30 مايو
لماذا لا أكتب إليك؟ أنت حازم مفكر، وتسأل مثل هذا السؤال البسيط! قد تكون حسبتني سعيدا، وإنني بالاختصار قد وجدت شخصا آخر، صديقا أعز منك، وإنني لقيت، لست أدري من ...
من الصعب جدا أن أخبرك بالتفصيل كيف عرفت أقدس بنات جنسها، إنني سعيد، سعيد فوق الوصف؛ فلذا لا أستطيع أن أحدثك بكل شيء.
هي ملك، بل معبودة، ولكن ... هذه ألقاب ستقول إن كل محب يهبها جزافا لحبيبته، إنها الكمال كله، ولكنني لا أستطيع وصف هذا الكمال، ولا أقدر أن أصف مبلغ افتتاني به.
هذه البساطة مع فهم يبز صفاؤه كل صفاء! هذا اللطف وهذه الرشاقة! هذه الدعة وهذه العواطف. كلا كلا، إن هذه إلا تعبيرات واهية لا تظهر في ثناياها حقيقة طبيعتها في المستقبل، ولكن لا الآن، فربما لن تسنح لي فرصة أخرى.
بل اسمع الحقيقة، إنني منذ بدأت أكتب هممت مرارا بإلقاء القلم والإسراع إلى إلقائها، عقدت نيتي هذا الصباح على إمضاء سحابة اليوم بمنزلي، على أنني بالرغم من هذا طالما نظرت من النافذة لأرى إذا كانت الشمس لا تزال طالعة.
عبثا أحاول العمل بالعكس، ذهبت لزيارتها، نعم يا صديقي وعدت الآن، والآن سأتتبع كتابتي وأنا أتناول طعام الإفطار. آه ما أجمل رؤيتها مع إخوتها وأخواتها الصغار، رؤيتها ... ولكنني إذا استمررت على هذا الحال فسوف لا تعلم شيئا، بل ستكون في النهاية كما كنت في البداءة، سأحاول أن أصلح هذا التخبط، وأن أخبرك الخبر بنظام، فأعرني التفاتك:
ذكرت لك في كتاب ماض تعرفي إلى نائب الأمير ودعوته إياي لزيارة مملكته الصغيرة، كما أسمي بحق مسكنه الحالي، ولقد تأخرت زيارتي طويلا، حتى إنني لم أكن لأقوم بها لولا الصدفة التي كشفت لي عن الكنز الذي يخبؤه هذا المكان. وافقت على الاشتراك في حفلة قروية إجابة لطلب بعض شبان البلدة، واتفقت مع فتاة على أن تكون رفيقتي، وهي لطيفة المحضر ذات حسن عادي، ولو أنها تفخر به كثيرا. واتفقنا على أن أصحب رفيقتي وإحدى قريباتها في مركبة، ونمر بشارلوت التي وعدت بحضور المرقص. وفي الطريق إلى بيت النائب أخبرتني صاحبتي أن علي الآن انتهاز الفرصة لرؤية فتاة جميلة جدا، قائلة: «سأقدمك إليها يا سيدي.» فقالت قريبتها: «ولكن حذار من الافتتان بها!» فسألتها: «ولم؟» فأجابت صاحبتي: «لأنها مخطوبة إلى شاب هو في الحقيقة جدير بها، وقد توفي والده فجأة، فذهب ينظم شئونه ويسعى وراء مركز في البلاط.» فلم أعبأ بكل هذا؛ لأنني أيها الصديق لم أمل لامرأة قط منذ فقدت ليونورا، ولما وصلنا المنزل كانت الشمس تتوارى وراء قمم الجبال، واشتدت الحرارة واحتبس النسيم، وتجمع في الأفق غمام ينذر بدنو العاصفة، وأدركت السيدتان الخطر وخافتا أن تشوب صفوهما المنتظر شائبة، وكان علي أن أقشع مخاوفهما، فتظاهرت بالسكون وعدم المبالاة، وهدأتهما قائلا إنني أدرى بتقلبات الجواء، وإنه لن يقع شيء مما يرهبان. وتركت المركبة، وجاءت وصيفة ترجونا انتظار مولاتها قليلا، ولما تخطيت الساحة المؤدية إلى الدار المنفردة، وصعدت بعض درجات قادتني إلى الردهة، شهدت بها ستة أطفال لا يتجاوز أكبرهم الحادية عشرة، ويبلغ أصغرهم عامين، يلعبون ويتواثبون حول فتاة متوسطة القامة، رشيقة