قال: بلى أقدر.
فقلت: احفظه، والملتقى بعد غد.
وجئت في الموعد فوجدته قد استظهر الكراس الأول فقلت: خذ الثاني، والموعد بعد غد.
ونهجت معه هذا النهج شهرا، فإذا به صار يمشي وحده، وأخيرا فاز بالشهادة وصار اليوم قاضيا مرموقا.
فلو لم نفرق تلك العشرات من الكراريس لما تجرأنا على مهاجمتها، فكلمة فرق تسد تستعمل أيضا في غير السياسة.
إن الذي لا يعرف من أين يهاجم وكيف يصادم لا يربح معركة. فالساعة الرملية تفرغ ما فيها في أربع وعشرين ساعة، ولا يعني حبة أن تزاحم أختها في الممر المعمول على القد، وهي لو فعلت لتعطل السير، ومثل تلك الساعة يجب أن تكون سيرورة أعمالنا اليومية كما قالت تلك الببغاء: كل بدوره أيها السادة.
هكذا يجب أن نعمل - الآن - ولا نهتم للغد، فالغد يهتم بشأنه.
ولكن الإنسان خلق عبدا لأحلامه وأمانيه، فلا يرضيه ما حوله بل يتطلع دائما إلى الأفق المجهول. يكون في جنة وحوله ثغور أجمل الأزهار ترنو إليه، فيعرض عنها ويفتش عن غيرها.
يكون في بحبوحة، ويخاف أن يفتقد الرغيف ولا يجدها، والذي يخاف على تعذر الحصول على رغيف الغد هو مختصر إنسان ... فالإنسان يعلم أنه ليس عليه أن يتوانى، فإضاعة دقيقة هي فقدان الرغيف الذي يحن إلى طلعته. يجب أن نجري مع الزمن، فاليوم الجديد هو حياة جديدة، إن النوم هو موت مؤقت وقد يؤدي بنا إلى موت أبدي إذا لم نستقبل الغد ببشاشة، ونحييه تحية المحب المشتاق النشيط، ونبدأ عملنا بلا مقدمة ولا تمهيد.
إن لذة الحياة هي في العمل المستمر، وترك العمل يولد التفكير بمصاعب الحياة ومصايبها، وهذا التفكير يولد الهم والقلق. فالحياة وجدت لكي نعيش فيها لا لكي نفلسفها؛ ولكي نبعد الهم يجب أن نخلق لأنفسنا أعمالا تسد الفراغ. يجب ألا نفكر في غدنا إلا عندما ينتهي نهارنا. وإذ ذاك نضع منهاج الغد، فبدلا من أن نجتر همومنا في قيلولتنا فلنستيقظ.
صفحه نامشخص