الزلزال
يا بشر الحافي، لم خرجت؟
اللحظة الضائعة
الكراسي
الملقن
الزرقاء تحتضر
تائهة على الصراط (1)
تائهة على الصراط (2)
نقل دم
لا ...
فراشات
أحزان عازف الكمان (1)
أحزان عازف الكمان (2)
أحزان الكهل الطيب
القبلة الأخيرة
إيكاروس
الزلزال
يا بشر الحافي، لم خرجت؟
اللحظة الضائعة
الكراسي
الملقن
الزرقاء تحتضر
تائهة على الصراط (1)
تائهة على الصراط (2)
نقل دم
لا ...
فراشات
أحزان عازف الكمان (1)
أحزان عازف الكمان (2)
أحزان الكهل الطيب
القبلة الأخيرة
إيكاروس
أحزان عازف الكمان
أحزان عازف الكمان
تأليف
عبد الغفار مكاوي
إلى صديقي الحبيب
عبد الرحمن فهمي،
لم يمهلك الأجل حتى أهديك
هذا الكتاب يدا بيد.
ليتك تقبله الآن من روح إلى روح.
(كتبت هذه القصص بين عامي 1986 و2005م.)
الزلزال
كان من الضروري، بل من الحتمي، أن يكتب غريب محمد غريب هذا الخطاب إلى صديقه العزيز شفيق السيد الذي لم يره منذ وقت طويل. الغريب في أمر غريب أنه لم يكتف بأن يوقع عليه باسمه، بل أضاف إليه أسماء أخرى كان صديقه أو بعض أصحابه ومعارفه يطلقونها عليه في ليالي السمر الطويلة، بينما تطل من عيني صديقه ومن عيون الأصحاب نظرات تلمع وتخبو وتمتزج فيها السخرية بالحب بالإشفاق: الحكيم والمسيح والظل الباهت والصوت الخافت، والبومة والعنكبوت والفقمة، وأسماء وصفات أخرى لم يجد داعيا لذكرها، ووجه الضرورة التي دفعته لكتابة الخطاب أنه رأى صديقه الحبيب في الحلم وأخذ يعاتبه ويجادله جدالا أشد مما فعل في لقائهما الأخير الذي لا يذكر إن كان قد تم قبل أسابيع أو شهور أو سنين، وسنصرف النظر الآن عن هذا اللقاء الأخير وموعده البعيد أو القريب، ونقتصر على الإشارة الموجزة للجدل الذي اشتبكا فيه بالأفكار والكلمات بأعنف مما يشتبك اليوم أبطال أفلام العنف والكاراتيه وغيره من فنون الصراع. أكد غريب لصديقه أن الزلزال قادم لا شك عنده في ذلك، وشرح الأسباب والمبررات شرحا مستفيضا سنجده يكرره في خطابه؛ لذلك ينبغي علينا أن نبدأ بقراءة الخطاب نفسه قبل أن نعرف شيئا عن مصيره:
لا أملك إلا أن أكتب إليك يا شفيق بعد أن تعذر علي لقاؤك والاتصال بك. أصبح هذا أمرا حتميا بعد أن صور لي الوهم - الذي ظللت أجتره حتى كاد أن يبلغ مبلغ اليقين - أنك غاضب علي أو في نفسك شيء مني. أجل أجل. منذ تلك الليلة التي تحدثنا فيها عن الزلزال والكوارث والبراكين. قلت إن الموت قادم لا مفر منه، وكل الدلائل تؤكد أننا سنلقى مصير الفيران التي تهرب من السفينة الغارقة لتغرق في قاع البحر، أو سنموت ميتة النائمين الذين يدخل عليهم اللصوص في الليل ويذبحونهم بالسكاكين. صرخت بأن الزلزال قادم، وأنني أحس بعلاماته ونذره وإشاراته، وإذا كان الموت هو المصير المحتوم فلنمت مفتوحي الأعين بشرف وكبرياء. ضحكت طويلا واتهمتني بالرومانسية المريضة والتمسح بالمتنبي وعداوة البشر وكأن الزلزال الذي روع مدينتنا الكبرى وبعض المدن الصغيرة والقرى البائسة لم يكفني فراح خيالي السقيم يتوهم أفظع ألوان الدمار. أكدت لك، وأنت تنظر إلي مذهولا لأنني رفعت صوتي عاليا وضربت مائدة العشاء الذي دعوتني إليه بكفي ضربة مدوية: كيف أصدق أن صديقي لا يفهمني؟ أنا أقصد الزلزال الآخر؛ الزلزال الذي يرج العقول لا الأجسام، يهز الوعي النائم لا البيوت الآيلة للسقوط، يخرج المخلصين والصادقين من تحت رماد الجحود والإهمال والتجاهل، حتى الكذابين والأدعياء والأبطال الجوف وسائر المعذبين في الأرض - كما تعودت أن تسميهم - لا أتمنى أن تسقط على رءوسهم ذرة تراب ولا غبار واحدة. إنه زلزال آخر يا صديقي. قلت وأنت تلوي فمك بامتعاض وتنفث دخان سيجارتك في وجهي: نريد النور والأمل ونريد البناء والعمل بينما تتكلم أنت وغيرك عن الزلزال؟ وضعت وجهي بين كفي لأكتم صوتي الذي ارتفع فجأة: ومن منا لا يريد النور والأمل والإنسان الجديد؟ من منا لا يعمل له؟ هل عشنا وشقينا إلا من أجله؟ وكيف تنتظر أن يأتي بغير زلزال؟ لنختلف حول طبيعته، لكن كيف نختلف حول ضرورته؟ سكت وأدرت وجهك للحائط ورحت تحدق في لوحة راهب بوذي مستغرق في التأمل والصمت.
رحت أؤكد لك أن الزلزال قادم لا محالة، وأخذت أتلو عليك الحجج والبراهين كأي محام يرفع صوته أمام قضاة مصابين بالصمم والخرس والعمى:
عندما تتربع الذئاب على عروش الغابة وتصبح الأسود طعاما للنمل والذباب والضباع والكلاب؛ فلا بد أن يحدث الزلزال.
وعندما يعظ اللص بالأمانة، ويمتدح الفاجر الفضيلة، ويدعو الخائن إلى الوفاء، ويمجد القاتل البراءة والشرف، ويثرثر الكذاب عن الصدق، والمزور عن النزاهة، ويصبح الكل عدوا للكل والجميع مسلطين على الجميع والكلاب تتصارع على الغنيمة التعسة العاجزة؛ فكيف لا يأتي الزلزال؟
وحين يبشر الجراد بالخضرة والربيع، ويرتدي المسخ زي البطل والقديس، ويخطب الأبكم ويغني الأخرس وتسيل أنهار العلم والحكمة من أفواه الجهلاء والحمقى والبلهاء؛ فحتم أن يحدث الزلزال.
وكلما عم الضجيج واستشرت الضوضاء حتى صمت الآذان وعطلت العقول وجعلت الأعلى صوتا هو السيد المسموع ومن لا يظهر في الإعلان والإعلام فهو غير موجود؛ هل تتوقع نبوءة أصدق على اقتراب الزلزال؟
وعندما تنعق الغربان وتنق الضفادع وتنهق الحمير ويهلل السفهاء ويصفقون ويهتفون متشنجين للفن الجديد والنغم الجديد.
وبعد أن أخذ المارد الأعمى يحطم مصابيح العقل ويطفئ منارات الوعي ويدمر ويكفر ويفجر وهو يسوق الملايين إلى كهف الماضي الذي لن يعود، ويضع أقنعة الظلام على وجه المستقبل الموعود، ويهدد إرادة التغيير بالذبح والخنق والحرق والتصفية، فهل تنتظر ألا يسقط البيت وتنتفض الأرض والسماء بالزلزال؟
وعندما تنكفئ البديهيات على وجوهها في الوحل، ويسحلها الشطار الأوغاد في الشوارع والحواري والأسواق، بينما تطل عيون الآخرين من النوافذ وتضحك في شماتة وهي تجهز المقبرة الجماعية لأصحاب الكهف والرقيم، فهل يمكن أن يتأخر الزلزال؟
وأخيرا حين يغيب العصفور عن زيارة السجين الوحيد فيفتقد وقفته على حافة الكوة الضيقة في زنزانته ويأكله الجوع لحبات الأمل التي كان يلقيها إليه منقاره الذهبي؛ ألا ينبئ كل هذا بزحف الزلزال الذي يروع السجن بكل من فيه؟
ألا يدفعك للتأهب والاستعداد بدلا من الضحك والسخرية والتشكك؟
آه يا صديقي! اكتشفت أنني أكلم نفسي كالعادة ووجهي إلى الجدار، كأني محكوم عليه بنوع جديد من أحكام الإعدام، هو عدم التوقف عن الكلام والكلام والكلام. كنت قد غادرت الحجرة التي جلسنا فيها للسمر والعشاء، وكان الراهب البوذي لا يزال جالسا القرفصاء، مسترخي الذراعين واليدين على ركبتيه، رافضا النظر إلي لانشغاله بالتأمل في العدم الذي احتواه معه، ثم رجعت بعد لحظات طالت كأنها الدهور، وحاصرني فيها الحرج والغضب والندم والاختناق. نهضت واقفا للانصراف بينما كنت تضع صينية الشاي على المائدة فقلت رافع حاجبيك من الدهشة: معذرة يا غريب. ألا تجلس لنشرب الشاي ونكمل الحديث؟ قاطعتك وأنا أتكلف الضحك: لا أريد أن يزيد شعوري بالذنب ورغبتي التي تعرفها في تعذيب الذات. رنت ضحكتك المجلجلة ووضعت يدك على كتفي: صدقني يا غريب، أنت أحوج الناس إلى هذا الزلزال. سألتك في هدوء وأنا أتجه في تصميم نحو باب الخروج: ماذا تعني يا شفيق؟ قلت وأنت تشير إلى الراهب وتتوقف عنده: ألم أقل لك إنك اسم على مسمى. ولما سكت دليلا على عدم الفهم عدت تقول: غريب عن العالم والعالم غريب عنك. تمتمت وأنا أخطو نحو الباب دون أن أنظر إليك أو إلى الراهب الأصلع النحيل: ربما، ربما.
وذهبت يا صديقي دون أن تقول وداعا أو تحدد موعد اللقاء الجديد، وانصرفت لكتاباتك ومقالات الصحفية ورعاية أرضك ومصالحك في الصعيد، وسافرت أنا إلى بلاد الصحاري والخيام والنفط لأواصل الصياح والنباح في حجرات وقاعات التعليم العقيم، وحين رجع غريب الذي تضاعفت غربته لزم بيته القديم الكئيب الذي تعرفه وانزوى في غرفة صغيرة بالبدروم تشبه جحور الأرانب والفيران، تاركا بقية البيت للزوجة والأولاد ليتحركوا فيه معظم النهار والليل فلا تؤذيهم أشواك الصبارة العجوز. كان يمضي سحابة نهاره وساعات ليله في مغارته الصغيرة كالحي الميت، محاطا بالكتب التي ألفها أحبابه الأموات-الأحياء. يظل يحاورهم ويجادلهم ويوافقهم ويخالفهم ويزين له الوهم أنه صار عضوا في المجتمع الوحيد الذي ينتمي إليه. الأهل تخلوا عنه، والصديق طعنه طعنة الإهانة، والتلاميذ رجموه بالحجارة، والأقزام المتعملقون أهالوا على رأسه أكوام التراب، وكلما خرج من مغارته الصغيرة ليتمشى قليلا أو دفعه الضعف وحب الاستطلاع إلى أحد المجالس اتسعت حدقات الأعين وهي ترى الشبح الخارج من مقبرته أو الخلد الذي غادر جحره، ولم تلبث البومة أن رجعت لصمتها واكتفت بحديثها الخافت النبرات مع أولئك الخالدين الذين توهم أنهم قبلوه صاحبا لهم أو خادما لمحرابهم أو صبيا يتعلم الألف باء من جديد على أيديهم، وأصبح الجحر الصغير ملاذه من ضجيج العالم ومكبرات أصواته التي ارتفعت ضوضاؤها ودوت طبولها أكثر بكثير مما وصف لك في لقائكما الأخير. صار كهفه الذي يغلقه على نفسه ليحتمي من الذئاب والكلاب والغربان والضفادع والمسوخ والأقزام والعمالقة والأدعياء والمتآمرين والمتكالبين وصناع الجحيم اليومي في الأرض البور، وكان على صديقك يا شفيق أن يراجع كل شيء فيه وحوله وأمامه ووراءه. أن يجتر أشواك ذكرياته كالجمل العجوز، أن ينظر في المرآة ويسأل نفسه: كيف صرت إلى ما صرت إليه؟ أن يستعيد اللغة والهوية ويحاكم الماضي والحاضر ويسأل نفسه إن كان قد بقي له مستقبل آخر غير الإلقاء في مزبلة الإهمال؟ آلاف الصفحات التي كتبها بدم القلب وكد العقل وسهر العين وعرق العمر صارت مدادا أخرس، أكوام كلام لم ينفع أحدا ولم يغير شيئا ولم يحرك حجرا ولم يقدم خطوة ولم يؤخر. ليت الشجاعة تواتيه فيحرقها كما فعل الكثيرون قبله. أليس هذا الحريق المجنون هو الشط الأخير للملاح الفاشل والرحالة الخائب؟ وعانى صديقك يا شفيق من قلة النوم، وثورات الأحشاء المتشنجة، وانطفاءات الوعي والذاكرة والفهم والإدراك. صرخ كل شيء ينتفض ويرتج في داخله بقرب أوان الزلزال، وكم اشتقت يا شفيق في تلك الأيام القلقة والليالي الأرقة إلى يد حنانك التي طالما ربت بها على كتفي الذي انحنى ورأسي الذي كساه الثلج. كم تطلعت إلى عينيك الواسعتين المضيئتين، وإلى سلاسل ضحكتك الفضية التي كان رنينها أعذب وأحلى ما تسمعه أذناي وسط أمواج النشاز والخلط والتخليط والفوضى التي تلطمنا ليل نهار.
