمد بن صالح، ومحمد بن بشار، وعمرو بن عثمان الحمصي، وإسحاق الكوسج، وعمرو بن علي الفلاس، ومحمد بن يحيى الذهلي.
بعض تلاميذه: حدث عنه خلق كثيرون منهم ابن حبان صاحب الصحيح، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو حفص بن شاهين، وأبو أحمد الحاكم، وابن بطة، ومحمد بن عمر بن زنبور الوراق، وأبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب، ونصف بن علي الوزير، وأبو القاسم بن حبابة.
مكانته العلمية، وثناء العلماء عليه: - قال الحافظ أبو محمد الخلال: " كان ابن أبي داود إمام أهل العراق، ومن نصب له السلطان المنبر، وقد كان في وقته بالعراق أسند منه، ولم يبلغوا في الآلة والإتقان ما بلغه هو".
ـ وقال الخطيب البغدادي: " كان فقيهًا عالمًا حافظًا".٢
ـ وقال ابن خلكان: "كان أبو بكر ابن أبي داود من أكابر الحفاظ ببغداد، عالمًا متفقهًا عليه إمامًا".
١ تاريخ بغداد (٩ / ٤٦٦) . ٢ تاريخ بغداد (٩ / ٤٦٤) .
1 / 6
ـ وقال الذهبي: "وكان من بحور العلم بحيث إن بعضهم من فضله على أبيه". وقال أيضًا: "كان أبو بكر من الحفاظ المبرزين ما هو بدون أبيه، صنف التصانيف وانتهت إليه رئاسة الحنابلة ببغداد". وقال أيضًا: "والرجل من كبار علماء المسلمين ومن أوثق الحفاظ".
عقيدته: كان ﵀ على عقيدة السلف أصحاب الحديث، وليس أدل على ذلك من منظومته الحائية هذه، فإنه قرر فيها - وعلى وجازتها - مجمل الاعتقاد على طريقة أهل السنة والجماعة.
وقد ثبت عنه أنه قال عقب هذه المنظومة: " هذا قولي، وقول أبي، وقول شيوخنا، وقول العلماء ممن لم نرهم كما بلغنا عنهم، فمن قال علي غير ذلك فقد كذب".
وهي منظومة عظيمة في تقرير المعتقد الحق الذي كان عليه أهل السنة والجماعة تدل على مكانة ناظمها وسعة باعه، وحسن معتقده، وطيب نصحه.
وعلى كلٍ فإمامة ناظمها ومكانته معروفة لدى أهل العلم، فهو من أئمة السلف، وأوعية السنة، وحفاظ الحديث، ودعاة الحق والهدى، متفق على إمامته وفضله ﵀ وغفر له ولجميع أئمة المسلمين.
مؤلفاته: وصفه الذهبي بأنه صاحب التصانيف، فمن جملة تلك التصانيف: السنن، والبعث، والمصاحف، وشريعة المقارئ، والناسخ والمنسوخ.
1 / 7
وفاته: توفي ﵀ ببغداد في شهر ذي الحجة سنة ست عشرة وثلاثمائة (٣١٦هـ) عن سبعة وثمانين عامًا، وقيل صلى عليه زهاء ثلاثمائة ألف إنسان وأكثر، وخلف ثلاثة بنين: عبد الأعلى، ومحمدًا، وأبا معمرٍ عبيد الله، وخمس بناتٍ.
