Al-Kalimat al-Hisan fi Bayan Uluw al-Rahman
الكلمات الحسان في بيان علو الرحمن
ژانرها
الكلماتُ الحسانُ
في
بيانِ عُلُوِّ الرَّحْمَنِ
تأليف: عبد الهادي بن حسن وهبي
صفحه نامشخص
بسم الله الرحمن الرحيم
المُقَدِّمَةُ
إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
﴿يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ [آل عمران: ١٠٢].
﴿يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وب منهما رجالًا كثيرًا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١].
أمَّا بعدُ .. فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمَّدٍ ﷺ، وشرَّ الأُمور محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّار.
أمَّا بعدُ: فإنَّ أولى ما يتنافسُ به المتنافسونَ، وأَحْرَى ما يتسابقُ في حَلْبةِ سباقهِ المتسابقونَ، ما كانَ بسعادةِ العبدِ في معاشهِ ومعادهِ كفيلًا، وعلى طريقِ هذهِ السعادةِ دليلًا، وذلكَ العلمُ النَّافعُ، والعملُ الصَّالحُ اللَّذَانِ لا سعادةَ للعبدِ إلَّا بهما، ولا نجاةَ له إلَّا بالتَّعَلُّقِ بسببهما، فمنْ رُزِقَهُمَا فقدْ فازَ وغَنِمَ، ومنْ حُرِمَهُما فالخيرَ كلَّه حُرِمَ.
ولمَّا كانَ العلْمُ للعملِ قرينًا وشافعًا، وشرفهُ لشرفِ معلومهِ تابعًا، كانَ أَجَلَّ العلومِ وأفْضلَها وأشرفَها وأَسْماها على الإطلاقِ: العِلْمُ بالله وأسْمائِه وصفاتِه وأفْعالِه.
1 / 1
ولقدْ شهدَ الله ﷾ وشهادتهُ أَجَلُّ شهادةٍ وأعْظمُهَا وأعْدَلُهَا وأصْدَقُهَا - لنفسِه بأنَّهُ استوى على العرشِ، وبأنَّهُ القاهرُ فوقَ عبادهِ، وبأنَّ ملائكتَهُ يخافونهُ منْ فوقهم، وأنَّ الملائكةَ تَعْرُجُ إليه بالأمْرِ، وتَنْزِلُ مِنْ عندهِ، وأنَّ العملَ الصالحَ يصْعَدُ إليهِ. وشَهِدَتْ له الجَهْمِيَّةُ بضدِّ ذلكَ، وقالوا: إنَّ الله منزَّهٌ عن العلوِّ والفوقيَّةِ. يظنُّونَ أنَّ الحقَّ معهم؛ ولكنَّ الحقَّ وراءَهم.
فسمُّوا علوَّ الله على خلقهِ، واستواءَهُ على عرشه: جهةً ومكانًا وقالوا: «منزهٌ عن الجهة والمكان» ومقصودهم بذلك: أنّهُ ليسَ فوق السموات ربٌّ؛ ولا على العرشِ إلهٌ يُصلَّى له ويُسجَدُ، وأنَّ محمَّدًا ﵌ لم يُعرَج بهِ إليه. يفترون على الله الكذب: ﴿إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون﴾ [النحل: ١١٦]. ﴿وقد خاب من افترى﴾ [طه: ٦١].
فشهادةُ الرَّبِّ تعالى (١): تكذِّبُ هؤلاءِ أشدَّ التَّكْذيبِ، وتتضمَّنُ أنَّ الذي شهدَ بهِ قدْ بَيَّنهُ وأوْضحهُ وأظهرهُ، حتَّى جعلهُ في أعلى مراتبِ الظُّهورِ والبيانِ، وأنَّه لو كانَ الحقُّ فيما يقولهُ المعطِّلةُ والجهميَّةُ - الذينَ يقولونَ: ليسَ فوقَ السَّمواتِ رَبٌّ يُعبدُ، ولا على العرشِ إلهٌ يُصَلَّى له ويُسْجَدُ - لمْ يَكُنِ العبادُ قد انتفعوا بما شهدَ بهِ ﷾؛ فإنَّ الحقَّ في نفسِ الأمْرِ - عندهم - لمْ يَشْهَدْ بهِ لنفسهِ، والذي شهدَ بهِ لنفسهِ، وأظْهرهُ وأوضحهُ: فليسَ بحقٍّ، ولا يجوزُ أنْ يُسْتفادَ منهُ الحقُّ واليقينُ.
_________
(١) اعلَمْ - بارك الله فيك - بأنَّ اللهَ ﷾: أعظمُ شيءٍ شهادةً، كما قال ﷾: ﴿قل أي شيء أكبر شهادة قل الله﴾ [الأنعام: ١٩]، فإن شهادتَه ﷾ لا غلطَ فيها ولا ظلمَ، تعالى اللهُ ﷿ عن ذلك.