كانت زوجتي قد ذهبت مع الأولاد إلى المصيف فرارا من الحر والرطوبة في المدينة والحي والبيت الغربي الذي ازورت عنه كل الأنسام، ورحت أعالج الصداع والقلق والأرق بالأدوية المهدئة والأقراص المنومة التي وصفها الطبيب . كنت أنام كأهل الكهف لا أميز الليل من النهار، ولا أخرج من حلم إلا لأدخل في كابوس، ومع التخبط في متاهة بعد متاهة، والغرق في بئر بعد بئر، والانحدار إلى هاوية تبتلعها هاوية، سلمت بأنني أصبت بنوع جديد من الشلل أو التحجر، أو ربما بنوع غير مسبوق من عدم الوجود. لم ينج من ذلك قلمي وأوراقي وكتبي التي تصورت أنها حجارة ستسقط حتما على رأسي عندما يرتج الزلزال القادم ويرج كل شيء. لعلي قد ارتجفت كثيرا في نومي أو صحوي المختلطين، ولعلي انتفضت ونفضت من الظاهر والباطن أكثر من مرة، ولكن لطمة مروعة من قبضة مخيفة فاجأتني ذات لحظة فتخيلت أن روحي وجسمي وبيتي ومدينتي والعالم القبيح القديم كله قد تحول إلى أنقاض، وما أدري إلا والباب يدق دقات تدوي كالرعد، وأصوات حناجر وأيد وأقدام تتداخل وتتدافع وتضطرب. قلت لعلها الشرطة أو المطافئ أو النجدة جاءت تفتش عن الأحياء الباقين تحت التراب، وفتحت الباب فإذا هم أمامي يشيرون إلي ضاحكين؛ أطفال كأنهم ملائكة بغير أجنحة، يتوسطهم شيخ وقور مضيء الوجه طويل اللحية يرتدي ثوبا فضفاضا لم أتبين لونه يغطيه كمسوح الرهبان. اندفعوا داخلين وهم يتصايحون ويغنون كأنهم زفة عرس أو جوقة تمثيل وغناء وتهليل، ودخل الشيخ المضيء وراءهم وربت على كتفي كصديق قديم. شلني الذهول في مكاني وأنا أراهم يتحسسون الجدران والكراسي والأرائك والستائر المسدلة ويتجهون برغم الظلام السائد إلى غرفتي المنزوية كالجحر في ركن بعيد من البدروم. وقبل أن أتمكن من السؤال شعرت بيد طرية تأخذ بيدي وصوت متهدج يقول: ألم تكن تنتظر الزلزال؟ سألت في غيظ وغضب: ومن أنتم؟ ما أدراكم؟ من أذن لكم بدخول بيتي بغير استئذان. قال الصوت وصاحبه يشدد قبضته على يدي: جئنا لنهنئ أنفسنا بنجاتك. صحت وقد ازداد غضبي: تهنئني والمدينة تحت الأنقاض؟ رنت ضحكته مثل كرة نحاسية سقطت وتدحرجت على البلاط: المدينة بخير. الناس أيضا بخير، والعالم على حاله كما كان وسوف يكون. قلت وقد بلغ بي الاستياء من عبث الأطفال مداه: لم تجب على سؤالي؟ من أنت ومن أنتم؟ كيف ... قاطعني وهو ينقل يده من يدي إلى كتفي: وماذا تهم الأسماء؟ المهم أن زلزالك وقع وما زلت بخير. أصررت على تكرار السؤال بعد أن رأيت الصغار يتزاحمون على حجرتي الصغيرة ويوشكون أن ينتهكوا حرمة أسرارها وأسراري. سبقني الشيخ خطوات ونفذ من صفوف الصغار وجلس على الكنبة التي شهدت أحلامي وكوابيسي، وتابعت عينيه وهما تطوفان بالرفوف الخشبية والصور والأقلام والكتب والتماثيل الصغيرة وتتفرسان في اللوحات الصغيرة المثبتة فوق مكتبي وعلى الجدار المواجه له. قال كأنه يألف المكان وما فيه: القديم جديد في نفس الوقت، والنهاية تحتضن البداية على الدوام. أما زلت تلح على السؤال؟ قلت بنبرة لم يزايلها الغضب والاندهاش وأنا أقلب عيني بين وجهه ووجوه الأطفال المبتسمين الذين وقفوا في نصف دائرة كباقة من الزهور: أليس هذا أبسط حقوقي؟
قال الشيخ وهو يبادل الأطفال الذين تشابكت أيديهم ابتساما بابتسام: جئنا نسجل البداية الجديدة، نضيف ريشة جديدة إلى كفة الميزان.
تلاحقت ضربات قلبي عندما رأيت الأطفال يرفع كل منهم في يسراه سجلا أسود مزخرف الحوافي بالذهب، وفي يمناه ميزانا من النحاس البراق الذي استقرت ريشة زاهية الألوان على سطح كفته.
قلت وقد استثار المشهد عجبي وضاعف من سخطي وغضبي: سجلات وموازين وأطفال وشيخ غريب؟
بيتي ولا أعرف ...
قاطعني بصوته الهادئ الذي تبلله الدعابة الهادئة: هل نحن نقتحم كهفك أيها الراعي الوحيد؟
قلت وأنا أطرق برأسي إلى الأرض يأسا وغيظا: حتى الكلب الوفي حرمت منه.
ضحك الشيخ على الفور وأشار إلى الأطفال: أرأيتم؟
مع أن زميليه انطلقا في زحام المدينة وتمسكا بالحياة، ظل أحدهما يبحث عن زوجته وأولاده، والآخر يتشبث بالحب المستحيل.
قلت محتدا لأنهي هذا الاستطراد السخيف: حتى أكلهما الزمن فأسرعا إلى الكهف يائسين.
ضحك الشيخ وردد الأطفال المبتسمون أصداء ضحكته: نحن كذلك ...
قاطعته وأنا أشير للأطفال إشارة قاطعة بالسكوت: أنتم أنتم، من أنتم؟
قال الشيخ بهدوء كأنما يشعر بالذنب عن الكتمان الطويل: قلت لك ما قيمة الأسماء؟ سمنا روح الأرض، قلب البشرية ، ذاكرة التاريخ، وعي الحاضر منذ الأزل إلى أبد الدهر، قلت لك ما قيمة الأسماء؟
سألت وأنا أحاول أن أجد منفذا يخرجني من كفن يلتف حولي أو تابوت يغلق علي: وهذه السجلات السوداء. هذه الموازين. هل مت في الزلزال وجئتم تقيمون الحساب؟
قلب عينيه قليلا بين الصور واللوحات الصغيرة: يا للجاحد المتسرع. بل بعثت للبدء من جديد. ثم منطلقا في ضحك صاخب وهو يتأمل الصور المعلقة على الحائط كأنه يكلم نفسه: على الرغم من الطفل الذي وقف أبوه وأمه بجانب فراش موته في ثياب الحداد؛ ومن العذراء الجميلة الناصعة الوجه التي أسندت رأسها على كفها اليسرى وراحت تتأمل جمجمة بشرية موضوعة أمامها، وبالرغم أيضا من وجوه الشعراء الأموات الذين أحطت نفسك بهم.
قلت محتجا: هم أكثر حياة مني ومنك ومن كل من تظن أنهم أحياء.
قال وهو يمد يده ويربت على رأسي وكتفي كأنما ينفض الغبار المتراكم من سنين: صدقت. كل هذا في السجل. كله في كفة الميزان.
رفعت وجهي إليه مستفهما وأنا أردد بصري بينه وبين الأطفال: قال في تؤدة كأنه يناجي نفسه: كل كلمة صدق في هذا السجل، كل كلمة حق.
سألت متهكما: والميزان؟ أتراكم تزنون القلوب والأرواح؟
استمر في مناجاته: هل تصورتم أننا لا نسجل ولا نزن شيئا؟ النيات والأحلام والأعمال كلها هنا أو هناك. ما من شيء يضيع يا صديقي، ما من كلمة صادقة تنسى أو تذهب هباء.
قلت وأنا أهز رأسي مستنكرا: حتى المتواضعين المذكورين تذكرونهم؟ حتى الذين افترستهم ذئاب العصر وداستهم أقدامه؟
قال مؤكدا على كل حرف كأنه يتلو نصا مقدسا أو يرتل نشيدا موروثا: هؤلاء قبل غيرهم ... ثم وهو ينهض على قدميه ويقلب طرفه في الوجوه الحزينة والسعيدة، والعيون المتحدية والعيون الكسيرة، وتماثيل الحكماء والمهرجين والقرود التي وضعت أكفها على الأفواه والآذان والأعين، والزهريات والشمعدانات الصغيرة التي طالما سهرت على شموعها: كل شيء يقول إن اللحظة بين يديك، وكل لحظة تدعوك للبدء من جديد.
كنت قد تابعت عينيه وشردت ببصري لأتأكد من وجود البيوت من حولي وأعاين المآذن والقباب والنوافذ والشرفات والهوائيات المشرعة للسماء، ورحت أردد البصر بينه وبين الأطفال وأسأل نفسي إن كنت قد رأيت هذا الوجه الطيب قبل ذلك، وبينما كنت على شرودي وحيرتي وتساؤلي المستمر سحبت طرفي من النافذة وتلفت لأجيب عليه فلم أجد أحدا حولي. كانت أصداء صوته ما تزال تتردد في فضاء الحجرة الضيقة الخافتة الضوء وأنا أحاول أن أتذكر أين رأيت هذا الوجه الضاحك السمح وسمعت هذا الصوت الخشن الوقور: كل شيء يدعوك للبدء من جديد.
أتراك يا صديقي شفيق قد زرتني في المنام أو الكابوس؟ أم تراك تصوفت ووصلت وأصبحت من أصحاب الكرامات؟
لتكن الإجابة ما تكون، ولتعلم أخيرا أنني اشتقت إليك وإلى وجهك وعينيك وصوتك وضحكتك وشفقتك أيها الطفل الشفوق العجوز على صديقك المغترب الغريب. صديقك الذي رأى ما رأى وكتب إليك ليقول إنه يحاول أن يبدأ من جديد ...
هكذا ختم غريب خطابه الذي لا يقل عنه غرابة، والأغرب من ذلك أيضا أنه فوجئ بعد أيام - أو على الأصح فوجئت زوجته التي رجعت من المصيف مع الأولاد - بأن الخطاب المسجل قد رجع به ساعي البريد وعليه هذه التأشيرة بخط مضطرب لا يفك أسراره إلا خبير في الخطوط:
ثبت بالبحث أن صاحب العنوان توفي منذ سنوات وانتقل أهله إلى عنوان آخر.
1
يا بشر الحافي، لم خرجت؟
كان يجري كالشبح الهائم وأنا أجري وراءه، وبدا في أطماره وهلاهيله كأنه جرادة كبيرة نحيلة الجسد نحيلة الساقين. أدركته بعد أن كاد قلبي يتوقف. شددته من كم ردائه وسألت: لم تجري يا شيخ؟
رفع إلي عينين ضارعتين واسترد أنفاسه اللاهثة وقال: دعني يا ولدي. دعني.
حاولت أن أضع يدي على كتفه فمنعتني النظرة الباكية والوجه الضامر الحزين: لن أدعك حتى أعرف سرك.
رفع بصره إلى السماء وهمس: سري يعلمه ربي. دعني يسترها الله عليك!
تشجعت ولمست صدره كمن يتحسس بابا موصدا: قبل أن تقول لي من أين؟ قبل أن أعرف إلى أين؟
ابتعد قليلا وتحفز كالقط الغاضب المقوس الظهر: ألا تجري أنت أيضا؟ ألا يفزعك ما أفزعني؟
عدت أسأله: أجري؟! وماذا يفزعني يا شيخ؟
أشار إلى الأفق البعيد، خلف القباب والمآذن والأسوار والأبراج وأسطح البيوت الهاجعة في الغروب: الجحيم يا ولدي، الغابة التي هناك ... نظرت إلى حيث أشار: الجحيم؟! الغابة؟! إن المدينة تستريح من تعب النهار. بعد قليل يغطيها ظل المساء وصمت الليل.
هز رأسه الأشيب الصغير كأنه يتخلص من ذكرى موجعة وهتف: تستريح قليلا لتواصل الصراع والنهش والنهب والقتل في الصباح. ليتك عشت بها يا ولدي، ليتك كنت معي في الشارع والجامع والساحة والسوق. قلت: وماذا أفعل يا شيخ؟
صاح كمن لدغته أفعى: لو فعلت ما أوقفتني. لو جربت ما سألتني إلى أين ومن أين ... اغتصبت ابتسامة وقلت: وها أنا أرجع لسؤالي ...
انطلق كبركان ثائر: تركت الغاب لوحش الغاب. احترقت شجرة أيامي بصواعقها، وتمزق لحمي من أنياب ذئابها وكلابها، لكنني صبرت، علمت وحدثت وناديت ودونت وخطبت ووعظت، حتى شاب الشعر، وتساقطت الأسنان وماتت أيام العمر وأنا أجوس كشبح في ظلمات دروبها، وأقفز كغراب وحيد فوق خرائبها، وأشد على أيدي المحرومين اليائسين من أبنائها. حتى جاءتني الرؤيا.
اشتقت لأن أعرف فسألت: وماذا رأيت؟
أغمض عينيه ليحتضن حمامات الصور المفزوعة، ثم فتح فمه ليخرج منه الصوت المشروخ: آه يا ولدي! آه لو كنت معي! فتحت العين صباح اليوم. فتحتها على العالم وعلى الناس، بعد أن بكت في طاعة الله ما بكت. بعدما نهلت من أنوار السدرة والملأ الأعلى ما نهلت. فلما أفاقت، قلت: رأت الليل المظلم والظالم. أليس هذا ما تعنيه؟ هذا في كل مكان يا شيخ. هذا في كل زمان ...
قاطعني في غضب وهو يصيح: بل رأت المسخ العاري تحت قناع الزيف، والوحش الأسود يتمطى تحت الشمس ويدعو خدمه وحشمه وعبيده، وسعار الشهوة والقوة يجتاح الأنفس والأجساد، ينبت فيها المخلب والناب ويشعل نيران الحقد الأسود، وحين فتحت العين ذعرت صرخت: يا عيني التي بكت من خشية الله! كيف عميت عن هذا الظلام؟
كيف سكرت بنور النور ولم تحسي بنار الجحيم؟ وكيف لم تري دخانها وهي تشوي جلود الناس وعقولهم، وكيف غفلت عن زبانيتها وهي تبدل جلودها بجلود وعقولها بعقول؟ ولماذا سبحت مع الملائكة ولم تشعري بالوحوش التي تزأر حولك وتدمدم وتتربص وتنقض؟ وانتفض الطفل التائه في صدري خوفا: يا ربي! من يحميني من سيل النار؟ من ينقذني من فك الغاب؟ هل هذا هو ابن آدم الذي خلقته على صورتك واستخلفته في أرضك وعلمته الأسماء كلها؟ من هذا الذي يدق أرض السوق بقدميه؟ لا لا لا! هذا الإنسان الأفعى يجهد أن يلتف على الإنسان الثعلب. نزل السوق الإنسان الكلب ليفقأ عين الإنسان الفهد. قد جاء ليبقر بطن الإنسان الكلب، ويمص نخاع الإنسان الثعلب، وهتفت هتفت: يا ربي أين الإنسان؟ وخلعت النعل البالي ووضعته تحت إبطي وجريت.
قلت وأنا ألمح نعله الأصفر المتآكل المتسخ بتراب الأرض وعرق الجسد والسنين: حتى أدركتك فتوقفت.
أعطاني ظهره وأوشك أن يحرك قدميه وساقيه فأمسكت ذراعه وقلت: لا يمكن أن أتركك الآن.
حاول أن يتملص من قبضتي: لا بد أن أذهب يا ولدي، لا بد ...
رفعت صوتي النحيل كغصن يابس وأنا أقول: أبسبب حلم تترك أهلك ومدينتك؟
أجاب متوسلا: هو كابوس رأيته طول العمر ولم أفق منه إلا اليوم.
ضحكت وأنا أضرب صدره: ما دمت قد أفقت منه ...
قاطعني أسرع من الريح: الناس نيام يا ولدي فإذا ماتوا انتبهوا، وأنا انتبهت اليوم.
قلت: ولكنك لم تمت.
تحدرت كلماته دموعا تتقاطر في سمعي وعلى وجهي: بل مت كثيرا يا ولدي. مت كثيرا قبل اليوم، لكنني كنت أغمض عيني على حلم آخر؛ حلم أشهد فيه ملكوت الله وأحيا في مدن أخرى، وكنت أرجع إليه كل يوم كما يرجع العصفور إلى عشه الدافئ بعد أن دوخته الريح وأحرقته الشمس وطاردته الصقور والنسور والغربان والحيات.
