الأدب الجاهلي في آثار الدارسين قديما وحديثا
الأدب الجاهلي في آثار الدارسين قديما وحديثا
ناشر
دار الفكر للنشر والتوزيع
شماره نسخه
الأولى ١٩٨٧
ژانرها
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
بين يدي هذا البحث:
لم أكن أقدِّر حينما شرعت أجمع وأوثِّق وألخِّص ما صدر حول الأدب الجاهلي أن ذلك سيوضع بين دفتي كتاب، بل كان هدفي الوقوف على تلك الدراسات متعلمًا ومتذوقًا وناقدًا. كان ذلك منذ سنوات خلت، ونشرت"المكتبة الجاهلية" ولكنني سرعان ما اكتشفت أنها ناقصة من زوايتين، من حيث الكم: فقد كثرت الدراسات في السنوات الأخيرة، كما فاتني شيء مما كان قد نشر، ومن حيث عدم كفايتها في تعريف القارئ بطبيعة المادة التي حوتها تلك المؤلفات والبحوث.
وكان لا بُدَّ من معاودة النظر في كتابه بحث يختص بالتعريف بتلك الدراسات التي ينتظمها منهج معين، وبدأت أكتب، وإذا بالبحث يتسع حتى ضاق من اتساعه إمكانية نشره في دورية متخصصة، وكان لا مناص من نشره في كتاب.
ولا بُدَّ من توضيح أمور قبل الولوج إلى الكتاب:
أولها: أنه ليس كتابًا في تأريخ الدراسات النقدية جميعها، بل جهدت في أن أعرض لتلك الدراسات التي تبنت منهجًا معينًا، وطبقته على نصوص شعرية جاهلية.
وثانيها: أنني لم أتدخل في تلك المناهج ناقدًا ومقومًا، بل تركت كل منهج يعرض ملامحه العامة، وللقارئ أن يقارن ويحكم بعد ذلك، ويختار أيضًا المنهج الذي يرتضيه.
وثالثها: أنني أقِرُّ أن بعض الدراسات لم تكن في متناول يدي وإن كانت قليلة نسبيًّا، فمعذرة إن لم تنل حظها من العرض.
ورابعها: نظرًا لما لاحظته من نقصٍ في كتاب "المكتبة الجاهلية"، فقد ضمَّنْتُ
1 / 5
بعض مواده وأضفت إليها، ولكن طريقة العرض اختلفت بأن بوبتها تبعًا لموضوعها الأساس كما فهمته.
وخامسها: لقد قمت بتوثيق ما عرضت في المتون والحواشي، ولذا أحجمت عن إعادة ذكر ثبت بالمصادر والمراجع حتّى لا يتضخم حجم الكتاب.
وسادسها: لم أعرض لشيء من دراساتي، فذلك أتركه لغيري، وبخاصة تلك الدراسات التي ظهرت وستظهر خلال الأشهر القادمة حول الأمثال العربية القديمة.
وبعد،
فهذه محاولة، وقد تتلوها محاولات لغيري، ولا أدَّعي إلّا أنني حاولت، ولم أدَّعِ أنني أتيت بكل شيء، ولكن المحاولة أفادتني قبل أن أقدمها إلى غيري، وأرجو أن تستمر المحاولات الجادة لخدمة هذا العصر الذي يتمتع بمنزلة خاصة في نفوسنا.
والله ولي التوفيق
أربد، جامعة اليرموك ١٩٨٥، عفيف عبد الرحمن
1 / 6
جهود القدماء:
تقع جزيرة العرب في أقصى الجنوبي الغربي من قارة آسيا، وهي شبه جزيرة مستطيلة الشكل تحيط بها المياه من ثلاث جهات، وتتألّف بلاد العرب هذه من أقسام ثلاثة متيمزة: سلسلة جبال بركانية تحيط بها من الشرق والجنوب، وسهول ساحلية تقع بين سلاسل الجبال والبحر، تتسع وتضيق بحسب قرب الجبال من البحر، وهضبة داخلية تشمل الربع الخالي، والنفوذ الكبرى والدهناء وهضبة نجد.
وهكذا، فإن موطن العرب في جاهليتهم رقعة شاسعة من الأرض، ذات بقاع متباينة في التضاريس والمناخ، وتختلف بيئاتها اختلافًا كبيرًا يخلق منها بيئات متعددة متباينة، مما اضطر العربي إلى أن ينتقل من مكان إلى آخر بحثًا عن الكلأ والماء لاستمرار الحياة.
وكان العربي يعيش في خطر دائم، وفي أحضان طبيعة قاسية لا ترحم، تتهدده بكل مظاهرها، وأما الأخطار الخارجية فقد كان الأعداء يتربصون به، ولكن تلك الطبيعة القاسية على أهلها كانت خيرًا عليهم بمنعها العدو المتربص من التوغل في تلك الأصقاع، وقد حدثت محاولات باءت كلها بالفشل، ولكن هذا الفشل لم يمنع أولئك الأعداء من استخدام وسائلهم لإقامة مراكز لهم على الأطراف، أو في الداخل، وقد نجح بعضهم في احتلال أطراف منها، ولكن ذلك لم يدم طويلًا.
وفي ظل هذه البيئة آمن العربي بتقاليد وقيم ظلَّ معظمها تقليدًا متوارثًا يعتز به أو ببعضه إلى يومنا هذا، ومن هذه التقاليد ما كان صارمًا كقانون العصبية وقانون الثأر وقانون الجوار، ومن تلك القيم الكرم والشجاعة وإغاثة الملهوف وحماية الجار والوفاء بالعهد.
1 / 7
وقد سكن الجزيرة العربية قبل الإسلام العرب بقسميهم: القحطانيين وهم عرب الجنوب، والعدنانيين وهم عرب الشمال، وقد استطاع القحطانيون إنشاء ممالك ودولًا وصلت إلينا بعض أخبارها وصورًا من معالم حضارتها.
وقد اختلف في تحديد الفترة الزمنية التي وصل إلينا شعرها، ولكن الجاحظ ذهب إلى أن عمر الشعر الجاهلي الذي وصل إلى عصر التدوين يترواح بين قرن ونصف، إلى قرنين من الزمن١.
