الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية - ط المكتب الإسلامي
الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية - ط المكتب الإسلامي
پژوهشگر
زهير الشاويش
ناشر
المكتب الإسلامي
شماره نسخه
الثالثة
سال انتشار
١٤٠٠
محل انتشار
بيروت
ژانرها
الْفَصْل الأول
فِي ذكر منشأه وعمره وَمُدَّة عمره رضى الله عَنهُ وأرضاه
أما مولده فَكَانَ كَمَا اخبرني بِهِ غير وَاحِد من الْحفاظ انه ولد فِي حران فِي عَاشر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وست مئة وَبَقِي بهَا إِلَى أَن بلغ سبع سِنِين ثمَّ انْتقل بِهِ وَالِده ﵀ إِلَى دمشق المحروسة فَنَشَأَ بهَا أتم إنْشَاء وازكاه وأنبته الله احسن النَّبَات واوفاه وَكَانَت مخايل النجابة عَلَيْهِ فِي صغره لائحة وَدَلَائِل الْعِنَايَة فِيهِ وَاضِحَة اخبرني من أَثِق بِهِ عَن من حَدثهُ
1 / 16
أَن الشَّيْخ ﵁ فِي حَال صغره كَانَ إِذا أَرَادَ الْمُضِيّ إِلَى الْمكتب يَعْتَرِضهُ يَهُودِيّ كَانَ منزله بطريقه بمسائل يسْأَله عَنْهَا لما كَانَ يلوح عَلَيْهِ من الذكاء والفطنة وَكَانَ يجِيبه عَنْهَا سَرِيعا حَتَّى تعجب مِنْهُ ثمَّ انه صَار كلما اجتاز بِهِ يُخبرهُ بأَشْيَاء مِمَّا يدل على بطلَان مَا هُوَ عَلَيْهِ فَلم يلبث أَن اسْلَمْ وَحسن إِسْلَامه وَكَانَ ذَلِك ببركة الشَّيْخ على صغر سنه
وَلم يزل مُنْذُ أبان صغره مُسْتَغْرق الْأَوْقَات فِي الْجهد وَالِاجْتِهَاد وَختم الْقرَان صَغِيرا ثمَّ اشْتغل بِحِفْظ الحَدِيث وَالْفِقْه والعربية حَتَّى برع فِي ذَلِك مَعَ مُلَازمَة مجَالِس الذّكر وَسَمَاع الْأَحَادِيث
1 / 17
والْآثَار وَلَقَد سمع غير كتاب على غير شيخ من ذَوي الرِّوَايَات الصَّحِيحَة الْعَالِيَة أما دواوين الْإِسْلَام الْكِبَار ك مُسْند احْمَد وصحيح البُخَارِيّ وَمُسلم وجامع التِّرْمِذِيّ وَسنَن أبي دَاوُود السجسْتانِي وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة وَالدَّارَقُطْنِيّ فَإِنَّهُ ﵀ وَرَضي عَنْهُم وَعنهُ فَإِنَّهُ سمع كل وَاحِد مِنْهَا عدَّة مَرَّات وَأول كتاب حفظه فِي الحَدِيث الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ للْإِمَام الْحميدِي وَقل كتاب من فنون الْعلم إِلَّا وقف عَلَيْهِ وَكَانَ الله قد خصّه بِسُرْعَة الْحِفْظ وإبطاء النسْيَان لم يكن يقف على شَيْء أَو يستمع لشَيْء غَالِبا الا وَيبقى على خاطره أما بِلَفْظِهِ أَو مَعْنَاهُ وَكَانَ الْعلم كَأَنَّهُ قد اخْتَلَط بِلَحْمِهِ وَدَمه وسائره فَإِنَّهُ لم يكن لَهُ مستعارا بل كَانَ لَهُ شعارا ودثارا لم يزل آباؤه أهل الدِّرَايَة التَّامَّة والنقد والقدم الراسخة فِي الْفضل لَكِن جمع الله لَهُ مَا خرق بِمثلِهِ الْعَادة ووفقه فِي جَمِيع أمره لإعلام السَّعَادَة وَجعل مآثره لإمامته من اكبر شَهَادَة حَتَّى اتّفق كل ذِي عقل سليم انه