1 / 11
نص المنظومة
قال ﵀:
(تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعيًا لعلك تفلح)
(ودن بكتاب الله والسنن التي
(وقل غير مخلوق كلام مليكنا ... أتت عن رسول الله تنجو وتربحُ)
بذلك دان الأتقياء وأفصحوا)
(ولا تك في القرآن بالوقف قائلًا ... كما قال أتباع لجهمٍ وأسجحوا)
(ولا تقل القرآن خلقٌ قرأته ... فإن كلام الله باللفظ يوضحُ)
(وقل يتجلى الله للخلق جهرةً ... كما البدر لا يخفى وربك أوضحُ)
(وليس بمولودٍ وليس بوالدٍ ... وليس له شبهٌ تعالى المسبح ُ)
(وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا ... بمصداق ما قلنا حديث مصرحُ)
(رواه جريرٌ عن مقال محمدٍ ... فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجحُ)
١٠ (وقد ينكر الجهمي أيضًا يمينه ... وكلتا يديه بالفواضل تنفح ُ)
١١ (وقل ينزل الجبار في كل ليلةٍ ... بلا كيف جل الواحد المتمدحُ)
١٢ (إلى طبق الدنيا يمن بفضله ... فتفرج أبواب السماء وتفتحُ)
١٣ (يقول ألا مستغفرٌ يلقى غافرًا ... ومستمنح خيرًا ورزقًا فيمنحُ)
١٤ (روى ذاك قومٌ لا يرد حديثهم ... ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا)
١٥ (وقل: إن خير الناس بعد محمدٍ ... وزيراه قدمًا ثم عثمان الأرجحُ)
١٦ (ورابعهم خير البرية بعدهم ... عليٌ حليف الخير بالخير منجحُ)
١٧ (وإنهم للرهط لا ريب فيهم ... على نجب الفردوس بالنور تسرحُ)
١٨ (سعيدٌ وسعدُ وابن عوف وطلحة ... وعامر فهرٍ والزبير الممدحُ)
...
1 / 9
١٩ (وقل خير قول في الصحابة كلهم ... ولا تك طعانًا تعيب وتجرحُ)
٢٠ (فقد نطق الوحي المبين بفضلهم ... وفي الفتح آيٌ للصحابة تمدح ُ)
٢١ (وبالقدر المقدور أيقن فإنه ... دعامة عقد الدين، والدين أفيحُ)
٢٢ (ولا تنكرن جهلًا نكيرًا ومنكرًا ... ولا الحوض والميزان إنك تنصحُ)
٢٣ (وقل يخرج الله العظيم بفضله ... من النار أجسادًا من الفحم تطرحُ)
٢٤ (على النهر في الفردوس تحيا بمائه ... كحب حميل السيل إذا جاء يطفحُ)
٢٥ (وإن رسول الله للخلق شافعٌ ... وقل في عذاب القبر حقٌ موضحُ)
٢٦ (ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا ... فكلهم يعصي وذو العرش يصفحُ)
٢٧ (ولا تعتقد رأي الخوارج إنه ... مقالٌ لمن يهواه يردي ويفضحُ)
٢٨ (ولا تكن مرجيًا لعوبًا بدينه ... ألا إنما المرجي بالدين يمزحُ)
٢٩ (وقل: إنما الإيمان: قول ونيةٌ ... وفعلٌ على قول النبي مصرحُ)
٣٠ (وينقص طورًا بالمعاصي وتارةً ... بطاعته ينمي وفي الوزن يرجحُ)
٣١ (ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرحُ)
٣٢ (ولا تك من قومٍ تلهوا بدينهم ... فتطعن في أهل الحديث وتقدحُ)
٣٣ (إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه ...
فأنت على خيرٍ تبيت وتصبحُ)
1 / 10
الاعتصام بالكتاب والسنة ومجانبة البدع
(تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعيًا لعلك تفلح ُ)
(ودن بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربحُ)
بدأ الناظم منظومته في الاعتقاد بهذين البيتين العظيمين، وهذان البيتان فيهما الدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة والتحذير من البدع، وقد بدأ بهما قبل بيان الاعتقاد ومسائله على طريقة أهل السنة في كتب الاعتقاد وقد جرت عادتهم في الغالب على البدء بهذا الأمر، وهذا منهم تحديدٌ لمصدر التلقي في أصول الدين وفروعه؛ ليكون بناء المعتقد وقيامه على أسس سليمة وأصول صحيحة قويمة، وعندما يحدد العبد مصدره في التلقي، ويكون مصدره من المنبع الأساس وهو الكتاب والسنة، فإنه يرى ما سواه من المنابع كدرًا، فلا يأخذ منها شيئًا ولا يجعلها مصدرًا له في دينه وعقيدته، وإنما يتلقى من المنبع الصافي والمعين النقي الذي لا شائبة فيه ولا كدر، فيسلم له بذلك معتقده ويصح إيمانه.