1 / 2
ولقد وفَّقني اللهُ تعالى للكتابةِ في صفةٍ عظيمةٍ منْ صفاتِ ربِّ العالمينَ ﵎، ألاَ وهيَ «العُلُوُّ والفَوْقِيَّةُ» ليزدادَ الذينَ آمنوا إيمانًا، وليعلمَ الذينَ عَقَدُوا ألويةَ البدعِ وأطلقوا عقالَ الفتنةِ أَنَّهم ليسوا على شيءٍ في هذا البابِ. «فَهُمْ مختلفونَ في الكتابِ (١)، مُخالِفونَ للكتابِ (٢)، مُجمِعونَ على مفارقةِ الكتابِ، يقولونُ على اللهِ، وفي اللهِ، وفي كتابِ اللهِ بغيرِ علمٍ، يَتكلَّمونَ بالمُتَشَابَهِ مِنَ الكلامِ، ويَخْدَعونَ جُهَّالَ النَّاسِ بما يُشَبِّهونَ عليهم. فنعوذُ باللهِ مِنْ فتنِ الضَّالِّينَ» (٣).
أسألُ اللهَ تعالى «أنْ يوفِّقَنا لما يُرضيهِ مِنَ القولِ والعملِ والنِّيةِ، وأَنْ يُحْيِيَنَا على الطريقةِ التي يرضاها، ويَتَوفَّانا عليها، وأنْ يُلْحِقَنا بنبيِّهِ وخيرتهِ مِنْ خلقهِ محمَّدٍ المصطفى وآلهِ وصحْبهِ، ويجْمعَنا معهم في دارِ كرامتهِ، إنَّهُ سميعٌ قريبٌ مجيبٌ» (٤).
الراجي عفو ربِّه عبد الهادي بن حسن وهبي (٥)
* * *
_________
(١) وهذا يتضمنُ الاختلافَ المذمومَ المذكورَ في قوله تعالى: ﴿وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد﴾ [البقرة: ١٧٦].
(٢) فهذا إشارةٌ إلى تقديمِ غيرِ الكتابِ على الكتابِ، كتقديم معقولهم وأذواقهم وآرائهم ونحو ذلك على الكتاب، فإنَّ هذا اتفاقٌ منهم على مخالفة الكتاب. ومتى تركوا الاعتصام بالكتاب والسنَّة، فلا بُدَّ أن يختلفوا، فإنَّ النَّاسَ لا يفصل بينهم إلَّا كتاب منزَّلٌ من السماء.
(٣) درء تعارض العقل والنقل (٥/ ٢٨٢ - ٢٨٤).
(٤) الاقتصاد في الاعتقاد (ص٢٢٣ - ٢٢٤)، للحافظ عبد الغني المقدسي ﵀.
(٥) بيروت - لبنان - ص. ب ٦٠٩٣/ ١٣ شوران. هاتف: ٦٢٦٧٨٧/ ٠٣ - فاكس: ٧٩١٠٥١/ ٠١.
1 / 3
أَدِلَّةُ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى العَرْشِ
اعلمْ - وفَّقنا اللهُ وإيَّاكَ لما يُرضيهِ منَ القولِ والنِّيةِ والعملِ، وأعاذنا وإيَّاكَ منَ الزَّيغِ والزَّللِ - أنَّ صالحَ السَّلفِ، وخيارَ الخلفِ، وسادةَ الأئمَّةِ، وعلماءَ الأمَّةِ، اتفقَتْ أقوالُهمْ، وتَطابقَتْ آراؤهُمْ عَلَى أنَّ اللهَ موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ، ونعوتِ الجلالِ، التي جاءَ بِهَا الكتابُ والسنَّةُ؛ يُثبتونَ للهِ مَا أثبتهُ لنفسهِ المقدَّسةِ، وما وصفهُ بِهِ رسولُهُ ﷺ، مِنْ غيرِ تَمثيلٍ، وَلاَ تَعطيلٍ، ومِنْ غيرِ تَكييفٍ، وَلاَ تَشبيهٍ؛ ولا يَبتدِعونَ للهِ وصفًا لم يَرِدْ بِهِ كتابٌ وَلاَ سُنَّةٌ.
فإنَّ اللهَ تَعَالَى: أعظمُ، وأَجَلُّ، وأكبرُ، وأعلى، وأكملُ فِي صدورِ أوليائهِ المؤمنينَ، منْ أنْ يَتجاسَرُوا عَلَى وصفهِ، ونعتهِ، بمجرَّدِ عقولهمْ وآرائهمْ، وخيالاتِ أوهامهم. فَهُمْ كما يقولُ ابنُ القيِّم ﵀:
وَكَلاَمُ رَبِّ العَالَمِينَ وَعَبْدِه ... فِي قَلْبهِ أعْلى وَأَكْبَرُ شَانِ
مِنْ أنْ يُحَرَّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَأَنْ ... يُقْضَى لَهُ بِالعَزْلِ عَنْ إيقَانِ (١)
فآمَنُوا بما قالَ اللهُ سبحانهُ في كتابهِ، وصحَّ عنْ نبيِّهِ، وأمَرُّوهُ كما وَرَدَ منْ غيرِ تعرُّضٍ لكيفيَّةٍ، أو اعتقادِ شبهةٍ أو مِثْلِيَّةٍ، أو تأويلٍ يؤدِّي إلى تعطيلٍ (٢)، ووَسِعَتْهُمُ السنَّةُ المحمَّديةُ، والطريقةُ المرضيَّةُ، ولم يَتعدَّوها إلى البدعةِ المُرْدِيَةِ الرَّدِيَّة، فحازُوا بذلكَ الرُّتبةَ السَّنِيَّةَ، والمنزلةَ العَلِيَّةَ (٣).