سألت متعجبا: أأنت العنقاء يا شيخ؟ تموت كل مرة وتنهض من رمادك؟
قال في أسى: بل أموت كل مرة ولا أنتبه، ويظل الحلم-الكابوس يلف خيوطه حولي ولا أفيق، وأعود لداري مقهورا لأطهر روحي بدموع الخشية والطاعة . كم من مرة كان علي أن أمزق الخيوط وأخرج. كم حتمت الأيام والتجارب أن أنفض ثوب العلماء وأمضي ...
قاطعته: إلى أين يا شيخ؟
ارتفع صوته كالرعد: إلى الصحراء يا ولدي، إلى الرمضاء كما فعل إبراهيم!
سألت: إبراهيم؟!
تردد قصف الرعد ومعه ومض البرق: سيدي وأميري؛ إبراهيم بن أدهم، ترك القصر والجاه والمال والكأس والنساء والخدم والحشم ولجأ إلى غار في الصحراء.
سألت: لجأ إلى الجحيم من الجحيم؟
قال: وماذا يفعل يا ولدي؟ ذهب ليتطهر.
ابتسمت قائلا: أولم يكن الأفضل أن يتطهر في لهب النار وبالنار؟ أن يثبت في وجه الوحش المسعور الضاري؟
ارتفع زئير الأسد المجروح: من أدراك أننا لم نواجهه؟ إنك لا تعرف عنه ولا عني شيئا. هل كنت معي حين وضعوني في الزنزانة وسط آلات التعذيب وأصوات التعذيب؟ حين سلطوا علي شهود الزور من الفقهاء والوعاظ؟ من تجار الكلمة والدين وأشباه العلماء؟ هل صحبتني على شاطئ دجلة وأنا أستغفر للغرقى كل صباح؟ أغمض أعينهم وأجففهم وأقرأ عليهم وأكفنهم بيدي؟ من عذبهم في السجن ومن أغرقهم بالليل؟ وأتاني الهاتف. أخذ الصوت الآمر يدعوني أن أبتعد وأخرج، أن أبتعد وأخرج.
سألت: أنت؟ أطهر رجل في بغداد؟ أنقى الناس وأتقاهم؟
دارت في السماء نظرة كالبرق الساطع. ارتجفت شفتاه وأخذ يتمتم: حاشا لله. حاشا لله.
وفجأة تحول البرق الساطع إلى ظلام. تلبدت السحب وتساقط المطر. ثم تدفق الصوت الهادر: هل يحيا فرخ حمام في جحر أفاعي؟ أيعيش ولي الله العابد وسط ذئاب؟
كنت أعلم يا ولدي وأحاول أن أعلم الناس. أدركت أن العلم مطية الشهرة، والعلماء مطية السلطان، وخفت حين رأيت الناس يشيرون إلي قائلين: هذا أعلم أهل زمانه. أتقى رجل في بغداد ... وبخت النفس وقلت: الشهرة إثم وجريمة، والعلم بكاء وعبادة. وهتفت بمن طرقوا بابي: يا معشر العلماء، يا أهل البلد، من يصلح الملح إذا الملح فسد؟ صار العلم لقوم يأكلون به، صار العلم لقوم يتقربون به للأمراء والوزراء. فسد العلم وفسد الملح. اذهبوا! وتركت مكاني في المسجد وطويت الكتب فما حدثت ولا علمت. آه يا ولدي! أسلمني علماء البلد إلى السلطان، والسلطان إلى الشرطي إلى السجان، وهناك بجوف الليل كيونس في بطن الحوت بكيت. صمت وصليت وصحت: يا ربي! طهر قلب الحاكم والمحكوم! لكن لم يتطهر قلب، لم يتعفف عن دنس القول لسان. حتى النهر تلوث يا ولدي؛ حتى النهر، وفتحت العين على العالم ورأيت الغابة رأي العين.
قلت محاولا أن أهدئه: وخلعت النعلين كذلك وجريت.
مد يده كأنه يريد أن يسد فمي: لما أحرقت النار ثيابي واحترق الجسم مع النفس ...
قلت: أسرعت تلجأ من الجحيم ...
قال في أسى وهو يطرق برأسه ثم يرفعها وينظر بعيدا: نعم يا ولدي، من الجحيم إلى الجحيم. قلت متعجبا: وحين أطبقت الغابة عليك ...
قال وهو يدير ظهره: تركت الغاب لسكان الغاب.
لاحظت أنه بدأ يحرك قدميه، قلت قبل أن يخطو خطوة واحدة: كثيرون قبلك روضوا الأسود والدببة والفيلة والنمور، والكلاب والقطط كانت متوحشة فاستأنسها الإنسان، والثعابين والحيات علمها الفقراء والحكماء المساكين أن ترقص على صوت الناي ...
قال وهو يلتفت يائسا: والعقارب أيضا؟
قلت ضاحكا: العقارب تموت بسمها. لماذا تشغل نفسك بها؟
رفع يده إلى عينيه كأنه يخفي رؤية مباغتة ثم ناجى نفسه: قل ما شئت، واجه وحش الغاب وروضه إذا شئت. أما أنا فعجزت، أما أنا فعجزت.
بدأ صدره يهتز بشدة. اقتربت منه وربت على ظهره وهمست: من سيواجههم غيرك أنت وصحبك؟ من يردعهم؟ من يصلحهم أو يهديهم للحق؟ قال وهو يضع يده على عينيه: يهديهم جيل آت في زمن آت. أما أنا فعجزت.
مد ذراعه ولمس صدري. مسح بكفه على رأسي وتمتم: قد تنجح أنت وجيلك حيث فشلت. دعني يرحمك الله.
قلت وأنا أمد يدي بحثا عن يده: وإلى أين؟
احتضنني فجأة فسقط النعل المصفر المتآكل على الأرض. شعرت بارتجاج صدره على صدري وهو يقول: من الجحيم إلى الجحيم. عد يا ولدي. عد.
همست وأنا أشدد قبضتي على ذراعيه: وأنت يا شيخي الطيب؟ قال وهو ينحني ليأخذ نعليه: ربما أعود يوما.
قلت: متى يا شيخ؟
قال مبتسما: عندما ترجع روحي إليكم.
ألححت في السؤال: ومتى ترجع يا بشر؟
قال وهو يوسع خطاه: عندما يتغير الزمان. عندما يرجع الإنسان تتابعت خطاه أسرع من الريح، وبدأ جسده النحيل يتلاشى شيئا فشيئا كالجرادة النحيلة في الضباب، لكن صوته كان لا يزال يرن في أذني: عندما يرجع الإنسان، عندما يرجع الإنسان
1 ...
اللحظة الضائعة
لحظة واحدة نبهته إلى العمر الذي ضاع منه. ذكرته بالكنز الثمين المنسي تحت رمال الأيام والسنين وفي شعاب الرحلة المضنية في متاهات البلاد والعباد ... وجاءت اللحظة المفاجئة كاليد الرحيمة فانتشلته هو والكنز القديم المفقود ونفضت عنهما أكوام التراب والأوراق المصفرة الذابلة. الحقيقة أنها لم تكن يدا بل صوتا خيل إليه - أثناء عبوره من رصيف إلى رصيف في ميدان التحرير ظهر يوم صيفي قائظ الهجير - أنه يعرفه أو كان يعرفه من زمن طويل: صابر حسنين الأيوبي؟
تلفت وراءه فرأى الوجه الداكن السمرة والرأس الصغير المستدير كأنه تينة شوكية مسودة نبتت عليها عقد من الشعر المجعد في دوائر وكرات كحبات فلفل كبيرة. هتف صائحا من الدهشة وهو يضع الشمسية على الأرض ويكشف عن المنديل الأبيض الذي لف به رأسه وجبينه العريض: صبرية فرحات؟ ما هذه الصدف السعيدة؟ - نعم صبرية يا ناكر العيش والملح.
ضحك من أعماق قلبه ومد يده يصافح يدها ويهزها بشدة: والقهوة والشاي على حسابك في كافتيريا الكلية وفي حديقة الأورمان.
وسكت قليلا ليتأمل وجهها والنظارة السميكة التي تضعها على عينيها وملامح وجهها النوبي الطيب الذي جعله يلقبها دائما بالقديسة السمراء، على الرغم من ثورتها على هذا اللقب واستهجانها الشديد له. وتداعت على وجه السرعة ذكريات ومشاهد وصور من زمالتها التي امتدت أربع سنوات، وشعر وهو لا يزال يبتسم ويضحك ثم يضحك ويبتسم؛ بالذنب الذي لم يكفر عنه أبدا. ألم يكن يقول لها وهي في صحبة صديقتها الروح بالروح أن وجهيهما مركب من عدد واحد من الذرات مع فارق بسيط في ترتيبها؟ ألم يكن ريفيا فظا عندما صارحها ذات يوم بأن الفارق الوحيد بين قطعة فحم وقطعة الماس هو فارق في تنظيم الذرات؟ وكيف يداوي الآن هذا الجرح القديم وهو يقف وجها لوجه أمام القديسة المتفحمة الرأس والوجه بعد كل هذه السنين؟
أخرجته من سرداب ذكرياته وسألت ملهوفة: أأنت عائش على الأرض ولا حس ولا خبر؟
ضحك وهو يسحبها من ذراعها ليقف تحت مظلة تتدلى من باب محل صغير للتحف والعاديات: عمر الشقي بقي. سافرت ورجعت ثم استقلت من هنا ورجعت للإقامة هناك.
وماذا تفعل في مصر؟ هل تنوي ...
قال مؤكدا كلامه وهو ينظر طويلا إلى وجهها الطيب الذي لم تفارقه براءة طفل لا يكف عن الشقاوة والضحك: لا لا. رجعت نهائيا وفتحت دار حضانة في البلد.
صاحت متعجبة وهي لا تستطيع أن تكتم نفسها من الضحك: حضانة؟ بعد العمر الطويل هناك؟ حسبتك ستفتح كلية أو جامعة أو حتى مدرسة خاصة للغات. - صبرك بالله، أنا كنت اليوم في الوزارة لإتمام إجراءات التصريح بفتح مدرسة ابتدائية في البلد. مدرسة مخصصة للأيتام والفقراء، وماذا تفعلين أنت؟ - أيتام وفقراء؟ لم تتغير أبدا يا صابر. أنا ناظرة مدرسة لغات خاصة، آه لا بد أن أذهب الآن. انتظر، هذه ورقة. أكتب عليها العنوان ورقم التليفون ... وإياك أن ترجع إلى مصر مرة أخرى ولا تتصل بي.
قال ضاحكا وهو يضع الورقة في جيبه ويفرد شمسيته: على الأقل لأشرب فنجان القهوة على حسابك.
وقبل أن تمد يدها لتصافحه تأملته طويلا وقالت: على فكرة ... هل تذكر نعمة؟
خفق قلبه وكتم صيحته: نعمة المرواني؟ هل يمكن أن أنسى صديقتك؟
وتراءت له الألماسة التي كانت الفحمة الطيبة تلازمها كظلها، وأيقظه الصوت ذو الرنين الحنون من شطحات في غير أوانها: زوجها مات من شهرين. مات بالسكتة وترك لها مروان الصغير. مسكينة. نحن على اتصال باستمرار. لا يصح أن يفوتك القيام بالواجب. خذ. أكتب العنوان. يمكنك أن تذهب إليها الآن. الوقت مناسب والعنوان سهل. مع السلامة ولا تنس أن تسلم لي عليها، مع السلامة.
طوى شمسيته البيضاء وأشار إلى أول سيارة أجرة وقعت عليها عيناه. •••
عندما خرج من باب المدرج الصغير الذي استمع فيه مع زملائه وزميلاته إلى محاضرة الشعر وجدهما واقفتين على الباب. منعه خجله الريفي وربما ارتباكه الدائم وتسارع نبضه المجنون كلما رآها، أن ينظر ناحيتهما، ولكنه فوجئ بصوت صبرية تنادي عليه في غضب واضح: يا صابر، أنت يا شاعر الغبرا.
توقف والتفت إليها ورأى الألماسة الناصعة تبتسم كعادتها ابتسامة الجوكندا الغامضة. أسرعت الفحمة الطيبة قائلة: نحن لم نفهم شيئا من المحاضرة. هل الدكتور أستاذ أم شاعر؟
قالت ابتسامته الذاهلة وهو يحاذر النظر إلى وجه الألماسة ويوجه كلامه للفحمة وهي وحدها الموجودة في الخلاء: وما المانع أن يكون شاعرا وأستاذا في وقت واحد؟
ردت صبرية محتدة: يكون كما يشاء، المهم أننا لا نعرف شيئا عن هذا الوعاء الملعون. تشجع ورفع عينيه إلى الوجه المتألق المشع الذي حرم من شعاع واحد منه، وخفض بصره بسرعة وهو يسأل نفسه كيف احتفظ في هذا العالم المزعج بوجه رضيع هادئ، كيف استطاع وسط المستنقع أن يكون نبع براءة صافية؟ ثم تشجع أكثر وفك لجام خجله الريفي المزمن وقال وهو يشير بإصبعه للوجه المتفحم كمن يهدد بخطر عظيم: يمكنني أن أدعوكما إلى فنجان شاي أو قهوة على حسابي ... في الكافتيريا أو في الحديقة.
ردت الفحمة مع الألماسة: الكافتيريا الآن رائقة، المهم على حسابنا نحن.
قال مسرعا: قلتها كلمة وكلمة الرجل لا تنزل الأرض، والأفضل أن نجلس في الحديقة لنعيش في جو القصيدة.
مشيا في دفء شمس العصر الشتوية إلى الحديقة التي لم يكن يفصلها عن مبنى الكلية والقسم سوى الشارع العريض الذي تفرش أرضه ظلال الأشجار الضخمة العريضة الأوراق التي برزت أطراف جذورها المتلوية البيضاء من شقوق الأسفلت، وسرعان ما جلسوا إلى مائدة نظيفة ورحب بهما النادل الشاب الذي بان على وجهه الملل والهم من قلة الزبائن. غاب عنهم لحظات ليضع الصينية وعليها الأكواب والفناجين فوق المائدة التي غير مفرشها أيضا بمفرش أبيض منقوش بزهور بنية وصفراء، وها هو يرى الآن تفاصيل المشهد كما عاشه في ذلك الزمن البعيد وكأنه لا يزال جالسا على الكرسي الطري المصنوع من القش والجريد، وأمامه الفحمة والألماسة تشعان عليه نورا يتداخل فيه الليل مع الفجر، وشلال الكلام يندفع من فمه رائقا متموجا ومتدفقا بالشروح الطويلة لقصيدة كيتس المشهورة التي كان قد قرأها قبل ذلك ودرسها وجربها أيضا كأي رومانسي عتيق. لنقرأ السطور الأولى التي يخاطب بها الشاعر ذلك الوعاء الإغريقي الرائع البسيط قبل أن نتجه للنحت البارز المنقوش عليه:
أنت يا عروس السكون التي لم يمسسها أحد
يا من تبناها الصمت والزمان الوئيد،
يا راوية الغابة، يا من تستطيعين أن تحكي
قصة مزهرة وأكثر عذوبة من أشعارنا.