وأهل السنة مصدرهم في التلقي هو: الكتاب والسنة، بهما يأخذون، وعنهما يتلقون، وعليهما يعولون، لا يحيدون عنهما قيد أنملةٍ بل هم كما قال الأوزاعي: "ندور مع الكتاب والسنة حيث دارا"، ولا يحدثون شيئًا من قبل أنفسهم.
1 / 11
يقول شيخ الإسلام ﵀: "ليس الاعتقاد لي ولا لمن هو أكبر مني، الاعتقاد لله ولرسوله ﷺ".
فمن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق والتسليم.
ولذا نجد كتب أهل السنة تبدأ بتحديد المصدر قبل بسط الاعتقاد، وهذا نستفيده مما كان يداوم عليه رسول الله ﷺ في خطبة الجمعة، فكان دائمًا يقول في مقدمتها: "أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها...."١ الحديث. وتكراره ﷺ لذلك كل جمعة فيه تأكيد على أهمية العناية بهذا المصدر وضرورة رعايته والمحافظة عليه.
قوله: (تمسك) التمسك في اللغة الأخذ بالشيء والاعتصام به، وهذا مأخوذ من قوله تعالى ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران:١٠٣)
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ (لأعراف:١٧٠)
(حبل الله) للعلماء فيه أقوال، وأكثرها عند المفسرين: القرآن كما ذكر ذلك ابن القيم ﵀، وهو مراد الناظم هنا؛ لأنه ذكر السنة بعده،
١ أخرجه مسلم برقم (٨٦٧) من حديث جابر بن عبد الله ﵁.
1 / 12
والناظم ﵀ بقوله: "تمسك بحبل الله" يخاطب السني ويقول له: ليكن مرجعك دائمًا وأبدًا كتاب الله، ومع تمسكك به: (اتبع الهدى) أي: السنة.
و(الهدى) في الكتاب والسنة يطلق على أمرين:
١- التوفيق والإلهام. ٢- الدلالة والبيان والإرشاد.
ومن خلال السياق يمكن معرفة المراد. فقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القصص:٥٦)
وقوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (البقرة: من الآية٢٧٢)
وقوله تعالى: ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (لأعراف:١٧٨)
وقوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الفاتحة:٦)
كل هذه الآيات في هداية التوفيق، وليست لأحد غير الله تعالى وكان النبي ﷺ يستهدي ربه فيقول في دعائه: "اللهم إني أسألك الهدى والسداد" ١
فالذي يشرح الصدر ويوفق ويهدي هو الله ولذلك قال سبحانه مخاطبًا نبيه ﷺ ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القصص:٥٦)
١ أخرجه مسلم برقم (٢٧٢٥) من حديث علي بن أبي طالب ﵁.
1 / 13
والأخرى: هداية الدلالة والبيان.
قال تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (فصلت:١٧)
ولو كان من باب هداية التوفيق لما استحبوا العمى على الهدى.
قال تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ (البلد:١٠)
وهذه الهداية تكون كذلك للأنبياء والصالحين والعلماء، ومن ذلك قوله تعالى في حق رسوله ﷺ ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى: من الآية٥٢)، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة:٢٤)
(اتبع الهدى) أي ألزم طريق الهدى والرشاد الذي بينه ودل عليه رسول الله ﷺ فهو خير هديٍ وأكمله، وفي الحديث يقول ﷺ "وخير الهدى هدى محمد" ١، وفي رواية:"وخير الهدي" الهدى: لدلالة والإرشاد، والهدي: الطريق، وهديه ﷺ ما بينه للناس ودلهم عليه مما أوحى إليه ربه، فهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وهديه ﷺ هو خير زاد ليوم المعاد، والوقوف بين يدي رب العباد. وفي حثه ﵀ على التمسك بالسنة إبطال لقول الطائفة الضالة الذين يتسمون بـ (القرآنيين) الذين يقولون: نحن لا نأخذ إلا بالقرآن، ومن
١ تقدم (ص ١٤)
1 / 14
كان كذلك فهو ليس بآخذٍ حتى بالقرآن؛ لأن الله قد أمر في كتابه في آيات عديدة بالأخذ بالسنة والتمسك بها، ولذا لا يكون العبد متمسكًا بالقرآن إلا إذا أخذ بالسنة، فلا بد من الأخذ بالأمرين معًا.