وقد سقنا هذه المقدمة القصيرة لتحديد إطار البحث الذي نحن بصددهه، لتحديه زمانيًّا ومكانيًّا وبيئيًّا.
أما محور البحث ودعامته فهو أدب ذلك العصر وتلك الفترة، ذلك الأدب الذي أنشده قوم من تلك البيئة متأثرين بها، ومؤثرين في أهلها وفي الأجيال العربية التي تلاحقت قرونًا عديدة.
ولا يقف أمر تحديد أهمية أدب هذه الفترة عند الذي قلناه، ولكن أدب هذا العصر نال شهادات كثيرة تبيّن أهميته، صدرت في العصور الأولى.
١- جاءت في طبقات ابن سلام "وكان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم، ومنتهى حكمهم، به يأخذون وإليه يصيرون"٢.
٢- سأل الخليفة عمر بن الخطاب ﵁، وقد ذكر الشعر: يا كعب! هل تجد للشعراء ذكرًا في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قومًا من ولد إسماعيل، أناجيلهم في صدورهم، ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلّا العرب٣.
٣- عندما سمع النبي ﵇ قول زهير بن أبي سلمى:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
قال: "هذا من كلام النبوة٤".
٤- كان أبو عمرو بن العلاء يقول: كان الشعراء في الجاهلية يقومون من العرب
_________
١ الحيوان للجاحظ ١/ ٧٤.
٢ طبقات ابن سلام، المقدمة.
٣ العقد الفريد ٥/ ٢٧٤.
٤ المصدر نفسه ٥/ ٢٧١.
1 / 8
مقام الأنبياء في غيرهم من الأمم١.
٥- أورد الجاحظ في خبر عن الهيثم وابن الكلبي وأبي عبيدة: فكل أمة تعتمد في استيفاء مآثرها وتحصين مناقبها على ضربٍ من الضروب، وشكل من الأشكال، وكانت العرب في جاهليتها تتحلّى في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفَّى، وكان ذلك هو ديوانها٢.
٦- عن ابن سيرين قال: قال عمر بن الخطاب: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك، وقد هلك من العرب من هلك مَنْ بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب منه الكثير"٣.
هذه بعض النصوص التي تكشف عن منزلة الشعر في تلك الفترة، ولم أشأ أن أستقصيها جميعها، فذلك ليس مجاله هنا، ولكني اكتفيت بهذا القدر.
وبالإضافة إلى تلك المكانة فإنني أجد مسوّغات كثيرة لهذا البحث، سأحاول أن أذكرها في عجالة:
أولها: مكانة الأدب الجاهلي التي احتلها في عصره وفيما تلاه من عصور وما زال يحتلها.
وثانيها: ذلك الشطط الذي وقع فيه بعض الباحثين قديمًا وحديثًا فجنوا على الشعر وأهله.
وثالثهما: عجز النقاد القدامى عن إصدار الحكم الصائب عليه، لاعتمادهم على قيم فنية انحدرت إليهم من أمم أجنبية٤.
ورابعهما: أن للأدب الجاهلي واقعه الخاص المميز، وله ميزاته المتفردة، وتاريخه الذي لا يشاركه فيه تاريخ آخر.
وخامسها: لأن الأدب الجاهلي أكثر الآداب تأثيرًا في مجرى الأدب العربي.
_________
١ الزينة لأبي حاتم الرازي ١/ ٩٥.
٢ الحيوان للجاحظ.
٣ طبقات ابن سلام.
٤ عبد الجبار المطلبي، مواقف في الأدب والنقد ٣١.
1 / 9
وسادسها: لأن الدراسات والبحوث يكرر بعضها بعضًا بالرغم من أن كثيرًا من مجالات العصر الجاهلي ما زال بكرًا لم يبحث، وأنه بحث بسطحية.
وسابعها: لأن هذه الدراسة تطمح إلى أن تقدم للباحثين وطلبة الدراسات العليا عونًا متواضعًا.
وفي مقابل ذلك وغيره تواجه الباحث في الأدب الجاهلي، والشعر بصورة خاصة، صعوبات جمة منها:
١- أن النهضة الثقافية، بل البنية الثقافية لذلك العصر لم تدرس حتى الآن دراسة كافية، لقلة المصادر بل لندرتها، وقد لعبت عوامل كثيرة في طمس معالمها، فالشعوبية مثلًا قد استغلت العامل الديني فأحدثت هي والعرب تفريغًا هائلًا في المعارف الدائرة حول الحياة في العصر الجاهلي، وذلك بعد أن هزت العقيدة الجديدة القديمة، ومن هذه المعارف ما عمد المؤرخون إلى إماتته اختيارًا وتطوعًا، ومنهم من فعل ذلك تفرغًا وخلوصًا بالنفس كلها للنهوض بالرسالة الجديدة١.
٢- أن أولية الشعر الجاهلي، بل أولية الأدب ليست معروفة، ولم يقطع برأي فيها حتى الآن، ويترتب على ذلك أمور كثيرة، أهمها: تطور صياغته.
٣- لأننا نتطلع إلى الشعر القديم على أنه الأنموذج الأمثل، لذا نغض الطرف عمَّا فيه من هنَّات وعيوب.
٤- لأننا لا نفرق بين تراثنا الأدبي وأحكام المؤرخين وآراء الناقدين له.
٥- لأن هناك أناسًا يعيبون عليه دون الإفصاح عمَّا يريدون، وهم لم يقرأوه قراءة حسنة٢.
٦- جناية تسمية العصر بالعصر الجاهلي على الأدب نفسه.
٧- تحرّج الرواة من رواية ما يتعارض مع الإسلام.
٨- هذه الرحلة الطويلة التي قطعها الشعر الجاهلي وهو يُرْوَى مشافهة قبل أن يدوّن، وما تسبب عنها من مشكلات، يقول الأستاذ محمود شاكر٣ بأن أكبر القضايا التي يثيرها أمر الشعر الجاهلي ثلاث هي:
_________
١ نجيب البهبيتي، المعلقات سيرة وتاريخًا، ٢٠٤.
٢ مقدمة كتاب فجر الإسلام لأحمد أمين، بقلم طه حسين.
٣ مجلة العرب، دار اليمامة بالرياض، ج٥-٦، ص٣٢٢.