1 / 18
مِمَّن عني نَبينَا ﷺ بقوله أَن الله يبْعَث على رَأس كل مئة سنة من يجدد لهَذِهِ الْأمة أَمر دينهَا فَلَقَد احيا الله بِهِ مَا كَانَ قد درس من شرائع الدّين وَجعله حجَّة على أهل عصره أَجْمَعِينَ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
1 / 19
الْفَصْل الثَّانِي
فِي غزارة علومه ومؤلفاته ومصنفاته
وسعة نَقله فِي فَتَاوِيهِ ودروسه البديهية ومنصوصاته
أما غزارة علومه فَمِنْهَا ذكر مَعْرفَته بعلوم الْقُرْآن الْمجِيد واستنباطه لدقائقه وَنَقله لأقوال الْعلمَاء فِي تَفْسِيره واستشهاده بدلائله وَمَا أودعهُ الله تَعَالَى فِيهِ من عجائبه وفنون حكمه وغرائب نوادره وباهر فَصَاحَته وَظَاهر ملاحته فَإِنَّهُ فِيهِ من الْغَايَة الَّتِي ينتهى اليها وَالنِّهَايَة الَّتِي يعول عَلَيْهَا
وَلَقَد كَانَ إِذا قريء فِي مَجْلِسه آيَات من الْقُرْآن الْعَظِيم يشرع فِي تَفْسِيرهَا فينقضي الْمجْلس بجملته والدرس برمتِهِ وَهُوَ فِي تَفْسِير بعض آيَة مِنْهَا وَكَانَ مَجْلِسه فِي وَقت مُقَدّر بِقدر ربع النَّهَار يفعل ذَلِك بديهة من غير أَن يكون لَهُ قَارِئ معِين يقْرَأ لَهُ شَيْئا معينا يبيته ليستعد لتفسيره بل كَانَ من حضر يقْرَأ مَا تيَسّر
1 / 20
وَيَأْخُذ هُوَ فِي القَوْل على تَفْسِيره وَكَانَ غَالِبا لَا يقطع إِلَّا وَيفهم السامعون أَنه لَوْلَا مُضِيّ الزَّمن الْمُعْتَاد لاورد أَشْيَاء أخر فِي معنى مَا هُوَ فِيهِ من التَّفْسِير لَكِن يقطع نظرا فِي مصَالح الْحَاضِرين
وَلَقَد أمْلى فِي تَفْسِير ﴿قل هُوَ الله أحد﴾ مجلدا كَبِيرا
وَقَوله تَعَالَى ﴿الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى﴾ نَحْو خمس وَثَلَاثِينَ كراسة
وَلَقَد بَلغنِي انه شرع فِي جمع تَفْسِير لَو أتمه لبلغ خمسين مجلدا
أما مَعْرفَته وبصره بِسنة رَسُول الله ﷺ وأقواله وأفعاله وقضاياه وَوَقَائعه وغزواته وسراياه وبعوثه وَمَا خصّه الله تَعَالَى من كراماته ومعجزاته ومعرفته بِصَحِيح الْمَنْقُول عَنهُ وسقيمه وَبَقِيَّة الْمَنْقُول عَن الصَّحَابَة ﵃ فِي أَقْوَالهم وأفعالهم وقضاياهم وفتاويهم واحوالهم وأحوال مجاهداتهم فِي دين الله وَمَا خصوا بِهِ من بَين الامة فَإِنَّهُ كَانَ ﵁ من أضبط النَّاس لذَلِك وأعرفهم فِيهِ وأسرعهم استحضارا لما يُريدهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ قل أَن ذكر حَدِيثا فِي مُصَنف أَو فَتْوَى أَو اسْتشْهد بِهِ أَو اسْتدلَّ بِهِ إِلَّا وَعَزاهُ فِي أَي دواوين الْإِسْلَام هُوَ وَمن أَي قسم
