وسكتت سلمى وظلت ملامحها تتكلم، ثم حنت رأسها وأرخت ذراعيها، وانخفض هيكلها، كأن القوى الحيوية قد تركتها فبانت لناظري كغصن قصفته العاصفة وألقته إلى الحضيض ليجف ويندثر تحت أقدام الدهر، فأخذت يدها المثلجة بيدي الملتهبة، وقبلت أصابعها بأجفاني وشفتي، ولما حاولت تعزيتها بالكلام وجدتني أحرى منها بالتعزية والشفقة؛ فبقيت صامتا حائرا متأملا، شاعرا بتلاعب الدقائق بعواطفي، مصغيا لأنة قلبي في داخلي، خائفا من نفسي على نفسي.
ولم ينبس أحدنا ببنت شفة في ما بقي من تلك الليلة؛ لأن اللوعة إذا عظمت تصير خرساء، فبقينا ساكتين جامدين كعمودي رخام قبرهما الزلزال في التراب، ولم يعد أحدنا يريد أن يسمع الآخر متكلما؛ لأن خيوط قلبينا قد وهت حتى صار التنهد دون الكلام يقطعها.
انتصف الليل، ونمت رهبة السكوت، وطلع القمر ناقصا من وراء صنين، وبان بين النجوم كوجه ميت شاحب غارق في المساند السوداء بين شموع ضئيلة تحيط بنعشه، وظهر لبنان كشيخ لوت ظهره الأعوام وأناخت هيكله الأحزان وهجر أجفانه الرقاد، فبات يساهر الدجى ويترقب الفجر، كملك مخلوع جالس على رماد عرشه بين خرائب قصره. إن الجبال والأشجار والأنهار تتبدل هيئاتها ومظاهرها بتقلب الحالات والأزمنة، مثلما تتغير ملامح وجه الإنسان بتغير أفكاره وعواطفه؛ فشجرة الحور، التي تتعالى في النهار كعروس جميلة يلاعب النسيم أثوابها تظهر في المساء كعمود دخان يتصاعد نحو اللاشيء، والصخر الكبير، الذي يجلس عند الظهيرة كجبار قوي يهزأ بعاديات الزمن يبدو في الليل كفقير بائس يفترش الثرى ويلتحف الفضاء. والساقية التي نراها عند الصباح متلمعة كذوب اللجين ونسمعها مترنمة بأغنية الخلود، نخالها في المساء مجرى دموع يتفجر من بين أضلع الوادي، ونسمعها تندب وتنوح كالثكلى. ولبنان الذي ظهر منذ أسبوع بكل مظاهر الجلال والرونق عندما كان القمر بدرا والنفس راضية قد بان في تلك الليلة كئيبا منهوكا مستوحشا أمام قمر ضئيل ناقص هائم في عرض السماء وقلب خافق معتل في داخل الصدر.
وقفنا للوداع، وقد وقف بيننا الحب واليأس شبحين هائلين؛ هذا باسط جناحيه فوق رأسينا، وذاك قابض بأظافره على عنقينا، هذا يبكي مرتاعا، وذاك يضحك ساخرا. ولما أخذت يد سلمى ووضعتها على شفتي متبركا دنت مني ولثمت مفرق شعري، ثم عادت فارتمت على المقعد الخشبي وأطبقت أجفانها وهمست ببطء: أشفق يا رب وشدد جميع الأجنحة المتكسرة.
انفصلت عن سلمى وخرجت من تلك الحديقة شاعرا بنقاب كثيف يوشي مداركي الحسية، مثلما يغمر الضباب وجه البحيرة، وسرت وأخيلة الأشجار القائمة على جانبي الطريق تتحرك أمامي كأنها أشباح قد انبثقت من شقوق الأرض لتخيفني، وأشعة القمر الضعيفة ترتعش بين الغصون كأنها سهام دقيقة تريشها أرواح الجان السابحة في الفضاء نحو صدري، والسكينة العميقة تخيم علي كأنها أكف سوداء ثقيلة ألقتها الظلمة على جسدي.
كل ما في الوجود وكل معنى في الحياة وكل سر في النفس قد صار قبيحا رهيبا هائلا، فالنور المعنوي الذي أراني جمال العالم وبهجة الكائنات قد انقلب نارا تحرق كبدي بلهيبها وتستر نفسي بدخانها، والنغمة التي كانت تضم إليها أصوات المخلوقات وتجعلها نشيدا علويا قد استحالت في تلك الساعة إلى ضجيج أروع من زمجرة لأسد وأعمق من صراخ الهاوية.
بلغت غرفتي وارتميت على فراشي كطائر رماه الصياد فسقط بين السياج والسهم في قلبه. وظلت عاقلتي تراوح بين يقظة مخيفة ونوم مزعج، وروحي في داخلي تردد في الحالتين كلمات سلمى: أشفق يا رب وشدد جميع الأجنحة المتكسرة.
أمام عرش الموت
إنما الزيجة في أيامنا هذه تجارة مضحكة مبكية يتولى أمورها الفتيان وآباء الصبايا، الفتيان يربحون في أكثر المواطن والآباء يخسرون دائما، أما الصبايا المنتقلات كالسلع من منزل إلى آخر فتزول بهجتهن، ونظير الأمتعة العتيقة يصير نصيبهن زوايا المنازل حيث الظلمة والفناء البطيء.
إن المدنية الحاضرة قد أنمت مدارك المرأة قليلا، ولكنها أكثرت أوجاعها بتعميم مطامع الرجل، كانت المرأة بالأمس خادمة سعيدة فصارت اليوم سيدة تعسة. كانت بالأمس عمياء تسير في نور النهار، فأصبحت مبصرة تسير في ظلمة الليل، كانت جميلة بجهلها فاضلة ببساطتها قوية بضعفها، فصارت قبيحة بتفننها سطحية بمداركها بعيدة عن القلب بمعارفها. فهل يجيء يوم يجتمع في المرأة الجمال بالمعرفة والتفنن بالفضيلة، وضعف الجسد بقوة النفس؟ أنا من القائلين إن الارتقاء الروحي سنة في البشر، والتقرب من الكمال شريعة بطيئة لكنها فعالة، فإذا كانت المرأة قد ارتقت بشيء وتأخرت بشيء آخر؛ فلأن العقبات التي تبلغنا قمة الجبل لا تخلو من مكامن اللصوص وكهوف الذئاب. ففي هذا الجبل الشبيه بالغيبوبة التي تتقدم اليقظة، في هذا الجبل القابض بكفيه على تراب الأجيال الغابرة وبزور الأجيال الآتية، في هذا الجبل الغريب بميوله وأمانيه لا تخلو مدينة من امرأة ترمز بوجودها عن ابنة المستقبل. وسلمى كرامة كانت في بيروت رمز المرأة الشرقية العتيدة، ولكنها كالكثيرين الذين يعيشون قبل زمانهم قد ذهبت ضحية الزمن الحاضر، ونظير زهرة اختطفها تيار النهر قد صارت قهرا في موكب الحياة نحو الشقاء.
صفحه نامشخص