1 / 10
أولًا: عمر الشعر الجاهلي الذي وقع إلينا، وهي قضية متفرعة عن أولية الشعر نفسه.
ثانيًا: شعراء الجاهلية المعروفون، وما انتهى إلينا من أشعارهم ومقدار هذا الشعر.
ثالثًا: وضع الشعر ونحله شعراء الجاهلية، أهي صحيحة أم باطلة؟ وإن صحَّت، فأين هذا المنحول فيما وصلنا من العلماء الرواة من أشعارهم؟
وهذه القضايا كما نرى متصلة بالتدوين وتأخُّرِه عن عصر الإنشاد؛ فالشعر الجاهلي وروايته مرَّ بالمراحل التالية: مرحلة الإنشاد، فمرحلة التجميع، فمرحلة التدوين، فمرحلة التحقيق، وأخيرًا مرحلة الدراسة والتحليل.
٩- أن بلادهم كانت وقفًا عليهم، فلم يتمكن طامع أو دخيل من اقتحام بلادهم، وخطورة هذا الأمر أنه -أي: الباحث- لا يسعفه مصدر خارجي.
١٠- تطبيق المذاهب النقدية والمصطلحات الحديثة عليه، فقد ذهب الباحثون المحدثون مذاهب شتَّى في ذلك، وتباينت آراؤهم، فمن رافضٍ إلى راض إلى أن نطبقها بحذر، وسنعرض بالتفصيل لذلك الأمر فيما بعد.
وأدب الجاهلية ابن تلك البيئة متأثِّر بها مؤثر فيها، وقد تأثَّر بعوامل كثيرة طبعته بطوابع عُرِفَ بها، ومن أبرز تلك العوامل الصحاري الشاسعة التي غلبت على الجزيرة حتى قيل: إن أرض العرب معظمها صحاري، وقد لعبت الصحراء دورًا بارزًا في تشكيل الحياة السياسية والاجتماعية، كما أثرت في تحديد قيم العربي وأخلاقه، وكانت تخيفه وتحميه في الوقت نفسه، ونستطيع أن نزعم بأنها تركت بصامتها على كل شيء في تلك الفترة، وتأثيرها على أدب تلك الفترة لم يبحث بشكل جدي بعد، وأرجو أن يسعفني الوقت للبحث في ذلك قريبًا.
وأما العامل الثاني: فهو البنية الاجتماعية، فالقبيلة التي شكلت الوحدة السياسية آنذاك، وكانت بمثابة الدولة في أيامنا هذه، وقانون العصبية وما تبعه من ثأر وجوار، وذوبان شخصية الفرد في الجماعة، وطغيان روح الجماعة على النزعة الفردية، كل هذه أثَّرت في أدب الجاهلية وصبغته بصبغة متميزة، فلم يعرف الأدب
1 / 11
العربي التزامًا في عصوره المختلفة كما عرف العصر الجاهلي، وفي الوقت نفسه لم تبرز حركة متمردة على التقاليد، كتلك التي برزت، وأعني: حركة الصعاليك نتيجة للقوانين القبلية الصارمة.
وأما العامل الثالث: فهو البيئة الثقافية، وهي ذات أثر فعال في نتاج تلك الفترة، ولا يقلل من شأنها عدم معرفتنا لكثير من جوانبها بسبب الطمس والضياع، ولكن مؤشرات كثيرة توحي بأنها كانت غنية متنوعة، رفدت الشاعر الجاهلي وأغنت مضامينه، وقد رفدت عوامل تاريخية وعوامل أخرى وفادة تلك البيئة بكثير من ألوان الثقافة، فمن الأمم السابقة، ومن الأمم المجاورة للجزيرة من مراكز النصرانية واليهودية في الجزيرة نفسها كانت ترفدهم بإضافات ثقافية مهمة.
وأما العامل الرابع: فهو اشتغال قطاعٍ لا بأس به منهم بالتجارة داخل الجزيرة وخارجها، وقد تحدّث القرآن الكريم عن ذلك، وبيّن أهميتها بالنسبة لهم في مواطن كثيرة١، ولولا أهميتها لما كررت، ونجد كذلك في لغتهم وأشعارهم وأمثالهم أدلة واضحة على ذلك، وتطالعنا في أخبارهم المبثوثة في بطون الكتب لطائم النعمان التي كانت سببًا في أيام مشهورة بسبب الاعتداء عليها، وتطالعنا أسواق العرب المنتشرة في بقاع الجزيرة المختلفة، تلك الأسواق التي كانت سببًا رئيسًا في توحيد اللغة واصطفاء لغة من لغات متعددة وانتشارها بين القبائل، حتى غدت لغة العرب لغة واحدة قبيل الإسلام.
وأما العامل الخامس: فهو الأيام، تلك الحروب التي بلغت عدتها المئات، وألّف فيها أبو عبيدة كتابًا، بلغت عدة الأيام فيه ألفًا وأربعمائة يوم، ولا نستطيع الخوض في الأيام في هذه العجالة، فقد ألفت فيها قديمًا وحديثًا مؤلفات ودرست جوانبها. وهذه الأيام قُصِدَ بها قديمًا الحروب، ولكنها لم تكن حروبًا وحسب، بل إنها تتضمّن قيمًا اجتماعية وفكرية تأصَّلت ونمت ورسخت في ظلالها لدرجة أن هذه القيم تتضاءل أمامها وقائع المعارك نفسها٢، والأيام في الجاهلية تضمَّنت أيضًا خلاصة الثقافة العربية في مهدها، ممتزجة بالأساطير والقصص الخرافي، ولكنها لم
_________
١ القرآن الكريم: البقرة: ٢٨٢، النساء: ٢٩، التوبة: ٢٤، النور: ٣٧، فاطر: ٢٩، الصف: ١٠، الجمعة: ١١، البقرة: ١٦.
٢ أحمد كمال زكي، دراسات في النقد الأدبي، دار الأندلس، ١٩٨٠، ص١٥٧.
1 / 12
تصل إلينا كاملة؛ لأن الرواة والمدونين دأبوا منذ عصور مبكرة على طمسها، لما فيه من إيقاظٍ للشعور الجاهلي الذي يقوم على العصبية.