_________
(١) الكافية الشافية (ص١٨١ - ١٨٢).
(٢) الاقتصاد في الاعتقاد (ص٧٨ - ٨٢).
(٣) الاقتصاد في الاعتقاد (ص٨٠).
1 / 4
ومِنَ الصِّفاتِ العظيمةِ الثابتةِ فِي الكتابِ والسنَّةِ: «صفةُ العلوِّ والفوقيَّة»، والأدلَّةُ على إثباتها كثيرةٌ ومتنوِّعةٌ، هذا أوانُ سَرْدِهَا فَألْقِ سَمْعَكَ، وَأحْضِرْ قلبَكَ، وتأمَّلْهَا تأمُّلَ طالبٍ للحقِّ لا نافرٍ عنهُ، وكنُْ مِنَ الذينَ يستمعونَ القولَ فيتَّبعونَ أحسنَهُ، وإيَّاكَ وسوءَ الظنِّ بكلامِ اللهِ وكلامِ رسولهِ فذلكَ الهَلَكَةُ، وما ضلَّ مَنْ ضلَّ، وهلكَ منْ هلكَ، إلَّا لسوءِ ظنِّهِ بالكتابِ والسنَّةِ. واللهُ المستعانُ وعليهِ التُّكلانُ، ولاَ حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ (١).
أحدُها:
التَّصريحُ بالفوقيَّةِ مقرونًا بأداة «مِنْ» المعيِّنةِ للفوقيَّةِ بالذَّاتِ
قال اللهُ ﷾: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٥٠].
قالَ ابنُ خزيمةَ ﵀: فأعْلمَنا الجليلُ جلَّ وعلا في هذهِ الآيةِ أنَّ ربَّنا فوقَ ملائكتهِ، وفوقَ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ مِنْ دَابَّةٍ، وأَعْلَمَنا أنَّ ملائكتَهُ يخافونَ ربَّهم الذي فوقهم (٢).
الثاني:
ذِكْرُها مُجَرَّدَةً عَنِ الأداةِ
قال اللهُ ﷾: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: ١٨].
وعن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ ﵁ قال: لمَّا حكمَ سعدُ بنُ معاذٍ في بني قُرَيْظَةَ أنْ يُقتلَ منْ جَرَتْ عليهِ المُوسُ، وأنْ تُقْسَمَ أموالُهم وذَراريهِم، فقالَ رسولُ الله ﷺ: «لقدْ حَكَمَ فيهمُ اليومَ بحُكْمِ اللهِ الذي حَكمَ بهِ مِنْ فوقِ سبعِ سماواتٍ» (٣).
_________
(١) معارج القبول (١/ ٣٠٦).
(٢) التوحيد (ص١١١) لابن خزيمة.
(٣) رواه النسائي في «السنن الكبرى» (٥/ ٦٢ - ٦٣) (٨٢٢٣) وغيره، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٢٧٤٥).
1 / 5
الثالثُ:
التَّصريحُ بالعروجِ إليهِ ﷾
قالَ الله ﷾: ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ [السجدة: ٥]، وقالَ ﷿: ﴿مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ [المعارج:٣ - ٤].
قالَ مجاهدٌ ﵀: يقالُ: ذي المعارجِ: الملائكةُ تعرجُ إلى الله (١).
وقالَ الطبريُّ ﵀: يقولُ تعالى ذكرهُ: تصعدُ الملائكةُ والرُّوحُ - وهوَ جبريلُ ﵇ إليهِ يعني: إلى الله جلَّ وعزَّ، والهاءُ في قولهِ «إليهِ» عائدةٌ على اسمِ اللهِ (٢).
وعن أبي هريرةَ ﵁ قالَ: قالَ رسولُ الله ﷺ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ وَصَلاَةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِم - فَيَقُولُ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» (٣).
قالَ ابنُ خزيمةَ ﵀: وفي الخبرِ ما بانَ وثبتَ وصحَّ أنَّ اللهَ ﷿ في السَّماءِ، وأنَّ الملائكةَ تصعدُ إليهِ مِنَ الدُّنيا، لاَ كمَا زعمتِ الجَهْمِيَّةُ (٤) المُعَطِّلَةُ (٥).
_________
(١) رواه البخاري (١٣/ ٤٢٦) تعليقًا مجزومًا به.
(٢) جامع البيان (م١٤/ج٢٩/ص٨٧).
(٣) رواه البخاري (٥٥٥) و(٣٢٢٣) و(٧٤٢٩) و(٧٤٨٦)، ومسلم (٦٣٢).
(٤) قال الحافظُ الذهبيُّ في «تاريخ الاسلام» (ص٦٨)، حوادث ووفيات ١٢١هـ ١٤٠هـ: «كان الناسُ في عافيةٍ وسلامةِ فطرةٍ حتى نَبغَ جهمٌ فتكلَّمَ في الباري تعالى وفي صفاته بخلافِ ما أَتَتْ به الرسلُ، وأُنزلت به الكتبُ، نسألُ اللهَ السلامةَ في الدِّينِ».
