بدأت أتذكر على وجه التحديد المصير الذي ينتظرني ... والعجيب أني فعلت هذا بلا خوف وبلا مبالاة تامة ... كنت على استعداد لمقاومة الغريب، إن هو حاول قتل الرجل، وإنجاز ما فشلت في إنجازه، مقاومته حتى ولو اقتضى الأمر أن أفقد حياتي.
15
ولكن الغريب لم يقتلني، وأيضا لم يحاول قتل الرجل. وبدأت أتكلم وأحاول أن أشرح ما بدر مني، أو على وجه أصح ما لم يبدر مني، ولكنه وضع يده على كتفي، وقال: مفيش داعي ... البلطة دي كنت مجهزها ليك صحيح.
وسألته لماذا إذن لم يستعملها؟ وفوجئت به يقول إنه كان ينوي استعمالها حقيقة لو كنت قد أطلقت النار على الرجل وصرعته ... إجابة أذهلتني، وجعلتني أستمع للكلمات التي قالها بانتباه عظيم، ولكنه على أي حال لم يتكلم كثيرا ... قال ما معناه إنه، هو الغارق إلى أذنيه في عالم الجريمة والقتل، كان لا يمكن أن يسمح لي بأن أتردى فيه حتى لو أردت، فلو كنت قد فعلتها، لما كنت قد كففت أبدا عن فعلها ولأصبحت مثله، ولعشت الحياة المؤلمة الرهيبة التي يحياها، ولاضطررت دفاعا عن حياتي لأن أجتث أعمارا، وأيتم أولادا وأملأ الأرض بشروري وآثامي، أتعذب وأعذب الناس، وأعاديهم إلى درجة الموت، ويعادونني إلى درجة البغض، لأصبحت في النهاية ابن ليل غادرا خئونا كشلبي ... إذا تعاملت بشرف فقدت حياتي، وإذا لم أشك في كل الناس حتى أخلص الناس ... ضعت. - واخص على العيشة اللي لا تأمن فيها الناس ولا الناس يأمنوا لك ... ولا تصدق حد ولا حد يصدقك، ولا تخلص لحد ولا حد يخلص لك ... الموت أهون منها ... والمصيبة إنك فيها ما تقدرش تقتل روحك، تقتل كل الناس ولا تقتل روحك ... وعلشان كده كنت حالحقك وأرحمك وأخلص عليك، يا ريت ألاقي أنا حد يرحمني ويغلبني، ويخلص علي.
وسكت برهة يتأمل القمر ... ثم قال وكأنما يحدث نفسه: وعلى أقل تقدير لو كنت قتلته كنت حاعرف أنك ما عدتش تنفع الواحد يأمن لك ... النفر لما بيقتل بيصبح زي الديبة، ماعندهاش مانع تاكل ولادها، بينسعر زي ما يكون عقر كلب مسعور، ويبقى مالوش شغلة إلا أنه يعض، ويفضل يعض حتى صاحبه وصديقه ... وعلى أقل تقدير كنت حاتبلغ عني.
وسكت مرة أخرى وتناول مني المدفع وراح يتفحصه ... ثم استطرد: الظاهر إني لازم أفوق ... آني حاوديك في داهية معاية ... آني عذبتك قوي ... وطول المدة دي كنت باتمني أني أغمض وأفتح ألاقيني أبوك، وألاقيني راجل طيب وألاقيك ابني ... إنما الظاهر أبوك الحقيقي أولى بك ... اصلب حيلك.
كنت سادرا في إصغائي حين فاجأتني كلماته الأخيرة، فقد قالها بلهجة مغايرة تماما، وبصوت حاسم باتر لا تشوبه ذرة تردد أو رحمة ... وحدقت فيه بعيون واسعة مدهوشة، وبملامح صارمة جامدة قاسية لا تضطرب ... عاد يقول: فز قوم ... وما تبطلش جري إلا حدا بيتكم.
ودوى انفجار رهيب، وفوق كتفي تماما، مرت لفحة هواء ساخن مضغوط كادت تقتلع أذني، وأفقت على نفسي وأنا أجري ... ودوى انفجار بعيد آخر، وفوق رأسي مرت كتلة الرصاص تغلي وتطش وتثقب الهواء ... ولكني وحتى وأنا مستمر في انطلاقي، جرؤت على إلقاء نظرة - كنت أعرف أنها الأخيرة - على الغريب ... وربما كان خداع بصر، ولكني شعرت، وكأني أنا الثابت وكأنه هو الذي يجري ويتحرك ... بملامح بدت طاعنة في الكبر، وبأكتاف تنوء بما حملت، وبقامة قصيرة مضت تغوص مع الليل وتختفي في أعماقه، وتنضم إلى كتله السوداء المتراجعة أمام كاشفات الفجر وشعاعاته.
صفحه نامشخص