لم يجد صعوبة في الاهتداء إلى رقم العمارة، ودله البواب النوبي العجوز على الدور والشقة التي تشغلها شركة التوكيلات الإليكترونية التي يبحث عنها وهو يقول: نعمة هانم أمامك وأنت داخل من الباب. ست طيبة خالص. الله يسترها ويكون في عونها. وعندما خرج من المصعد وواجه الباب المفتوح وجدها جالسة على مكتب فخم عريض، تكدست فوقه أجهزة الهاتف والفاكس والحاسوب وما لا يدري من لوازم العمل والأبهة. خطر له في ومضة خاطفة أن كل شيء فيها قد تغير، لكنه شغل عن التفكير في ذلك بمد ذراعه وتقديم العزاء بكل ما يملكه من إخلاص وتأثر.
هتفت قائلة وهي تنظر إلى اليد الممدودة والوجه الضامر الذي انحنى عند مصافحتها: صابر؟ صابر الأيوبي؟ غير معقول.
قال وهو غارق في خجله الريفي الذي ساعدها على تذكر الزميل القديم: البقية في حياتك يا نعمة هانم، لم أعرف إلا اليوم من صبرية.
رجته أن يتفضل بالجلوس وخلعت النظارة السميكة من فوق عينيها وهي تقول: فيها الخير، هي الوحيدة التي تتصل بي باستمرار وأول من عزاني في المرحوم.
رفع رأسه قليلا لينظر إليها وهو لا يصدق أن هذا الوجه الممتلئ العريض الذي تهدل لحم خديه وانتشر الشيب في شعره هو وجه نعمة عبد المنعم، ولم يستطع أن يفهم كيف يمكن أن يكون الجسد الضخم المترهل الذي يملأ المكتب هو جسدها، وكان من الضروري أن يقول شيئا فتمتم: البقية في حياتك وشدي حيلك. ترك لك طول العمر.
قربت وجهها من وجهه كأنها تحاول إحياء الألفة القديمة وهمست في صوت حميم تحرص على ألا يصل إلى أذن أخرى: والمشاكل التي لا آخر لها أيضا، تصور يا صابر ...
وقطعت كلامها فجأة لتوجه حديثها إلى صبي أسمر شديد السمنة يجلس على كرسي صغير بجوار المكتب ويشغل نفسه بلعبة آلية معقدة يبدو أنه لا يريد أن يتركها قبل تفكيكها وتخريبها: تعال يا وليد، سلم على عمك صابر.
قام صابر إلى الصبي يريد أن يقبله بحنان ويربت على ظهره، لم يكترث الولد برفع عينه عن اللعبة التي دخل معها في صراع عنيف، واكتفى بإزاحة اليد التي حاولت الاقتراب منه.
قالت نعمة معتذرة ومؤنبة ابنها: جيل العنف والتلفزيون. طبعا لا يمكنه أن يفهم شاعرا مثلك، على فكرة ...
قطع كلامها مرور الساعي أمامها متجها إلى باب الشقة. نادت عليه وسط دقات وليد وخبطاته المريعة وهي تصيح: تعال يا محمد - قلت لك اترك السوبرمان الزفت من يدك يا وليد - قهوة مثل زمان أم تفضل ...
صفحه نامشخص