(٥) التوحيد (ص٣٨١) لابن خزيمة.
1 / 6
الرابعُ:
التَّصْرِيحُ بالصُّعودِ إليهِ ﷾
قالَ اللهُ ﷾: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠].
قالَ الطبريُّ ﵀: «يقولُ تعالى ذِكْرُهُ: إلى اللهِ يَصْعَدُ ذِكْرُ العبدِ إيَّاهُ وثناؤهُ عليهِ» (١).
وقالَ صدِّيق حسن خان ﵀ في الآيةِ -: وفيهِ دليلٌ على علوِّهِ تعالى فوقَ الخلقِ وكونِه بائنًا عنهُ بذاتهِ الكريمةِ، كما تدلُّ لهُ الآياتُ الأخرى الصَّريحةُ والأحاديثُ المستفيضةُ الصَّحيحةُ (٢).
وقال ابنُ القَيِّمِ ﵀:
وإلَيْهِ يَصْعَدُ كُلُّ قَولٍ طَيِّبٍ ... وإلَيهِ يُرْفَعُ سَعْيُ ذِي الشُّكْرَانِ (٣)
وتَأَمَّلِ الأحاديثَ التاليةَ:
١ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللهِ إِلَّا الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» (٤).
فلِلَّهِ ما أَحْلَى هذا اللَّفْظَ وأوجزَهُ وأَدَلَّهُ على علوِّ اللهِ ﷾.
٢ - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّائِبِ ﵁: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ قَبْلَ الظُّهْرِ، فَقَالَ: «إِنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبوَابُ السَّمَاءِ، وَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ» (٥).
_________
(١) جامع البيان (م١٢/ج٢٢/ص١٤٤).
(٢) فتح البيان (١١/ ٢٢٧).
(٣) الكافية الشافية (ص٥٤).
(٤) أخرجه البخاري (٧٤٣٠)، ومسلم (١٠١٤).
(٥) رواه الترمذي (٤٧٨)، وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (٣٩٦).
1 / 7
٣ - عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ﵁ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ، مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» (١).
٤ - عَنْ رِفَاعَةَ ﵁ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَعَطَسْتُ فَقُلْتُ: الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مُبَارَكًا عَلَيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى. فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ انْصَرَفَ فَقَالَ: «مَنِ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلاَةِ؟» فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ: «مَنِ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلاَةِ؟» فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ ثمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ: «مَنِ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلاَةِ؟» فَقَالَ رِفاعَةُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «كيْفَ قُلْتَ؟» قَالَ: قُلْتُ: الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، مُبَارَكًا عَلَيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَقَد ابْتَدَرَهَا بِضْعَةٌ وَثَلاَثُونَ مَلَكًا أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِهَا» (٢).
_________
(١) رواه النسائي (٢٣٥٧)، وحسنه الألباني في «صحيح سنن النسائي» (٢٢٢١).
(٢) رواه أبو داود (٧٧٠)، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (٧٠٠).
1 / 8
٥ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «... واتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ» (١).
٦ - عَنْ أَبِي مُوسَى ﵁ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ ﷿ لاَ يَنَامُ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ (٢)، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» (٣).
قالَ ابنُ القيِّم ﵀:
وَحِجَابُهُ نُورٌ فَلَوْ كُشِفَ الحِجَا ... بُ لأحْرَقَ السُّبُحَاتُ للأكْوَانِ (٤)
فإذا كانتْ سُبُحَاتُ وجْههِ الأعْلى لا يقومُ لها شيءٌ منْ خلقهِ، ولو كشفَ حجابُ النُّورِ تلكَ السُّبحات، لاحْترقَ العالمُ العلويُّ والسفْليُّ، فمَا الظنُّ بجلالِ ذلكَ الوجهِ الكريمِ وعظمتهِ وكبريائهِ وكمالهِ وجلالهِ؟! (٥).
_________
(١) قطعة من حديث رواه البخاري (١٤٩٦) و(٢٤٤٨)، ومسلم (١٩).
(٢) عن أبي ذرٍّ ﵁ قال: سألتُ رسولَ اللهِ ﷺ: هل رأيتَ ربَّكَ؟ قال: «رَأَيْتُ نُورًا». وفي رواية: «نُورٌ أَنَّى أَراهُ» رواه مسلم (١٧٩).
قال ابن أبي العز الحنفي ﵀ في «شرح الطحاوية» (١/ ٢٢٤): فيكون - والله أعلم - معنى قوله لأبي ذر: «رأيت نورًا» أنَّه رأى الحجاب، ومعنى قوله: «نُورٌ أَنَّى أَراهُ»: النور هو الحجابُ يمنعُ من رؤيته، فأَنّى أراه: أي: فكيفَ أراه والنورُ حجابٌ بيني وبينه يمنعُني من رؤيته!
(٣) أخرجه مسلم (٢٩٣).
(٤) الكافية الشافية (ص٢٤٩).
(٥) الصواعق (ص١٠٨٣).
