ضربت صدري ضاحكة: السطوح؟ وأنت في هذه الحالة يا أمه؟
مدت ذراعها وهي تتأوه وشدتني من صدر فستاني: المهم أخرج من القبر يا عالية، ساعديني الله يبارك لك يا بنتي، ساعديني أموت في الهواء والنور.
قطب جبيني وعبس وجهي وفكرت في عواقب المخاطرة ولم أستطع أن أقول شيئا، وشدتني مرة أخرى من ثوبي وهي تتأوه من جديد: يوم واحد في العمر، آخر يوم يا بنتي، يالله يا حبيبتي وتوكلي على الله.
تلعثم لساني ووقف الكلام في حلقي ولم يخرج منه إلا اسم أبي، غامت نظرتها لحظات وحدقت في وجهي قليلا كأنها تذكرني بما نسيت وقالت: أبوك سيخرج الآن ليصلي العصر جماعة، خلنا في حالنا
بعد أن سمعت أبي يتنحنح ويفتح الترباس ويغلق الباب وراءه، حاولت أن أتصنع المزاح وأرد إليها دعابة واحدة مما غمرتنا به طول العمر.
وتعثر صوتي في ضحكة مهشمة وأنا أقول: ونعصي ولي الأمر وكلام الحكيم؟
قالت وهي تحاول أن تصلب ظهرها وتمد ذراعيها لأسندها: الأمر لصاحب الأمر يا بنتي، يالله
ووضعت كفها اليسرى على صدرها بينما كنت أسندها لتنزل على الأرض وأطوق خصرها بقوة وأتحاشى في نفس الوقت أن ترى الجزع المرسوم على وجهي والمطل من عيني. انحنيت وأدخلت فردتي الخف القماشي في قدميها القصيرتي الأصابع اللتين ازداد تورمهما أكثر من أي وقت مضى، وخطوة خطوة أسندت الطفلة التي شابت سوالفها وبرى المرض وتعب العمر جسدها وكأني أسند على جنبي كومة قش جمعتها وأنا صبية صغيرة في موسم الحصاد، وخطوة خطوة نخرج من القاعة المظلمة منذ طفولتي وصباي، ونمر في الطرقة المؤدية إلى وسط الدار، ونطلع سلمة سلمة وأنا أرتجف رعبا من المجهول، وأتابع أنفاسها المطرودة وشهقاتها بين لحظة وأخرى وأطلق من فمي سيول الدعابات والذكريات وصور الأهل والأحباب في الأمس القريب والبعيد، وتشهدت وصدقت وآمنت بالله ورسله وملائكته ومعجزاته حين دخلنا من باب القاعة التي كانت مخصصة لإخوتي الذكور، ورفعتها بعزم ما في إلى السرير النحاسي المترب ومددتها عليه. فتحت الشبابيك وتركت نسمات العصر تلفح وجهها، ودخلت أشعة الشمس الغاربة ونشرت أجنحة فراشاتها الملونة في كل مكان، واكتسى الوجه الشاحب المخدد بالرضا والسكينة بعد أن عدلتها على الفراش وأسندت ظهرها بمخدة عالية، وتدفق الكلام الذي حبسه الظلام في القاعة السفلية وراح يحطم كل السدود: أخوك الغائب يا بنتي ...
قلت ضاحكة وأنا أجلس بجوارها وأمر بيدي على صدرها وأمسح على ذراعيها وأتحسس نبضها المتسارع: أيهم يا أمي؟ الغائب عذره معه.
قالت: عبد الهادي، يا ما نفسي يحضر ويقرأ علي آيتين.
صفحه نامشخص