The Brilliant Stars: Merits of the Diligent Ibn Taymiyyah

Mar'i al-Karmi d. 1033 AH

The Brilliant Stars: Merits of the Diligent Ibn Taymiyyah

الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية

پژوهشگر

نجم عبد الرحمن خلف

ناشر

دار الغرب الإسلامي

سال انتشار

۱۴۰۶ ه.ق

الكواكب الدرية

في مناقب المجتهد

ابن تيمية

تأليف

الإمام مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي

المتوفى سنة ١٠٣٣ هـ

تحقيق وتعليق

نجم عبد الرحمن خلف

دار الغرب الإسلامي

1

الكواكِبِ الدُّرِيّة في مَنَاقِب

المجتهد ابن تيمية

تَأْلِيفِ الإِمَامَ مَرْعِي بن يُوسف الكَرَمي الحنبلي

المتوفى سنة ١٠٣٣ هـ

تحقِيق وَتعليق

نجُمُ عَبد الرحمن خَلف

دَار الغَرَب الإسْلامي

2

حقوق الطَّبع محفوظَة

الطبعة الأولى

١٤٠٦ هـ - ١٩٨٦ م

دَار الغرب الإسلامي

بيروت - لبنان

3

-

5

بسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ

المقَدّمَة

إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا. مَن يهدي الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم.

أما بعد؛

فإنَّ إخراج هذا الكتاب يمثلُ تلبية للدعوة التي ينادي بها الصالحون المصلحون إلى إحياء، ودراسة ((سِيَرْ الرُّوَّاد)) الذين جددوا لهذه الأمة أمر دينها، وأمدُّوها بالفاعلية، ونهضوا بها من الضعف والهوان، وأعادوها إلى موضع الصدارة والعنفوان. ليكون هذا الإِحياء المُوَجَّه علاجاً لما تعاني منه الأمة اليوم من السقوط، والتخلف، والهزيمة.

فلا بدّ إذن - والحالة هذه - من التأصيل الثقافي، والتحصين التربوي، وزيادة التركيز على عوامل النهوض في تاريخ الأمة. ودرس النماذج الحَيَّة التي ساهمت بالفعل في نهضتها، واسترداد كرامتها. فإنَّ في استحضار سير هؤلاء الأفذاذ دروساً وعبراً مؤثرة، واستنهاضاً لهمم المسلمين في التأسي والاتباع.

وهذا الكتاب ((الكواكب الدُّرِّيَّة)) في سيرة كوكب منير من كواكب هذه الأمة، ذلك هو الإمام، شيخ الإِسلام، ابن تيمية، العالم المجاهد، الذي

5

حمل السيف والقلم، وجمع في شخصيَّته الفذّة بين العلم والجهاد.

أقول : إنَّ هذا الكتاب بما اشتمل عليه من سيرة هذه الشخصيّة التقية القوية المعطاة يصلح أن يكون درساً معبراً ومؤثراً للجيل المسلم المعاصر؛ لينهض من جديد فيرفع الذل والهوان والهزيمة.

وتشاء قدرة الله أن يولد هذا المصلح في فترة عظمت فيها الآفات والأزمات، وكثرت فيها الخلافات والانقسامات، فهناك أزمة في الروح، وأزمة في الفكر، وآفات اجتماعية، وانحرافات سياسية، وعلل نفسية. وكأن الحال يحكي صورة مقاربة لواقعنا اليوم.

وُلِدَ ابن تيمية في هذه الظروف المضطربة، عام (٦٦١هـ) بدمشق، ولم يمضِ على تدمير بغداد - بلد الخلافة - سوى خمس سنوات على يد التتار، ودخولهم بعد ذلك حلب ودمشق، ورأى شيخ الإسلام آثار الخراب والدَّمار في هذه البلاد، وسمع عن الأهوال والمجازر والفظائع التي ارتكبها التتار في بلاد الإسلام. ورأى بنفسه وهو في بلده ((حرَّان)) - وكان صبياً لم يتجاوز السابعة من العمر - كيف انطلق والدُهُ به وبإخوته تحت جنح الظلام، عندما داهمهم خطر التتار. فسارت عائلته بالليل، ومعهم كتب العلم محمولة على عجلة لعدم وجود الدَّواب، وامتحنت العائلة بوقوف العجلة في الطريق، حتى كاد العدوُ يَلْحَقُهم. فابتهلوا إلى الله سبحانه، واستغاثوا به، فَنجَوا وَسَلِموا، وقدموا دمشق في أثناء سنة (٦٦٧هـ).

