وعولج الجرح طبعا ... قام بعلاجه الدكتور معروف الذي أخذ الطب بالممارسة ... والذي كان يعمل حلاق صحة اسما ... بينما شهرته كطبيب ملء الأسماع، حتى كانوا يقولون إن يده النحيفة المعروقة التي تشبه في ليونتها ورقتها أيدي النساء أنجع من أيدي عشرات الأطباء الحقيقيين.
وقصة علاجه نفسها ودوري فيه قصة طويلة تصلح وحدها رواية، يكفي أن أقول إنها تمت تحت الكوبري المتحرك، حيث كان الغريب قد قرر أن يقيم إلى أن تشفى ساقه ... ولم أكن أتصور أن تحت الكوبري سيكون بهذا الأمان والاتساع ... وأن بإمكان الإنسان أن يعيش شهورا تحته دون أن يدرك المار فوق الكوبري من أمره شيئا ... لم أكن أعتقد أن الأمر سينقلب إلى متعة وتجربة جديدة مثيرة يحياها الإنسان وهو منحن، كأنه يحمل الكوبري فوق كتفيه، ويحس بمشاعر غريبة والماء يجري بجواره، وتحت هذا الارتفاع المنخفض، والأصوات ترن في مزيج من صدى الأرض والحديد ورخامة الماء ... أيام كثيرة قضيتها أحيا مع الغريب تحت الكوبري، وقد انقطعت صلتي بالعالم وبدنياي وعائلتي، وكأن لم تكن لي في يوم من الأيام حياة أخرى غير تلك ... انقطعت هكذا من تلقاء نفسها ... ودون أي قرار مني أو نية ... وقد أصبح شفاء الغريب هو كل ما أحفل له وأحيا من أجله ... وما أعمق الصلة التي نشأت بيني وبينه في تلك الفترة، وأنا أراه عن قرب ضعيفا قويا، عملاقا ومتألما، نادر الكلام وصاحب حكمة ... ما أكثر ما في صدره من أسرار، وما أقل ما يفضفض بها!
ولكني لا أزال أذكر من حادثة علاجه لحظة لا يمكن أن أنساها، تلك التي كان يتهيأ فيها الدكتور معروف لإعطائه حقنة المخدر الموضعي، حين بدأ وجه الغريب يشحب أمام عيني وعرقه ينبت، وعيناه تتسعان ونظراته تروغ.
تساءلت لحظتها لم كل هذا؟ حسبته أول الأمر من مضاعفات الجرح ... ولكن معروف حين سأله: إنت خايف ولا إيه؟
ونفى الغريب بسرعة، وبشدة أدركت ما لم أكن على استعداد لتصديقه أبدا، أن الغريب الهائل المهول بكل هيلمانه وجبروته خائف كأي طفل من الحقنة، أكثر من هذا حين هم معروف بغرز الإبرة في جلده وجدته يستمهله، ثم يشخط فيه ويأمره أن ينتظر حتى يلتقط أنفاسه، ثم يستسلم أخيرا ليعود يتراجع وينسحب إلى الخلف حتى يوقف حائط الكوبري انسحابه، ويستعمل معروف الإرغام حينئذ فيمسك بجلده، بقوة ويغرز فيه الإبرة ... ويا لها من لحظة روعت فيها بالغريب، وقد انقلب شخصا آخر! مجنونا ربما، أو قطة تعاني من أقصى درجات الرعب على استعداد لأن تنقض وتغرز أنيابها وتنهش ... لحظة أعادت إلى ذاكرتي ما حدث للغريب عقب مصرع شلبي، فعيناه فعلا كانتا قد اتسعتا بطريقة غير بشرية، ونظراته قد أصبحت حمما، والاصفرار لونه ولم يترك حتى أظافره، وكأنه يرى ماردا هائلا يهم بالانقضاض عليه والفتك به ... لحظة بلغ من بشاعتها أن الغريب حين انتفض مستديرا لمعروف عقب انتهاء الحقنة ... استدار بطريقة شيطانية مرعوبة حتى خلت أنه يستدير ليطبق على رقبة الرجل، ولا يتركه إلا جثة هامدة ... لحظة طالت وامتدت وارتسم خيالها على الماء المتموج الجاري قريبا منا، كلوحة خالدة مهتزة للإنسان حين تقلبه أقصى درجات الرعب إلى وحش غاضب مخيف. •••