ربما تسألان أية قصة مزهرة تفوق عذوبة أشعار الشاعر، مع أنها قصة تتكون من صور لا من حروف وكلمات، ومن نقوش ثبتها الفنان على جانبي الوعاء المزهري لا من أصوات وأنغام وإيقاعات تتآلف منها معان ورؤى وأفكار. تخيلوا معي هذا الوعاء العجيب:
فالقصة هي أسطورة منقوشة على الوعاء وهناك آلهة وبشر، رعاة وعذارى وصيد مجنون، وأغصان وغابات وعشب وطئته أقدام، ومزامير ودفوف نكاد نسمع نغماتها العذبة فتملؤنا نشوة عارمة؛ نغمات نراها - إذا سمحتما لي بهذا التعبير - بأذن الروح ونسمعها بعينها الباطنة. انظرا إلى الفتى الجميل الذي يجلس في ظل الشجرة وينشد أغنيته. هذا المحب الجسور السعيد لأنه يغني أغاني متجددة إلى الأبد.
لقد فشل في أن يقبل حبيبته التي هربت منه في الغابة، أو انضمت إلى الموكب الذي سأكلمكما عنه، ولكنه ما يزال يحب، وما تزال هي جميلة صافية كالنبع ووردية كالفجر. سيبقى حبه دافئا قويا، وسيظل جمالها ربيعا متجددا على الدوام. ثم انظرا معي إلى هذا الكاهن العجوز الغامض الذي يقود الموكب المتجه في طريقه إلى المذبح لتقديم الأضحية، وفي وسط الموكب تتدحرج البقرة السمينة المكللة بأكاليل الزهر، ومن خلفهم تبدو المدينة الصغيرة التي انحدروا منها والقلعة الآمنة المطلة على شاطئ البحر، والشاب هناك يتابع منظر الموكب وهو يشدو بأغنية حبه، والحبيبة السعيدة لا تزال مختبئة وبعيدة وراء الأشجار وربما تسمع أغنيته وتتمنع ولا تستجيب ، والوعاء كالعروس الساكنة التي تضج رغم سكونها بالحركة والغناء الشجي الغامض من الشاعر العاشق ومن الموكب الجليل الغامض. هل لاحظتما أن الفنان قد ثبت الصور في لوحته التي نقشها على جدران الوعاء ليعطيها خلود الأبدية؟ هل لاحظتما أن الفنان والعاشق كليهما قد ماتا منذ قرون وأن الحب الذي صوره لا يزال يفيض من رسمه ونقشه بالحركة والجمال والحياة، مؤكدا أن الحب أبدي خالد يتحدى الموت والفناء الذي لا يفلت منه شيء؟ وهل رأيتما كيف تحدت لحظته السحرية أنياب الموت وأظافره وفمه الفاغر على الدوام ... تأملا أيضا ختام القصيدة أو الأنشودة التي يوجهها الشاعر للوعاء ولنفسه:
عندما تضني الشيخوخة هذا الجيل،
ستبقى أنت وسط حزن آخر غير أحزاننا،
ستبقى صديقا للإنسان،
تقول له الجمال هو الحق، والحق هو الجمال،
هذا هو كل ما نتعلمه على الأرض
وكل ما نحتاج أن نعلم ...
أخرجه صوت السائق من حلمه الطويل كأنما مزق بيت العنكبوت الذي نسجه وعاش فيه طوال الوقت. قال له: هذا هو الشارع يا حضرة. يمكنك أن تسأل بنفسك عن العنوان. هو إن شاء الله على هذا الرصيف أو الرصيف المقابل.
نقده أجرته وهز رأسه ليكمل تمزيق النسيج الذي تشابك حوله وينفض خيوطه بعيدا عنه، وفرد الشمسية وراح يسأل عن الرقم المكتوب على الورقة والشلال ما يزال يتدافع ويجيش ويتدفق من داخله. •••
لم يجد صعوبة في الاهتداء إلى رقم العمارة، ودله البواب النوبي العجوز على الدور والشقة التي تشغلها شركة التوكيلات الإليكترونية التي يبحث عنها وهو يقول: نعمة هانم أمامك وأنت داخل من الباب. ست طيبة خالص. الله يسترها ويكون في عونها. وعندما خرج من المصعد وواجه الباب المفتوح وجدها جالسة على مكتب فخم عريض، تكدست فوقه أجهزة الهاتف والفاكس والحاسوب وما لا يدري من لوازم العمل والأبهة. خطر له في ومضة خاطفة أن كل شيء فيها قد تغير، لكنه شغل عن التفكير في ذلك بمد ذراعه وتقديم العزاء بكل ما يملكه من إخلاص وتأثر.
هتفت قائلة وهي تنظر إلى اليد الممدودة والوجه الضامر الذي انحنى عند مصافحتها: صابر؟ صابر الأيوبي؟ غير معقول.
قال وهو غارق في خجله الريفي الذي ساعدها على تذكر الزميل القديم: البقية في حياتك يا نعمة هانم، لم أعرف إلا اليوم من صبرية.
رجته أن يتفضل بالجلوس وخلعت النظارة السميكة من فوق عينيها وهي تقول: فيها الخير، هي الوحيدة التي تتصل بي باستمرار وأول من عزاني في المرحوم.
رفع رأسه قليلا لينظر إليها وهو لا يصدق أن هذا الوجه الممتلئ العريض الذي تهدل لحم خديه وانتشر الشيب في شعره هو وجه نعمة عبد المنعم، ولم يستطع أن يفهم كيف يمكن أن يكون الجسد الضخم المترهل الذي يملأ المكتب هو جسدها، وكان من الضروري أن يقول شيئا فتمتم: البقية في حياتك وشدي حيلك. ترك لك طول العمر.
قربت وجهها من وجهه كأنها تحاول إحياء الألفة القديمة وهمست في صوت حميم تحرص على ألا يصل إلى أذن أخرى: والمشاكل التي لا آخر لها أيضا، تصور يا صابر ...
وقطعت كلامها فجأة لتوجه حديثها إلى صبي أسمر شديد السمنة يجلس على كرسي صغير بجوار المكتب ويشغل نفسه بلعبة آلية معقدة يبدو أنه لا يريد أن يتركها قبل تفكيكها وتخريبها: تعال يا وليد، سلم على عمك صابر.
قام صابر إلى الصبي يريد أن يقبله بحنان ويربت على ظهره، لم يكترث الولد برفع عينه عن اللعبة التي دخل معها في صراع عنيف، واكتفى بإزاحة اليد التي حاولت الاقتراب منه.
قالت نعمة معتذرة ومؤنبة ابنها: جيل العنف والتلفزيون. طبعا لا يمكنه أن يفهم شاعرا مثلك، على فكرة ...
قطع كلامها مرور الساعي أمامها متجها إلى باب الشقة. نادت عليه وسط دقات وليد وخبطاته المريعة وهي تصيح: تعال يا محمد - قلت لك اترك السوبرمان الزفت من يدك يا وليد - قهوة مثل زمان أم تفضل ...
قال صابر وهو يبتسم في حرج كأنما شجعته على الخروج من الجو الجنائزي الذي هيأ نفسه له: نعم نعم، مثل زمان.
استأذنته بضع دقائق حتى تأتي القهوة في تشطيب الأوراق التي أمامها ...
وضعت نظارتها السميكة على عينيها واستغرقت في القراءة والمراجعة.
واستغرق صابر بدوره في تأمل الوجه الذي طالما احتضنه بعينيه ثم احتضن صورته في قلبه طول العمر. يا إلهي! أيمكن أن يفعل بنا الزمن كل هذا؟ أين وجه الرضيع الذي كان لا يشبع من نضارته وبراءته؟ والملامح الرائقة المنسكبة كأشعة الفجر الوردية، كيف خددها الزمن وغطتها سحب الحزن والتعب والشيخوخة قبل الأوان؟ الألماسة التي كانت تبرق وتتألق كلما رآها بجوار صبرية وكلما لاحظ العرق على جبينها يتحول إلى قطرات الندى أو حبات الماس، كيف انطفأ بريقها وخبا الفجر في عيونها؟ وها هو الموت يفاجئها أيضا ليجفف نبع البراءة الذي عرفه ونهل منه خياله؟ والضحكة الخالية البال هل ذهبت هي أيضا وداستها خيول الزمن والألم والملل والضجر؟ •••
رن صوت الفنجان على المكتب فرفع بصره إلى الساعي وشكره. وتمثلت له تلك الجلسة البعيدة في الحديقة عندما لبت دعوته مع صبرية لشرب القهوة، وأوشك أن يبعث اللحظة المسحورة حية من أكفانها القديمة، حين فاجأه صوتها: وما أخبار الشعر معك يا صابر؟
نظر إليها نظرة طويلة تمنى أن تخلو من أي اتهام وقال وهو يضحك ضحكة خافتة: لا شعر ولا نثر ... من أيام الكلية توقفت تماما عن الشعر. ثم جربت حظي مع القصة والمسرحية فلم أجد أي صدى.
قالت وفي صوتها نغمة تحسر خففت منها روح المجاملة: خسارة، كان يمكن أن تصبح شاعرا كبيرا.
قال باقتضاب وهو يشيح بيده ليغلق هذا الباب: تعرفين متاعب التعليم وهمومه ... ترجمت بعض القصائد أثناء وجودي في البلاد العربية. نشرت كذلك بعض الدراسات، لكن لم يبق لي من الشعر إلا القراءة والحسرة.
رنت ضحكتها الخالية التي طالما انتشى بصفائها وإن خالجتها الآن بحة وتهدج لاهث مضطرب: الحسرة؟ لا لا لا.
أضاء زر على جهاز صغير أمامها بالنور الأحمر مصحوبا بصوت آمر متحشرج.
نهضت واقفة واستأذنته لحظات حتى تعرف ما يريده المدير، وجمعت بعض الأوراق ثم قامت مسرعة وهي تجر حمل اللحم الضخم المترهل وتتنفس بصعوبة.
قال لنفسه: كيف أقول لها إنها هي السبب؟ ألم تكن هي التي أهملت قصائده وردت إليه آخر قصيدة كان يريد أن يعطيها لها وهي تعتذر قائلة: ليس لي في الشعر أبدا، ثم إن شعرك غامض وفيه فلسفة. وها هو يشرب القهوة معها بعد عشرين سنة أو أكثر منذ شرباها في الحديقة تحت ظلال الشجر. فهل تذكرت اللحظة المسحورة التي عاشها معها وجرب فيها نعيم حبها وعذابه؟ هل خطر على بالها لحظة واحدة أنه حين كان يشرح لها ولصبرية أبيات القصيدة والصور المنقوشة على الوعاء الإغريقي فإنما كان يريد أن تشعر بلحظة الحب الذي جذبه إلى وجهها البريء وضحكتها الصافية، وأنه قد عاش اللحظة المسحورة وثبتها في قلبه رغم أنها ردته عنها وأفهمته منذ البداية أن لا أمل على الإطلاق ولا داعي للتعلق بالأوهام.
كانت قد رجعت إلى مكتبها ورتبت أوراقا كثيرة في الملفات قبل أن تتناول رشفة من الفنجان وتقول له: على فكرة، صبرية أيضا تحب الشعر.
قال في مودة: هي أخت عزيزة، كنت دائما أسميها القديسة السمراء.
قالت في عتاب: وكان هذا يغضبها جدا.
قال وهو يرفع الفنجان إلى فمه ويردد بصوت محايد كصوت المسجل: شيء مؤسف، ولكنني ...
ردت مسرعة كأنها تطلق قذيفة: ولكنك لم تفهم أبدا أنها كانت تكتب الشعر فيك أنت.
لم يجد ما يقوله ردا على الدعابة التي جاءت متأخرة ونظر إليها نظرة تمنى أن تلمح فيها طيف العتاب: تعلمين أنني بطيء الفهم، لم أفهم أيضا أن النعمة كانت وما زالت بعيدة عني، لكن في النهاية كل واحد ...
أسرعت تكمل عبارته: نعم، نعم، كل واحد يأخذ نصيبه. ثم كأنها طوت الصفحة وانتهت منها إلى الأبد: لم تقل لي ماذا نويت عليه بعد رجوعك، سمعت أنك عشت مدة طويلة في بلاد النفط.
قال وهو ينتزع ضحكة خافتة ويحدق في وجهها: أنوي أن أكفر عن ذنوبي، كما فعل أفلاطون.
ندت عنها صيحة استنكار: أفلاطون؟ وتقول إنك توقفت عن الشعر والخيال؟
قال وهو يرتشف جرعة من فنجانه: بعد أن يئس ورجع خائبا إلى أثينا، قرر أن يكرس بقية حياته للتعليم على أمل ...
قالت متحيرة: ولكنك كنت تعلم دائما، لا بد أنك ...
قال مصححا ما لم تفصح عنه: قررت أن أنشئ مدرسة في بلدي؛ مدرسة لأبناء الفقراء وللأيتام، يعني استثمار معكوس.
ضحكت قائلة: استثمار شاعري أفلاطوني، يظهر أنك لا تعرف الأحوال هنا.
قال بسرعة: بل لأني أعرفها جيدا، وماذا تنوين أنت أن تفعلي؟
اختلست نظرة حذرة إلى ولدها الذي لا يزال عاكفا على تخريب لعبته المعقدة: ذهب وترك لي المشاكل كما قلت لك؛ ديون ثقيلة وتركة مفلسة ومفاجآت وصدمات أكتشفها كل يوم.
ترقرقت عيناها بالدموع، ومدت يدها تحت النظارة فمسحت دمعتين قبل أن يسقطا على خديها.
شعر أن اللحظة المسحورة تلتف في غيمة تزداد سوادا، وأن الرياح تزحف عليها من كل ناحية بالعويل والبكاء فترتطم بالأرض كالشهاب محترقة. خيل إليه أيضا أن يدها ترتعش وصدرها يعلو ويهبط. قال وهو يمنع نفسه من وضع يده على يدها: لماذا نعذب أنفسنا ما دمنا عاجزين عن تغيير ما حدث؟ ادعي له بالرحمة وفكري في نفسك وفي ولدك.
أخذت تقلب الملعقة في الفنجان. صمتت ولم تجد شيئا تقوله، وصمت هو أيضا وتعذر عليه أن يقول شيئا، ونظر في ساعته فتأكد أن الوقت قد تأخر فنهض واقفا وهو يقول: أستأذنك فلا بد أن أرجع اليوم إلى البلد. أرجوك أن تعتبريني دائما مثل أخيك. سأكون على اتصال بصبرية للاطمئنان عليك، وإذا أذنت لي يمكنني أن أزورك كلما حضرت إلى مصر، مع السلامة.