نشأ ابن تيمية بدمشق أتمَّ النشأة وأزكاها، وأنبته الله نباتاً حسناً، فحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، واشتغل بحفظ الحديث وسماعه، مع ملازمته مجالس الذكر، وقرأ دواوين الإِسلام الكبار من كتب السُّنة. كلُّ ذلك وهو ابن بضع عشرة سنة، ولكنه في نفس الوقت لم يُنْسَ ما صنعه التتار بالمسلمين، ولم يُغفل عوامل الضعف والهوان التي نخرت بالأمة الإسلامية حتى أضحت قصعة مباحة للأعداء، يعبثون بها. فجنَّد نفسه بكلِّ طاقاتها ليعيد لأمته ثقتها بربها ودينها. فمضى يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، لا يخاف

6

في الله لومة لائم، وكان له في ميدان القلم واللِّسان، وميدان السَّيف والسِّنان مواقف وعِبَر أثمرت جيلاً من الرجال، أعادوا إلى الأمة روح الجهاد والتضحية، والثقة بالله ونصره، فكان شيخ الإِسلام يقول للمسلمين من حوله - وهو يخلع عنهم لباس الجبن والهلع -: ((لنْ يخافَ الرجل غيرَ الله إلّ لمرضٍ في قلبه))(١).

وكان سلوك الإِمام ابن تيمية ترجماناً لما يقول وينصح، وتكفي معركة ((فتح مكة)) في التدليل على ذلك. فقد رأى الناس فيه أموراً من الشجاعة والإِقدام، يعجز الواصف عن وصفها. وكان له من العمر يومذاك (٢٨) عاماً. حتى تمَّ الفتح بسببه، وكان تملك المسلمين لِعَكَّة بفعله ومشورته.

وكان من نتاج ذلك أيضاً موقعة ((شقحب)) التي انتصر فيها المسلمون على التتار انتصاراً ساحقاً سنة (٧٠٢هـ). وهذا الكتاب الحافل فيه الغُنية عن إيراد الأمثلة وتسطيرها، فإنه أطنب في بيان جهاد الإِمام ابن تيمية في كل ميدان من هذه الميادين فأحسن وأطاب.

فما أحوج المسلمين اليوم إلى النظر والاعتبار بسيرة هذا الإِمام الكبير الذي لم يُقْصِر جهاده على ميدان واحد، وإنما تمثلت فيه الشمولية فيٍ فهم هذا الدين. فإن للجهاد ميادين متنوعة، ولا بدّ للمسلم أن يقدم في كلّ منها جهده واستطاعته. فينافح عن الإِسلام بالفكر والكلمة، كما يذود عنه بالحركة الفاعلة. وهذه أبرز فائدة نرجوها، ونطمح إليها من وراء بعث هذا السِّفر القيّم. ليتذكر الجيلُ المسلم تاريخه وتراثه، ويذكر النبلاء من العلماء والمصلحين الذين حملوا هذا التراث الإِلّهي الخالد، فعاشوا به وله، حتى صنعوا هذا التاريخ العظيم الذي نفخر به اليوم.

ولسنا نطمح إلى التذكر النظري المجرد السلبي، بل نقصد إلى التذكر الإيجابي الذي يجعل سَيِّر هؤلاء الأئمة الأفذاذ دليلاً هادياً، يدعو إلى العبرة

(١) البزار - الأعلام العلية: ص ٧٤.

7

والدَّرس، والمتابعة والتأسي، وكذلك يكون التعامل المجدي مع التاريخ. وكذلك تكون صورة العلم النافع، وبدونها يصبح استحضار التاريخ وإحيائه هروباً من الواقع، وضرباً من المتعة والتسلية، وملأ الجعبة بالمعلومات، كنوع من أنواع الترف الثقافي البارد.

***

وقد اشتمل هذا الكتاب ((الكواكب الدُّرِّيَّة)) على فوائد جليلة أخرى، نتعرض إلى ذكر بعضها بإشارات موجزة:

١ - أطنب الإِمام مَرْعي الكَرْمي في عرضه لمحنة شيخ الإسلام ابن تيمية، وما صاحب ذلك من مجالس ومناظرات، وإيذاء بالقول والفعل. وكان ختام هذه المأساة موت الإِمام ابن تيمية سجيناً مظلوماً في ديار الإسلام. وقد بلغ الشطط والتجاوز، والعصبية الذميمة أن أصدر الفقيه محمد بن محمد علاء الدين البخاري المتوفى سنة (٨٤١هـ) فتواه بتكفير ابن تيمية، بل وكفّر كلَّ مَن نَعَتَهُ ((شيخ الإسلام))، وذلك بسبب إفتاؤه بمسألة ((الطلاق الثلاث)) في كونه أوقع من ثلاث طلقات مجموعة، أو متفرقة قبل رجعةٍ طلقة واحدة.

والشيخ علاء الدين هذا يعلم أنَّ ابن تيمية إمام مجتهد، وقد وصفه بالاجتهاد أئمة عصره كالحافظ المِزي، والبرزالي، وابن سَيِّد الناس، والذهبي، وعشرات من الأئمة غيرهم. وهو يعلم أيضاً أنه لا يجوز الطعن على المجتهد فيما ذهب إليه مما قام عليه الدليل عنده، بل يجب عليه العمل به، وهو في كلِّ الأحوال مأجور. على أنَّ مسألة الطلاق قال بها غيره من أكابر الصحابة، والتابعين، كما هو مروي عن علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس(١).

