يسميها الغزالي آداب النكاح، وهو أصح في التعبير، لأن النكاح في كتب التشريع لا يراد به الجماع، وإنما يقصد به العقد. ولكنا قلنا آداب الزواج مجاراة للعرف الحديث.
وقد وضع الغزالي عدة آداب للنكاح، تعد في الواقع ترغيبا فيه، وهي في جملتها من الآداب العادية، ويهمني منها أدب واحد، أصاب الغزالي في الاهتمام به، وهو تربية النفس بالزواج على احتمال أعباء المعاش. فقد ذكر أن الفائدة الخامسة من فوائد النكاح «هي مجاهدة النفس ورياضتها بالرعاية والولاية. والقيام بحقوق الأهل والصبر على أخلاقهن، واحتمال الأذى منهن، والسعي في إصلاحهن ، وإرشادهن إلى طريق الدين، والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهن، والقيام بتربيته لأولاده؛ فكل هذه أعمال عظيمة الفضل، فإنها رعاية وولاية، والأهل والولد رعية، وفضل الرعاية عظيم. وإنما يحترز منها من يحترز خيفة من القصور عن القيام بحقها. وإلا فقد قال عليه السلام: «يوم من وال عادل أفضل من عبادة سبعين سنة.» ثم قال: «ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته.» وليس من اشتغل بإصلاح نفسه وغيره كمن اشتغل بإصلاح نفسه فقط، ولا من صبر على الأذى كمن رفه نفسه وأراحها، فمقاساة الأهل والولد بمنزلة الجهاد في سبيل الله. ولذلك قال بشر: فضل علي أحمد بن حنبل بثلاث: إحداها أنه يطلب الحلال لنفسه ولغيره. وقد قال عليه السلام: «ما أنفقه الرجل على أهله فهو صدقة، وأن الرجل ليؤجر في اللقمة يرفعها إلى في امرأته».
ويقرر الغزالي بعد هذا أن في الصبر على الأهل رياضة للنفس، وكسرا للغضب، وتحسينا للخلق. ويذكرني هذا الأدب بما يكرره سيدي الأستاذ الدكتور منصور فهمي في رسائله من كلمة «غرم الحياة وغنمها» ويريد الترحيب بما في الحياة من متاعب، في سبيل ما فيها من الطيبات. والحق أن احتمال الأهل والولد من عزائم الأمور. والشبان الذين ينفرون من الزواج إيثارا للراحة، إنما هم جبناء، ضعفاء، لا يصلحون للجلاد في ميدان الحياة. (19) الخروج من المظالم
ونريد أن نبين رأي الغزالي فيما يجب على التائب الذي ظلم الناس، لأن في ذلك بيانا لرأيه في احترام ما يلزم المرء من مختلف الحقوق. وقد بدأ الكلام في هذا الموضوع بقوله عليه السلام: «من كانت له عند أخيه مظلمة في عرض أو مال، فليتحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم».
مظلمة العرض
فإن كانت المظلمة متعلقة بالعرض، فواجب على المغتاب أن يندم ويتوب، ويتأسف على ما فعله، ليخرج من حق الله. ثم يستحل المغتاب ليحله، فيخرج من مظلمته. وينبغي أن يستحله وهو حزين متأسف نادم على فعله، لئلا يقارف بريائه معصية جديدة.
مظلمة المال
وإن كانت المظلمة في المال فعليه أن يميز الحرام، وأن ينظر في مصرفه.
فإن كان الحرام معلوم العين: من غصب، أو وديعة، أو غير ذلك، فأمره سهل. وإن كان متلبسا فلا يخلو أمره من أن يكون في مال هو من ذوات الأمثال، كالحبوب والنقود والأدهان، أو أن يكون في أعيان متمايزة: كالعبيد والدور والثياب.
فإن كان في المتماثلات، أو كان شائعا في المال كله، كمن اكتسب بتجارة يعلم أنه قد كذب في بعضها بالمرابحة، وصدق في بعضها، أو من غصب دهنا وخلطه بدهن نفسه، وفعل ذلك في الحبوب والدراهم والدنانير، فلا يخلو أمره من أن يكون معلوم القدر أو مجهولا. فإن كان معلوم القدر: كأن يعلم أن قدر النصف من جملة ما له حرام، فعليه تمييز النصف. وإن أشكل فله طريقان: أحدهما الأخذ باليقين، والآخر الأخذ بغالب الظن، وكلاهما قال به العلماء.
صفحه نامشخص