24

آخر الدنیا

آخر الدنيا

ژانرها

ولم يعد لمنزل العائلة لا ليلتها ولا ما تلاها من أيام وليال، وبحثوا عنه في كل مكان فلم يجدوه أبدا، كان بلا ريب قد غادر المدينة كلها إلى غير رجعة.

آخر الدنيا

حين ذهبت شمس الشتاء الصغيرة، وجاءت الشمس الكبيرة، وهبت نسمات الحر تؤذن بقرب الامتحان ... كان أهم ما يشغل باله هو ضياع تلك القطعة الفضية المسدسة الأحرف ذات اللمعة الهادئة الوقورة والنعومة الخشنة التي يبعث ملمسها الفرحة والأمان.

وحين رجوعه إلى البيت وقد ضعضعته رحلة العودة، وملأت جسده النحيف الأصفر بالعرق الصغير الأبيض، مد يده في جيب البنطلون وحين لم تلمسها كذب أصابعه وعاد يمدها. وكلما أكدت الأصابع أنها غير موجودة ازداد تكذيبا لها ... ولم يبدأ الخوف الأكبر ينتابه إلا حين فتش جيوب البنطلون كلها والجاكتة والجلباب ومكان وقوفه، وكل بقعة من أرض الغرفة المظلمة التي لا يأتيها النور إلا من كوة صغيرة قرب السقف ... لم يبدأ الخوف الأكبر ينتابه إلا حين فتش الحجرة وما فيها بحرص وإمعان، وكأنما يفتش كفه ... ولم يجدها.

حينئذ فقط كانطلاق الاستغاثة في ريف ساكن، كالخبر القاصم للظهر ... كالمصيبة المفاجئة، أدرك أنها ضاعت ولم تعد في حوزته ... ووجد نفسه ينهار على الأرض نصف خالع لملابسه، وهو لا يعرف شيئا، ولا يفكر في شيء ولا ما يجب عليه أن يفعل، وكأن عقله قد ضاع منه أيضا ... وطالت الجلسة وامتدت وهو يحس بها وكأنها لم تبدأ، وكأنها جريمة أن يتحرك ... لم يبدأ يتحرك إلا حينما بدأ صوت رفيع يعلو داخله ويقوى، ويؤكد له أنها أبدا لم تضع، وأنها لا بد موجودة في مكان ما، وما عليه إلا أن يجد المكان ليجدها. هنا فقط تحرك وأكمل خلع بذلته، وأكمل ارتداء جلبابه وعاد يفتش الحجرة ومحتوياتها من جديد، ثم خرج إلى فناء الدار الواسع غير المنتظم، وصعد إلى السطح، وبعود من الحطب عسعس فيما أمام البيت من تراب، بل الكناسة أيضا، فرزها بالعود وبعينيه وبكل قدرته على التمييز ... ولكن بحثه في كل تلك الأمكنة كان نوعا من أداء الواجب ... لم يكن قد فقد شيئا قبل الآن ... فلم يكن أبدا قد امتلك شيئا ... ولهذا فهو لم يجرب أيضا أن يبحث عن شيء، ولا أحس أبدا بهذا المزيج الغريب من الأفكار التي تفزعه ويطردها، فتعود أقوى، فيكاد يبكي مخافة أن يكون ما يحدث له هو الجنون الذي يرسلون من أجله الناس إلى السراية الصفراء.

لا يهم الآن أين هو أو ماذا يفعل، ولا إن كان قد قدر له أن يظل حيا إلى يومنا هذا؛ فربما عاش واغتنى وبنى لنفسه قصرا وأحس بأهمية أشياء كثيرة، ولكنه أبدا لا يمكن أن يكون قد أحس بمثل الأهمية التي أحسها يوما ما لتلك القطعة الفضية المسدسة الأحرف ... ليس لأنها أول نقود أعطاها له أبوه ... فأبوه كان دائما يعطيه أشياء كلما جاء لزيارتهم ... والحقيقة أنه لم يكن يأتي كثيرا ... كل بضعة شهور مرة ... يفاجأ حين يعود من المدرسة بصوته الحبيب يأتيه من وراء الباب قبل أن يفتح له الباب ... أو يكون الليل قد استتب وسكنت الأصوات كلها، ثم مر قطار آخر الليل بصفيره الحزين النعسان ... ومرت بعده دقائق، وإذا بالقبضة تدق على الباب، وبالصوت أحب صوت يقول: افتحوا أنا فلان ... ولهذا فما من مرة كان يعود فيها من المدرسة ويطرق الباب، فما من مرة يفوت فيها آخر قطار إلا ويستجمع نفسه استعدادا للمفاجأة، واستعدادا لما قد يعقبها من خيبة الأمل.