الهندام، ترتدي ثوبا بسيطا أبيض ذا أشرطة قرنفلية يضرب لونها إلى الصفرة، وكان بيدها رغيف من الخبز تقسمه مع قطعة من الزبدة بين الصغار أقساما متناسبة بطريقة حلوة شيقة، وكان كل منهم يبسط يده ينتظر نصيبه فيأخذه ويصيح: «شكرا لك، شكرا لك.» ثم يسرع إلى الباب ليرى الجماعة والمركبة التي ستحمل عنهم شارلوت، ورأتني فاعتذرت بأدب لتأخرها قائلة: «إنني آسفة جدا يا سيدي لأنني حملتك مشقة النزول من المركبة، وحملت السيدتين عبء الانتظار، ولكن تأهبي السريع لارتداء ملابسي قد أنساني بعض شئون منزلية، والأطفال لا يرضون بالعشاء إلا إذا تناولوه من يدي.» فتمتمت مجيبا ببضع كلمات لا أذكر منها شيئا؛ فقد أخذت بحديثها ورنات صوتها وتناسق شكلها، ولم أفق عن دهشتي حتى أسرعت إلى غرفة أخرى تطلب المهواة والكفوف. وكان الأطفال أثناء غيابها يسترقون النظر إلي ويتهامسون، فاقتربت من أصغرهم، وكانت تلوح عليه علائم الذكاء، فتجنبني، وكانت شارلوت إذ ذاك عائدة، فقالت له: «تعال يا لويس. اقترب ولا تخف من ابن عمك.» فمد يده إلي وقبلته بانعطاف، وفي طريقنا إلى المركبة التفت إليها قائلا: «ابن عم! وهل تعدينني إذا جديرا بشرف الانتساب إليك؟» فابتسمت ابتسامة ذات معنى قائلة: «لي أولاد عم عديدون، وإنه ليسوءني إذا كنت أقلهم جدارة واستحقاقا.» ولما هممنا بالرحيل طلبت إلى صوفيا - وهي البنت الكبرى - أن تعنى بالأطفال، وأن تجلس إلى والدها، بمجرد وصوله إلى المنزل. ثم أمرت الصغار أن يطيعوا صوفيا كما يطيعونها هي، فأذعنوا ووعدوا بالطاعة، إلا فتاة صغيرة ذكية الفؤاد، لم تتجاوز السادسة، فإنها قالت عابسة: «ولكن الأخت صوفيا ليست بالأخت شارلوت، ونحن يجب أن نحب الثانية أكثر من الأولى.» ووثب الصبيان الكبيران فتمسكا بمؤخر المركبة، وأذنت لهم شارلوت إجابة لرغبتي بمرافقتنا إلى آخر الغابة، على شريطة ألا يزايلا مكانهما، وأن يبقيا متأدبين، ولكنا لم نكد نأخذ مقاعدنا ويحيي السيدات بعضهن بعضا، حتى استوقفت شارلوت المركبة، وطلبت بلطف إلى أخويها أن يتركاها، ورجواها أن يقبلا يدها قبل الرواح فأذنت لهما، وكانت قبلة الأكبر ملأى بحب ابن الخامسة عشرة، وقبلة الأصغر بحنو وانعطاف يليقان بسنيه، ثم سألتهما أن يذكراها لدى الباقين.
وسارت المركبة، واستفسرت قريبة صاحبتي من شارلوت عن رأيها في الكتاب الذي بعثت به إليها أخيرا، فأجابتها قائلة: «لم ينل من استحساني أكثر مما نال أخوه الذي تفضلت به علي من قبل؛ وعلى ذلك فسأرده سريعا.» فتساءلت عن اسمه، ودهشت إذ قالت: «قصر أترانتو.» وكان يتجلى في كل ما تقول وفرة الحجا وسداد الرأي، بل إن كل كلمة كانت ذكاء يتوقد، وكل نظرة بيانا ساحرا، وكان يزداد بريق محياها من الرضى بموافقتي إياها على رأي أو قول. وبعد يسير قالت: «كنت أسر كثيرا فيما مضى بقراءة الروايات، وكانت كل لذتي بعد ظهر أيام الآحاد أن أخلو بنفسي في غرفة منفردة، فأقرأ إحدى تلك السير العجيبة، ولكن سرعان ما قل حبي ل «الغير المحتمل»، وحل محله حب الحياة البيتية. وكنت أتتبع بشغف واهتمام نجاح بطلة الرواية أو خيبتها، ولا أزال أحب من السير أمثال جرانديسون
Grandison
صفحه نامشخص