وأيام الجاهلية زاخرة بإشارات ورموز حول آثار الشخوص الأسطورية والبلدان التي اندثرت من أمثال يوم اليمامة والعماليق الذين ذكروا فيه، وحرب البسوس ومعمرية، ويوم المشقر وذلك الحصن. واختلطت أخبار تلك الأيام أيضًا بالخرافات والبطولات الخارقة، ونستطيع أن نزعم أن الشعر الجاهلي لم يكن إلّا صدًى وتعبيرًا عن تلك الأيام، وامتدَّ أثرها إلى العصر الأموي في النقائض، وإن نظرة سريعة إلى المعلقات ترينا أن معظم هذه المعلقات كان صدى ليوم عظيم أو أكثر من تلك الأيام.
والعالم السادس: هو منهج القدماء في دراسته، فقد كانت دراستهم قائمة على استخراج معاني الألفاظ، والاستعانة بعد ذلك بالدراسة التحليلية، وقد ظلَّ تأثير هذا المنهج قائمًا حتى يومنا هذا عن بعض الدراسين، ولذلك أثره في توجيه دراسة الشعر، وعدم الالتفات لقضايا أخرى خطيرة فيه لو تنبهوا إليها لتغيَّرَ مجرى الشعر الجاهلي.
وأخيرًا فقد كان للتقاليد الفنية التي زعمها بعض نقاد القرنين الثالث والرابع وألزموا بها الآخرين، تأثير على سير ومنهج دراسة الأدب الجاهلي، وهي تقاليد صارمة كانت تخرج من يخرج عليها عن دائرة الشاعر والشعر، وقد أثبتت الدراسات المعاصرة أنها لم تكن عامة وملزمة حتى في العصر الجاهلي نفسه. ومثال ذلك: ما ذكره ابن قتيبة وغيره من بناء القصيدة، وضرورة البدء بالوقوف على الأطلال، ثم النسيب، فالرحلة فالغرض، وأثبتت الإحصائيات المعاصرة بأن الشعراء الذين التزموا بذلك من مجموع الشعر الذي وصل إلينا لا يصل إلى النصف، فإذا افترضنا أنهم كانوا يحكمون بهذا في عصر التدوين، فمعنى هذا أنهم منعوا شعرًا كثيرًا لم يلتزم بتلك التقاليد من أن يصل إلينا وإلى الذين سبقونا.
وقد أثَّرت عوامل على الأدب الجاهلي بعامَّة والشعر بخاصة تأثيرًا سلبيًّا يصل إلى درجة الجناية عليه، شوَّهت صورته، وحرمت الدراسين من الوقوف على حقيقته، وما زال تأثير بعضها قائمًا إلى يومنا هذا، ولعل من المفيد إيجاز أهمها:
١- اسم العصر نفسه، مما أوقع الناس والباحثين في وهمٍ بأنه كان عصرًا بدائيًّا لا
1 / 13
قيم فيه، ولا تأصيل لأي فن، فهو عصر عمَّ فيه الجهل والاضطراب، وبالتالي فإن أدبه كذلك.
٢- الشراح المسلمون: فلم يكن يعنيهم إلّا ألفاظه ومعانيها، وقد وقعوا تحت تأثير عقيدتهم؛ بحيث عدّوا نتاج هذه الفترة لا يرقى فكريًّا بحيث يتساوى مع نتاج العصور التالية له، ولولا حاجتهم للغته لما رووه أو دونوه، يضاف إلى ذلك تحرجهم من تدوين أيّ شيء من هذا الشعر أو ما يتصل به من أخبارٍ إذا كان يتعارض مع عقيدتهم، فضاع أكثر الشعر المتصل بالعصبية أو بالميثولوجيا والخرافات.
٣- المبالغة في وصف البداوة العربية الجاهلية ونعتها بالغلظة وغير ذلك.
٤- الفهم العقلي للشعر.
٥- غياب التصور الدقيق عن تفاصيل التجربة الشعرية الجاهلية، وما أحاد بها من مؤثرات.
٦- تواري الشعر بين ركام الأخبار وتراجم الشعراء.
٧- الدراسات النقدية الحديثة لم تؤسَّس على فهمٍ دقيق للشعر الجاهلي، فتراوحت بين قطبين متنافرين.
ولسنا في هذه المقدمة بصدد تفنيد أو مناقشة هذه القضايا؛ لأن لذلك مكانًا آخر من هذا البحث، ولكن من المفيد أن نورد الملاحظات التالية:
١- إن الشعر الجهالي لم يكن انعكاسًا مباشرًا لفكرة البداوة.
٢- إننا نجد أنفسنا أمام مجتمع تشغله أسئلة أساسية شاقّة تتصل بمبدأ الإنسان ومنتهاه ومصيره وشقائه وعلاقته بالكون.
٣- إن الشعر الجاهلي إذا أعدنا قراءته بتأنٍّ وعمق، وبلا أفكار وأحكام مسبَّقة ذو حظ وافر من العمق والثراء.
٤- إن الشاعر الجاهلي، كما أسلفنا، لم يكن يتصوّر الشعر عملًا فرديًّا يعبر عن ذاته، بل يتصوره نوعًا من النبوغ في التعبير عن أحلام المجتمع ومخاوفه وآماله.
٥- إن فهم طبيعة ذلك العصر ومشكلاته وآماله وطموحاته وهمومه يفرض علينا
1 / 14
العودة إلى شعره ونثره، ففيهما كل الأجوبة الشافية، وفيهما حلّ لكل الألغاز التي ما زلنا حائرين في الاهتداء إلى حقائق ثابتة بصددها.
سقت هذه المقدمات قبل البدء بالبحث، وهدف البحث هو تتبُّع جهود العلماء والدراسين والباحثين حول الأدب الجاهلي، وقد رأيت أن أقسِّم البحث إلى ثلاث شرائح كبرى:
١- جهود العلماء العرب القدامى.
٢- جهود المستشرقين.
٣- جهود العرب المحدثين.