وإذا جاء أبوه أخذه تحت إبطه واحتضنه وقبله قبلة سريعة في خده، ودس يده في جيبه وأخرج له شيئا: حبة كراملة ... قلم رصاص جديد غير مبري، وأحيانا يدس يده ولا يخرج شيئا، ويحس بأبيه محرجا فيفتعل سببا، ويختفي لينقذه من الإحراج ... وفي كل مرة يأتي يظن أنه قد استحوذ عليه أخيرا، وأنه لن يفلت منه أبدا. وفي كل مرة يحدث ما يؤلمه، فيعود من المدرسة أو من الخارج ليجد أن أباه قد ساهاه وذهب. يدور في أنحاء البيت ويصعد إلى السطح، ويجري إلى الجامع يفتش صفوف المصلين الراكعين أو الواقفين ... أو حتى الساجدين الذين قد اختفت كل معالمهم ولم تبق لأيهم سوى قدم واحدة واقفة تسند الجسد، وبلمحة واحدة يلقيها على الأقدام كان يدرك أن أيا منها ليست قدم أبيه.

ويلهث حينئذ إلى المحطة لعله في مكان ما في البلدة لم يسافر بعد، ولا بد سيأتي لركوب القطار، وتمر القطارات ذاهبة وآتية ولا يظهر له أثر، حتى إذا مر قطار الرابعة تملكه اليأس الكامل، وجازف بنفسه ومر من أمام «الراس» في طريقه إلى البيت يكاد يبكي ... وأحيانا يبكي ويحس أن البكاء لا يعبر أبدا عن ضيقه، وأن الحل الوحيد أن يساهيه القطار، ويظل يدهمه ويدفعه حتى يوصله إلى بعيد ... أبعد بعيد ... آخر الدنيا.

ويصل البيت وتسأله الجدة أين كان. فيتخابث هو ويسألها أين أبي؟ ... فتجيبه بتلك الكلمة التي يحس بها كزلطة السكة الحديد حين تدق الرأس: سافر. لكم كره السفر وتمناه؛ فهو الذي يأخذ أباه منه، وهو أيضا الكفيل بأن يذهب به إليه ... وكأنما تتذكر الجدة ... إذ لا بد أن تعنفه على شيء حدث في أثناء زيارة أبيه ... ثوب متسخ، أو شحوب زائد عن الحد، أو كلمة شكوى تفوه بها، وبيد جافة معروقة تأخذ أنفه بين إصبعيها لتمسحه وتعلمه النظافة، وإن تململ ثبتته في مكانه بقرصة أذن. وإن قال: «يا اما» لكزته قائلة: اسكت يا ابن النجسة ... ويحس بالخجل الشديد كأنها عرته أمام الناس، ومع أنه يعلم تماما أن جدته فظة المخارج فقط، وأن كلامها مع الجميع شتائم.

ويحين العشاء ... والعشاء دائما خضار من الغيط مسلوق أو أرز بالتقلية، والطبلية تزدحم بأيد كبيرة خشنة، وحتى النساء اللاتي يخجلن في حضرة الرجال لا يخجلن ساعة الطعام، ويروح الكل يأكل في نهم، والأيدي تتسابق بلقم كالفئوس تفرغ الغموس في ومضة، ويده صغيرة كيد القطة يمدها خلسة ويدعي الأكل، خائفا أن يدرك أحد أن الطعام لا يعجبه وأنه دلوعة وأنه طفل، فالجميع كبار يعاملونه كالكبير، ولا يمكن أن يجعلهم يتصورون أنه صغير. ولا تكون به حاجة للادعاء فلا أحد يفطن إليه والكل مشغول عنه، والقطط وحدها هي التي تهرب من القبضات الساحقة الزاجرة وتستهيفه وتتكاثر عليه، تمد يدها قبل يده، فإن حاول سبقها زجرته وماءت في وجهه وأخافته.

صفحه نامشخص