38

آخر الدنیا

آخر الدنيا

ژانرها

قلت له: مش خايف مني؟

قال بهدوء آمر هامس ينفذ إلى النخاع: روح.

وبخطوات مضطربة مضيت أتخبط في الطريق إلى بيتنا القريب.

7

قطع الشوربجي كلامه مرة ليقول: من كان يصدق أنني سأعود إليه بعدما نفدت بجلدي منه، ومن كان باستطاعته أن يصدق أن علاقة طويلة ستنشأ بيني وبين الغريب، علاقة أصبح فيها محل ثقته حتى ليأتمنني على زوجته الحلوة الصغيرة «وردة»، أحلى وأجمل وأنضج من رأت عيناي؟

لا بد أن الإنسان هو الذي يتمتع وحده بتلك الخاصية المجنونة خاصية أن يرى الخطر ماثلا أمام عينه أحيانا، فلا يهرب منه كما تفعل الكائنات، ولكنه بكل طيش يواجهه ويسمي هذا شجاعة ويفخر بها ... لا بد، وإلا لما كانت هناك قوة في الوجود تستطيع أن تعيدني إلى حيث يختفي الغريب، محملا بكل ما استطعت العثور عليه في بيتنا من طعام، وبقلة الماء المخصصة لأبي، والتي كان لا يجرؤ أحد من أهل البيت على لمسها. •••

تلك كانت قصة لقائي بالغريب لأول مرة. والذي حدث أنها لم تكن الأخيرة، فلقد ظللت أياما كثيرة أقابل الغريب، وأحمل له الطعام والماء، وكل المطالب الصغيرة التي يحتاجها اختفاؤه الكامل. ولم تكن المهمة سهلة؛ فالطعام في القرى لا يباع أو يشترى، وكان لا بد من التحايل الكثير لإحضاره من بيتنا، واختلاق الحجج للتزود ببعضه من بيوت أهلي وأقاربي. وكان الغريب أول الأمر يعاملني بحرص شديد، فما ذهبت له مرة بالطعام ووجدته في المكان المتفق عليه. كنت أجد مكان الانتظار دائما خاليا فأقف، وأظل أتأرجح بالشك والخوف، حتى يخرج علي من حيث لا أدري. وبعد أن يكون قد اطمأن إلى أني بمفردي ... وكنا لا نلتقي إلا ليلا في تلك الفترة الكائنة بين المغرب والعشاء ... ورغم سني الصغيرة وغرابة هذه العلاقة، فلم يطلب مني الغريب أبدا أن أبقي ما يحدث بيننا سرا، ولكني أنا كنت على استعداد لأن أموت قبل أن أطلع عليه أحدا ... وما أروع تلك الأيام القليلة التي عشتها أمينا على سر الغريب وصلته الوحيدة بالحياة ... كنت أحس طوالها أني أخيرا، وبطريقة لم تخطر لي على بال، قد استطعت أن أدخل ذلك العالم الذي عشت أحلم بالحياة فيه. وما أروع المرات التي شاطرته فيها الطعام، أو التي طالت جلستنا فيها ودار الحديث ... حديث كنت أقوم أنا بأغلبه، تاركا للغريب مهمة تشجيعي على المضي فيه، أو قطع حبل استماعه بسؤال. وما أتفه ما كانت تبدو لي أحداث حياتي الكبيرة، وأنا أحدثه عنها ... ما أتفه ما كانت تبدو خلافاتي مع الناس وخناقاتي واشتباكاتي، وأنا أقولها للرجل الذي يقتل الناس لأي هفوة، وأحيانا بلا هفوة!

وقد اقتضاني الأمر لقاءات كثيرة، وأحاديث ممتدة لأستطيع أن أراه رأي العين، وأتعرف على ملامحه. كان أول ما يجذب انتباهك حين تراه شارب أسود كث، بدأت تظهر له شعرات ناصعة البياض يمتد بعرض وجهه. وتحس به يبتلع ملامحه كلها، ويستولي على عينيك، ولا يدع لك اهتماما آخر توجهه إلى أنفه الحاد الرفيع الذي ينتهي فجأة، وكأنما بمطب عند شاربه، ولا عينيه الضيقتين اللتين تآكلت بعض رموشهما واحمرت. وكان أعجب ما فيه يداه؛ إذ كانتا صلبتين صغيرتين أصغر حجما من يدي أنا وأقصر أصابع، وحتى «بلغته» كانت صغيرة، تحس أنها فصلت لصبي أو أنها بلغة فتاة ... ومرة لاحظت أنه بالكاد يلاحقني في الطول إن لم أكن أنا أطول منه بقليل، وأنه حين ينهي ضحكه بشخشخة صوتية اعتادها؛ ربما ليضفي نوعا من الخشونة على ضحكه.

بعد ليال كنت قد أخذت عليه إلى درجة أني سألته مرة سؤالا لا يوجهه إلا «عيل» مثلي - على حد رأيه - أو مجنون. سألته لماذا هو قتال؟ ولماذا لا يحيا كالناس الذين خلقهم الله وسواهم؟ وماذا دفعه في الطريق؟ ضحك للسؤال وشخشخت ضحكته، وقال: الله يقطعك يا شيخ ... وأنت قد السؤال ده؟ طب اسأل حاجه تانية.

ولكني وبطريقة صبيانية، وكأنما أتدلل على أبي، ألححت عليه أن يجيب ... حينئذ فقط، وبعد إلحاح، سهم وشردت نظرته حتى خفت أن يكون مشغولا بتتبع مصدر ما للصوت؛ إذ ما كان أرهف أذنيه لأقل الأصوات وأضألها! ثم قال: الحق الحق مش عارف، إنما اللي أقدر أقول لك عليه إني كنت كل مرة يا قاتل يا مقتول.

صفحه نامشخص