وأبدأ بجهود العلماء العرب القدامى فأقول بأن الأدب الجاهلي والشعر بوجه خاصٍّ منه لم ينقطع اهتمام العلماء به منذ انتهاء العصر الجاهلي، ففي صدر الإسلام اقتصر الأمرعلى إنشاده وروايته وحفظه من الضياع، وقد شهدنا كيف كان الخلفاء الراشدون وولاة الأمر يستمعون إلى شعر زهير وحاتم وكل شعر فيه قيمة أو فضيلة أو مَكْرُمة، وفي عصر الخلافة الأموية تطورت الأمور؛ بحيث أصبح بعض الخلفاء كالوليد بن يزيد يقتنون مكتبات خاصَّة لهم، يودعون فيها مختلف أنواع المدونات، وحدثنا بأن معاوية بن أبي سفيان طلب من وهب بن منبه أن يحدثه ويؤلف له في أخبار ملوك حمير واليمن، ونستطيع أن نستنتج من هذين الخبرين وغيرهما بأن التدوين الجزئي قد بدأ في عصر بني أمية، وواكب التدوين بدايات حركة نقدية نشأت في مجالس الخلفاء والخاصة والأسواق، وهذان العاملان التدوين الجزئي والحركة النقدية، بالإضافة إلى استمرار الرواية، هذا كله كان عاملًا في حفظ الشعر الجاهلي وإيصاله إلى عصر التدوين العام.
وفي العصر العباسي فُتِحَ باب التدوين على مصراعيه، وكان لذلك دوافع أهمها:
١- رغبة العلماء في تدوين الأدب الجاهلي بعد جمعه ليغدو مادة علمية لغوية يتدراسها الناس.
٢- ربط العلماء بين هذا الأدب والمادة اللغوية لتقعيد اللغة.
٣- ظهور حركة مناوئة للعرب، أعني: الشعوبية، فانبرى العلماء الغيورون على اللغة للتصدي لتلك الهجمة الشرسة.
1 / 15
٤- أحسَّ العلماء بحاجة ملحة إلى تدوين هذا الأدب للاستعانة به في كثير من العلوم المتصلة بالدين كالتفسير والسيرة وغيرهما.
٥- بعض المؤلفات كانت لغرض تعليمي طُلِبَ منهم جمعها للتأديب.
وفي عصر التدوين تطالعنا الأعلام التالية ومؤلفاتهم:
-المفضَّل الضبي "ت١٨٠٠هـ": جمع المفضليات التي ضمَّت حوالي مائة وثلاثين قصيدة معظمها جاهلي.
- الأصمعي "ت٢١٦هـ": جمع الأصمعيات وضمّت قدرًا كبيرًا من الشعر الجاهلي.
- ابن سلام الجمحي "ت٢٣١٠": ألف كتابه "طبقات فحول الشعراء"، وأورد عشر طبقات ضمّت كل طبقة أربعة شعراء، عدا شعراء القرى واليهود.
- حمَّاد الراوية "ت١٦٨٠هـ": ينسب بعضهم المعلقات إليه.
- أبو تمام "ت٢٣١٠هـ": اختار أشعار الحماسة التي سُمِّيَت باسمه.
- البحتري "ت٢٨٤٠هـ": اختار أيضًا أشعارًا جمعها وسميت باسمه.
- أبو عمرو بن العلاء "ت١٥٤٠هـ": لم تصل إلينا مؤلفاته، لكنه جمع كثيرًا من الشعر الجاهلي.
- الجاحظ "ت٢٥٥٠هـ": ضمَّن كتابيه "الحيوان" "والبيان والتبيين" كثيرًا من الشعر والنثر الجاهليين.
- ابن السكيت "ت٢٤٤٠هـ": شرح بعض دواوين الشعر الجاهلي ودونها.
- السكري "ت٢٧٥هـ": شرح بعض دواوين الشعر الجاهلي ودونها.
- ابن الأنباري "ت٣٢٨٠هـ" له شرح القصائد السبع الطوال وشرح المفضليات.
- المرزوقي "ت٤٢١٠هـ": شرح حماسة أبي تمام.
- التبريزي "ت٥٠٢٠هـ" شرح حماسة أبي تمام.
- القالي "ت٢٥٦٠هـ": ضمَّن "أماليه" كثيرًا من الشعر الجاهلي وأخبار العصر.
- ابن النحاس "ت٣٣٨هـ": شرح القصائد التسع المشهورات.
- القرشي، محمد بن أبي الخطاب: جمع تسعًا وأربعين قصيدة في "الجمهرة". القرن الخامس.
- الجواليقي "ت٥٤٠هـ": شرح حماسة أبي تمام.
1 / 16
- الخالديان "٣٥٠هـ، ٣٨٠هـ": ألَّفَا كتاب "الأشباه والنظائر".
- ابن الشجري "ت٥٤٢٠هـ" جمع مجموعة شعرية عرفت بالحماسة الشجرية.
- صاحب الحماسة البصرية، صدر الدين علي بن الفرج "ت ٦٥٩هـ"، وهو صاحب الحماسة البصرية.
- الأعلم الشنتمري "ت٤٧٦هـ": شرح بعض الدواوين الشعرية.
- البطليوسي "ت٦٣٢٧هـ": شرح حماسة أبي تمام.
- الشمشاطي "القرن الرابع": ألف كتاب "الأنوار ومحاسن الأشعار"، وضمَّنه كثيرًا من أخبار الأيام وأشعارها.
- أبو الفرج الأصبهاني "ت٣٥٦هـ": صاحب الكتاب المشهور "الأغاني".
- ابن هذيل الأندلسي "ت٧٥٣هـ": ألَّفَ حِلْيَة الفرسان وشعار الشجعان.
- الآمدي "ت٣٧٠هـ": ألف كتاب "المؤتلف والمختلف" وهو تراجم للشعراء.
- المرزباني "ت٣٨٤هـ": له "معجم الشعراء".
- أبو عبيدة "ت٢١٠هـ:" له مساهمة وافرة في جمع أخبار العرب وأيامها وأشعارها، لكنها لم تصل إلينا من كتب له، كما أن له جهودًا في الأمثال.
- هشام بن الكلبي "ت٢٠٤هـ": له كتاب "الأصنام" وروى كثيرًا من أخبار الجاهلية وأنسابها.
- ابن حبيب "ت٢٤٥هـ": له شرح النقائض، وله "أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام"، و"أسماء من قتل من الشعراء".
- ابن قتيبة "ت٢٧٦هـ" له "الشعر والشعراء" و"المعارف".