1 / 9
٧ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ للهِ ﵎ مَلاَئِكَةً سَيَّارَةً فُضُلًا يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ، قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يملؤوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعدُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَيَسْأَلُهُمُ اللهُ ﷿ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ -: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْأَلُونَكَ. قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لاَ، أَيْ رَبِّ! قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ. قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لاَ. قَالَ: فَكَيْفَ لوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ. فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا. قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلاَنٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ، فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمُ الْقَوْمُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» (١).
هذا حديثٌ صحيحٌ جليلُ القدْرِ وكثيرُ الفائدةِ، وهوَ حسنُ الألفاظِ لطيفُ المعاني، و«فيهِ إثباتُ جهةِ العلوِّ والفوقِ، للهِ تعالى» (٢).
_________
(١) أخرجه مسلم (٢٦٨٩).
(٢) السراج الوهاج (١٠/ ٥٦٧).
1 / 10
٨ - عن أبي ذَرٍّ ﵁ قال: قال رسولُ الله ﷺ: «إذا مكثَ المنيُّ في الرَّحِمِ أربعينَ ليلةً، أتاهُ مَلَكُ النُّفوسِ، فعَرَجَ بهِ إلى الرَّبِّ في رَاحتهِ، فيقولُ: أَيْ ربِّ! عبدُكَ هذا ذكرٌ أم أنثى؟ فيقضي اللهُ إليه ما هو قاضٍ، ثمَّ يقول: أَيْ ربِّ! أشقيٌّ أم سعيدٌ؟ فيكتبُ بين عينَيْهِ ما هُوَ لاقٍ» وتلا أبو ذرٍّ منْ فاتحةِ التغابنِ خمسَ آياتٍ (١).
الخامسُ:
التَّصْرِيحُ برفعهِ بعضَ المخلوقاتِ إليهِ ﷾
قالَ اللهُ ﷾: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء: ١٥٨]، وقالَ ﷿: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: ٥٥].
السادسُ:
التَّصْرِيحُ بالعلوِّ المطلقِ الدَّالِّ على جميعِ مراتبِ العلوِّ، ذاتًا وقَدْرًا وقَهْرًا
قالَ ﷾: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: ٢٥٥]. ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [سبأ: ٢٣]. ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ *﴾ [الرعد: ٩]. ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *﴾ [الأعلى: ١]. ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: ١٨].
قالَ ابنُ القيِّمِ ﵀: تعالى: الذي هوَ دالٌّ على كمالِ العلوِّ ونهايتِهِ (٢).
وفسَّرَ الطبريُّ (العليَّ): بالعلوِّ والارتفاعِ (٣).
وقالَ ابنُ خُزيمةَ ﵀: الأعلى: مفهومٌ في اللُّغةِ أنَّهُ أعلى كلِّ شيءٍ، وفوقَ كلِّ شيءٍ. والله قدْ وصفَ نفسهُ في غيرِ موضعٍ منْ تنزيلهِ، وأَعْلَمَنا أنَّهُ العليُّ العظيمُ. أفليسَ العليُّ - يا ذوي الحِجَى - ما يكونُ عاليًا؟! (٤).
_________
(١) رواه الدّارميُّ في «الرد على الجهمية» (٩٤)، وابن جرير (٢٦٤٨٩) بسند صحيح.
(٢) بدائع الفوائد (٢/ ٤١١) [مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة، الطبعة الأولى].
(٣) جامع البيان (م٣/ج٢/ص١٩) و(م١٣/ج٢٥/ص٥٩).
(٤) التوحيد (ص١١٢).
1 / 11
قال ابنُ القيِّم ﵀:
ولهُ العلوُّ من الوجوهِ جميعِها ... ذاتًا وقهرًا مع عُلوِّ الشَّانِ
لكنْ نُفَاةُ عُلُوِّهِ سَلَبُوهُ إكـ ... ـمالَ العلوِّ فصارَ ذا نُقْصَانِ
حَاشَاهُ من إفكِ النُّفَاةِ وسَلْبِهِم ... فلَهُ الكمالُ المطلقُ الرَّبَّاني (١)
فعلوُّ الذَّاتِ: هو أنَّه مستوٍ على عرشهِ، فوقَ جميعِ خلقهِ، مباينٌ لهم، وهوَ معَ هذا مطَّلِعٌ على أحوالِهم، مُشَاهِدٌ لهم، مُدَبِّرٌ لأمورهم الظَّاهرةِ والباطنةِ، مُتَكَلِّمٌ بأحكامهِ القدريَّةِ وتدبيراتهِ الكونيَّةِ وبأحكامهِ الشَّرْعيَّةِ.
وأمَّا علوُّ القَدْرِ: فهو أنَّ صفاتَهُ كلَّها صفاتُ كمالٍ، ولهُ منْ كلِّ وصفٍ ونعتٍ أكملُهُ وغايتُهُ.
وأمَّا علوُّ القَهْرِ: فهوَ قهرهُ تعالى لجميعِ المخلوقاتِ، فالعالمُ العلويُّ والسُّفليُّ كلُّهم خاضعونَ لعظمتهِ مفتقرونَ إليهِ في كلِّ شؤونهم (٢).