وفي ساعة راحة من الألم ناقشته في أمر وردة ... كان احتكاكي بها قد ازداد في الفترة الأخيرة، وازداد معه اشمئزازي منها حتى بدأ يتحول إلى اشمئزاز منه ... كنت أشكو له منها، فيهز رأسه هزة من لا يبالي ولا يهمه الأمر ... ولم أكن أستطيع أن أهضم أن يصر رجل مجرب خبير مثله على الاستحواذ على امرأة مثلها لا تليق به ولا تقيم لسطوته حسابا ... كان راقدا ينش الذباب عن وجهه بمنشة من الخوص صنعتها له فأغلق عينيه، وأحسست أنه خجلان مني ومكسوف، ولا يجد ما يقوله ليبرر موقفه ... وماذا يقول؟ ... ومن الواضح أنها لا تقيم لعلاقتها به وزنا، ولا تحفل بطلباته ورسائله ... والمرة الوحيدة التي زارته فيها تحت الكوبري كانت بإلحاح شديد مني، ولأجل خاطري أنا ... وبثمن آه لو عرفه الغريب! ... أغلق عينيه طويلا ثم فتحهما في النهاية، ليقول لي إنه خلاص قد انتهى من أمرها إلى قرار، وأنه سيطلقها ويدعها تذهب لحال سبيلها ... ولكني من الطريقة التي قال بها «قراره» عرفت أنه قد يكون مخلص النية فعلا. ولكن قراره هذا سيظل كلاما في كلام ومع إيقاف التنفيذ.
لماذا يصر إنسان كالغريب صاحب السطوة والنفوذ على الاحتفاظ بإنسانة كوردة؟ أهو الحب كما يقولون؟ أم لكي تظل كالشاهد الحي على عجز نفوذه، وعلى أنه هو الآخر له حدوده مثل أي إنسان؟
القرار في الواقع جاء من ناحيتها هي حين ذهبت إليها في اليوم التالي فلم أجدها، وقال أهل العزبة إنها أخذت ملابسها، وكل ما يخصها وذهبت. إلى أين؟ لا أحد يعرف.
وبحماس الصبية نقلت له النبأ غير عابئ بما قد يحدثه فيه، ولم أعتقد للحظة أن سيكون للنبأ مثل هذا الوقع، وأني بعد ساعات سأجد في عيون الغريب آخر ما يتصوره العقل ... دموعا حقيقية.
المهم ... كان الجرح قد قارب على الشفاء، ورائحته بدأت تحتمل، والغريب تمالك نفسه بعض الشيء، وأصبح في استطاعته أن يتسلى في النهار بالسنارة واصطياد السمك، حين ظللت أدبر في نفسي أمرا طول اليوم، وأنتظر حلول الليل لأواجهه به. كنت قد ألقيت نظرة تأمل على حياتي، فوجدت أني فعلت كمن رقص على السلم، فلا هو صعد أو هبط، ولا هو أصبح ابن ليل أو عاد إلى دنيا النهار. بكل تهور تركت حياتي وأهلي وانضممت للغريب أجري وراء أحلامي، فماذا فعلت بنفسي أكثر من أني بددت حياتي الواقعة، وبددت كذلك أحلامي، ولم يعد لي سوى دور الخادم أو الصبي؟ كنت قد وصلت إلى قرار، ورحت أنتظر على مضض اللحظة التي أعلنه فيها.
صفحه نامشخص