20

آخر الدنیا

آخر الدنيا

ژانرها

ومع هذا كله فقد كان بساق واحدة.

أو على وجه الدقة بساقين؛ ساق خلقها الله، وساق صنعها بنفسه على هيئة عكاز عظيم الشأن، تفنن في مسحه وتنعيمه وتزويقه، وحفر الحمام والعصافير والنساء الممسكات بسيوف عليه.

وإذا كانت ساقه التي خلقها الله وسواها تمشي في أمان الله وبصوت غير مسموع، فساقه التي خلقها هو لها دبيب معروف، وفي أي مكان من البلد يمكن أن تسمعه ... على الترعة، وعند المحطة، وفي القهوة، وفوق أسطح البيوت، وأحيانا في كل الأماكن مجتمعة. ساق يستطيع أن يعدي بها المصارف، ويقفز بها من فوق أكياس القطن، وينزل بها في «الباط» لشباب البلد ويغلبهم، ويدخل معهم في مسابقات جري على السكة الزراعية ... والغريب أنه يفوز.

وأحمد العقلة لا تستطيع أن تحدد له سنا أو هيئة أو حرفة حتى ولا قامة ... إذا أردته قصيرا وجدته، طويلا وجدته، أحيانا تبدو لك عينه اليسرى عوراء عن بعد وسليمة عن قرب، وتبدو اليمنى أحيانا كذلك، وله كتف أعلى من كتف، ووجه لا يريك إياه. وإنما إذا حادثته ظل كالحمار الذي تحاوره ذبابة يخفضه ويعليه، وينظر إلى جانب أو آخر، كأنما يلهيك عن رؤية وجهه؛ ربما لعلمه أنه لا يخضع خضوعا حرفيا لمقاييس الجمال المتعارف عليها.

إذا ضحك لا يضحك، وإذا حزن لا يحزن، وإذا تكلم تهته. وهو كثير الأسفار كثير الغياب، كثير المشاريع والتقاليع، يبدأ عملا من الأعمال أو حرفة من الحرف وينجح فيها، حتى إذا ما بلغ قمة النجاح تركها فجأة وبلا مقدمات إلى غيرها. قيل مرة إنه لو حافظ على ما كسبه؛ لأصبح من ذوي الأطيان، ويطير هو دائما وراء القائل مهددا إياه بعكازه، لاعنا أباه وأبا الأطيان.

تجده يوما في البلد ويوما في القاهرة ويوما في العريش، ويوما جالسا على قهوة بلدي في السلوم يروي لعربي بعقال حادثا غريبا وقع له في عنيبة على الحدود بين مصر والسودان، ومقسما بالله العظيم وبرحمة أبيه أنه حدث.

وإذا سافر سافر بالإكسبريس؛ فهو لا يطيق بطء القشاش، وإذا ركبه، ركبه في الدرجة الأولى العليا أي فوق سطح القطار، وإذا أراد أن يهبط لا يهبط كبقية خلق الله في المحطات، بل يهبط بين محطتين، والإكسبريس مارق بأقصى سرعة.

وكل شيء فيه يتحرك، ودائم التحرك ... يده تتحرك لتقص شعر واحد بطريقة مدهشة للغاية، أو تمتد إلى كيس خفي، وتخرج منه ولاعة غريبة الشكل صنعها بنفسه لتفرجك عليها، أو تقبض على يد أخرى، وتضغط عليها وتكاد تكسرها للهزل ليس إلا.

ولسانه دائم التحرك، يعدل حكاية رواها أحدهم ويكذبه فيها، أو يلقي إليك بخبر يذهلك، أو يخرجه لبنت حلوة يتصادف مرورها أمام الدكان.

وإذا حلق أحيانا لا يطلب من بعض زبائنه أجرا، وأحيانا يطير وراء الزبون من هؤلاء مطالبا بأجره، مهددا بضربة عظمى من عكازه ... وممكن أن تدخل دكانه فتجد نفسك وكأنك في متحف، فالدكان عشة من البوص أقامها بنفسه وطلاها بنفسه وبيضها بنفسه، ونقش أسفلها وأعلاها بنفسه أيضا. واللمبة الغاز من صنع يده، بل هو أيضا صانع البرنيطة التي تحجب ضوءها عن السقف ... وهو الذي دندشها بالرسوم والنقوش والآيات القرآنية ... ولا بد أن يفتح لك صندوقا من داخل الصناديق، ويخرج لك ماكينة حلاقة جديدة تلمع، ويقسم بالأيمان المغلظة أنه أرسل في طلبها من ألمانيا، وأنها جاءت باسمه رأسا. ولا تدهش إذا عثرت في ركن من أركان الدكان على تلسكوب، أو ميكروسكوب «يستعمل عدساته لإشعال السجاير من ضوء الشمس»، أو مدفع مترليوز من مخلفات الجيش.

صفحه نامشخص