قال الله تعالى آمرًا أمهات المؤمنين: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ (الأحزاب:٣٤)
وقال سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: من الآية٧)
الشطر الأول من البيت وهو قوله: (تمسك بحل الله واتبع الهدي) فيه تحديدٌ للمصدر في التلقي، ولما حدده حذر من مخالفته فقال: (ولا تك بدعيًا) .
وهو بهذا السياق يشير إلى أصل مهم وهو: أن من نخلى عن حبل الله وتخلى عن السنة فهو آخذ بسبيل بدعة وضلالة؛ ولذا عرف بعض أهل العلم البدعة: بما ليس بالسنة.
فالناظم ﵀ يقول: ولا تك بدعيًا بترك الكتاب والسنة، وهو بهذا يشير إلى الهُوَة العميقة التي سقط فيها المبتدعة جميعًا، وهي تركهم للكتاب والسنة، وإلا كانوا أهل سنة وجماعة، ولما كانوا أهل أهواء وبدع، فالبدعي هو: من ترك الكتاب والسنة ولم يتلق عنهما، ولم يأخذ دينه منهما.
ومن نظر إلى عامة أهل البدع وجد أن منشأ ضلالتهم هو عدم التمسك بالكتاب والسنة، إما بالاعتماد على العقول والآراء، أو المنامات، أو الحكايات، أو غير ذلك مما جعله أهل الأهواء مصدرًا لهم في الاستدلال.
1 / 15
وقوله: (لعلك تفلح) هذه نتيجة التمسك بالكتاب والسنة واجتناب البدع.
و(الفلاح) كلمة جامعة لخيري الدنيا والآخرة، وقد قيل لا كلمة في اللغة أجمع للخيرات من كلمة الفلاح، والفلاح لا يكون إلا بالتمسك بالكتاب والسنة والابتعاد عن البدع، ومن لم يتمسك بالكتاب والسنة، وذهب إلى شيء من تلك المصادر لم يفلح؛ ولهذا جاء عن الإمام أحمد ﵀ أنه قال: "ما ارتدى أحدٌ بالكلام فأفلح"؛ وعندما ناظر الشافعي بشرًا فتغلب عليه وخرج بشرٌ قال الشافعي: "لا يفلح".
وهذا المعنى دل عليه القرآن الكريم كما في أول سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (البقرة:١-٥)
و(لعل) عند الناظم هنا ليست للترجي؛ لأن من اعتصم بالكتاب والسنة ففلاحه متحقق، إلا إن قصد فعل العبد بتحقيقه لهذا المقام وتتميمه لهذا الاعتصام.
ثم قال ﵀ مؤكدًا على لزوم التمسك بالكتاب والسنة:
(ودن بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربح)
1 / 16
(دن) فعل أمر من الفعل دان يدين دينًا.
والمعنى: أقم دينك على الكتاب والسنة وآمن وأطع وامتثل ما جاء فيهما، بتصديق الأخبار وفعل الأوامر وترك النواهي.
وقوله: " والسنن التي أتت عن رسول الله " السنن: جمع سنة، والمراد الأحاديث المروية عن رسول الله ﷺ الثابتة عنه، فقوله: "أتت عن رسول الله" هذا تقييد وإرشاد إلى أن السنن لابد أن تصح حتى يؤخذ بها وتكون مقبولة، فإن صحت سواء بطريق التواتر أو الآحاد فهي حجة وعمدة في أمور الدين كلها العقيدة وغيرها.
قوله: (تنجو) لم يذكر من أي شيء؛ ليعم النجاة من كل شر وبلاء في الدنيا والآخرة. وقوله (وتربح) هذا زيادة على النجاة، فالنجاة رأس المال وفوقه أرباح متعددة بحسب قوة اعتصام المرء بالكتاب والسنة أرباح دنيوية وأرباح أخروية.
