البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج
البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج
ناشر
دار ابن الجوزي
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
(١٤٢٦ - ١٤٣٦ هـ)
محل انتشار
الرياض
ژانرها
مع فعل الواجبات. ويدلّ عليه قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (١٤)﴾ [إبراهيم: ١٣ - ١٤]، وقوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦)﴾ [الرحمن: ٤٦]، فوعد بنصر الدنيا، وبثواب الآخرة لأهل الخوف، وذلك إنما يكون لأنهم أدَّوا الواجب، فدلّ على أن الخوف يستلزم فعل الواجب، ولهذا يقال للفاجر: لا يخاف الله. ويدلّ على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ الآية [النساء: ١٧]. قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد ﷺ عن هذه الآية، فقالوا لي: كلُّ من عصى الله فهو جاهلٌ، وكلّ من تاب قبل الموت، فقد تاب من قريب، وكذلك قال سائر المفسّرين، قال مجاهد: كلّ عاص فهو جاهل حين معصيته. وقال الحسن، وقتادة، وعطاء، والسدّيّ، وغيرهم: إنما سُمُّوا جُهّالًا لمعاصيهم، لا أنهم غير مميّزين. وقال الزّجّاج: ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء؛ لأن المسلم لو أتى ما يجهله كان كمن لم يواقع سوءًا، وإنما يحتمل أمرين:
[أحدهما]: أنهم عملوه، وهم يجهلون المكروه فيه.
[والثاني]: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل، فسمّوا جُهّالًا؛ لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة، والعافية الدائمة، فقد جعل الزجّاج الجهل إما عدم العلم بعاقبة الفعل، وإما فساد الإرادة. وقد يقال: هما متلازمان.
والمقصود هنا أن كلّ عاص لله، فهو جاهل، وكلّ خائف منه فهو عالمٌ مطيع لله، وإنما يكون جاهلًا لنقص خوفه من الله؛ إذ لو تمّ خوفه من الله لم يَعصِ، ومنه قول ابن مسعود ﵁: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار به جهلًا، وذلك لأن تصوّر المخوف يوجب الهرب منه، وتصوّر المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب من هذا، ولم يطلب هذا، دلّ على أنه لم يتصوّره تصوّرًا تامًّا، ولكن قد يتصوّر الخبر عنه، وتصوّر الخبر، وتصديقه، وحفظ حروفه غير تصوّر المخبر عنه، وكذلك إذا لم يكن المتصوّر محبوبًا له، ولا مكروهًا، فإن الإنسان يصدّق بما هو مخوف على غيره، ومحبوب لغيره، ولا يورثه ذلك هربًا، ولا طلبًا، وكذلك إذا أُخبِر بما هو محبوبٌ له، ومكروه، ولم يكذّب
1 / 45