قالت وهي تجفف عينيها وتضع يدها في يده: مع السلامة. لا لزوم للتعب. هل يمكن أن نغير ما حدث، هل نستطيع إحياء الموتى؟
الكراسي
«قم وبلغ رسالتك، أعلنها على الملأ، قل كل شيء، اشرح كل شيء، إنهم جالسون أمامك، شخصيات مرموقة وأخرى مغمورة، كلهم جاء ليستمع إليك، ليعرف مضمون رسالتك التي ستنقذ الأرض والعالم والإنسان والحيوان والبيوت والأشجار، ها هم قد اصطفوا أمامك على الكراسي، زحام فظيع وكراسي في كل مكان، زحام فظيع وكراسي في كل مكان، امتلأت بهم القاعة والردهة والمدخل والممرات على الجانبين، كراسي وكراسي وكراسي، ومن لم يجد كرسيا وقف في الزوايا والأركان أو ربض كالقط العجوز تحت أحد الكراسي، قم يا أخي قم! ما هذا المرض الذي يقعدك عن القيام بدورك وإلقاء خطبتك؟ ألم تسمع عن إرادة الحياة؟ ألم تقرأ عن أناس هزموا أعضل الأمراض وأخبثها في عصرنا المريض؟ وهل يمنعك هذا من الوقوف على خشبة مسرحنا؛ خشبة مسرحنا الذي وقفنا عليه وجلجلت أصواتنا في عز الشباب؟ قم يا أخي وصديقي قم، الجميع ينتظرون خطبتك، الجميع ينتظرون.»
بهذه العبارات المبتورة وأشباهها مضى يناجي نفسه في طريقه من مجاهل العباسية إلى مشارف الروضة. لم يجد مواصلة مباشرة فاستأجر تاكسيا وطلب من السائق الثرثار أن يقف به على شاطئ النيل بالقرب من الكوبري التليد الذي طالما تمشى عليه مع صديقه؛ ليستنشقا الهواء النقي بعد سهرة طويلة وحديث أطول عن المسرح ومشروعاته وأحلامه في غرفته الملبدة بسحب الدخان الكثيفة ورائحة البيرة النافذة، وبعد أن هبط من التاكسي وتخلص من أسئلة السائق عن أخص أموره وجد نفسه وسط المتاهة المزعجة: أبواق سيارات تزعق كأنما ركبت لها حناجر ثيران تساق إلى الذبح ... سوق فوضوي اختلط فيه الماشي بالراكب بالدراجات بعربات الكارو بالفولفو والمرسيدس والنصر ومن كل الماركات، وتحسر على انتظام المرور وصرامته في البلد الصحراوي الذي قضى فيه سنواته الأخيرة. واكتفى بسؤال نفسه قبل أن يسأل عن العنوان الذي راح يتقلب ويطفو ويغطس في ظلمات ذاكرته: كيف صرنا إلى هذا الحال؟ هل سبقنا عرب البادية إلى الحضارة والنظام وتركونا نتصادم في الفوضى والشراسة والوحشية؟ وأدار ظهره للنيل الذي لم يشأ أن ينظر إليه حتى لا يفجع مرة أخرى بالتحسر على ركود مياهه وتيبس شريانه وانسياب سطحه الأملس البليد كظهر حوت عجوز ومريض. وبدأت تفاصيل العنوان تتخبط في صندوق دماغه كالوطاويط السوداء أو العصافير العمياء. آه لو استطاع أن يضع قدمه على الشارع! سيتذكر الكهربائي والرفا العجوز على الناصية، وبعدها المقهى الصغير الذي يأوي إليه البوابون وعمال التنظيم وعساكر القسم القريب وصبية الميكانيكية وباعة الجرائد المنهكين وصاحب دكان التموين بوجهه الصغير المنحس كوجه فأر مغبر خرج لتوه من تحت الأنقاض. آه لو يتذكر الكلمة الأولى من الاسم القديم الذي اقترن بالمماليك والسلاطين. هل هي السراي؟ الجامع؟ البوابة أم الباب؟ بل هي الحصن. نعم حصن، وربما مقياس النيل.
ومال على مقلاة ليسأل الشاب الأسمر الذي يقف خلف تلال صغيرة متجاورة من اللب والحمص والسوداني الشهي الرائحة: من فضلك، أليس هنا شارع قريب اسمه الحصن أو المقياس؟ قال الشاب مبتسما: إن كنت تريد شارع المقياس فهو خلفك، بعدنا بشارعين، على نفس الرصيف.
أجاب بسرعة: لا، لا، إنه قريب من هنا، ربما الحصن.
قال الشاب وهو يكتم ضحكته: يظهر أنك سائح يا أستاذ، تقصد حصن بابليون؟ إنه هناك في مصر القديمة.
وخرج الشاب من وراء التلال الصغيرة التي تفج منها الرائحة الكثيفة الدافئة ليدله على الطريق فومضت الكلمة في رأسه كشرارة برق خاطف وسأله: القلعة، لعلها القلعة!
ضحك الشاب وهو يشير إلى الأرض: قلعة الروضة؟ لا يمكن أن تقصد قلعة صلاح الدين! وبادله الضحك: لا، لا، ليس إلى هذا الحد! صحيح أنني غبت طويلا ولكني لم أصبح من السواح. وضع الشاب يده على كتفه وقال: خطوتين وتدخل القلعة بنفسك يا حاج، الشارع الذي تريده على اليمين.
شكره وأجزل في الشكر وهو يخبط جبهته بكفه اليمنى خبطة مدوية، وتركه وهو يعتذر له بحكم السن.
شعر بالاطمئنان يعود إليه وهو ينقل قدميه على أرض الشارع الذي طالما قطعه ذهابا في أول المساء وإيابا قرب الفجر، وأخذ يقلب بصره بين المحلات والدكاكين والأسوار الحجرية الداكنة الصفرة والبوابات الحديدية الصغيرة والشرفات النحيلة ذات العمدان الملتوية القصيرة كراقصات عاريات البطون، وخيل إليه أن هذه الشرفات تطل فتحاتها في دهشة على الضوضاء الزاحفة والأصوات الجهورية الغاضبة التي لم يكن لها صوت في الزمن القديم. وما هي إلا لحظات حتى وجد نفسه أمام البيت ذي الشرفات الواسعة في أدواره الثلاثة بلونها الليموني الفاتح. لم يجد صعوبة في العثور على المدخل الذي يقود إليه ممر طويل كان يتوقف فيه كلما رأى القطة السوداء السمينة وتذكر عنادها وكبرياءها ووجهها المستدير الفاحم السواد الذي كانت تشيح به جانبا وتمضي في سبيلها كلما حاول الاقتراب منها والمرور بيده على ظهرها. صعد السلم بخطوات ربما كانت أبطأ وأثقل مما تعود عليه، لكنه شعر بالراحة تغمره وتسري في كيانه كله كمياه جدول صاف عندما وقف أمام الباب الذي يحمل نفس اللافتة القديمة بنفس الخط الذي كتب به اسم صاحبه على سطح اللوح النحاسي المستطيل الذي بدا له باهتا أكثر مما كان ومغبشا ببقع بنية داكنة تقترب من السواد. لقد سمع من أحد معارفه أن صديقه مريض منذ سنوات، ولكنه لم يسأل نفسه عن نوع المرض وشدته ومداه. كان كل ما يشغله هو أن يزوره ويداعبه ويحيي معه الأيام والليالي التي شاركه فيها في تقديم الكراسي وتقبل التصفيق الحار من الجمهور الصغير بالانحناء والامتنان، وربما خالجه الأمل الغامض في أن الذكريات الحية يمكن أن تبعث أنفاس الصحة والقوة في الجسد المريض الغائب عن المكان والزمان.
ضغط على زر الجرس فتردد صوته المشروخ في جنبات الردهة الواسعة كما كان يفعل تماما قبل عشر سنوات، ومال به الخجل الفطري ناحية الحائط كما كان يفعل على الدوام وهو يطرق برأسه ويرد على الصوت المتسلل من شراعة الباب دون أن يرفع عينيه. أجاب على الصوت المتسائل قائلا: أنا عاصم، عاصم النجار.
كان يظن أن نطق اسمه كفيل بتعريف صاحب الصوت الخافت بصديق الشباب وزميل الكفاح القديم، ولكن الصوت المتسائل ارتد إليه في حزن لم يخف عليه: معذرة، هل تسأل عن أحد؟
قال في مرح مكتوم كأنه يستنكر الجهل باسمه أو نسيانه: أنا صديق الأستاذ شهاب إسماعيل.
وملأ صدره بالهواء قبل أن يقول بلهجة اختلط فيها المرح بالدهشة بالعتاب: عاصم، عاصم الذي كان يزوركم كل جمعة وأحيانا كل يوم بعد انتهاء العروض ولا يخرج قبل الفجر. صديق شهاب وزميله في عرض الكراسي. وقبل أن يفصح عن عجبه الشديد كانت الشراعة قد أغلقت وسحبت يد المزلاج من الداخل وواربت الباب قليلا - ظل مطرقا برأسه وإن رفعه قليلا كي تتمكن سيدة البيت من إدراك خطئها الكبير - وسرعان ما جاءه الصوت الذي لم تغب عنه في هذه المرة نغمة التردد والأسى العميق: أهلا وسهلا، لا تؤاخذنا يا أستاذ ...
أسرع موضحا اسمه وهويته المؤكدة: عاصم النجار، يا ما وضعت الحمامة والخليفة أبو بكر على كتفي ومعهما القطة السوداء التي ألف عنها شهاب الكتاب، يا ما لعبت معها و... ورد عليه الصوت أكثر وضوحا وحسما: نعم، نعم يا أستاذ، ولكن هديل في الشغل، وأبو بكر في المصنع ويزورنا كل أسبوع أو كلما احتجنا إليه، أما شهاب ...
تحشرج صوتها واختنق بالدموع - لم تستطع أن تخرج حرفا واحدا فأسرع يقول: أعلم أنه مريض من سنوات. - مريض؟ ادع له يا أستاذ.
لم يملك نفسه من الصياح: لا لا، لا تقولي هذا، لقد عرفت أنه حي ويصارع المرض. أجاب الصوت المختنق واتسعت فتحة الباب: نعم يا أستاذ ولكنه لا يحيا ولا يموت.
أوشك أن يندفع نحو الباب ولكنه كبح قدميه في اللحظة الأخيرة: اعذريني يا سيدتي. أنا مقصر، ولكنني كنت خارج البلاد، أرجوك لا تحرميني من رؤية شهاب.
رفعت السيدة وجهها وتأملت وجه الزائر الذي اتضحت ملامحه لعينيها بعد أن تعودت على الظلام الذي غلف السلم بغلالة بدأت تخف قليلا. قالت وهي تهز رأسها: ولكنه غائب عن الوعي، لا يعرف أحدا ولا يزوره أحد.
رد عليها بثقة لم تكن في محلها تماما: اسمحي لي بزيارته، بإذن الله سأعيد إليه وعيه، تأكدي من هذا. تفرست عيناها فيه لحظات قبل أن تشعل ضوء الصالة وتفتح له الباب. وظل مطرقا برأسه خافضا بصره حتى نبهه صوتها: تفضل، تفضل لتتأكد بنفسك.
دخل من الباب وهو يحيي بصوت متلعثم، وسبقته إلى الحجرة الداخلية ذات الباب الزجاجي العريض. قدم إليها باقة الورد التي أنساه الارتباك والعتمة أن يناولها إياها عند دخوله وسمعها تقول: البيت بيتك، يمكنك أن تجلس معه كما تشاء. ثم وهي تفتح باب الحجرة وتطل على المريض الممدد على السرير السفري الذي بدا هيكله الأبيض العادي كهيكل حيوان بحري في متحف: إنه نائم الآن، أرجوك لا توقظه، ربما يكون من حظك أن يفتح عينيه، وإذا تعبت من الانتظار يمكنك أن تنصرف وتغلق الباب وراءك. أنا مضطرة للذهاب في أمر هام. سأعود بعد ساعة وربما حضرت قبل هديل، أقصد الحمامة. إنها تمر علينا كل يوم قبل الذهاب إلى بيتها. المسكينة تنتظر مثلك ساعات حتى يفتح عينيه، تفضل، اجلس على أحد هذه الكراسي.
كاد أن يقول لها إن حظه سيكون أوفر من حظ الحمامة، لكن السيدة التقطت حقيبتها الجلدية وشكرته على الورد ثم استأذنت مسرعة وأغلقت باب الشقة وراءها.
وجد نفسه وحيدا معه في الحجرة الصغيرة التي هبت عليه منها رائحة الأدوية النفاذة والحيطان البيضاء العارية كأنها في إحدى المستشفيات. كان الضوء شحيحا والمكان تسبح فيه الظلال الصامتة كأرواح الأسلاف؛ الآباء والأجداد والممثلون والمخرجون الذين ذهبوا ولم يذهبوا وماتوا ولا يزالون أحياء. تأمل الستارة البنية الفاتحة والأوراق والزهور الناحلة الألوان كأنها بقع على لوحة فنان حديث، ونظر إلى الرف الخشبي الصغير الذي رصت عليه الزجاجات وعلب الدواء وربطات القطن والشاش ووعاء الحقن، وبعد أن أحس أنه تشاغل عن المريض الممدد على السرير خجلا أو رهبة بالأشياء المتناثرة في نظام دقيق، تشجع واقترب منه. جلس على طرف السرير ووضع قدميه على المشاية الرمادية التي لاحظ خيوطها المتدلية من أطرافها كشعرات من رأس قطة غاضبة.
كان شهاب ممددا على مرتبة السرير الصغير بجسده الضخم كأنه عنترة أو هرقل. رأسه ووجهه الملحم المستدير مائل قليلا ناحية الحائط، وذقنه حليقة ولا أثر للحية الكثة التي نمت واستطالت في وقت من الأوقات حتى كان يداعبه ويسميه أبا ذر حينا وزعيم السيخ حينا آخر، وكذب الكرش الضخم الذي تكور متورما أمامه كل ظنونه التي صورت له وهو في الطريق إليه أنه قد أصبح هزيلا شاحب اللون، وتعجب من المرض الذي يحول إنسانا إلى حصان هائل القوة والحجم في نفس الوقت الذي يشل فيه حركته ويقيد عقله وأعضاءه بقيود أقسى من الحديد.
لم يدر ماذا يفعل. أخذ يتأمله من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى. كانت أول مرة في حياته ينفرد فيها مع جسد مصمت أصم. إنه صديقه بالتأكيد، لكنه مجرد من كل شيء يميز الصديق إلا الجسد الممتلئ كأنه كتلة حجرية محفورة في الجبل. لا شك أنه يأكل ويشرب ويمارس وظائفه الحيوية على أكمل وجه، لكن الحياة التي تباشر سلطانها المهيمن عليه لم تترك له شعاعا واحدا من الوعي يمكن أن يساعده على تعرف أهله وأصدقائه أو يمكن أن يطل مرة واحدة من عينيه، وها هو يغط في نومه كحصان خرافي ضخم، كيف يعامله أو يعرفه بنفسه وهو كما قالت له زوجته قد غاب عن نفسه وعن كل شيء؟
تقلبت الكتلة الحية على الجنب الأيمن ومدت ذراعها إلى الملاءة الخفيفة عند القدمين وشدتها عليه، وانفتحت العينان لحظة ثم انغلقتا، واستدار الجسد ليواجه الحائط فوجد الضيف نفسه في مواجهة الظهر العريض القوي. قال لنفسه: لماذا لا أجرب؟ ألا يمكن أن ترجع إليه لمحة تومض وتشتعل كالبرق في أغصانه وتكتسح الغياب والتحجر من كيانه؟ وإذا كان قد نسي صديقه فهل يمكن أن ينسى التجربة التي زلزلتنا في أول الشباب؟ أخذ يتكلم تاركا نفسه على سجيته، موقنا بأن الأمل لا يصح أن يضعف أو ييئس حتى مع المستحيل ... وبدأ صوته يتدفق كالأمواج المتلاحقة وهو يصعد فوقها ويسقط ويعاود الصعود: أهكذا يا شهاب لا تحس بصديقك ورفيق كفاحك؟ أيمكن أن تنسى جهودنا وسهرنا في حجرة مكتبك ونحن نعد «الكراسي» ونتناقش حول الديكور والأضواء والإخراج وحركات الممثلين؟ ونجاحنا كل ليلة وأصواتنا المجلجلة وجرينا على الخشبة ونحن نحمل المزيد من الكراسي ونرحب بالمدعوين الوهميين ونجلسهم في أماكنهم ثم نستحم في آخر الليل تحت طوفان التصفيق والهتاف من المعجبين؟ لا لا، لا تشمت أحدا فينا، لا تدع أحدا يقول إن الشهاب قد انطفأ وصار رمادا، إن عصام قد اغترب ونسي نفسه وفنه في رمال الصحراء، لا تترك الخشبة للأدعياء والكذابين والمهرجين وتجار الشنطة الثقافية وشيوخ الذهب الأسود، قم يا شهاب، أفق من نومك فالعالم ينتظرك. انهض كالعنقاء من الرماد وثبت قدميك على الخشبة، لم يضع كل شيء، لم يتحطم كل شيء، ستقوم الآن أيها الخطيب وتلقي خطبتك، ستقوم وتقول كل شيء.