- المبرد "ت٢٨٦هـ": له: "الكامل في اللغة والأدب"
- البغدادي "ت١٠٩٣هـ": صاحب "خزانة الأدب".
أما في الأندلس، الجزء الغربي من العالم الإسلامي، فقد اهتمَّ علماؤه بالأدب الجاهلي، وإن نظرة فاحصة في فهرسة ابن خير الإشبيلي "٥٠٢-٥٧٥هـ" تبين لنا أنهم اطَّلعوا على ست وثلاثين ديوان شعر جاهلي، وإحدى عشرة مجموعة شعرية، وخمسة كتب في الأمثال، ولعل من المفيد إيرادها هنا والصفحات التي ذكرت فيها:
اختيار المفضل والأصمعي، جمع علي بن سليمان الأخفش، ص٣٩٠.
الأشعار الستة الجاهلية، ص٣٩٨.
1 / 17
الأشعار الستة الجاهلية، شرح أبو بكر عاصم بن أيوب البلوي النحوي ٣٩٨.
الأشعار الستة الجاهلية، شرح أبي الحجاج يوسف بن سلمان النحوي الأعلم، ص٣٨٨.
ديوان الأشعار المفضليات لأبي الحسن علي بن سليمان الأخفض، ص٣٩٠.
أشعار هذيل، رواية الأصمعي، ص٣٨٩.
الأصمعيات ص٣٩١.
الأمثال لأبي زيد، ص٣٧١.
الأمثال للأصمعي، ص٣٤٠.
الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام، ص٣٣٩، ٣٤٤.
الأمثال للمفضل بن محمد الضبي، ص٣٨٤.
أيمان العرب للنجيرمي، ص٣٧٤.
بيوت الشعر لأبي زيد الأنصاري ٣٧١.
التمام في شرح أشعار الهذليين لابن جني، ص٣١٧.
شعر أحيحة بن الحلاج، ص٣٩٧.
شعر الأسود بن يعفر، ص٣٩٧، ٣٩٨.
شعر أعشى بكر، ص٣٩١، ٣٩٥.
شعر الأفوه الأودي، ص٣٩٤، ٣٩٦.
شعر امريء القيس، ص٣٩٦.
شعر أوس بن حجر ٣٩٦.
شعر بشر بن أبي خازم ٣٩٧.
شعر حاتم ٣٩٨.
شعر الحارث بن حلزة، ص٣٩٨.
شعر الخنساء، ص٣٩٧.
شعر دريد بن الصمة، ص٣٩٥.
شعر زهير، ص٣٩٦.
شعر سحيم، ص٣٩٦.
شعر سلامة بن جندل، ص٣٩٦.
شعر السليك، ص٣٩٨.
شعر الشماخ، ص٣٩٥.
1 / 18
شعر طرفة، ص٣٩٧.
شعر طفيل الغنوي، ص٣٩٣، ٣٩٧.
شعر عبد بن الطبيب، ص٣٩٦.
شعر عبيد بن الأبرص، ص٣٩٦.
شعر عدي بن زيد، ص٣٩٦.
شعر عروة بن الورد، ص٣٩٥، ٣٩٦.
شعر علقمة الفحل، ص٣٩٥.
شعر عمرو بن معد يكرب، ص٣٩٥.
شعر عنترة، ص٣٩٧.
شعر قيس بن الحظيم، ص٣٩٦.
شعر كعب بن زهير، ص٣٩٧.
شعر لبيد، ص٣٩٧.
شعر المتلمس، ص٣٩٧.
شعر المثقب، ص٣٩٧.
شعر المرقش الأكبر، ص٣٩٦.
شعر المقرش الأصغر، ص٣٩٦.
شعر مهلهل وأخيه عدي، ص٣٩٧.
شعر النابغة الجعدي، ص٣٩٦.
شعر الهذليين، ص٣٩٦.
تفسير القصائد والمعلقات وتفسير إعرابها ومعانيها للقالي، ص٣٥٥.
القصائد المعلقات التسع لابن النحاس، ص٣٩٦.
قصيدة عمر بن كلثوم ٣٩٨.
قصيدة لقيط، ص٣٤٨.
المجلة في الأمثال عن أبي عبيدة، ص٣٤١.
وكانت جهود أولئك العلماء عظيمة لا يمكن تثمينها، ولكن الأمر مختلف الآن، فحين نظر إليها الباحثون والدراسون رأوا فيها إيجابيات وسلبيات، بل إنهم رأوا أن السلبيات تطغى على الإيجابيات، ولعل السبب يكمن في أن هدف كل فريق مختلف، فبينما دوّن القدامى الشعر الجاهلي لأهداف وغايات محددة
1 / 19
ذكرناها، طمح المحدثون إلى أن يحصلوا على أشياء لم تكن مجال اهتمام القدامى، وثمة أمر آخر هو أن المحدثين نسوا البعد الزمني فطالبوا القدامى بما يطلبونه الآن.
وتبرز في مقدمة إيجابيات عمل القدامى من النقاد وإحساسهم الشديد بنقاء الأدب العربي، وثانيًا حرصهم على تشخيصه جيلًا بعد جيل، فقد شخَّصوه أولًا برسم الصورة المثلى للغة ممثَّلة في القرآن الكريم، وثانيًا بالإصرار على أن الأدب العربي صورة ناضجة كاملة النضج قبل أن تتصل الثقافة العربية بغيرها١.
ومن الإيجابيات تضافر جهود علماء اللغة والنقاد والرواة لجمع مادة الأدب الجاهلي وتنقيتها من كل شائبة، وإسقاط المنحول، وتقويم المعوج منها والمصحَّف، وتبويبه في دواوين ومجموعات شعرية، وشرح تلك الأشعار من بعد.
ولو وصل إلينا جهدهم كله لكانت الصورة مختلفة الآن، ولا يقلل من جهدهم ما غمز بعضهم به من هنا وهناك، فلا يخلو عمل من نقد بنَّاء أو هدَّام.
ومن الإيجابيات أن شروحهم تضمَّنت فيما تضمنته ذكرًا لأشعار أوردوها للمقارنة أو للدلالة على معنى معين، وهذه الأشعار لشعراء ضلَّ شعرهم طريقه إلينا.