قال الله تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة:٣٨)
وقال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ (طه: من الآية١٢٣)
جاء عن ابن عباس ـرضي الله تعالى عنهماـ أنه قال في معنى هذه الآية: "تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة".
1 / 17
صفة الكلام
(وقل غير مخلوق كلام مليكنا ... بذلك دان الأتقياء وأفصحوا)
(ولا تك في القرآن بالوقف قائلًا ... كما قال أتباع لجهمٍ وأسجحوا)
(ولا تقل القرآن خلق قرأته ... فإن كلام الله باللفظ يوضح)
لعل الناظم بدأ بهذه الصفة قبل غيرها من الصفات؛ لمناسبة السياق، وذلك أنه بدأ في البيتين الأولين بذكر التمسك بالكتاب والسنة، فلما ذكر وجوب التمسك بالقرآن، بدأ بذكر أبيات فيها ذكر عقيدة أهل السنة في القرآن، والرد على الذين خالفوا الحق وباينوه وجانبوا معتقد أهل السنة فيه، فهذه الأبيات فيها بيان موجز لمعتقد أهل السنة في هذه المسألة، وردٌ على أصناف من أهل البدع، وهم طوائف عديدة، أشار الناظم إلى بعضهم فبدأ ﵀ بالكلام في هذه المسألة بقولة: (وقل غير مخلوق كلام مليكنا)
(قل) الخطاب لصاحب السنة المتمسك بالكتاب والسنة، أي: قل معتقدًا مؤمنًا بهذا الأمر غير شاكٍ فيه ولا مترددٍ؛ لأن القول إذا أطلق فإنه يشمل قول القلب وقول اللسان، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ (البقرة: من الآية١٣٦) أي: قولوا ذلك بقلوبكم إيمانًا واعتقادًا وبألسنتكم نطقًا وتلفظًا.
(غير مخلوق كلام مليكنا) وهذا فيه إثبات أمرين يتعلقان بصفة الكلام:
1 / 18
الأمر الأول: أن الكلام صفة لله، فالقرآن كلام الله وليس كلام أحد من المخلوقين، وإضافته إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، بخلاف المعتزلة الذين قالوا هو من باب إضافة المخلوق إلى الخالق.
والمضافات إلى الله تعالى نوعين: مضاف إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف مثل سمع الله وبصر الله وقدرة الله وكلام الله وعلم الله، وضابطه ما إذا كان المضاف وصفًا لا يقوم إلا بموصوف، ومضاف إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى الخالق مثل عبد الله وأمة الله وناقة الله وبيت الله، وضابطه ما إذا كان المضاف عينًا قائمًا بنفسه.
وهكذا الشأن فيما قال فيه "من الله" فقد يكون منه وصفًا، وقد يكون منه خلقًا. فقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ (السجدة: من الآية١٣) . القول وصف للرب سبحانه ونعت من نعوته.
وقوله: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ (الجاثية: من الآية١٣) . ما في السماوات وما في الأرض جميعًا هو من الله خلقًا وإيجادًا.
وفي هذا الباب ضل طائفتان: المعتزلة حيث جعلوا الجميع إضافته إلى الله إضافة خلق وإيجاد؛ ليصلوا إلى مبتغاهم وهو القول بأن كلام الله مخلوق، وغلاة الصوفية حيث جعلوا الجميع إضافته إلى الله إضافة وصف؛ ليصلوا إلى مبتغاهم وهو القول بالحلول ووحدة الوجود تعالى الله عما يصفون.
والحق وسط بين ذلك، والحاصل أن إضافة الكلام إلى الله ﷿ من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.
1 / 19
وعندما يقال كلام مليكنا هذا يتمضن الأصل في الصفات، وهو أن ما يضاف إلى الله من الصفات يثبت له على وجه يليق به، وهذا تضمنه قوله (كلام مليكنا) أي هي صفة لله تليق به ولا تشبه صفات المخلوقين، فهو سبحانه له الكمال في ذاته وصفاته. ولذا قال بعض السلف: إذا أردت أن تعرف الفرق بين كلام الله وكلام المخلوقين فهو كالفرق بين الخالق والمخلوق.