لم تبدر من الكتلة الحية بادرة حياة. ظل صوت النفس المتحشرج بالشهيق والزفير يتلاحق في دوامات أشبه بدمدمة بخار ساخنة تتصاعد من فوهة بركان، ونهض عاصم من مكانه على طرف السرير السفري الذي يلمع هيكله بالبياض الناصع كأنه تابوت رخامي. مد ذراعه في هدوء وطاف بها على ذراع شهاب وجنبه الأيمن وظهره العريض الذي أداره له. ثم سحبها بسرعة وهو يمني نفسه بأن الكلمة يمكن أن تنفذ في الحجر وقد تحفر فيه ثقوب الوعي: تعال يا شهاب نتذكر ليلة العرض الأولى. في ذلك المسرح الصغير الذي انتهى عمره القصير بالكارثة. بالطبع لم تنس الحريق الذي أتى عليه ولم نفهم أبدا أسبابه، والتقينا يومها يا شهاب وبكينا وتعاهدنا عهد العنقاء الذي قطعناه أمام الركام المتفحم وكأننا نصلي لإله غامض في قدس أقداسه المحترق، لكن لماذا أبدأ دائما من النهاية؟ يظهر يا شهاب أننا عجزنا ولم يبق لنا إلا الذكريات، لكن تعال نبدأ من البداية، تعال نرتجل التمثيل الليلة كما تقول إحدى مسرحيات صديق احترق هو أيضا وبقي مع ذلك حيا في صدورنا، تصور معي ساعة انفرجت الستارة. كان الصمت يهيمن على القاعة والخشبة وقطع الديكور والمتفرجين كما يهيمن الآن على هذا المكان شبه ظلام، وأنا الزوج العجوز أطل من النافذة اليسرى وأترقب وصول المدعوين، وزوجتي العجوز تدخل دون أن أشعر بها وتوقد مصباح الغاز وينتشر النور الأخضر.
الزوجة: لا شك أنك عالم كبير، أنت موهبة يا حبيبي، كان من الممكن أن تصبح رئيسا أو زعيما أو ملكا أو طبيبا أو قائدا - صحفيا كبيرا أو ممثلا أول أو ماريشالا - لو أنك شئت ذلك فحسب، لو كان لديك الطموح الكافي، لكن ذلك كله سقط في الهوة؛ الهوة السوداء.
وأرد عليها أنا الزوج العجوز : فيم كان يفيدنا ذلك يا حبيبتي؟ لو حدث لما كانت حياتنا أفضل مما كانت، ومع ذلك فنحن سعداء راضون، أليس كذلك؟ نحن في مركز محترم، وأنا قائد ورئيس على كل حال، وما دمت أعمل حارسا لهذا البيت فأنا قائد عظيم.
ويرن الجرس بعد ذلك رنينا متواصلا، ويتوافد المدعوون أفرادا وجماعات، ونجري أنا وزوجتي العجوز من باب إلى باب، ندخل ونخرج ومعنا الكراسي والمزيد من الكراسي، ويتوالى رنين الأجراس ويتوافد المدعوون، والكراسي لا تكفي كل المدعوين، والقاعة لا تتسع لكل الصفوف، وأجراس تدوي وأجراس، ومدعوون جدد باستمرار، وأنا أرحب بالضيوف المنهمرين: تفضلوا أيها السادة، تفضلن أيتها السيدات، وأنت أيها الصغير، هنا مكان لك مع السيدة الشابة الجميلة والكولونيل، ادخلوا، ادخلوا. وزوجتي تجري لاهثة من باب إلى باب تحمل المزيد من الكراسي وتصيح: أوه! أوه! ما أكثرهم! المكان يضيق بهم! لا يمكن يا زوجي أن تكون قد دعوت البشرية كلها، لا يمكن أن تكون كل هذه الأعداد مهتمة بسماع الخطيب، وآه منك ومن نسيانك يا زوجي الحبيب!
وأطمئنها أنني لم أنس أن أدعو الخطيب وأشدد عليه بالحضور. إنها تعلم أنني لست فصيحا كما ينبغي ولا أفهم في صوغ العبارات الرنانة والكلمات المؤثرة، وبرغم حبها لي، في المسرحية وحدها بالطبع، وبرغم قلقها الدائم علي لأنني أتعب أكثر مما تحتمل سني التي زادت على التسعين، ولأنني لم أرتد سترتي الصوفية بالليل، برغم هذا كانت تعلم أن حبي لها أقوى من كل ما أردده بلسان المؤلف، وأنني الطفل اليتيم الحزين الذي يجلس على حجرها ويتعلق بصدرها ويتمنى، على العكس مما تقتضيه إرشادات المخرج والمؤلف، يتمنى أن يتشبث بها ويرتبط بقلبها وجسدها بالرباط الأبدي. هل تذكر يا شهاب؟ هل تذكر حبي لزوجتي العجوز هيفاء إبراهيم؟ انتفاضة كل شعرة في كلما رأيتها، تلعثم لساني واصفرار وجهي وارتعاش شفتي ويدي كلما هممت بتوجيه الكلام إليها أو الرد على أسئلتها وثرثرتها المتواصلة؟ لا يمكن أن تكون قد نسيت. لقد عرضت علي أن تتوسط لتخطبها لي أو على الأقل لتقرب سماءها البعيدة مني، ولكم عنفتني وضربتني باللكمات القوية على صدري: تحرك يا حجر! انطق يا صنم! وتحرك الحجر أخيرا ونطق الصنم فارتدت إليه الصدمة من حجر أقسى وصنم أعتى. تزوجت هيفاء بعقد عرفي من الممثل الكبير ذي الصوت القبيح والنظرات الشرسة والعبارات المتورمة، ومرت شهور فرماها عظما بعد أن نهشها لحما، وسقطت في بحور ظلمات الكومبارس التي لم تطف فوقها أبدا. في نفس العالم السفلي الذي سقطنا فيه يا صديقي ولم نخرج؛ أنت في غيبوبتك الطويلة وأنا في غربتي. لكن لا ... لا يا صديقي! آن أوان الخروج والصياح والصراخ! آن أوان الوقوف على الأقدام وتبليغ رسالتنا للمسرح والعالم والأرض والبشرية! لهذا جئت إليك ولا بد أن تسمعني! لهذا جئت ولا بد ...
كانت الكتلة الحية قد تحركت وهو لا يدري. انتصب الجسد القصير الممتلئ على الفراش نصف انتصابة وأسند ظهره للمخدة المستطيلة المطرزة بخيوط ذهبية ترسم طاووسا ملون الريش بذيل أزرق مبالغ في طوله، والتفت عاصم فوجد أمامه عينين مفتوحتين تحدقان في الفراغ. لم يطرف لهما جفن ولم يحسا به أدنى إحساس، لكنه امتلأ بالثقة وتيقن من أن الأمل ليس بمستحيل، واقترب منه ووضع كفه الطويلة النحيلة الأصابع على صدره. ظلت العينان تحدقان في الفراغ والكتلة الحية فاقدة لكل أثر للحياة، لكنه لم يفقد الأمل الذي تصور أنه يقترب منه بأسرع مما قدر، وعاود كلامه وهو يذرع المساحة الضيقة ويلف ويدور حول الكرسيين الوحيدين في الغرفة في ذهابه وإيابه: لا بد أنك تابعت كلامي وعايشت الحركة التي ضج بها المسرح.
حضر المدعوون جميعا ولم يتخلف أحد ... وربما وقفت صفوف منهم خارج الأبواب لأن القاعة ازدحمت عن آخرها والممرات والزوايا والأركان. كلهم جلسوا على الكراسي الخالية المتراصة صفا وراء صف أمام جمهور المتفرجين. الكل حضروا وتجسد الوهم حقيقة ترجف لها القلوب وتتوقف الأنفاس وتذعر العيون. كل الصحفيين والعلماء. كل الحراس والسجناء، الشيوخ والقساوسة والعازفون والنجارون والمهندسون ورجال الشرطة والتجار وموظفو البريد والبرق والأرشيف وعمال السكة الحديد والملاك والمعدمون والمليونيرات والمتسولون ورجال الضرائب والجمارك والبحارة والبناءون والمطربون والخدم المأجورون والأطباء والمصلحون والمتمردون والقانعون واللصوص والنشالون والمعلمون والمخربون ... كلهم كلهم يا صديقي ... حتى الأشجار والكلاب والقطط الضالة والمترفة التي كتبت عنها ... حتى قطتك السوداء السمينة التي كانت تتكبر علي باستمرار وترفض أن أربت على ظهرها الذي يتقوس وينتفش وتتحفز معه مخالبها كلما حاولت أن أمر على رأسها وشعرها، كلهم كلهم جاءوا من جهات العالم الأربع ليستمعوا إليك، نعم إليك أنت بالذات، أنت الذي دعوته ليلقي خطبتي ويبلغ رسالتي الأولى والأخيرة، أنت الخطيب الذي انتظره الجميع وما زالوا ينتظرون.
توقف عاصم في وسط الحجرة ورفع ذراعيه إلى أعلى كأنه يتلو صلاة لا يستطيع تأجيلها، ثم اقترب من الكتلة الحية التي ثبتت نظراتها الجامدة في الباب الزجاجي المقابل وقال: نعم لا بد أن تثق بنفسك. لا بد أن تؤديه كما أديته أداء رائعا قبل عشر سنوات، بل عشرين بل ثلاثين. تقول لماذا؟ وهل يمكن أن تنسى؟ هل يتصور أحد أنك تجاهلت الإمبراطور؟ استمع إلي، استمع يا شهاب إلى هذه الكلمات، هذه الكلمات التي تبادلتها مع زوجتي كما يتبادل الحواة الجمرات أو الفرسان الحراب المشتعلة بالنار، وها أنا الزوج العجوز أصيح بزوجتي: يجب علينا إنقاذ العالم!
وترد زوجتي هيفاء كالصدى: سينقذ روحه بإنقاذ العالم.
وأهتف مرة أخرى: حقيقة واحدة للجميع!
ويرد الصدى الحبيب: حقيقة واحدة للجميع!
وأهتف مرة ثالثة: اسمعوني؛ لأن عندي اليقين المطلق!
تجيب الحبيبة: اسمعوه لأن عنده اليقين المطلق!
ونصرخ معا بصوت واحد يخرج من حنجرة البشرية: الجميع ينتظرون وصول الخطيب، لا بد أن يصل فقد قاسينا الأمرين، انتظروا ولا تيئسوا، حان وقت وصوله.
توقف عاصم النجار في وسط الحجرة وهو يلهث من التعب والصراخ. كان قد مثل الدورين معا، دور الزوج العجوز والزوجة العجوز ولم يكف عن التلويح بيديه وذراعيه في كل الاتجاهات والتعبير بهما عن شتى الانفعالات والإيماءات، واقترب في ثقة من السرير السفري والكتلة المحدقة في الفراغ وهو يقول: كنا جميعا ننتظر وصول الخطيب. أتدري من جاء أيضا ليستمع إليه؟ أنت تعلم بالطبع ؛ فأنت الذي لقنت الجميع أدوارهم ومخارج كلماتهم وضبطت حركاتهم وإشاراتهم. من الذي جاء؟ قل أي اسم! تكلم يا شهاب! إنه الإمبراطور! الإمبراطور بنفسه جاء يزورنا! صاحب الجلالة نفسه في دارنا؛ في دارنا! وتنطلق موسيقى وتنفخ أبواق، ويغمر ضوء وهاج خشبة المسرح والنوافذ والجدران والكراسي والشخصيات المرموقة والشخصيات المغمورة التي تجلس عليها والواقفين في الأركان المظلمة والقابعين كالقطط أو الجراء الصغيرة تحت الكراسي والأرائك والمزهوين بالثياب الفخمة المزركشة وأشباه العراة المستورين بالهلاهيل المرقعة والحفاة، ويدوي صوت زاعق يخرج مني كل ليلة أنا الزوج العجوز المحظوظ: سيداتي سادتي! انهضوا أجمعين! مولانا المحبوب بيننا، مولانا سمع استغاثتنا وجاء لينصت بنفسه إلى رسالتي التي سيبلغها له الخطيب، هل تسمعني يا مولاي؟ هل تراني؟ إنني أرى وجه جلالتكم، جبينكم المعظم، والتاج المتلألئ على جبينكم، والإكليل الذي يحوط وجهكم وجبينكم وتاجكم بهالة العظماء والقديسين، لكنني لا أستطيع أن أصل إليكم أو أسمعكم صوتي، أكثر عبيدكم إخلاصا ووفاء لا يستطيع أن يشق الزحام ويصل إليكم، لكن الخطيب سيأتي حتما، سيلقي أمام وجهك العظيم خطبتي الهامة، بل استغاثتي يا مولاي العظيم واستغاثة هؤلاء المدعوين وكل الذين لم يتمكنوا من الحضور، استمع إلى الخطيب يا مولاي وأنصف عبدك الذليل، رد الحق لكل هؤلاء العبيد، ولمن يذهبون إلا إليك وأنت النصير، لمن يشكون إلا إليك وأنت الملاذ الأخير.
انتهى عاصم من هتافه وصراخه وشعر أنه قذف سيلا من الحمم في أذني شهاب الذي بقي متجمدا كالصخر العنيد، وأحس بشيء من الإرهاق الذي يقارب الإغماء فشد كرسيا وجلس عليه. مال برأسه على المسند الخشن لحظة ثم أفاق على صوت نفذ في أذنه كهبة ريح مفاجئة ممدودة: هوه! هوه! قام من مجلسه كالملسوع ولم تسعه الحجرة الضيقة من الفرح، وازدادت فرحته الطاغية عندما خيل إليه أن العينين المرهقتين تتطلعان إليه في فضول، وعاودت الحمم انطلاقها دون توقف: هيا يا صديقي! هيا فالجميع ينتظرون، والإمبراطور نفسه ينتظرك، مولانا العظيم الذي جاء بنفسه ليسمعك، نعم نعم، الجميع ينتظرون، قم وأد واجبك!
