فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا
والقرآن؟
في القرآن تحليل دقيق لنزعات النفوس، وخلجات القلوب، وفيه حل لأكثر المشاكل الأخلاقية التي شقي في حلها الحكماء؛ ففيه أدب الرجل مع ربه، ومع نفسه، ومع زوجه، ومع آبائه، ومع أبنائه، ومع إخوانه، ومع أصدقائه، ومع أعدائه، ويندر أن تجد مشكلة خلقية لم يعن بحلها القرآن. وفي الحديث توضيح وتتميم لما في الكتاب العزيز، ويكفي أن تنظر فيما يخص الأدب من كتب السنة لتعرف صدق ما نقول.
وبعدما جاء في خطب العرب وشعرها، وما جاء في القرآن والحديث، وضعت كتب خاصة للسير والسلوك، من أقدمها كليلة ودمنة، الذي ترجمه ابن المقفع عن الفارسية، وقفاه بكتابيه الأدب الكبير والأدب الصغير، ووضعت أبواب مطولة في كتب الفقه عن آداب الزواج، ومعاملة الرقيق، ومعاملة المحاربين، وما إلى ذلك مما يهتم به الناس في الحرب والسلم، ويبنى عليه الاجتماع.
لم كانت المقامات والخطب المنبرية، التي أودعها الأدباء والمصلحون آراءهم في تهذيب النفوس، وتلطيف الطبائع.
كل ما قدمته كان ينبوعا صافيا ينهل منه الغزالي ويعمل وهو يضع مؤلفاته في الأخلاق، وقد تبينت أحكامه ، فرأيته لا يضع حكما إلا وقد اقتبسه من حكمة، أو مثل، أو بيت من الشعر، أو آية، أو حديث، أو أثر، إلى غير ذلك مما قرأه بنفسه أو سمعه من أساتذته، ولقد حاولت أن أرجح كل حكم لأصله، ولكني رأيت في ذلك منافاة للإيجاز، وهو شرط هذا الكتاب.
على أن الغزالي مع ترسمه لما سبقه من الآثار الأدبية لم يخل من حرية الفكر، والميل إلى التجديد، فقد خرج على الأشعري في بعض آرائه، وخالف الشافعية في بعض ما يقولون به، ولكنه على كل حال يساير المتقدمين، ولا يخالفهم - حين يخالفهم - إلا برفق واحتياط، كما يفعل الحذر الهيوب.
الفصل الأول
المصادر الفلسفية
درس الغزالي الفلسفة، ولكنه درسها بنية سيئة، درسها ليسبر غورها، ثم ينشر مساوئها في العالمين!
صفحه نامشخص