ومثل ذلك ما أورده من قصص وأخبار وأعلام أفادتنا كثيرًا في استكمال صورة ذلك المجتمع.
ومن هذه الإيجابيات أن كتب بعضهم لم تخل من خطرات نقدية ومقارنات أضاءت للباحثين المحدثين السبيل لاستكمال كثير من القضايا التي عرضوا لها. واستطاعوا بهذا أن يتعرفوا إلى أذواق أولئك العلماء الأوائل واتجاهات عصرهم في النقد وغيره.
أما السلبيات فقد وردت على ألسنة المحدَثين، وسنحاول ذكرها ونقدها ما أمكن ذلك:
١- قصر النقد القديم عن فهم الشعر القديم؛ لأنه قام على أساسٍ من علوم البلاغة التقليدية، فقصرت عن أن تلفتنا إلى الجمال الحقيقي فيه٢، وذلك أمر بدهي
_________
١ مصطفى ناصف، قراءة ثانية لشعرنا القديم، ص١١ وما بعدها.
٢ محمد النويهي، الشعر الجاهلي منهج في دراسته وتقويمه، ١٤.
1 / 20
لأنه لم يكن من أهدافهم عمل ذلك، بل كانوا يهدفون إلى الإفادة من لغة ذلك الأدب وضروب البلاغة فيه، ومع ذلك فإنَّ التفاتات النقاد ولمساتهم الخفيفة كالجرجاني وابن جني وابن حازم كانت ملفتة إلى جمال ذلك الشعر، ولو لم يفعل القدامى شيئًا إلّا تدوين ذلك الشعر وحفظه من الضياع، وتوثيقه لكان ذلك كافيًا.
٢- إن شروح اللغويين القدامى للشعر الجاهلي، وهي مفاتيحنا إلى فهمه، إنما هي ثمرة عقلية إسلامية؛ لأنهم أغفلوا الحديث عن أصولها الدينية القديمة، ويتهمهم أحد الباحثين١ بأنهم ألحوا لطمس تلك الأصول، وقد عرضنا لهذه القضية في التمهيد، ولكنها ليست من عمل شخص واحد، بل إننا نزعم بأن الرواة منذ صدر الإسلام تحرجوا، ولذلك بدأت تلك الأصول تتساقط وتتناسى حتى تلاشت.
٣- دأب المحدثون منذ العصر الأموي على طمس الثقافة العربية ممتزجة بالأساطير والقصص الخرافي لما فيها من إيقاظ للشعور الجاهلي الذي أساسه العصبية، وقد عرضنا لذلك أيضًا، ونضيف هنا رأيًا لباحث آخر٢ يؤكِّد فيه أن كثيرًا من الشعر الجاهلي الصحيح النسبة إلى أصحابه أو إلى العصر الجاهلي قائم في الكتب الباقية بين أيدينا الآن، لكن ليس في مجاميع الشعر الجاهلي الذائعة الصيت، وإنما هذا كله يقع في كتب تدخل عندنا في مجال القصص الموضوع أو المصنوع؛ لأن القدامى وضعوها في قالب متحجر من تصور الشعر الجاهلي والتاريخ الجاهلي بحيث أصبح التاريخ الحي عندنا قصصًا، وما اندرج خلاله من الشعر مصنوعًا، ونتيجة الإهمال والتنازل عنها دخلها الضيم وطمع القاصّ فشرع يغير فيها، ومن هذه المؤلفات: فتوح الشام اللواقدي، وكتاب بكر وتغلب لمؤلف مجهول أو لابن إسحاق، وقد طبع في الهند ١٣٠٥هـ، ومن المعروف أن الخرافة والأسطورة تعدَّان منبعين من منابع التاريخ.
٤- ويرى أحد الباحثين٣ في عجز النقاد القدامى سببًا مغايرًا للرأي السابق، فهو
_________
١ إبراهيم عبد الرحمن محمد، الشعر الجاهلي، ٩.
٢ نجيب البهبيتي، المعلقات: سيرة وتاريخًا، ١٨٩.
٣ عبد الجبار المطلبي، مواقف في الأدب والنقد، ٣١.
1 / 21
يعلل عجزهم عن إصدار الحكم الصائب على الشعر الجاهلي لاعتمادهم على قيم ومعايير انحدرت إليهم من أمم أجنبية كاليونان والفرس.
وقد يكون محقًّا في جزء من مقولته، لكننا لا نملك تعميمها على النقاد جميعًا، وإن الأقرب إلى الصواب أن نزعم أن العصور المتأخرة بعد القرن الثالث شهدت شيئًا من هذا التأثر.
٥- ويعلل باحث آخر١ تقصير معظم الدراسات التراثية لأنها لم تعِ أن الشعر القديم إنما هو تقدير النفس والحياة، وهذا أمر بدهي؛ لأن أهدافهم من جمع الشعر وتوثيقه وشرحه تختلف عن أهدافنا نحن اليوم.
٦- لم يكن نصيب القبائل من الجمع عادلًا لتدخُّل العصبية في عملية الجمع، ونحن لا ننكر دور العصبية، ولكن العلماء الذين تصدَّوا لعملية الجمع كثيرون، وقد جمعوا شعر القبائل كلها لدليل واحد نملكه على الأقل، وهو أن أبا عمرو بن العلاء وحده جمع شعر ثمانين قبيلة٢، وما ذنب الرواة إن لم تكن القبائل متساوية في حجم الشعر والشعراء، أو لم يحرص رواة القبيلة على تناقل الشعر وحفظه على عصر التدوين.
٧- النقد لم يواكب الشعر ولم يدرسه، بل كان جلَّ همه منصَبًّا على شرح مفرداته ونقد جزئي.
٨- إن الكثير من الجهود قد ضلَّ طريقه إلينا.
وخلاصة القول في هذه السلبيات أنها تحمل اللغويين القدامى حملًا لا يقدرون عليه في ظل ظروف عصرهم، ولأنه لم يكن هدفًا من أهدافهم، ولقد كانت الرواية الشفوية علمًا خاصًّا اختص به الإسلام وارتبط بالعقيدة الإسلامية؛ لأن الرواة يروون أيضًا الحديث الشريف والعلوم القرآنية، ولكن القليلين من المحدثين من مستشرقين وعرب قدَّروا هذا العلم وتلك الخاصية حق قدرهما، ولم يفهموها كما ينبغي٣، وهذا النقص الذي نبحث عنه في شعرنا الجاهلي وجهود القدامى فيه سببه
_________
١ صلاح عبد الصبور، قراءة جديدة لشعرنا القديم.