لماذا تنظر إلي هكذا؟ ألست صديقك عصام النجار؟ ألم تلقني كل الكلام الذي قلته وحفظته عن ظهر قلب؟ أتشك في أن الخطيب قد وصل وأنني هتفت صائحا وهتفت معي زوجتي الحبيبة العجوز ... زوجتي الحبيبة المستحيلة التي خانتني كما خانني الأصدقاء: ها هو الخطيب! إنه هو بلحمه ودمه! وصل فعلا أيها الناس! وصل فعلا وستستمعون إليه في الحال! نعم يا صديقي شهاب! فتحت الباب الكبير على مصراعيه ببطء وتقدمت في صمت. أشبه برسام أو شاعر من القرون الماضية. على رأسك قبعة من الجوخ الأسود واسعة الإطار وتتدلى على صدرك ربطة عنق كأنها عقدة ضخمة مسترسلة، وتغطي كتفيك ونصفك الأعلى سترة خضراء فضفاضة. كانت لك لحية قصيرة وشارب، لكن لا تكترث بما كان في الزمن القديم. فها أنت تخطو وسط الزحام كأنك تنزلق أو تتزحلق، تسير في طريقك لا تبالي بالأيدي التي تلمس ذراعك لتتأكد أنك موجود بلحمك وعظمك، وأنك جئت وسوف تلقي خطبتك وخطبتي وخطبة الجميع ... الخطبة التي ستنقذ العالم وتأخذ بيد البشرية الضائعة، نعم لقد وصلت
شرايينهم وأوردتهم. وصلت يا صديقي ولست حلما ولا وهما.
اقترب منه عصام ومال برأسه الصغير الذي خطه الشيب على رأسه. زعق فيه بصوت دوى في فضاء الحجرة الضيقة كأنه يخرج من مكبر فظيع للصوت: قم يا شهاب! قم من الرماد واحترق! وتلألأ كما كنت تفعل كل ليلة! قم وأبلغ رسالتي ورسالتك ورسالة كل هؤلاء. دار حول نفسه عدة دورات وهو يشير بذراعيه في الهواء ولا يكف عن إصدار الأوامر والنواهي والأصوات، وأخذ يذهب ويجيء فوق مربعات البلاط المتتالية البياض والاخضرار وهو يهتف: قم أيها الخطيب! قم أيها الخطيب!
تردد الصوت وراءه مرة ثانية. كان في هذه المرة متحشرجا وقويا كالصفير في مزمار مثقوب، وخيل لعصام أنه صوت آخر لا عهد له به. التفت وراءه بعد أن أخرج نفسه بمشقة من الدور الذي اندمج فيه إلى حد الغياب. كانت الكتلة الحية قد تحركت ومالت بجسدها الضخم إلى الأمام، والعينان السوداوان الواسعتان تحملان تعبيرا يشبه الحسرة أو الاستغاثة أو التألم من العجز والحرمان.
أسرع عصام يلبي النداء الأخرس. أقبل على المريض مندفعا وهو يفتح صدره ليحتضن رأسه وصدره ويضمهما إليه بشدة، وأخذ يمطره بكلماته التي لم تعد جمرات حارقة بل دعوات مفعمة بالثقة والفوز المحقق: كنت أعرف أن تجربتي ستنجح. كنت أعرف أنه كامن فيك يريد أن يستيقظ ويموج بالحركة والكلام والمعنى. هذا الجنون المسرحي الذي متنا فيه عشقا وغراما وهياما. هذا المعبود الذي رحنا نبحث عنه في غربتنا وغيابنا كما يبحث شبح قيس الهائم في مضارب القبائل عن خيمة ليلى. لم نسقط يا صاحبي ولم يسقط المسرح. رغم كل شيء لم ننطفئ يا شهاب ولم نتحول إلى رماد، وإذا كنا قد سقطنا في الحريق الكبير فبإمكاننا أن ننهض من بقايا الرماد والأنقاض والدخان ... تعال، حاول أن تضع قدميك على الأرض. استند على كتفي ولا تخف. إنهم يتطلعون إليك وينتظرون. سيداتي سادتي! مولاي صاحب الجلالة الإمبراطور! مواطني الأعزاء! يا أبناء الأرض المريضة التي امتلأت بالثقوب وتهددكم كل لحظة بالسقوط منها إلى الظلام؛ إلى المجازر الجماعية والمقابر الجماعية والتلوث الذي يزحف ليغطيكم كالكفن الأسود الكبير وينفذ إلى صدوركم ورءوسكم وأطفالكم وأجنتكم في الأرحام ليفترسها بعد أن افترس الكنوز والتهم الخضرة التي ورثتموها من أسلافكم. زملائي ورفاقي في الكفاح! أتوجه إليكم دون تمييز في السن أو الجنس أو اللون أو الدين أو المكانة الاجتماعية ... أتوجه إليكم لأطلب منكم السكوت والخشوع ... لأقدم إليكم الخطيب.
كان شهاب قد التصق به كطفل هائل الحجم يفتش عن ثدي الأم الحنون - وحاول عصام أن يحركه قليلا ويساعده على مد ساقيه ليلمسا البساط الصغير المفروش أمام السرير. تأكد له أنه يحرك جبلا راسخا بأمر الطبيعة الأقوى منه ومن كل محاولاته، ومد ذراعه فقرب الكرسي الذي كان يجلس عليه. وندت من المريض آهات متكررة كدفعات زوبعة ساخنة أو دفقات ماء مغلي. صرخ عصام في أذنه: لا بد أن تلقي خطبتك! لا بد أن تبلغ رسالتي ورسالتك! الجميع ينتظرون. الإمبراطور جاء بنفسه ليسمعك، هيا يا شهاب! ليس من الضروري أن تقف فوق المنصة. لا داعي لأن توزع التوقيعات على الحاضرين. المهم أن تقف كأي خطيب فصيح وراء هذا الكرسي وتنطق بالرسالة. تماما كما يفعل أي أستاذ عظيم. إنني أبكي وتبكي معي زوجتي الوفية ويبكي الحاضرون. حتى الإمبراطور يمسح الدموع بمنديله الملكي الشفاف المنسوج من خيوط الذهب والحرير. قم! قم يا شهاب! قف وراء هذا الكرسي وقل كلمتك! قل كلمتنا جميعا ولا تدع المسرح يسقط.
كما تحدث المعجزات فجأة وبغير قانون أو تدبير، أطلق شهاب صرخة أسد غاضب ينتفض ويفجر قيود الشلل القديم، ولف عصام ذراعيه حول كتفيه وصدره ورفع جذعه الضخم إلى أعلى فاستجاب له. قرب منه المسند الخشبي وشدد قبضة يديه عليه، واستطاع المريض أن يشد قامته قليلا ويلف قبضته على حافة المسند الذي ثبته عصام بكل قوته، وتدافعت الآهات المبتورة والحروف المهشمة من فم الخطيب كالغطيط أو الأنين بغير حساب. أخذ صدره يتحشرج بأنفاسه الملتهبة وهو يدمدم بالحروف وأنصاف وأرباع الحروف: هو ... هو ... هو ... هيه ... هيه ... هيه ... مم ... مم ... جو ... جو ... جو ... وعصام يتابعه ويشجعه ويربت على ظهره: قل كلمتك للجميع! قلها على الملأ كله! لم يضع كل شيء! لم يتحطم كل شيء! المسرح فيك ولم يحترق! المسرح حي ولن يسقط أو يموت! قل يا شهاب! بلغ رسالتك ورسالتي ورسالة الملايين المقتولين والمنسيين! قل! قل! قل! انفتحت ضلفة الباب الزجاجي على مهل وأطل منها وجه الأم ومن خلفه وجه هديل. استقبلتهما الآهات والتنهدات وشظايا الحروف والكلمات التي صدمت وجهيهما ونفذت في اللحم والجلد والعيون كالإبر المحمية في النار: هو ... هو ... هو ... جو ... جو ... جو ... ميم ... ميم ... صرخا في نفس واحد: ماذا تفعل يا مجنون! ماذا تفعل يا مجنون!
ارتفعت قبضة عصام التي كانت تمسك بشهاب وتثبته من كتفيه، وانتفض جسده الذي فوجئ بظهور الوجهين والصراخ الذي انبعث منهما كأنما صدمه وجه قطار مسود يتصاعد منه صفير وحشي. أفلت الجسد الهائل وارتطم بالأرض كصخرة وقعت من أعلى الجبل، وفي لحظة كانت الكتلة الحية ممددة على البلاط لاهثة الأنفاس، وجسدا المرأتين ينحنيان عليها ويولولان. لم يدر ماذا يفعل. تحرك في اتجاه الباب المفتوح وهو يتمتم بكلمات محمومة تخرج منه ولا يدري إن كانت قد أفرغت شحنات الرعب والأسف والاعتذار، ووجد نفسه في الصالة يتعثر في مشيته ويطارده نشيج الزوجة والابنة: منك لله! منك لله! وفي طريقه المعتم كأنه يجتاز نفقا خانقا إلى باب الشقة وقعت عينه على الباقة التي جلبها معه موضوعة في زهرية من الكريستال اللامع وسط الظلام، والزهور تطل منها كوجوه أطفال موتى يحدقون فيه بعيون متسائلة مذعورة. أغلق الباب وراءه وهو يقول لنفسه: حاولت وحاولت. لكن من قال إنني السيد المسيح؟!
1
الملقن
ماذا جرى لي؟ هل أنا في حلم؟ ألم يكن معي طول الوقت، نتذكر أيامنا ونحكي ونمثل ونضحك ونبكي معا؟ هل تركني وذهب حتى دون كلمة وداع؟ لا لا، لا يمكن أن أكون في حلم. هذه حجرتي البائسة في البنسيون الحقير. الكنبة، والمرآة مع التسريحة، والمائدة الصغيرة المستديرة، وأشيائي وتذكاراتي وصوري المبعثرة في كل مكان، على الحوائط، وفوق الكراسي، وحتى السرير الذي أنام عليه تزاحمني فيه. نعم هذه هي حجرتي، والأصوات التي تأتيني من بعيد هي أصوات الناس في الشارع وضجيج العربات وصيحات الباعة، ما الذي جرى لك يا فاطمة؟ بعد هذا العمر الطويل لا تميزين بين الحلم والحقيقة؟ لأنظر في المرآة لأتأكد أنني لا أحلم ولا أمثل على المسرح. هذه هي أنت ولست أنت. ملكة التمثيل العربي التي لم يبق منها إلا حطام. الوجه الذي جن به العشاق والمعجبون حفرته الأخاديد وامتلأ بالتجاعيد. العيون السوداء الساحرة أصبحت ذابلة منكسرة وتائهة، والشعر الذي كان يميل على الجبهة وينسدل على الظهر أصبح ثلجا منفوشا كشعر عفريتة أو مجنونة، والخدان، والفم الذي طالما خرجت منه الدرر، والبياض والنضارة، والسحر، والعذوبة، والفتنة التي كانت تشع منك وتدوخ الجميع، كله الآن ظلام. ظلام وحطام.
واثقة أنا من رؤيته والكلام معه واستعادة الماضي الذي حضر أمامنا بلحمه وعظمه، واثقة من أنه هو ولا أحد غيره. جبهته العريضة. رأسه الأصلع. عيناه القلقتان، يده المضمومة على الدوام، ويده الأخرى المسنودة إلى خده وجبينه. آه! لا بد أنه غافلني وتسلل إلى الصورة. نعم هذه هي صورته. معلقة على الحائط منذ سنين. آه يا زوجي وأستاذي ومعلمي وملقني وحبيبي الوفي العجوز. أقف الآن أمامك كما أفعل كل يوم. أصابع يدك اليسرى تنقر رأسك الكبير. فمك الدقيق مزموم على نفس التصميم، ويدك اليمنى المضمومة على الجمر كما كنت دائما تقول. أما عيناك المملوءتان مثل كأسين ناصعين بالأسى والحزن مع الأمل والعزم فهما يهربان مني الآن، لكن إلى أين تهربان من تلميذتك وحبيبتك التي لم تكن تمل من الغرق فيهما؟ وكيف تهرب بهما بهذه السرعة وأنت لم تفارقني طول الليل لحظة واحدة. هنا على هذه الكنبة جلست بجانبي وربت بيدك الحنون الصغيرة على كتفي وظهري: ما لك يا فاطمة؟ كفى الله الشر. ثبت نظري في عينيك الحبيبتين ووجهك الأبوي وقلت: هل يرضيك حالي الآن يا عزيز؟ وحدتي وذلي وفقري وهواني على الناس؟ ألأني اعتزلت التمثيل أجوع وأطوف كالشحاذة على مكاتب الموظفين وأعجز بمعاشي الضئيل عن سد رمقي وشراء الدواء الضروري؟ هل يرضيك؟ عدت تربت على كتفي وظهري وتبتسم ابتسامتك الآسرة التي كنت أستمد منها الثقة والشجاعة والأمان، وتحولت ابتسامتك إلى ضحكة قصيرة وأنت تقول: إذا كنت اعتزلت التمثيل فلم تصبحي عدما. ما زلت يا فاطمة حية وملكة متوجة على عرش التمثيل. ما زلت أنت سارة برنار الشرق المتربعة على هرم المجد. لا تقولي هذا ماض ذهب ولن يعود؛ لأنه حاضر في ضمير الزمن يستحيل أن يسرق أحد كنزه المصون. تعالي نقلب معا صور الماضي الحاضر في ذاكرتك وذاكرتي بدلا من البكاء على النفس والأطلال ... هل تذكرين ... قاطعتك بسرعة وأنا أقول: وهل تذكر أنت أول لقاء جمعنا؟ إن كنت نسيت فقد كان على قهوة راديو في عماد الدين. تبتسم كالحكيم الذي لا ينسى. نعم نعم، وكان معك ذلك الشاب النبيل النحيل الذي فقدناه وهو في عز شبابه ومجده. نظر إلي محمد تيمور طويلا وقال بعد أن سمع صوتي وتابع حركاتي وإشاراتي وضحكاتي وصيحاتي؛ قال بصوته الحزين الرزين وهو يلتفت إليك: هكذا أنت دائما يا عزيز، موهبتك الكبرى هي اكتشاف الجواهر الألماس ونفض التراب عنها ... لكن عليك أن تتفق مع أمها وتحضر لها من يعلمها النطق العربي الصحيح. قلت له: لقد أحضرت لها بالفعل معلما من الأزهر، سيعلمها قواعد النحو والصرف ويساعدها على تلاوة ما تيسر من القرآن الكريم. تنحنحت أنا وقلت محتجة: وهل هناك من يجاريني في نطق الشعر؟ هل أسمعك شيئا من شوقي بك أم من أبي العلاء المعري؟ رفعتما الحاجبين في دهشة وذهول، وجلجل صوتي كالرعد حتى توقف المارة وعابرو السبيل وراحوا يستمعون ويصفقون:
أبكت تلكم الحمامة أم غن
ت على فرع غصنها المياد؟
صاح هذي قبورنا تملأ الرح
ب فأين القبور من عهد عاد؟
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العه
د هوان الآباء والأجداد
صفق محمد بك ودمعت عيناه وهو يمسح على رأسي بيده ويقول لك: ألم أقل لك إنك موهوب في اكتشاف الجواهر والألماس؟ ولما شعرت أنه ينوي أن يقوم ويتركنا صحت بنزقي الذي تعرفه: يمكنني أيضا أن ألقي المونولوجات وأغني أغاني الفلاحين ... كانت هذه هي بدايتي في مسرح الريحاني وفي ملاهي روض الفرج وكازينو البوسفور بين المشاهد والفصول. التفت إلى البك وقلت له: كنت أيامها في الثانية عشرة من عمري. أسرعت أغني للشيخ سيد: طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة ... قاطعتني عندما رأيت البك يهم بالانصراف: وهي الآن في الخامسة عشرة، سوف أقدمها ليوسف بك وسوف تراها قريبا على عرش التمثيل.