1 / 21
من الصَّحِيح أَو الْحسن أَو غَيرهمَا وَذكر اسْم رِوَايَة من الصَّحَابَة وَقل أَن يسْأَل عَن اثر إِلَّا وَبَين فِي الْحَال حَاله وَحَال أمره وذاكره
وَمن أعجب الْأَشْيَاء فِي ذَلِك أَنه فِي محنته الأولى بِمصْر لما أَخذ وسجن وحيل بَينه وَبَين كتبه صنف عدَّة كتب صغَارًا وكبارا وَذكر فِيهَا مَا احْتَاجَ إِلَى ذكره من الْأَحَادِيث والْآثَار وأقوال الْعلمَاء وَأَسْمَاء الْمُحدثين والمؤلفين ومؤلفاتهم وَعزا كل شئ من ذَلِك إِلَى ناقليه وقائليه بِأَسْمَائِهِمْ وَذكر أَسمَاء الْكتب الَّتِي ذكر فِيهَا وَأي مَوضِع هُوَ مِنْهَا كل ذَلِك بديهة من حفظه لِأَنَّهُ لم يكن عِنْده حِينَئِذٍ كتاب يطالعه ونقبت واختبرت واعتبرت فَلم يُوجد فِيهَا بِحَمْد الله خلل وَلَا تغير وَمن جُمْلَتهَا كتاب الصارم المسلول على شاتم الرَّسُول
وَهَذَا من الْفضل الَّذِي خصّه الله تَعَالَى بِهِ
وَمِنْهَا مَا منحه الله تَعَالَى من معرفَة اخْتِلَاف الْعلمَاء ونصوصهم وَكَثْرَة أَقْوَالهم واجتهادهم فِي الْمسَائِل وَمَا رُوِيَ عَن كل مِنْهُم
1 / 22
من رَاجِح ومرجوح ومقبول ومردود فِي كل زمَان وَمَكَان وبصره الصَّحِيح الثاقب الصائب للحق مِمَّا قَالُوهُ ونقلوه وَعَزوه ذَلِك إِلَى الْأَمَاكِن الَّتِي بهَا أودعوه حَتَّى كَانَ إِذا سُئِلَ عَن شئ من ذَلِك كَأَن جَمِيع الْمَنْقُول عَن الرَّسُول ﷺ وَأَصْحَابه وَالْعُلَمَاء فِيهِ من الاولين والآخرين مُتَصَوّر مسطور بإزائه يَقُول مِنْهُ مَا شَاءَ الله ويذر مَا يَشَاء وَهَذَا قد اتّفق عَلَيْهِ كل من رَآهُ أَو وقف على شئ من علمه مِمَّن لَا يُغطي عقله الْجَهْل والهوى
وَأما مؤلفاته ومصنفاته فَإِنَّهَا اكثر من أَن أقدر على إحصائها أَو يحضرني جملَة أسمائها بل هَذَا لَا يقدر عَلَيْهِ غَالِبا أحد لِأَنَّهَا كَثِيرَة جدا كبارًا وصغارا وَهِي منشورة فِي الْبلدَانِ فَقل بلد نزلته إِلَّا وَرَأَيْت فِيهِ من تصانيفه
فَمِنْهَا مَا يبلغ إثني عشر مجلدا ك تَلْخِيص التلبيس على أساس التَّقْدِيس وَغَيره
وَمِنْهَا مَا يبلغ سبع مجلدات ك الْجمع بَين الْعقل وَالنَّقْل
1 / 23
وَمِنْهَا مَا يبلغ خمس مجلدات وَمِنْهَا منهاج الاسْتقَامَة والاعتدال وَنَحْوه
وَمِنْهَا مَا يبلغ ثَلَاث مجلدات ك الرَّد على النَّصَارَى وَشبهه
وَمِنْهَا مجلدان ك نِكَاح الْمُحَلّل وَإِبْطَال الْحِيَل وَشرح العقيدة الأصبهانية