السابعُ:
التَّصريحُ بتنزيلِ الكتابِ منهُ ﷾
قالَ اللهُ ﷿: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ *﴾ [الزمر: ١]. ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *﴾ [فصلت: ٢]. ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٢] ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *﴾ [السجدة: ٢]. ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: ١١٤]. ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *﴾ [غافر: ٢]. ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *﴾ [الواقعة: ٨٠]. ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ﴾ [النحل: ١٠٢].
وأفادَ كونهُ تنزيلًا مِنْ ربِّ العالمينَ مطلوبَينِ عظيمينِ مِنْ أَجَلِّ مطالبِ الدِّينِ:
_________
(١) الكافية الشافية (ص١٠٤).
(٢) توضيح الكافية الشافية (ص١٨٠ - ١٨١)، طبعة أضواء السلف.
1 / 12
(أحدُهما): أنَّهُ المتكلِّمُ، وأنَّهُ منهُ نزلَ، ومنهُ بدأ وَهُوَ الَّذِي تكلَّم بِهِ.
(والثاني): علوُّ اللهِ سبْحَانَهُ فَوْقَ خلقهِ، فإنَّ النزولَ والتنزيلَ الذِي تعقلهُ العقولُ، وتعرفهُ الفِطَرُ: هُوَ وصولُ الشيءِ مِنْ أعلى إِلَى أسفلَ. والرَّبُّ تَعَالَى إنَّما يخاطِبُ عبادَهُ بِمَا تعرِفُهُ فِطَرُهُم، وتَشْهَدُ بِهِ عقولُهم.
قال ابنُ القيِّم ﵀:
واللهُ أخبرَنَا بأنَّ كتابَهُ ... تنزيلُه بالحقِّ والبُرهَانِ
أيكونُ تنزيلًا وليسَ كلامَ مَنْ ... فوقَ العبادِ أذاكَ ذو إمْكَانِ
أيكونُ تنزيلًا من الرَّحمنِ والرَّ ... حمنُ لَيسَ مباينَ الأَكوَانِ (١)
الثامنُ:
التَّصْرِيحُ باختصاصِ بعضِ المخلوقاتِ بأنَّهَا عندهُ، وأنَّ بعضَها أقربُ إليهِ منْ بعضٍ
قال ﷾: ﴿فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ﴾ [فصلت: ٣٨]. ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ *﴾ [الأنبياء: ١٩]. ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾ [التحريم: ١١]. ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ *﴾ [القمر: ٥٤ - ٥٥]. ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [يونس: ٢١]. ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ *﴾ [الأعراف: ٢٠٦].
_________
(١) الكافية الشافية (ص١٠٩ - ١١٠).
1 / 13
فدلَّتْ هذهِ الآيةُ على أنَّ الذينَ عندهُ همْ قريبونَ إليهِ و«لو كانَ موجبُ العنديةِ معنًى عامًا، كدخولهمْ تحتَ قدرتهِ ومشيئتهِ وأمثالِ ذلكَ: لكانَ كلُّ مخلوقٍ عندهُ؛ ولم يكنْ أحدٌ مستكبرًا عنْ عبادتهِ، بلْ مسبِّحًا لهُ ساجدًا، وقدْ قالَ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: ٦٠] وهوَ سبحانهُ وصفَ الملائكةَ بذلكَ ردًّا على الكفَّارِ المستكبرينَ عنْ عبادتهِ» (١).
قال ابنُ القيِّم ﵀:
لَوْ لَمْ يَكُنْ سُبْحَانَه فَوقَ الوَرَى ... كَانُوا جَمِيعًا عِنْدَ ذِي السُّلْطَانِ
وَيَكُونُ عِنْدَ اللهِ إبْليسُ وَجِبـ ... ـرِيلُ هُمَا في العِنْد مُسْتَوِيَانِ (٢)
وقالَ تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *﴾ [آل عمران: ١٦٩].
قَالَ مَسْرُوقٌ ﵀: سَأَلْنَا عَبْدَ اللهِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *﴾ [آل عمران: ١٦٩]. قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ - يَعْنِي: النَبِيَّ ﷺ: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُم اطِّلاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟» (٣).
_________
(١) مجموع الفتاوى (٥/ ١٦٥ - ١٦٦).
(٢) الكافية الشافية (ص١١٢).
(٣) رواه مسلم (١٨٨٧).
1 / 14
وقالَ ابنُ خُزيمةَ ﵀: فكلُّ منْ لهُ فهمٌ بلغةِ العربِ، يعلمُ أنَّ اطِّلاعَهُ إلى الشَّيءِ لا يكونُ إلَّا مِنْ أعلى إلى أسفلَ. ولو كانَ كما زعمَتِ الجهميَّةُ أنَّ اللهَ مَعَ الإنسانِ وأسفلُ منهُ، وفي الأرضِ السابعةِ السفلى كما هوَ في السَّماءِ السَّابعةِ، لمْ يكنْ لقولهِ: «فَيَطَّلِعُ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ اطِّلاعَةً» معنًى (١).
وَتَدبَّرِ الأحاديثَ التاليةَ:
١ - عَنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ ﵁ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: «أَلاَ تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟»، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: «يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأولَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» (٢).
٢ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ﵄ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ ﷿ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» (٣).