وقد تصدى للردِّ على هذه المقالة الجائرة الإِمامُ الحافظ، أبو عبد الله

(١) انظر تفاصيل ذلك في (مجموع الفتاوى)) لابن تيمية)): ٨٢/٣٣ -٨٨ وفي مواطن أخرى من المجلد نفسه.

8

محمد بن أبي بكر بن ناصر الدمشقي المتوفى سنة (٨٤٢هـ) . فأفرد لذلك مجلداً حافلاً سطّرَ فيه شهادات العلماء، وثناءَهم الجميل على شيخ الإسلام ابن تيمية، وأسماه: ((الرد الوافر))(١)، ثمَّ قام بتلخيصه مؤلف هذا الكتاب؛ الإمام مرعي الكَرْمي، وزاد عليه زوائد لطيفة، وأسماه ((الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية»(٢).

وهذه القضية الخطيرة المتمثلة بالطعن والتشهير بسبب الخلاف الفقهي وغيره، طالما تكررت على مدار التاريخ الإسلامي، وعانت الأمة من ويلاتها الكثير. إذْ كيف يساغ أن يوصف إمام مثل ابن تيمية بالكفر؟! وكيف يجوز أن يودع السجن ويترك هكذا مظلوماً حتى يموت؟!

إنَّ ابن تيمية هو الإمام الذي كان سيفاً صارماً على المبتدعين، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، وله مع أعداء الله من التتار وأهل الكتاب صولات وجولات، وكتب مقالات يعرفها الخاص والعام.

وَهَبْ أن ابن تيمية أخطأ في اجتهاده، وخالف الجمهور في مسألة، أو مسائل: فأي دليل شرعي يسيغ الجرح والتشهير في المجتهد المالك للدليل؟! بل الدليلُ ينصُّ على أنه مأجور غير مأزور. وباب العذر لأمثال هذا الإمام الكبير ينبغي أن يكون واسعاً؛ إن كان هناك ما يقتضي النقد والمؤاخذة. ولكنه الهوى، والعصبية البغيضة، والجرأة على الخوض في الأعراض، والتهاون في مراعاة حرمة الأخوة في الله تعالى. ورحم الله القاضي ابن فضل الله العمري الشافعي (ت ٧٤٩هـ) إذ يقول في قصيدة طويلة يرثي بها شيخ الإسلام:

قالوا بأَنكَ قَدْ أَخْطَأتَ مسألةٌ وقد يكون، فهلا منك تُغْتَفَرُ

غَلَطتَ فِي الدَّهر، أو أخطأت واحدةً أما أَجَدتَ إصابات فَتُعْتَذَرُ

(١) طبع بتحقيق الأستاذ زهير الشاويش سنة ١٣٩٣ هـ - المكتب الإسلامي - بيروت.

(٢) طبع بتحقيقنا سنة ١٤٠٤ هـ، دار الفرقان ومؤسسة الرسالة بعَمَّان.

9

ومَن يكونُ علَى التحقيق مجتهداً له الثوابُ على الحالينِ لا الوَزَرُ(١)

***

٢ - اشتمل هذا الكتاب على صور من الأدب الرفيع الذي كان يتحلّى به شيخ الإسلام ابن تيمية مع مخالفيه، رغم تجاوزاتهم في حقه، وظهور أخطائهم. وهي مواقف ذات إيحاءاتٍ تربوية للدعاة والعاملين في التحلِّي بالخلق، والتجمل بالصبر، واستعمال الرفق في إيصال كلمة الحق.

ففي سنة خمس وسبعمائة شكا جمع من الصوفية ممن ينتسبون إلى الطريقة الأحمدية، والرفاعية، المنتسبتان إلى الشيخ أحمد الرفاعي، شيخ الإِسلام إلى نائب السلطنة، وطلبوا عدم معارضة ابن تيمية لهم، وترك إنكاره عليهم، وطلبوا حضوره. فحضر ابن تيمية، وجرى بينهم كلام كثير، وكان مما قاله شيخ الإِسلام، موضحاً سبب معارضته لهم، وإنكاره عليهم:

«إنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإِسلام، وطريقة الفقر، والسلوك، ويوجد في بعضهم من التعبد والتأله والوجد والمحبة، والزهد والفقر، والتواضع ولين الجانب، والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة، والكشف والتصرف، فيوجد أيضاً في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر والبدع في الإِسلام، والإِعراض عن كثير مما جاء به الرسول - صلّى الله عليه وسلم .. »(٢).