وَمِنْهَا مُجَلد وَدون ذَلِك وَهَذَانِ القسمان من مؤلفاته فَهِيَ كَثِيرَة جدا لَا يمكنني استقصاؤها لَكِن اذكر بَعْضهَا إستئناسا
كتاب تَفْسِير سُورَة الاخلاص مُجَلد
كتاب الْكَلَام على قَوْله ﷿ الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى
كتاب الصارم المسلول على شاتم الرَّسُول مُجَلد
كتاب الْفرْقَان الْمُبين بَين الطَّلَاق وَالْيَمِين
كتاب الْفرق بَين أَوْلِيَاء الرَّحْمَن وأولياء الشَّيْطَان
1 / 24
كتاب اقْتِضَاء الصِّرَاط الْمُسْتَقيم مُخَالفَة أَصْحَاب الْجَحِيم
كتاب الْكَلم الطّيب
كتاب إِثْبَات الْكَمَال
كتاب الرَّد على تأسيس التَّقْدِيس
كتاب الْجمع بَين الْعقل وَالنَّقْل
كتاب نقض أَقْوَال المبتدعين
كتاب الرَّد على النَّصَارَى
كتاب منهاج الاسْتقَامَة
كتاب إبِْطَال الْحِيَل وَنِكَاح الْمُحَلّل
كتاب شرح العقيدة الاصبهانية
كتاب الفتاوي
كتاب الدّرّ الْمُلْتَقط
كتاب أَحْكَام الطَّلَاق
كتاب الرسَالَة
كتاب اعْتِقَاد الْفرْقَة النَّاجِية
1 / 25
كتاب رفع الملام عَن الْأَئِمَّة الْأَعْلَام
كتاب تَقْرِير مسَائِل التَّوْحِيد
كتاب الاستغاثة والتوسل
كتاب الْمسَائِل الحموية
كتاب الْمسَائِل الجزرية
كتاب الْمسَائِل المفردة
وَلَا يَلِيق هَذَا الْمُخْتَصر بِأَكْثَرَ من هَذَا الْقدر من مؤلفاته وَإِلَّا فَيمكن تعداد مَا ينيف على المأتين لَكِن لم نر الإطالة بِذكرِهِ
وَأما فَتَاوِيهِ ونصوصه وأجوبته على الْمسَائِل فَهِيَ اكثر من أَن اقدر على إحصائها لَكِن دون بِمصْر مِنْهَا على أَبْوَاب الْفِقْه سَبْعَة عشر مجلدا وَهَذَا ظَاهر مَشْهُور وَجمع أَصْحَابه اكثر من أَرْبَعِينَ ألف مَسْأَلَة وَقل أَن وَقعت وَاقعَة وَسُئِلَ عَنْهَا إِلَّا وَأجَاب فِيهَا بديهة بِمَا بهر واشتهر وَصَارَ ذَلِك الْجَواب كالمصنف الَّذِي يحْتَاج فِيهِ غَيره إِلَى زمن طَوِيل ومطالعة كتب وَقد لَا يقدر مَعَ ذَلِك على إبراز مثله
أَخْبرنِي الشَّيْخ الصَّالح تَاج الدّين مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الدوري انه حضر مجْلِس الشَّيْخ رضى الله عَنهُ وَقد سَأَلَهُ
1 / 26
يَهُودِيّ عَن مسأله فِي الْقدر قد نظمها شعرًا فِي ثَمَانِيَة أَبْيَات
فَلَمَّا وقف عَلَيْهَا فكر لَحْظَة يسيرَة وانشأ يكْتب جوابها وَجعل يكْتب وَنحن نظن انه يكْتب نثرا فَلَمَّا فرغ تَأمله من حضر من أَصْحَابه وَإِذا هُوَ نظم فِي بَحر أَبْيَات السُّؤَال وقافيتها تقرب من مائَة وَأَرْبَعَة وَثَمَانِينَ بَيْتا وَقد ابرز فِيهَا من الْعُلُوم مَا لَو شرح بشرح لجاء شَرحه مجلدين كبيرين هَذَا من جملَة بواهره وَكم من جَوَاب فَتْوَى لم يسْبق إِلَى مثله
