إن الفم قد خص بحس اللمس المشترك مع حس الذوق. وذلك ليميز به الأشياء اللذيذة من الأشياء البشعة، لأن اللذيذة هي الغاذية والموافقة في الأمر الأكثر. واللسان مع عظم نفعه في الكلام، يقلب الطعام في الفم عند المضغ ضروب التقليب الموافقة المحتاج إليها حتى ينطحن بالسوية كرحى يقلب على آخر ما يحتاج إلى دقه وطحنه. والأسنان قد هيئت ثلاثة ضروب. منها ما يصلح للقطع وهي الثنايا والرباعيات. ومنها ما يصلح لكسر الأشياء وهي الأنياب ومنها طواحن وهي الأضراس. ومن عجيب الحكمة في هيئة الأسنان أن الثنايا والرباعيات تماس وتلاقي بعضها بعضا في حالة الحاجة إلى ذلك. وهي عند العض على الأشياء ينحني بعضها على بعض عند الحاجة إلى ذلك التماس. ولو لم يكن كذلك لم يتم العض على الأشياء. ويكون ذلك بجذب الفك الأسفل إلى قدام حتى تلاقي هذه بعضها بعضا. وعند المضغ والطحن يرجع الفك إلى مكانه فتدخل الثنايا والرباعيات السفلانية إلى داخل وتحيد عن موازاة العالية فيتم بذلك للأضراس وقوع بعضها على بعض وذلك أنه لا يمكن مع تلاقي الثنايا والرباعيات التي في اللحى الأعلى والتي في اللحى الأسفل أن تتلاقى الأضراس كالحالة عند التكسير. وأصول الأضراس أكبر من أصول سائر الأسنان بحسب شدة عملها ودوامه. وما كان منها في العلو جعلت أصولها أكثر لتعلقها به. وقد أحكم الأمر في دخول شيء مما يؤكل إلى قصبة الرئة على ما بيناه وذلك أنه في حالة البلع يمتد المريء إلى أسقل فتنجذب الحنجرة إلى فوق فتلزم طبقها لزوما محكما. ويكون مرور الشيء الذي يبلع على ظهر هذا الطبق حتى يفضي إلى المريء. وإذا ورد والطعام المعدة لزمته واحتوت عليه وانغلق البواب، فلا يزال كذلك حتى يتم الهضم. ويحيط بالمعدة من الجانب الأيمن الكبد. ومن الأيسر الطحال، ومن قدام الثرب، ومن خلف لحم الصلب. فتكون هذه كلها حاقنة للحرارة فيها وتسخنها أيضا فضل إسخان. فينطبخ الطعام فيها حتى يصير شبيها بعصارة تصلح للنفوذ في تلك الفوهات التي ذكرناها إلى الكبد وجعلت تلك الفوهات كثيرة لأنها لو كانت واحدة وأفضت إلى موضع واحد لفاتها ما انحدر من الغذاء عن ذلك الموضع وخرج ضياعا. فاكثرت هذه الفوهات ووصلت بأكثر تجاويف الأمعاء ليكون ما فات جذبه في موضع اجتذب من فوهة أخرى وجعلت للأمعاء استدارات وتلافيف ليطول بقاء ذلك الشيء فيها ولا يبادر بالخروج ويتم هذا الفعل خاصة في المعاء الأعور. فإن ما فاته لا يكون قد بقي فيه كثير شيء مما يصلح للغذاء وتكون العفونة قد غلبت عليه ولأن لحم الكبد هو الذي يطبخ هذا الشيء الذي ينجذب حتى يصير دما احتيج أن يفرق حتى يحتوي على القليل منه، الكثير من لحم الكبد. فتسرع فيه الاستحالة وتسهل. فمن أجل ذلك تنقسم القناة المسماة باب الكبد الذي إليها يجتمع ما ينجذب من الغذاء إلى أقسام دقاق في تجويف الكبد ليستحيل إلى الدم بسرعة وسهولة، وذلك لأن غذاء الأعضاء ونمائها يكون بالدم النقي الموافق. وكان يتولد مع تولد الدم فضلتان لا بد منهما كما يتولد في جميع ما ينطبخ وينضج، أحدهما شبيه الدردي والعكر، والآخر شبيه الطفاوة والرغوة، احتيج إلى تنقية الدم منها فجلعت المرارة وجعل لها عنق حتى يدخل في تجويف الكبد فتجذب به المرة الصفراء المتولدة عن تولد الدم، وخلق الطحال وجعل له عنق يجيء إلى ما هناك لجذب الفضلة الأخرى التي منها تكون المرة السوداء فيبقى الدم حينئذ نقيا ليس فيه من المرة الصفراء ولا من السوداء إلا بقدر ما يحتاج إليه، إلا أنه بعد أرق مما يحتاج إليه، فلذلك يحتاج أن يجتذب منه فضل ما فيه من المائية حتى يصير من الغلظ والمثانة إلى الحد الموافق لتكون اللحم، فخلقت الكليتان ومد من كل واحدة منهما عنق طويل يوصل بالعرق