إِنَّ القارىء لهذه السطور يلاحظ في كلام الشيخ حكمةَ الداعيةِ، ولباقته، وصدقه، وإنصافه، وأدبه، ورفقه. فإن شيخ الإِسلام - وهو يتصدى لإصلاح تجاوزات الصوفية، ويعمل على إيصال كلمة الحق إليهم - ابتدأ حديثه معهم بذكر محاسنهم وفضائلهم. بل وأطنب في ذلك، ثمَّ عمد إلى مساوئهم، وبدعهم، فذكرها محذِّراً، دون أن يرمي بها واحداً معيناً منهم.

(١) ابن عبد الهادي - العقود الدرية: ص ٥٣٠، مرعي الكرمي - الشهادة الزكية: ص ٦٨.

(٢) انظر فصل «فصل في توجه الشيخ إلى مصر، ومحنته بها» من هذا الكتاب.

10

فجمع بين المدح والقدح، وقدَّم الأقرب إلى نفوسهم، وما هو من شأنه يعين على صفاء القلوب، وتهيئتها لسماع كلمة الحق، وقبولها. وهو أسلوب شرعي كريم، مخالف لطريقة التبكيت، والإهانة، والسخرية، الذي من ثماره قطع طريق الحوار بالتي هي أحسن بين الإخوة المتنازعين لاختلاف مشاربهم، وهو الأمر الذي من شأنه أن يُفوّت على المصلح الوصول إلى هدفه الكريم في إرضاء ربه، وإصلاح إخوانه.

***

٣ - وقد ظهر خلق ابن تيمية الممزوج بالورع والحكمة، والبراءة من التشفي والانتقام من مخالفيه، وإن بلغ أذاهم فيه كلَّ مبلغ. وأنَّ سعيه وجهاده من أجل رفع بناء، يقول ابن تيمية:

((إنَّ السلطان لما جلس بالشباك، أخرج فتاوى لبعض الحاضرين في قتله. واستفتاني في قتل بعضهم. قال ابن تيمية: ففهمت مقصوده، وأن عنده حنقاً شديداً عليهم لما خلعوه، وبايعوا الملك المظفر، ركن الدين بيبرس الجاشنكير. فشرعت في مدحهم، والثناء عليهم، وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد دولتك مثلهم، وأما أنا فهم حِلّ من حقي، ومن جهتي، وسكَّنْتُ ما عندهُ عليهم))(١).

وكان من آثار هذا الموقف النبيل، ما قاله القاضي زين الدين ابن مخلوف، قاضي المالكية، وهو في غاية التأثر:

((ما رأينا أفتى من ابن تيمية، لم نبق ممكناً في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا))(٢).

وهكذا يصنع المصلح الرباني، فإنه يجاهد لنصرة الله ودينه، وليس يجاهد لنصرة شخصه، وإبراز مكانته. وهو إنما يبغض تجاوزات إخوانه

(١) انظر الفصل السابق، والعقود الدرية: ص ٢٩٨ - ٢٩٩.

(٢) انظر المصدرين السابقين.

11

وانحرافاتهم، وليس بغضه لذواتهم وأشخاصهم. فهو لا يتشفى ولا يحقد. وكأنني بشيخ الإسلام في تلك الوقفة النبيلة - التي تُنْبِئُ عن الإتزان، والضبط، والورع عند الفتنة، وصدق الأخوة وسماحتها عند الاختلاف والخصومة - يعيد للتاريخ وقفة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص حين جاءه ذلك المفتون، يريد الوقوع في خالد بن الوليد عنده - وكان ساعتها بين سعد وخالد كلام - فأراد هذا المريض استثمار ذلك، فقال له سعد - رضي الله عنه -: ((مه !! إنَّ ما بيننا لم يبلغ ديننا))(١).

وسبحان الله فإنَّ في موقف ابن تيمية، وموقف خصومه تباين كبير، ينبيك عن قيمة العلم إذا اقترن بالتربية والورع، وخطورته إذا تضخم، وضمرت مقوماته. فإنما يُراد العلم ويطلب ليُتعبد به، ولتظهر آثارُه في المواقف والسلوك.

***

٤ - وحينما بلغ المرض بشيخ الإسلام مبلغه، واشتدَّ عليه بضعة وعشرين يوماً، وهو سجين في ((القلعة)). مريض، مظلوم، جرّدوه حتى من كتب العلم التي كانت سلوته في السجن. وبينما هو في هذا الحال - الذي يدعو إلى الحنق والغضب، والبغض والكراهية بكل مَن تسبب في إيذائه - يستأذن الملك شمس الدين الوزير بدمشق للدخول عليه، فيأذَنُ الشيخ له في ذلك. فيجلس الوزير عنده، معتذراً له عن نفسه، ويلتمس منه أن يحلله مما عساه أن يكون قد وقع منه في حقه من تقصير. فيجيبه شيخ الإِسلام بقوله :

(إني قد أحللتك، وجميع مَن عاداني؛ وهو لا يعلم أني على الحق)). ثم يخص السلطان بالعذر، وهو الذي أمر بحبسه، فيقول:

((إني قد أحللت السلطان المعظم، الملك الناصر من حبسه إياي، كونه فعل ذلك مقلداً غيره معذور. أو لم يفعله بحظ نفسه، بل لما بلغه مما

(١) أخرجه ابن أبي الدنيا في ((كتاب الصمت وآداب اللَّسان)) رقم ٢٤٨، باب ذبُّ المسلم عن عرض أخيه، وإسناده صحيح.