٣ - عن ابنِ مسعودٍ ﵁ قالَ: قالَ رسولُ الله ﷺ: «لا تزولُ قَدَمُ ابنِ آدمَ يومَ القيامةِ مِنْ عِنْدِ ربِّهِ حتَّى يُسألَ عنْ خمسٍ: عنْ عُمُرهِ فيمَ أفناهُ، وعنْ شبابهِ فِيمَ أبلاهُ، ومالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفِيمَ أَنْفَقَهُ، وماذا عَمِلَ فِيما عَلِمَ» (٤).
_________
(١) التوحيد (ص٣٨١).
(٢) رواه مسلم (٤٣٠).
(٣) رواه مسلم (٢٧٠٠).
(٤) رواه الترمذي (٢٤١٦)، وحسنه الألباني ﵀ في «صحيح سنن الترمذي» (١٩٦٩).
1 / 15
٤ - عنِ ابنِ عباسٍ ﵄ قالَ: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ ﷺ فقالَ: يا رسولَ الله، إنِّي رأيتُني الليلةَ وأنا نائمٌ، كأنِّي أصلِّي خلفَ شجرةٍ، فسجَدَتُ فسجدتِ الشجرةُ لسجودي، فسمعتُها وهي تقولُ: «اللَّهمَّ اكتُبْ لي بها عندكَ أجْرًا، وضَعْ عنِّي بها وِزْرًا، واجْعَلْها لي عندكَ ذُخْرًا، وتَقَبَّلْها منِّي كما تَقَبَّلْتَها منْ عبدِكَ داودَ» (١).
٥ - عنْ أبي هريرةَ ﵁ قالَ: سمعتُ رسولَ اللهُ ﷺ يقولُ: «كانَ رَجُلاَنِ في بني إسرائيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فكانَ أحدُهمَا يُذْنِبُ، والآخرُ مجتهد في العبادةِ، فكانَ لا يزالُ المجتهدُ يرى الآخَرَ على الذَّنْبِ فيقولُ: أَقْصِر. فوجَدَهُ يومًا على ذنبٍ فقالَ لهُ: أَقْصِرْ. فقالَ خَلِّني ورَبِّي أَبُعِثْتَ عليَّ رقيبًا؟ فقالَ: واللهِ! لا يغفرُ اللهُ لكَ - أو لا يُدْخِلُكَ اللهُ الجنَّةَ! - فقبضَ أرواحَهُما، فاجْتَمَعا عندَ رَبِّ العالمينَ، فقالَ لهذا المجتهدِ: أَكنتَ بي عالِمًا، أو كنتَ عَلَى ما فِي يَدَيَّ قادرًا؟ وقالَ للمُذنبِ: اذْهَبْ فادخُلِ الجنَّةَ بِرحمتي، وقالَ للآخَرِ: اذْهَبُوا بهِ إلى النَّارِ». قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده، لتكلَّم بكلمة أَوْبَقَتْ دنياه وآخرتَه (٢).
_________
(١) رواه الترمذي (٥٨٤)، وحسّنه الألباني ﵀ في «صحيح سنن الترمذي» (٤٧٣).
(٢) رواهُ أبو داود (٤٩٠١)، وصححهُ المحدث الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (٤٠٩٧).
1 / 16
٦ - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ مِنْ جَلاَلِ اللهِ مِمَّا تَذْكُرُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ وَالتَّهْلِيلَ لَيَنْعَطِفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يُذَكِّرنَّ بِصَاحِبِهَنَّ. أَفلاَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِندَ اللهِ مَنْ يُذَكِّرُ بِهِ؟!» (١).
فانظرْ ما تضمَّنه هذا الكلامُ الوجيزُ البليغُ المشتملُ على هذا المعنى العظيمِ الجليلِ الذي لا يجدُ سامعُهُ مَغْمَزًا لهُ ولا مَطْعَنًا فيهِ ولا تَشْكِيكًا ولا سُؤالًا يوردهُ عليهِ، بلْ يأخذُ بقلبهِ وسمعهِ (٢).
٧ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي» (٣).
قالَ ابنُ خزيمة ﵀: فالخبرُ دالٌّ على أنَّ ربَّنا جلَّ وعلا فوقَ عرشهِ الذي كتابهُ - أنَّ رحمتهُ غلبتْ غضبهُ - عندهُ (٤).
وقالَ صدِّيق حسن خان ﵀: وهذا يَدُلُّ على العِنْدِيَّةِ والعلوِّ والفَوْقِيَّةِ. ونحنُ نُؤْمنُ بهِ، بلا كيفٍ ولا تمثيلٍ، ولا نُنْكِرُه، ولا نُؤَوِّلُهُ كأهلِ الكلامِ. وهذا هوَ سبيلُ السَّلفِ في مسائلِ الصِّفاتِ.
_________
(١) أخرجه ابن ماجه (٣٨٠٩)، والحاكم (١/ ٥٠٣) وصححه على شرط مسلم. ووافقه الذهبيُّ. وصححه المحدِّث الألباني ﵀ في «صحيح سنن ابن ماجه» (٣٠٧١).
(٢) الصواعق (ص٤٨٣).
(٣) أخرجه البخاري (٣١٩٤) و(٧٤٠٤) و(٧٤٢٢) و(٧٤٥٣) و(٧٥٥٣) و(٧٥٥٤)، ومسلم (٢٧٥١).