وَأما ذكر دروسه فقد كنت فِي حَال إقامتي بِدِمَشْق لَا أفوتها وَكَانَ لَا يهييء شَيْئا من الْعلم ليلقيه ويورده بل يجلس بعد أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فيحمد الله ويثني عَلَيْهِ وَيُصلي على رَسُوله ﷺ على صفة مستحسنة مستعذبة لم اسمعها من غَيره ثمَّ يشرع فَيفتح الله عَلَيْهِ إِيرَاد عُلُوم وغوامض ولطائف ودقائق
1 / 27
وفنون ونقول واستدلالات بآيَات وَأَحَادِيث وأقوال الْعلمَاء وَنصر بَعْضهَا وَتبين صِحَّته أَو تزييف بَعْضهَا وإيضاح حجَّته واستشهاد بأشعار الْعَرَب وَرُبمَا ذكر اسْم ناظمها وَهُوَ مَعَ ذَلِك يجْرِي كَمَا يجْرِي السَّيْل وَيفِيض كَمَا يفِيض الْبَحْر وَيصير مُنْذُ يتَكَلَّم إِلَى أَن يفرغ كالغائب عَن الْحَاضِرين مغمضا عَيْنَيْهِ وَذَلِكَ كُله مَعَ عدم فكر فِيهِ أَو روية من غير تعجرف وَلَا توقف وَلَا لحن بل فيض الهي حَتَّى يبهر كل سامع وناظر فَلَا يزَال كَذَلِك إِلَى أَن يصمت وَكنت اراه حِينَئِذٍ كَأَنَّهُ قد صَار بِحَضْرَة من يشْغلهُ عَن غَيره وَيَقَع عَلَيْهِ إِذْ ذَاك من المهابة مَا يرعد الْقُلُوب ويحير الْأَبْصَار والعقول
وَكَانَ لَا يذكر رَسُول الله ﷺ قطّ الا وَيُصلي وَيسلم عَلَيْهِ وَلَا وَالله مَا رَأَيْت أحدا اشد تَعْظِيمًا لرَسُول الله ﷺ وَلَا احرص على أَتْبَاعه وَنصر مَا جَاءَ بِهِ مِنْهُ حَتَّى إِذا كَانَ ورد شَيْئا من حَدِيثه فِي مَسْأَلَة وَيرى انه لم ينسخه شَيْء
1 / 28
غَيره من حَدِيثه يعْمل بِهِ وَيَقْضِي ويفتي بِمُقْتَضَاهُ وَلَا يلْتَفت الى قَول غَيره من المخلوقين كَائِنا من كَانَ وَقَالَ ﵁ كل قَائِل إِنَّمَا يحْتَج لقَوْله لَا بِهِ أَلا الله وَرَسُوله
وَكَانَ إِذا فرغ من درسه يفتح عَيْنَيْهِ وَيقبل على النَّاس بِوَجْه طلق بشيش وَخلق دمث كَأَنَّهُ قد لَقِيَهُمْ حِينَئِذٍ وَرُبمَا اعتذر إِلَى بَعضهم من التَّقْصِير فِي الْمقَال مَعَ ذَلِك الْحَال وَلَقَد كَانَ درسه الَّذِي يُورِدهُ حِينَئِذٍ قدر عدَّة كراريس وَهَذَا الَّذِي ذكرته من أَحْوَال درسه أَمر مَشْهُور يوافقني عَلَيْهِ كل حَاضر بهَا وهم بِحَمْد الله خلق كثير لم يحصر عَددهمْ عُلَمَاء ورؤساء وفضلاء من الْقُرَّاء والمحدثين وَالْفُقَهَاء والأدباء وَغَيرهم من عوام الْمُسلمين
1 / 29
الْفَصْل الثَّالِث
فِي ذكر مَعْرفَته بأنواع أَجنَاس الْمَذْكُور وَالْمقول وَالْمَنْقُول والمتصور وَالْمَفْهُوم والمعقول