12

ظنه حقاً من مُبلِّغِه، والله يعلم أنه بخلافه)). ثم يعمم عفوه لكلِّ من خالفه، وآذاه من المسلمين، فيقول:

«وقد أحللت كلَّ أحدٍ مما بيني وبينه؛ إلّا مَن كان عدواً لله ورسوله»(١).

وهذه الكلمات - التي تفيض رحمة، وعاطفة، وشفقة - لا تحتاج إلى تعليق، فإنها صور معبرة مؤثرة تبرز مقدار الحب والإشفاق اللذان كان يجيش بهما قلبُ هذا الإِمام الكبير.

وقد وقفت على فائدة نفيسة، تدلُّ على ورع شيخ الإِسلام، وسعة صدره، وحبه للمسلمين، ساقها الإِمام الذهبي في ترجمة الإمام الأشعري.

قال الذهبي :

((رأيتُ للأشعري كلمة أعجبتني - وهي ثابتةٌ - رواها البيهقي: سمعت أبا حازم العبدري، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لَمَّا قرب أجلُ أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني، فأتيته، فقال: إشهد عليَّ : أني لا أكفر أحداً من أهل القبلة، لأنَّ الكلَّ يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات.

قلت - والكلام للذهبي -: وبنحو هذا أدين. وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحداً من الأمة، ويقول: قال النبي - ﷺ -: ((لا يحافظ على الوضوء إلّ مؤمن))(٢) فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم))(٣).

وهو كلام في غاية الصفاء والإِشراق والأهمية، صَدَرَ من هؤلاء الأئمة

(١) انظر ((فصل في ذكر وفاة الشيخ ابن تيمية)) من هذا الكتاب.

(٢) أخرجه ابن ماجه في ((سننه)) ٩٦/١، كتاب الطهارة، باب المحافظة على الوضوء، رقم ٢٧٤ و ٢٧٥ و٢٧٦. وابن حبان في صحيحه (موارد الظمآن): رقم ١٦٤.

(٣) الذهبي - سير النبلاء: ٨٨/١٥.

13

الكبار: الأشعري، وابن تيمية، والذهبي في أواخر حياتهم المباركة الحافلة. وهو يمثل خلاصة تجاربهم، وزبدة ما انتهوا إليه في اجتهادهم وحرصهم، جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.

***

٥ - وفي الخامس من رمضان، سنة خمس وسبعمائة وَرَدَ مرسوم السلطان إلى دمشق بإحضار ابن تيمية إلى مصر، بعد أن أوغر المفترون صدرَ الجاشنكير، سلطان مصر، وأوهموه أنَّ ابن تيمية يريد إخراجهم من الملك، وإقامة غيرهم. فلما وردَ هذا المرسوم إلى دمشق مانع نائب الشام، وقال: قد عُقد له مجلسان بحضرتي، وحضرة القضاة والفقهاء، وما ظهر عليه شيء.

فقال الرسول لنائب دمشق - مستخدماً الدسيسة -: أنا ناصح لك، وقد قيل: إنه يجمع الناس عليك، وعقد لهم بيعة. فجزع من ذلك نائب دمشق وأرسل ابن تيمية على البريد.

ولما رأى أمراء الجنكيزخان قيام شيخ الإسلام في نصر الدين، وإظهار الحق، وأصلاح الناس، ناقشوا أمره، ووجهوا دسائس رسلهم إلى السلطان الأعظم، الملك الناصر لدين الله، يشُونَ به، ويحرضونه عليه. فأمر السلطان بإحضاره، فلما حضر ابن تيمية بين يديه، قال له السلطان:

إنني أُخبرت أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك. فلم يكترث به شيخ الإسلام، بل قال له بنفس مطمئنة، وقلب ثابت، وصوت عال، سمعه كثير ممن حضر:

أنا أفعلُ ذلك؟! والله إنَّ ملككَ، وملك المُغل لا يساوي عندي فَلْسَيْن. فتبسم السلطان لذلك، وعلم أنه صادق، وأن ما بلغه عنه من الأقاويل زور وبهتان(١).

وكذلك يفعل الماكرون من المفسدين والنمامين والقتاتين في كلِّ زمان

(١) البزار - الأعلام العليّة: ص ٧٤ - ٧٥.