(٤) التوحيد (ص١٠٥).
1 / 17
والحديثُ: دليلٌ على سبقِ الرحمةِ وغلبتهَا على الغضبِ والسُّخطِ. وهذا هو اللائقُ بشأنِ أرحمِ الراحمينَ. ولولا ذلكَ لكنَّا جميعًا خاسرينَ هالكينَ. نعوذُ بالله منْ غضبِ الله ونتوبُ إليهِ منْ سخطهِ. ونرجو رحمتَه وكَرَمَه وفضلَهُ ولُطْفَهُ. وما أحقَّهُ بذلكَ (١).
قالَ ابنُ القيِّم ﵀:
وَاذْكُرْ حَدِيثًا فِي الصَّحِيحِ تَضَمَّنَتْ ... كَلِمَاتُهُ تَكْذِيبَ ذِي البُهْتَانِ
لَمَّا قَضَى الله الخَلِيقَةَ ربُّنَا ... كَتَبتْ يَدَاهُ كِتَابَ ذِي الإِحْسَانِ
وَكِتَابُهُ هُوَ عِنْدَهُ وَضْعٌ عَلى الـ ... ـعَرْشِ المجِيدِ الثَّابِتِ الأرْكَانِ
إنِّي أنَا الرَّحمنُ تَسْبِقُ رَحْمَتِي ... غَضَبِي وَذَاكَ لرأفتِي وَحَنَانِي (٢).
قالَ الشيخُ الغنيمانُ حفظهُ الرحمنُ: والحقُّ أنَّ قولَهُ: «عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ» على ظاهرهِ، وأنَّ كلَّ تأويلٍ لهُ عنْ ظاهرهِ، تبديلٌ للمعنى الذي أرادهُ رسولُ الله ﷺ، ونحنُ نؤمنُ إيمانًا يقينًا قاطعًا وكلُّ المؤمنينَ أنَّ الرسولَ أحرصُ على عقيدةِ المسلمينَ، وعلى تنزيهِ الله - تعالى - منْ هؤلاءِ المحرِّفينَ لكلامهِ. وهوَ كذلكَ أقدرُ على البيانِ والإيضاحِ منهم، وهوَ كذلكَ أعلمُ بالله، وما يجبُ لهُ وما يمتنعُ عليهِ منْ هؤلاءِ المُتَخَبِّطِينَ.
فهذا كتابٌ خاصٌّ، وضعَهُ عندهُ فوقَ عرشهِ، مُثبتًا فيهِ ما ذكرَ، لزيادةِ الاهتمامِ به، ولا ينافي ذلكَ أنْ يكونَ مكتوبًا أيضًا فى اللَّوحِ المحفوظِ. وهوَ كتابٌ حقيقةً، كتبهُ - تعالى - كما ذكرَ لنَا رسولُنا حقيقةً، وهو عندَ الله حقيقةً، فوقَ عرشِهِ حقيقةً (٣).
_________
(١) السراج الوهاج (١١/ ٦٢ - ٦٣).
(٢) الكافية الشافية (ص١٤٢).
(٣) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (١/ ٣٩١).
1 / 18
التَّاسِعُ:
التَّصريحُ بأنَّهُ تعالى في السَّماءِ
قالَ اللهُ ﷾: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ *أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ *﴾ [الملك: ١٦ - ١٧].
والمرادُ بقولهِ ﷿: ﴿مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الملك: ١٦]: اللهُ ﷿ (١)، لقولهِ ﷾: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ [الإسراء: ٦٨]، ولقولهِ ﷿: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ *﴾ [النحل: ٤٥].
قالَ ابنُ القيِّم ﵀:
وَلَقَدْ أتَى فِي سُورَةِ المُلْكِ التِي ... تُنْجِي لِقَارِئِهَا مِنَ النِّيرَانِ
نَصَّانِ أنَّ الله فَوْقَ سَمَائِهِ ... عِنْدَ المُحرِّفِ مَا هُمَا نَصَّانِ (٢)
وقالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ ﵀: وقولهُ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ *﴾ [الملك: ١٦]، منْ تَوَهَّم أنَّ مقتضى هذهِ الآيةِ أنْ يكونَ اللهُ في داخلِ السَّمواتِ فهو جاهلٌ بالاتِّفاقِ، وإنْ كنَّا إذا قلنَا: إنَّ الشَّمسَ والقمرَ في السَّماءِ يقتضي ذلكَ، فإنَّ حرفَ «في» متعلِّقٌ بما قبلهُ وما بعدهُ فهو بحسبِ المضافِ والمضافِ إليهِ.
فلو قالَ قائلٌ: العرشُ في السَّماءِ أمْ في الأرضِ؟ لقيلَ: في السَّماءِ. ولو قيلَ: الجنَّةُ في السَّماءِ أمْ في الأرضِ؟ لقيلِ: الجنَّةُ في السَّماءِ، ولا يلزمُ منْ ذلكَ أنْ يكونَ العرشُ داخلَ السَّمواتِ بلْ ولا الجنَّةِ.
_________
(١) انظر: تفسير الطبري (٢٩/ ٧)، طبعة دار الفكر - بيروت.
(٢) الكافية الشافية (ص١٤٠).
1 / 19