أما مَعْرفَته بِصَحِيح الْمَنْقُول وسقيمه فَإِنَّهُ فِي ذَلِك من الْجبَال الَّتِي لَا ترتقي ذروتها وَلَا ينَال سنامها قل أَن ذكر لَهُ قَول الا وَقد احاط علمه بمبتكره وذاكره وناقله واثره أَو راو الا وَقد عرف حَاله من جرح وتعديل بإجمال وتفصيل
حكى من يوثق بنقله انه كَانَ يَوْمًا بِمَجْلِس ومحدث يقْرَأ عَلَيْهِ بعض الْكتب الحديثية وَكَانَ سريع الْقِرَاءَة فعارضه الشَّيْخ فِي اسْم رجل فِي سَنَد الحَدِيث قد ذكره القاريء بِسُرْعَة فَذكر الشَّيْخ ان اسْمه فلَان بِخِلَاف مَا قَرَأَ فاعتبروه فوجدوه كَمَا قَالَ الشَّيْخ
فَانْظُر الى هَذَا الادراك السَّرِيع والتنبيه الدَّقِيق العجيب وَلَا يقدر على مثله الا من اشتدت مَعْرفَته وَقَوي ضَبطه
وَأما مَا وهبه الله تَعَالَى ومنحه بِهِ من استنباط الْمعَانِي من الالفاظ النَّبَوِيَّة والاخبار المروية وابراز الدَّلَائِل مِنْهَا على الْمسَائِل وَتبين مَفْهُوم اللَّفْظ ومنطوقه وايضاح الْمُخَصّص للعام والمقيد للمطلق
1 / 30
والناسخ للمنسوخ وتبيين ضوابطها ولوازمها وملزوماتها وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا وَمَا يحْتَاج فِيهِ اليها
حَتَّى كَانَ اذا ذكر آيَة اَوْ حَدِيثا وَبَين مَعَانِيه وَمَا اريد بِهِ اعْجَبْ الْعَالم الفطن من حسن استنباطه ويدهشه مَا سَمعه اَوْ وقف عَلَيْهِ مِنْهُ
وَلَقَد سُئِلَ يَوْمًا عَن الحَدِيث لعن الله الْمُحَلّل والمحلل لَهُ فَلم يزل يُورد فِيهِ وَعَلِيهِ حَتَّى بلغ كَلَامه فِيهِ مجلدا كَبِيرا
وَقل ان كَانَ يذكر لَهُ حَدِيث اَوْ حكم فيشاء ان يتَكَلَّم عَلَيْهِ يَوْمه اجْمَعْ الا فعل اَوْ يقْرَأ بِحَضْرَتِهِ اية من كتاب الله تَعَالَى ويشرع فِي تَفْسِيرهَا الا وَقطع الْمجْلس كُله فِيهَا
واما مَا خصة الله تَعَالَى بِهِ من مُعَارضَة اهل الْبدع فِي بدعتهم واهل الاهواء فِي اهوائهم وَمَا الفه فِي ذَلِك من دحض اقوالهم وتزييف امثالهم واشكالهم واظهار عوارهم وانتحالهم وتبديد شملهم وَقطع اوصالهم واجوبته عَن شبههم الشيطانية ومعارضتهم النفسانية للشريعة الحنيفية المحمدية بِمَا منحه الله تَعَالَى بِهِ
1 / 31
من البصائر الرحمانية والدلائل النقلية والتوضيحات الْعَقْلِيَّة حَتَّى ينْكَشف قناع الْحق وَبَان بِمَا جمعه فِي ذَلِك والفه الْكَذِب من الصدْق حَتَّى لَو ان اصحابها احياء ووفقوا لغير الشَّقَاء لاذعنوا لَهُ بالتصديق ودخلوا فِي الدّين الْعَتِيق
وَلَقَد وَجب على كل من وقف عَلَيْهَا وَفهم مَا لَدَيْهَا ان يحمد الله تَعَالَى على حسن توفيقه هَذَا الامام لنصر الْحق بالبراهين الْوَاضِحَة الْعِظَام
حَدثنِي غير وَاحِد من الْعلمَاء الْفُضَلَاء النبلاء الممعنين بالخوض فِي اقاويل الْمُتَكَلِّمين لاصابة الثَّوَاب وتمييز القشر من اللّبَاب