والقاعدة عند أهل العلم: أن الإضافة تقتضي التخصيص، فعندما يضاف الكلام إلى الله فأنه يخصه ويليق بجلاله وكماله، وعندما يضاف الكلام إلى المخلوق فيخصه ويليق بعجزه ونقصه، ولا يلزم من اتفاق الشيئين في الاسم أن يتفقا في الحقيقة والمسمى. هذا بين المخلوق والمخلوق، فكيف بين المخلوق والخالق.
الأمر الثاني: قوله: (غير مخلوق)، وهذا فيه رد وإبطال لقول من قال إن كلام الله مخلوق من المخلوقات التي أوجدها الله بقدرته، فالناظم بين بطلان هذا المعتقد بقوله: (غير مخلوق)، والقول بخلق القرآن هو معتقد الجهمية والمعتزلة وغيرهم.
والجهمية يصرحون بهذا ويقولون: القرآن مخلوق والكلام مخلوق ولا يقولون هو كلام الله، ولهذا حاول شيخهم تحريف قوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ (النساء: من الآية١٦٤) . إلى نصب لفظ الجلالة فرارًا من إضافة الكلام إلى الله.
1 / 20
وأما المعتزلة فيضيفون الكلام إلى الله ولكنهم يجعلونه من باب إضافة المخلوق إلى الخالق.
والأشاعرة والكلابية أيضًا يقولون بخلق القرآن، ولكن لا يصرحون بذلك، ويقولون: الكلام نوعان كلام نفسي ليس بحرف ولا صوت وهذا يضيفونه إلى الله، أما الكلام اللفظي الذي يشتمل على الحرف والصوت والذي هو القرآن فهو مخلوق، وهو عبارة أو حكاية عن كلام الله وليس كلام الله بل هو مخلوقٌ من جمل سائر المخلوقات، وبذلك يلتقون مع الجهمية.
فالناظم بقوله: (غير مخلوق) أبطل جميع هذه المقالات.
فالقرآن كلام الله حقيقة، وهو بحرف وصوت سمعه جبريل من الله ﷿، وألفاظه ومعانيه كلام الله، ليس كلام الله ألفاظه دون معانيه، ولا معانيه دون ألفاظه.
وقوله (مليكنا) فيه إثبات صفة الملك لله. فالله مالك الملك، والملك كله لله.
قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران:٢٦) .
والمخلوق إذا ملك شيئًا فإنما هو بتمليك الله له، فالله مالك الدنيا والآخرة، والملك من معاني الربوبية؛ لأن الربوبية لها معانٍ منها: السيد والمطاع والملك.
1 / 21
قوله ﵀ (بذلك): الإشارة هنا إلى ما تقدم في الشطر الأول من بيان المعتقد الحق في كلام الله.
(دان الأتقياء): أي آمنوا واعتقدوا ذلك، والأتقياء: دانوا بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، فهذا معتقدهم الذي لا يحيدون عنه، والنقول عنهم في ذلك كثيرة، فاللالكائي ﵀ عقد فصلًا في (شرح الاعتقاد) في بيان أن كلام الله غير مخلوق وسمي أكثر من خمسمائة نفس من هؤلاء، وبعضهم يروي عنهم ذلك بالإسناد، كلهم يقرر أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافر والنقول عنهم في هذا المعنى كثيرة جدًا.
وفي هذا يقول ابن القيم ﵀:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنهم ... بل قد حكاه قبله الطبراني
قوله: (الأتقياء): اختيار هذه الصفة لأهل السنة في غاية الجودة والدقة، فالتقوى: هي الوقاية بأن يجعل بينه وبين ما يخشاه وقاية تقيه، فتقوى الله أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضب الله وسخطه وقاية تقيه بفعل الأوامر وترك النواهي، ولهذا أفضل ما فسرت به التقوى قول طلق بن حبيب ﵀: " التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله".
قال ابن القيم ﵀: " وهذا من أحسن ما عرفت به التقوى"، وقال الذهبي في ترجمته: "وقد أحسن وأجاد"، وكذلك شيخ الإسلام أشاد بهذا التعريف، وكذا ابن رجب.
1 / 22