الطالع من حدبة الكبد ليجتذب ما في الدم من المائية قبل أن يرتقي ويسقي الأعضاء. فاذا نقي الدم من هذه الفضلات الثلاثة فقد كمل نقاؤه وصلح أن تغتذي به الأعضاء وتنمو به نموا مشاكلا موافقا لها. ويعرف عظم المنفعة في تغذية البدن بفعل تنقية الدم من هذه الفضلات عند الحوادث الحادثة في هذه الآلات. فإن المرارة إذا لم تجذب المرة الصفراء أو أبقتها في الدم حتى ينفذ مع الغذاء إلى الأعضاء حدثت صنوف الأمراض الكائنة عن المرار الأصفر كاليرقان والبثور والحمرة والنملة والحميات الحادة ونحوها. وإن لم يجتذب الطحال المرة السوداء حدثت الأمراض السوداوية كاليرقان الأسود والبهق الأسود والقوابي والتقشر والجذام والماليخوليا ونحوها. وإن لم تندفع المائية نحو الكلى حدث أحد الاستسقائين إما الزقي وإما اللحمي. ولولا مكان هذه الآلات لكانت هذه دائمة متصلة. ومن عجيب الحكمة أيضا في اجتذاب هذه الفضلات أن عنق المرارة والطحال يجيئان إلى تقعير الكبد ويجذبان ما يجذبان من هناك. وأما عنقا الكليتين فيجيئان إلى العرق الطالع من حدبة الكبد ويجذبان المائية منه، وذلك من أجل أن الدم يحتاج إلى أن يرتقي إلى هذا الوضع من منافذ دقاق في دقة الشعر. فوجب أن تترك فيه هذه المائية لتبقى له رقته المعينة له على سرعة ارتفاعه ونفوذه في هذه المنافذ. فلم يوصل لذلك الآلة الجاذبة لهذه المائية هناك لكن بعد أن ارتقى الدم ونفذ من هذه المجاري الدقاق. ووصل إلى مجرى واسع استغنى عن رقته واحتيج إلى غلظه ومتانته فوصل به هناك. وإذا ارتقى الدم النقي إلى هذا العرق توزع بعده في البدن على القسط والعدل وسقى كل عضو وأعطاه نصيبه على ما ذكرنا في تقسيم العروق. واستحال في كل عضو إلى طبيعته وغذاه وأنماه إن كان مما ينمي وإلا أخلف عليه مثل ما تحلل منه أو أقل مما تحلل منه وذاك في الأبدان المنحطة. وهذا الفعل كان آخر القصد والغرض الذي أريد بآلات الغذاء كلها ثم صرف الخالق عز وجل هذه الفضلات التي نقى منها الدم إلى منافع أخر جليلة أيضا. وذلك أن المرارة تنقى وبأحد عنقيها الدم من المرة الصفراء ويقذفه بعنق آخر في الأمعاء فيحث بجدته الأمعاء على دفع الأثفال وإخراجها بما يلذعها ويهيجها فيكون سببا للنقاء من الثفل والأمن من تعقده واحتباسه. وأما الطحال فيجذب الفضلة العكرة وينقي الدم منها ويحيلها هو من بعد حتى يكتسب قبضا وحموضة ثم يرسل منها في كل يوم شيئا إلى فم المعدة فيحرك الشهوة بحموضته وقبضه ويثيرها وينبهها ثم يخرج أيضا مع خروج الثفل.
وأما الكلى فتجذب مائية الدم وتغتذي بما فيه مما يصلح لها ثم تدفع الباقي في المجريين اللذين ذكرناهما إلى المثانة. وجعلت المثانة واسعة لئلا يحتاج الإنسان إلى مواترة القيام للبول وجعل على فمها عضل يقبضها ويضمها فلا يخرج منها شيء حتى تمتلىء. وتتأذى بكثرة البول لثقله أو لحدته، فتطلقه حيئنذ الإرادة حتى يخرج البول. وأما نفوذ مجرى الكلى إلى المثانة ففيه حكمة بالغة، وذلك أنه قد ترى المثانة تنتفخ فلا يخرج منها الريح. على أن فيها ثقبين يدخل فيهما الميل ومنهما تدخل مائية الدم التي هي البول من الكلى إليهما. وذلك من أجل أن هذين المجريين يخرقان إحدى طبقتي المثانة ويمر الخرق فيما بين طبقتيها حتى ينتهي إلى عنقها ثم يخرق الطبقة الثانية فيصير من أجل ذلك كل ما دخل في تجويف المثانة ملزقا للطبقة الداخلة بالخارجة. ومتى امتلأت كان أشد التزاق طبقتيها وضم ذلك المجرى فلا يمكن أن يرجع شيء من البول الحاصل في المثانة إلى ورائه ويسهل التجلب فيها، ولا يزال التجلب فيها حتى يثقلها. فإذا أحست بذلك الأذى كفت تلك العضلة عن إمساك فم المثانة، فانضمت المثانة على ما فيها فخرج البول.
صفحه ۷۴