14

ومكان. فكلما ظهر بأرض قائم لله بحجة، يرشدُ الناس، ويأخذ بأيديهم إلى الهدى، ويجمع شتاتهم المبعثر، وينفخ فيهم روح أسلافهم، ألا تحركت بطانات السوء، وأغروا الحاكم بما يشيعونه من أقاويل الزور والبهتان - بأنَّ هؤلاء المصلحون يريدون أن يخرجونكم من ملككم، ويتآمروا عليكم. وأنهم يُسَيِّسُونَ الدين ليبلغوا أهدافهم في الحكم، إلى غير ذلك من الافتراء والكذب. ويظل هؤلاء المصلحون في كلِّ عصر ومصر يجهرون بما جهر به شيخ الإِسلام بكل صدق وبراءة: ((أنا أفعل ذلك؟! والله إنَّ ملكك، وملك المُغل لا يساوي عندي فَلْسَيْن)).

ولو أراد هؤلاء النبلاء المصلحون عَرَضَ الدنيا، وزخرفها الزائل لسلكوا إليه مسلك أهله وطلابه، الذين ينهجون كل منهج، ويهيمون في كلِّ واد، ويخوضون مع كلِّ خائض للوصول إليه، وصدق الله العظيم:

﴿ قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عليهِ مِنْ أَجْرٍ وما أنا من المُتَكَلِّفِيْنَ، إِنْ هو إلّ ذكرٌ للعالمين، وَلَتَعْلَمُنَّ نبأَهُ بعد حين ﴾(١)

***

٦ - ولما فجعت الأمة بموت شيخ الإِسلام، رثاه كثير من الفضلاء، والأئمة العلماء، بقصائد جمَّةٌ. فقد رثاه جماعات من صلحاء الناس بالشام، ومصر، والعراق، والحجاز، والعرب من آل فضل(٢). ومن بين هذه القصائد؛ قصيدة لرجل بالديار المصرية، وهو: بدر الدين، محمد بن عز الدين أندمن المغيثي. قال عنه الإِمام ابن عبد الهادي: ((رجل فاضل، له محفوظات متنوعة، وفيه ديانة، وصلابة في دينه))(٣).

يقول في مطلعها:

(١) سورة ص، الآية: ٨٦ - ٨٨.

(٢) انظر ((فصل فيما رئي به الشيخ من القصائد بعد موته)).

(٣) ابن عبد الهادي - العقود الدرية: ص ٤٩٧.

15

خطبٌ دنا فبكى له الإِسلام وبكتْ لعظمِ بكائهِ الأيامُ

ومنها أيضاً:

وبكتْ لهُ الأرضُ الجليدةُ بعدما أضحى عليها وحشةٌ وقِتَامُ

وتزلزلتْ كلُّ القلوب لفقده وتواترت من بعده الآلام

وتفجع الدينُ القويمُ لفقده وبقى غريباً يُبتلى ويُضامُ

ويقول أيضاً واصفاً شيخ الإِسلام:

فالأمرُ بالمعروفِ يُفقد بعده والفاعلونَ النُّكر ليسَ يُلاموا(١)

وهذا الجندي الذي فاضت مشاعره الإِيمانية بهذه الأبيات المعبرة ما هو إلّ تلميذ من تلاميذ ابن تيمية، أحسن الشيخ تربيته وتوجيهه فكان رِثاؤه لشيخه، وحزنه عليه منبعثاً من حزنه على هذا الدين الذي افتقد إماماً آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر.

فالأمرُ بالمعروفِ يُفقدُ بعده والفاعلونَ النُّكر ليس يُلاموا

وهذه المسألة توقفنا على شمول مدرسة ابن تيمية، وأنه لم يقتصر في تربيته وتوجيهه على الصفوة من طلبة العلم، وأهله. وإنما كان يهتم بفصائل المجتمع الإسلامي وطبقاته دون استثناء فيتعهد الجميع بالتربية والإصلاح.

وقد برز اهتمام شيخ الإِسلام بالجند يوم وقعة ((شقحب)) التي هزم الله بها التتار على أيدي المسلمين، فكان يعظ الجند، ويتلو عليهم القرآن، ويقرأ عليهم الأحاديث، ويحثهم ويثبتهم، ويعبئهم نفسياً وعسكرياً. حتى تحولوا بهذا التوجيه خلقاً آخر، مغايراً لما كانوا عليه من التخلف والخذلان والهزيمة، فارتقوا بهذه المعاني الخالدة - التي نفخها فيهم شيخُ الإِسلام - إلى مواقع النصر والفاعلية. وكان ابن تيمية في مقدمتهم يترجم مواعظه ودروسه إلى مواقف، وعمل مشهود. حتى صنع الله بهم قدره المبارك في

(١) المصدرين السابقين.

16

هزيمة أعتى قوةٍ ضاربةٍ في ذلك الزمان .