٢ انظر الفهرست لابن النديم ١٥٩، وانظر أيضًا المؤتلف والمختلف للآمدي في صفحات مختلفة.
٣ أوجست شبرنجر، ضمن دراسات المستشرقين حول الأدب الجاهلي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص٢٤٩ وما بعدها.
1 / 22
ضياع كثير من الشعر الجاهلي١، أما سبب الضياع فيمكن تلخيصه في: الرواية الشفوية، وروح الوثنية في بعضه، والنقاد الذين لم يلتفتوا إلّا إلى الشروح اللغوية فيه، وإلّا فكيف نفسِّر وصول بيت أو بيتين من قصيدة ووردودهما في كتاب لغة أو نقد؟
وللقدامى جهود كبيرة في رواية الأمثال وجمعها وتدوينها وتصنيفها وتبويبها، وهي جهود واكبت جمع الشعر الجاهلي وتدوينه، بل إن العلماء الذين رووا وجمعوا الشعر الجاهلي هم أنفسهم الذين جمعوا الأمثال، وإن الأسباب التي حدت بهم إلى جمع الشعر هي نفسها التي حدت بهم إلى جمع الأمثال، وهي اللغة والثروة اللغوية والأخبار.
فمن كتب الأمثال التي وصلت إلينا وحقِّقَت ونشرت:
أمثال المفضل الضبي "ت١٨٠هـ"، وأمثال أبي فيد السدوسي "ت١٩٨هـ"، وأمثال أبي القاسم بن سلام "ت٢٢٤هـ"، وفصل المقال في شرح أمثال أبي عبيد للبكري "ت٤٨٧هـ"، وأمثال أبي عكرمة الضبي "ت٢٥٠هـ"، وجمهرة الأمثال للعسكري "ت٣٩٥هـ"، وأمثال زيد بن رفاعة "ت: بعد ٤٠٠هـ"، وأمثال الطالقاني "ت٤٢١هـ"، وأمثال الميكالي "ت٤٣٦هـ"، والوسيط للواحدي "ت٤٦٨هـ"، ومجمع الأمثال للميداني "٥١٠هـ"، والمستقصي للزمخشري "ت٥٣٨هـ"، وزهر الأكم في الأمثال والحكم للحسن اليوسي "القرن الحادي عشر"، وتمثال الأمثال للعبدري "ت٨٣٧هـ"، والزاهر لابن الأنباري "ت٣٢٨هـ".
أما ما زال مفقودًا أو لم ينشر بعد فأكثر، ولا ضرر من ذكره:
-شرح الأمثال لأبي عبيد الهروي "ت٤١٤هـ"، ذكره القفطي ٣/ ١٢٦.
- الأمثال لعلي بن معدي الأصفهاني.
- الأمثال للأصعمي "ت٢١١هـ"، ذكره ابن خير الإشبيلي ٣٤٠هـ.
- تفسير الأمثال لابن الأعرابي "ت٢٣١هـ"، ذكره ياقوت ١٨/ ١٩٦.
_________
١ انظر في: طبقات ابن سلام ٢١، والمؤتلف والمختلف للآمدي ٨٣، الفهرست ١١٧، السيرة النبوية ١/ ١٨٦.
1 / 23
- الأمثال للقاسم بن محمد الأنباري "ت٣٠٥هـ" ذكره ابن النديم ١١٢، وياقوت ١٦/ ٣١٧.
- الأمثال لأبي زيد الأنصاري "ت٢٢٠هـ"، ذكره ياقوت ١١/ ٢١٦.
- مجمع الأمثال للبيهقي "ت٥٦٥"، ذكره ياقوت ١٣/ ٢٢٦.
- الأمثال للتوزي "ت٢٣٠هـ "، ذكره القفطي ٢/ ١٢٦.
- الأمثال للثعالبي "ت٤٢٩هـ"، موجود في المكتبة الأحمدية بتونس تحت رقم ٤٧٩٤.
- الأمثال للجاحظ "ت٢٥٥هـ"، ذكره ياقوت ١٦٠/ ١٠٩، ذكر كتابًا آخر عنوانه "التمثيل" ياقوت ١٦/ ١٠٨.
- الأمثال لعبيد بن شريه "ت٨١هـ"، ذكره ابن النديم ٩٠، والجاحظ في البيان والتبيين ١/ ٣٦١.
- الأمثال لابن حبيب "ت٢٤٥هـ"، ويسمَّى "المنمَّق" وهو أمثال علي وزن "أفعل"، ذكره ياقوت ١٨/ ١٥٥، وابن النديم ١٥٥.
- الأمثال ليونس بن حبيب "ت١٧٤هـ"، ذكره ابن خلكان في الوفيات ٧/ ٢٤٥، وياقوت ٢٠/ ٦٧.
- الأمثال للحياني.
- الأمثال للخالع الحسين بن محمد بن جعفر "ت٣٧٥هـ"، ذكره ياقوت ١٠/ ١٥٥.
- الأمثال للخوارزمي "ت٣٩٠هـ".
- الامثال للرياشي.
- سوائر الأمثال للزمخشري "ت٥٣٨هـ"، ذكره ابن خلكان ٥/ ١٦٩.
- ديوان التمثيل للزمخشري "ت٥٣٨هـ"، ذكره ياقوت ١٩/ ١٣٤.
- زبدة الأمثال للزمخشري، موجود في المكتبة الأحمدية بتونس تحت رقم ٥٦٤٥.
- الأمثال للزيادي إبراهيم بن سفيان "ت٢٤٩هـ"، ذكره القفطي ١/ ١٦٧، ياقوت ١/ ١٦١، وابن النديم ٨٦.
- الامتثال لمثال المنهج في ابتداع الحكم واختراع الأمثال لابن الربيع بن سالم، ذكره القفطي ٤/ ٤٧٥.
- الأمثال لابن السكيت "ت٢٤٤هـ"، ذكره ابن خلكان ٦/ ٤٠٠، وياقوت ٢٠/ ٥٢.
1 / 24