ان كلا مِنْهُم لم يزل حائرا فِي تجاذب اقوال الاصوليين ومعقولاتهم وانه لم يسْتَقرّ فِي قلبه مِنْهَا قَول وَلم يبن لَهُ من مضمونها حق بل رَآهَا كلهَا موقعة فِي الْحيرَة والتضليل وجلها ممعن بتكلف الادلة وَالتَّعْلِيل وانه كَانَ خَائفًا على نَفسه من الْوُقُوع بِسَبَبِهَا فِي التشكيك والتعطيل حَتَّى من الله تَعَالَى عَلَيْهِ بمطالعته مؤلفات هَذَا الامام احْمَد ابْن تَيْمِية شيخ الاسلام وَمَا اورده من النقليات والعقليات فِي هَذَا النظام فَمَا هُوَ الا ان وقف عَلَيْهَا وفهمها فرآها مُوَافقَة لِلْعَقْلِ السَّلِيم وَعلمهَا حَتَّى انجلى مَا كَانَ قد غشيه من اقوال الْمُتَكَلِّمين من الظلام وَزَالَ عَنهُ مَا خَافَ ان
1 / 32
يَقع فِيهِ من الشَّك وظفر بالمرام
وَمن اراد اختبار صِحَة مَا قلته فليقف بِعَين الانصاف الْعرية عَن الْحَسَد والانحراف ان شَاءَ على مختصراته فِي هَذَا الشَّأْن ك شرح الاصبهانية وَنَحْوهَا وان شَاءَ على مطولاته ك تَخْلِيص التلبيس من تأسيس التَّقْدِيس والموافقة بَين الْعقل وَالنَّقْل ومنهاج الاسْتقَامَة والاعتدال فَإِنَّهُ وَالله يظفر بِالْحَقِّ وَالْبَيَان ويستمسك بأوضح برهَان ويزن حِينَئِذٍ فِي ذَلِك بأصح ميزَان
وَلَقَد اكثر ﵁ التصنيف فِي الاصول فضلا عَن غَيره من بَقِيَّة الْعُلُوم فَسَأَلته عَن سَبَب ذَلِك والتمست مِنْهُ تأليف نَص فِي الْفِقْه يجمع اختياراته وترجيحاته ليَكُون عُمْدَة فِي الافتاء فَقَالَ لي مَا مَعْنَاهُ الْفُرُوع امرها قريب وَمن قلد الْمُسلم فِيهَا اُحْدُ الْعلمَاء المقلدين جَازَ لَهُ الْعَمَل بقوله مَا لم يتَيَقَّن خطأه واما الاصول فَإِنِّي رايت اهل الْبدع والضلالات والاهواء كالمتفلسفة والباطنية والملاحدة والقائلين بوحدة الْوُجُود والدهرية والقدرية والنصيرية والجهمية والحلولية والمعطلة والمجسمة والمشبهة والراوندية والكلابية والسليمية وَغَيرهم من اهل الْبدع
قد تجاذبوا فِيهَا بأزمة الضلال وَبَان لي ان كثيرا مِنْهُم انما قصد ابطال الشَّرِيعَة المقدسة المحمدية الظَّاهِرَة الْعلية على كل دين وان جمهورهم اوقع النَّاس فِي التشكيك فِي اصول دينهم وَلِهَذَا
1 / 33
قل ان سَمِعت اَوْ رَأَيْت معرضًا عَن الْكتاب وَالسّنة مُقبلا على مقالاتهم الا وَقد تزندق اَوْ صَار على غير يَقِين فِي دينه واعتقاده
فَلَمَّا رَأَيْت الامر على ذَلِك بَان لي انه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم واباطيلهم وَقطع حجتهم واضاليلهم ان يبْذل جهده ليكشف رذائلهم ويزيف دلائلهم ذبا عَن المللة الحنيفية وَالسّنة الصَّحِيحَة الجلية