* * *

٧ - ومن الدروس والعِبَر المستفادة من هذا الكتاب تلك الكتب والرسائل التي أوفدها جماعة كبيرة من العلماء الكبار من شتى البلدان الإسلامية. ينافحون بها عن ابن تيمية، ويصفونه بالاجتهاد، ويعتذرون عنه، ويلتمسون من سلطان المسلمين أن يخرج هذا الحَبْر من السجن(١).

وهذه الكتب الكريمة التي أرسلها جهابذة علماء بغداد، والشام، وغيرهم ستبقى وثائق جليلة، ذات أثر غائر في قلب كلِّ مَن يطلع عليها من المسلمين. فهي وإن حِيْلَ بينها وبين وصولها إلى سلطان المسلمين، فإنها صفحاتٌ مُشْرَقَةٌ مُشَرِّفَةٌ من مناصرة علماء المسلمين لبعضهم البعض، وتبيانهم للحق، وذودِهم عنه.

وذَبُّ المسلم عن أخيه أمرٌ حضَّ عليه الشارع، وحذّر من عاقبة تخذيله. فعن جابر بن عبد الله، وأبي طلحة الأنصاريين، عن النبي - ﷺ - أنه قال:

«ما من امرءٍ يخذلُ امرءًا مسلماً في موطن تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عِرضه إلّا خذله اللَّهُ في موطن يحب فيه نصرته. وما مِن امرئٍ ينصرُ امرأً مسلماً في موطن ينتقص فيه مِن عرضه، وتنتهك فيه حرمته؛ إلّا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته»(١).

وعن أبي الدرداء، عن النبي - ﷺ -:

«من ردَّ عن عِرْضِ أخيهِ بالمغيبةِ، كان حقاً على اللَّهِ أَنْ يردّ عن عِرضِهِ يومَ القيامة»(٢).

(١) أخرجه أبو داود في ((سننه)): ٢٧١/٤.
وابن أبي الدنيا في ((كتاب الصمت)) رقم ٢٤٣ بإسناد حسن. وأخرجه أيضاً في ((كتاب الغيبة)) ورقة ٩ أ.

(٢) أخرجه الترمذي في ((جامعه)): ٣٢٧/٤. وقال: هذا حديث حسن. =

17

بل ذهب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أنَّ السُّكوتَ في مثل هذه الحالة يُعَرِّضُ السَّاكِتَ للمساءلة يوم القيامة، يقول عمر:

(ما منعكم إذا رأيتم السفيهَ يخرقُ أعراضَ الناسِ أنْ تُعِرِّبوا(١) عليه))؟ !. قالوا: نخافُ لسانَهُ. قال: ذلك أدنى أَنْ لا تكونوا شهداء))(٢).

ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية :

أجدني في حِلُّ من صنع ترجمة موسعة للإِمام ابن تيمية، وذلك لأنَّ هذا الكتاب ((الكواكب الدرية)) ما هو إلّ ترجمة ضافية كافية لابن تيمية. تغني عن التكرار، لما اشتملت عليه من التفاصيل والجزئيات الدقيقة لحياته. والتي يصبح عملنا حيالها ضرباً من التكرار، ونوعاً من الإكثار الذي لا مبرر له. فآثرت الاستغناء بما تضمنه هذا الكتاب من سيرة هذا الإِمام، واكتفيت ببعض الفوائد والعِبَر المستفادة من حياة هذا العالم المجاهد، وما صاحبها من أحداث وملابسات. ذكرتها بإيجاز في فاتحة الكتاب، والحمد لله الموفق للصواب.

ترجمة المصنف :

هو الإِمام الفقيه مَرْعي بن يوسف بن أبي بكر بن يوسف الكَرْمي(٣) ثم المقدسي، الحنبلي(٤).

= وأحمد في ((المسند)): ٤٤٩/٦.
وابن أبي الدنيا في ((كتاب الصمت)): رقم ٢٤٠ بأسناد حسن.
والطبراني في «مكارم الأخلاق)): ص ٨٧ رقم ١٣٤.
والبيهقي في ((السنن الكبرى)): ١٦٨/٨.

(١) التَّعْريب: تقبيحُ قول القائل، والرِّد عليه.

(٢) أخرجه عبد الله بن وهب في ((الجامع)): ص ٥٩. وابن أبي الدنيا في ((كتاب الصمت)): رقم ٢٤٧ بإسناد صحيح، وفي ((كتاب الغيبة)): الورقة ٩ ب.
وأورده الزبيدي في ((إتحاف السادة المتقين)): ٥٤٥/٧.

(٣) نسبة إلى ((طوركرم)): قريةٌ بقرب نابلس. (المحبي - خلاصة الأثر: ٣٥٨/٤).

(٤) مصادر ترجمته : =

18

وُلِدَ هذا الإِمام في ((طولكرم)) بفلسطين، ونشأ هناك، ثم انتقل إلى ((القدس)) الشريف - فك الله أسره، وجميع بلاد فلسطين، وغيرها من بلاد المسلمين من أيدي المجرمين - وبعد ذلك ارتحل الإِمام مرعي إلى القاهرة، فاستأنس بالحركة العلمية التي كانت تتميز بها مصر وقتذاك، فأثر الأئمة الكبار من رجال القرن العاشر ما يزال قائماً، ومتمثلاً بتلامذتهم - الذين كانوا خيرَ امتدادٍ لهم - كالإِمام أبي الخير السخاوي (ت ٩٠٢هـ) والإِمام السمهودي (ت ٩١١هـ) والإِمام جلال الدين السيوطي (ت ٩١١هـ) والإِمام أبي العباس القسطلاني (ت ٩٢٣هـ) والإِمام زكريا الأنصاري (ت ٩٢٨هـ) والإِمام ابن حجر الهيثمي (ت ٩٧٣هـ) والإِمام نجم الدين الغيطي (ت ٩٨١هـ). وكان في مصر من الأعلام يوم أن حلَّ بها الإِمام مَرْعي الكَرْمي عدد وافر من الأئمة الكبار، كالإِمام العلامة عبد الرؤوف المناوي (ت ١٠٣١هـ)، والإمام إبراهيم بن حسن اللَّقاني (ت ١٠٤١ هـ)، والإِمام نور الدين الحلبي (ت ١٠٤٤ هـ) وغيرهم كثير.

ولما طاب العيش للإِمام مرعي في بلاد مصر، ووجد فيها ضالته المنشودة، عزم على الاستقرار بها، فألقى رحاله في القاهرة، واتخذها منطلقاً لبث علومه الشرعية، وأداء رسالته في تعليم الناس وإصلاحهم، حتى وافاه أجله فيها.

وقد تبوأ الإِمام مرعي منزلة كبيرة في المذهب الحنبلي، فهو يُعدُّ من كبار علماء الحنابلة بمصر. كما ضم إلى ذلك علوماً أخرى. فهو إمام مبرز

= المحبي - خلاصة الأثر: ٣٥٨/٤ - ٣٦٩.
حاجي خليفة - كشف الظنون: ١٩٤٨.
البغدادي - هدية العارفين: ٤٢٦/٢ - ٤٢٧.
السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة (مخطوط في التيمورية بمصر). بروكلمان - تاريخ الأدب العربي - ملحق ٤٩٦/٢ - ٤٩٧، (الطبعة الألمانية).
الزركلي - الأعلام: ٢٣٧/١ - ٢٣٨.
كحالة - معجم المؤلفين: ٢١٨/١٢ - ٢١٩.

19

في الحديث وعلومه، والعقائد، وعلم الكلام، والأدب والشعر. فإنه كان ينظم الشعر، وله ديوان جيد، يقول في بعضه:

يا ساحرَ الطَّرفِ، يا مِنْ مُهْجَتِي سَحَرًا كَمْ ذَا تَنامُ، وكم أَسْهَرتني سَحَرا

لو كنتَ تعلمُ ما ألقاهُ منكَ لما أتعبتَ يا منيتي قلباً إليكَ سَّرَى

هذا المُحِبُّ لَقَدْ شَاعَتْ صَبَابَتُهُ بالروحِ والنَّفسِ يوماً بالوصالِ شَرى

ومما يقول فيه أيضاً:

لئنْ قلَّدَ الناسُ الأئمة إنني لفي مذهبِ الخَبْرِ ابنِ حَنْبَلَ راغِبُ

أقلِّدُ فتواهُ، وأعشقُ قولَهُ وللناسِ فيما يَعْشَقَونَ مذاهبُ

ومن شعره في تقريظ لمنظومة الإمام محمد الجَمازي على ((أم البراهين)):

أهاذي خدورُ، أم بدور تمائِمُ وإلّا زهورٌ، أم ثغورٌ بواسمُ

وإلّا نجومٌ في السما وأَهِلَّةٌ وإلّا شموسٌ أشرقتْ ونسائمُ
وإلّا بلابل في الصباح ترَنَّمَتْ على إِلْفِها لما شَجَتها الحمائمُ
وهاذي القوافي حيثُ رنَّحها الصبا غصونُ رياحٍ أم قدودٌ نَواعِمُ

ثم يقول:

معاني تَجَلَّتْ مُذْ تَحَلَّتْ بنظمِها يقومُ بها للطّالبينَ مَواسمُ(١)

ولم تكن مشاركة الإِمام مرعي في العلم مشاركة عامة، بل كان غائراً في العلوم، متضلعاً فيها، فإنه وُصِفَ بالاطلاع الواسع على نقول الفقه، ودقائق الحديث، وله المعرفة التامة بالعلوم المتداولة.

(١) مَرْعي الكرمي - العقود الدرية: ورقة ٥١أ.

20