وَلَا وَالله مَا رَأَيْت فيهم احدا مِمَّن صنف فِي هَذَا الشَّأْن وَادّعى عُلُوم الْمقَام الا وَقد ساعد بمضمون كَلَامه فِي هدم قَوَاعِد دين الاسلام
وَسبب ذَلِك اعراضه عَن الْحق الْوَاضِح الْمُبين وَعَن مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل الْكِرَام عَن رب الْعَالمين واتباعه طرق الفلسفة فِي الاصطلاحات الَّتِي سَموهَا بزعمهم حكميات وعقليات وانما هِيَ جهالات وضلالات وَكَونه التزمها معرضًا عَن غَيرهَا اصلا ورأسا فَغلبَتْ عَلَيْهِ حَتَّى غطت على عقله السَّلِيم فتخبط حَتَّى خبط فِيهَا عشوا وَلم يفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل والا فَالله اعظم لطفا بعباده ان لَا يَجْعَل لَهُم عقلا يقبل الْحق ويثبته وَيبْطل الْبَاطِل وينفيه لَكِن عدم التَّوْفِيق وَغَلَبَة الْهوى اوقع من اوقع فِي الضلال وَقد جعل الله تَعَالَى الْعقل السَّلِيم من الشوائب ميزانا يزن بِهِ العَبْد الواردات فَيُفَرق بِهِ بَين مَا هُوَ من قبيل الْحق
1 / 34
وَمَا هُوَ من قبيل الْبَاطِل وَلم يبْعَث الله الرُّسُل الا الى ذَوي الْعقل وَلم يَقع التَّكْلِيف الا مَعَ وجوده فَكيف يُقَال انه مُخَالف لبَعض مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل الْكِرَام عَن الله تَعَالَى هَذَا بَاطِل قطعا يشْهد لَهُ كل عقل سليم لَكِن ﴿وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور﴾
قَالَ الشَّيْخ الامام قدس الله روحه فَهَذَا وَنَحْوه هُوَ الَّذِي اوجب اني صرفت جلّ همي الى الاصول والزمني ان اوردت مقالاتهم واجبت عَنْهَا بِمَا انْعمْ الله تَعَالَى بِهِ من الاجوبة النقلية والعقلية
قلت وَقد ابان بِحَمْد الله تَعَالَى فِيمَا الف فِيهَا لكل بَصِير الْحق من الْبَاطِل واعانة بتوفيقه حَتَّى رد عَلَيْهِم بدعهم وآراءهم وخدعهم واهواءهم مَعَ الدَّلَائِل النقلية بالطريقة الْعَقْلِيَّة حَتَّى يُجيب عَن كل شُبْهَة من شبههم بعدة اجوبة جلية وَاضِحَة يَعْقِلهَا كل ذِي عقل صَحِيح وَيشْهد لصحتها كل عَاقل رجيح
فَالْحَمْد لله الَّذِي من علينا بِرُؤْيَتِهِ وصحبته فَلَقَد جعله الله حجَّة على اهل هَذَا الْعَصْر المعرض غَالب اهله عَن قَلِيله وَكَثِيره لاشتغالهم بفاني الدُّنْيَا عَمَّا يحصل بِهِ بَاقِي الاخرة فَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه
لَكِن الله ذُو الْقُوَّة المتين ضمن حفظ هَذَا الدّين الى يَوْم الدّين واظهره على كل دين فَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
1 / 35