وأخذنا نتذكر كيف قدمتني ليوسف بك الذي أسند إلي دورا في رواية المجنون، ثم دورا آخر في غادة الكاميليا التي طبقت بعد ذلك شهرتها وشهرتي الآفاق. آه كيف لعبت الدور الأول في رواية الطاغية أمام يوسف بك نفسه، وكم رواية مثلناها من المسرح العالمي عندما كنت المدير الفني لفرقة رمسيس، وكم رواية منذ أن خرجنا سويا من فرقة رمسيس وكونا فرقة فاطمة رشدي التي استمرت سبع سنوات - انتظر قليلا ... من سنة ألف وتسعمائة وسبعة وعشرين إلى سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وثلاثين - عشرات من الروايات العالمية التي كنت تعمل ليل نهار في إخراجها وأحيانا في ترجمتها أو اقتباسها، وكيف أتذكر أسماء أكثر من مائتي رواية؟! الحقد واللهب والوطن والمتمردة، أم أوديب الملك وهاملت وعطيل ويوليوس قيصر والملك لير، أم أندروماك وغادة الكاميليا وسلامبو والكابورال سيمون والنسر الصغير وما لا أستطيع أن أتذكر من روائع عالمية؟ وهل أنسى مسرحيات أمير الشعراء التي كتب بعضها من أجلنا وأهداها لفرقتنا؟ مجنون ليلى ومصرع كليوباترا وعلي بك الكبير وأميرة الأندلس ... وبالمناسبة يا عزيز ... هل تذكر يوم أن ذهبت إلى المسرح مبكرا وطلبت ملابس قيس وارتديتها مصمما على تمثيل الدور بنفسك لأنك لم ترض عن أداء أحمد علام؟ شوش عليك الجمهور ليلتين، وهدد أمير الشعراء نفسه بسحب المسرحية إذا لم يرجع الدور لأحمد علام، وتشاجرت معك شجارا عنيفا نسيت فيه نفسي واقترحت حلا وسطا ومؤقتا بأن أمثل أنا الدور أمام زينب صدقي في دور ليلى العامرية. آه! كم كان صوتي يجلجل في رحاب المسرح كناقوس ذهبي في قاعة عرش وأنا أقول:
منى النفس ليلى قربي فاك من فمي
كما لف منقاريهما غردان
أو عندما كنت أحيي جبل التوباد وأنا أهتف من صميم قلبي قبل حنجرتي:
جبل التوباد حياك الحيا
وسقى الله صبانا ورعى
فيك ناغينا الهوى في مهده
ورضعناه فكنت المرضعا
قد يهون العمر إلا ساعة
وتهون الأرض إلا موضعا
أراك تضحك يا عزيز، ألم تكن هذه أحجارا من هرم المجد الذي تربعت عليه بفضلك أنت؟ ودوري في النسر الصغير؟ ألم تكن أنت الذي جعلت الناس يسمونني سارة برنار الشرق بعد أن تفوقت في تمثيله إلى حد الإعجاز؟ وهل يمكن أن أنسى المونولوج الذي كنت ألقيه كل ليلة وأنا أرتدي ثياب الإمبراطور الذي أطلقوا عليه لقب النسر الصغير؟ أتوجه كل ليلة إلى مقدمة المسرح وأقول بل أنشد وأنا أحرك ذراعي إلى أعلى وأسفل: إمبراطور أنا ... ما أبهج الليل! أنا في العشرين من عمري وأعتلي العرش. رباه! ما أجمل أن أكون في العشرين وأكون ابن نابليون الأول! أيها الشعب! لقد كذبوا عليك طويلا فلا تخف أن أكون غير أمين. وأنت أيتها الحرية! لا تخافي من أمير كان رهن السجون.
أسمعك تصفق إعجابا يا عزيز وتذكرني بآلاف المتفرجين الذين كانوا يحرقون أكفهم كل ليلة من شدة التصفيق. تقول إنني أبكي؟ ألا أبكي معك على نفسي وعليك؟ ألم توصني دائما بأن أقبض على الجمر كما كنت تفعل طوال عمرك: المسألة ليست جمع أموال يا فاطمة، لكنها رسالة عظمى يجب تأديتها مهما كانت التضحية. كم عاهدت نفسك وعلمتني أن أعاهد نفسي على ضرورة القيام بواجبنا الأسمى، واجبنا في تعريف الجمهور بالفن الحقيقي والمسرح العالمي كما أبدعه كبار الكتاب والشعراء من الإغريق وشكسبير وفيكتور هيجو وإدمون روستان وألكسندر دوما وغيرهم وغيرهم حتى أميرنا وأمير الشعراء شوقي بك. بقينا نقبض على الجمر حتى أفلسنا واضطررنا للتجول في المغرب العربي وبلاد الشام وفلسطين وفي الأقاليم؛ في الدلتا والصعيد، وكم شقيت أنت وقبلت أدوارا لا تليق بك في روايات الفودفيل وحتى في كازينو ببا عز الدين، وكم تعذبت لعذابك وأنا أحس أن الجمر الذي تقبض عليه يكاد أن يجعلنا جثثا متفحمة. هل تذكر يا عزيز ماذا قال لك الريحاني بعد أن تزوجنا وواصلنا أداء رسالتنا؟ أكاد الآن أسمع صوته الأجش وهو يقول لك بخفة ظل لا تنسى: ما ذنب فاطمة يا أخي لكي تلقي بها في أتون عبقريتك؟ لماذا لا تمثلون الكوميديات والفودفيل الذي برعت فيه أيام شبابك؟ ما ذنبها هذه البنت المسكينة؟
وها أنا أسمعك ترد عليه في غضب: هل تريد مني أن أكون مهرجا؟! ويقول لك الريحاني: ألم تفكر في الزمن وغدره؟ وأراك أمامي الآن وأنت تنظر إليه صامتا وتضم يدك اليمنى كما هي عادتك في مثل هذا الموقف بكل قوة وعصبية ... وقلبتنا الأيام - كما فعلت معنا أيام الشباب الباكر - ودارت بنا من مسرح إلى آخر ومن فرقة إلى أخرى، كنا قد انفصلنا بعد زواج قصير لكنك بقيت وفيا وملازما لي - تعلمني، وتلقنني، وتختار لي أعمالي الأخيرة وتتولى إخراجها. كسبنا الألوف وخسرنا الألوف، وعندما يئسنا تماما رحت أتابعك وأنت تتعذب وتتجول في الأقاليم ببعض المسرحيات الفكاهية أو تعيش على الترجمة والاقتباس والإخراج - واتجهت أنا، بعد أن اشتد عليك المرض، إلى السينما حتى لا أموت جوعا، وهل أذكرك بتجربتنا الأليمة مع الفرقة القومية؟ فصلوك منها بسبب الوشايات والصغائر، ثم استقلت أنا أيضا وأعيش الآن - لحسن الحظ أو نكده - على معاشي الهزيل منها. آه يا عزيز! يا من حميتني من ذلك المعجب المتيم الذي عرض على أمي مؤخر صداق بلغ أربعة آلاف جنيه، ووعدني بالعيش في قصر بالزمالك، أنقذتني منه فمشيت بجانبك وتبعت خطواتك وتمسكت بالفن الحقيقي والمعرفة الحقيقية، وكم تذكرت عبارتك التي ظللت ترددها حتى وأنت على فراش الموت. هل تتذكرها أم أذكرك بها؟ «إنني رجل كبير الأمل. لا أخشى أن يقتلني ذلك الخيال الذي تراه عيناي في كل ساعة. إني على ثقة من خروجي من كل ذلك صفر اليدين لا أملك أبيض ولا أسود، لكني أريد أن ترى عيناي - قبل أن يغمض الموت أجفاني - ذلك الخيال وقد تحقق، ولا يهمني بعد ذلك أن يراني الناس على فراش موتي فقيرا بائسا لا أملك ما أسد به رمقي ...» وتبتسم يا عزيز وأنت تضع يدك اليسرى - كما هي عادتك - على جبهتك ورأسك، وتضم يدك اليمني بشدة كأنها قبضة من حديد، ثم تقول: وخرجت يا فاطمة من الدنيا وأنا لا أملك أبيض ولا أسود ولا تحقق الخيال الذي كنت أراه في كل ساعة. لمست ركبتك ومسحت بيدي على رأسك وقلت: كم عز علي أن أتركك وتتركني بغير وداع. لكن ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ زوجتك السابقة وتلميذتك كانت مفلسة يطاردها شبح الجوع، تعذبت كثيرا في مرضك الأخير ... تبتسم مرة أخرى وتقول: كانت حلقة من سلسلة العذاب الطويلة. ما أهمية ذلك؟ المهم أن يدي هذه ظلت مضمومة كما عهدتها ولم تستسلم حتى اللحظة الأخيرة. ضمي يدك أنت أيضا يا فاطمة. أم تريدين أن أتركك وأذهب وأنت لم تتعلمي شيئا مما لقنتك إياه؟ الوداع، الوداع يا فاطمة. صحت بك: أرجوك يا عزيز، لا تتركني، أنا محتاجة إليك كما كنت على الدوام، لا تتركني فريسة لكلاب الغدر والشماتة والتجاهل تنهش لحمي حتى العظم. قلت وأنت تنهض من على الكنبة التي شهدت حديثنا وذكرياتنا: أنا الآن تراب وعظام في مقبرة التاريخ، ذكرى فكرة مدفونة في ضمير الماضي، عليك أنت وجيلك أن تنفضوا عنها الرماد وتحيوها في المستقبل. أليس كذلك يا فاطمة؟ أليس كذلك؟ لم ينفع الصياح والبكاء. صحوت وأنا أنادي عليك: أتوسل إليك يا عزيز، لا تتركني! لا تتركني وحدي مع العقارب والكلاب والثعالب والأفاعي. قلت وأنت تستدير وتمضي نحو الحائط وترجع إلى الصورة داخل الإطار: مثلي لا يترك ولا يذهب، والفكرة التي تحيا من الأزل إلى الأبد لا تذهب ولا تجيء، المهم ألا تتخلوا أنتم عنها، الوداع يا فاطمة، الوداع!
ووقفت أمام المرآة لا أصدق أنه كان حلما، هل يمكن أن يكون كل هذا الحضور مجرد حلم أو كابوس؟ رأيت في المرآة كم أصبحت شبحا، والتفت خلفي وتقدمت من صورتك وأنا أناجيك: كيف غافلتني يا عزيز ورجعت إلى ما كنت: مجرد رسم في إطار على حائط في غرفة بائسة في فندق حقير؟ هل يرضيك حالي الآن؟ أمشي في الشوارع فيشير إلي البوابون والمتسكعون والجالسون على أرصفة المقاهي وحتى الشحاذون والمتسولون؛ يشيرون في حزن أو في سخرية وكأنهم يقولون كلمات أسمعها واضحة: انظروا إلى ملكة التمثيل العربي! سارة برنار الشرق التي أصبحت شريدة ومجنونة. سبحانه مغير الأحوال! الدنيا انقلبت عليها وعلى المسرح وسبحانه، سبحان من يستطيع وحده أن يحيي العظام وهي رميم. والمرمطة يا عزيز بين مكاتب المحافظة بحثا عن شقة صغيرة تستر عظامي في آخر أيامي، والبهدلة بحثا عن الدواء غالي الثمن لصدري وعيني والصداع المزمن ... لا تتركني وحيدة يا عزيز. لم يبق لي الآن غيرك. زرني في الحلم أو في الكابوس. مد يدك المضمومة على الدوام وخذ بيدي. علمني كما فعلت طول العمر وواصل تعليمي وتلقيني. يا معلمي وأستاذي وزوجي واصل تعليمي وتلقيني. ماذا؟ ما هذا الصوت الذي أسمعه؟ هذا الصوت الأجش العميق الذي يهبط من أعلى ويحيط بي ويحاصرني ويمتد نغمه المخيف الحنون لينتشلني من السقوط في الهاوية؟ أيها الصوت! تكلم. كرر علي ما قلت بنبراتك الغامضة المحفوفة بالأسرار: يا ملكة التمثيل العربي! يا من كنت في حياتك كالإله رع للمصريين القدماء! تربعي على عرش أمجادك! اجلسي فوق هرم ماضيك الحاضر المتجدد بجهدك أنت والأجيال القادمة، المهم يا فاطمة ... أصرخ مستغيثة بالصوت وصاحبه: ماذا؟ ما هو المهم الآن؟ فيرتفع الصوت ويعلو ويلفني كسحابة ناعمة معطرة: المهم أن تضمي يدك أنت وأمثالك وتقبضي على الجمر! اقبضي عليه حتى النهاية يا فاطمة! أقول وأنا أترنح دائخة نحو الكنبة التي كنت تجلس عليها: نعم! نعم! سأقبض عليه! سأقبض عليه حتى النهاية!
1
الزرقاء تحتضر
الزرقاء تحتضر ... الزرقاء تحتضر.
رن الصوت المشروخ الواهن بينما الليل مشغول بنصب خيمته السوداء فوق أرض اليمامة. كان متهدجا مختنقا بالدموع كبكاء ناقة عجوز فقدت صغيرها، أو أنين شاة فوجئت بالسكين تجز رقبتها فراحت تنتفض عاجزة. كانت نبراته المتلاحقة المبهورة أضعف من أن تنفذ من أستار الخيام الكثيفة أو تصدم الأبواب والنوافذ الموصدة في البيوت الطينية الواطئة التي لم تسلم تماما من آثار الحرق والتدمير، وظل الغلام يندفع ويتعثر على الطريق المترب المملوء بالحفر والحصى والحجارة كفرع صبارة جافة تطوح بها هبات الريح التي لم تنقطع زفراتها الساخنة منذ أن عم القحط وحط الجدب على الأخضر واليابس والحي والميت.
أخذ يرفع صوته بكل قوته وهو يسلط بصره على الأبواب والنوافذ ومضارب الخيام والأضواء الخافتة التي تنبعث من المواقد البعيدة المتناثرة. تخايلت له وجوه أطلت لحظات ثم اختفت، وتوهم رؤية أشباح لم تلبث أن ذابت في الظلال الزاحفة، وعندما وجد نفسه أمام شق في الأرض كأنه باب قبر مفتوح تذكر أنه كان عليه أن يبدأ بقضاعة العجوز حفار القبور، ولم يكد ينطق باسم الزرقاء حتى رد عليه من أغوار العتمة صوت امرأة تقول: سبقك يا ولدي إلى هناك. لم ينس أن يأخذ معه الرفش والمحفة والحبال والسلال، ولم يكد الغلام يستدير ويفتح فمه ليردد نداءه الممزق المكسور حتى شعر بيد تربت على كتفه وظل شيخ كبير يتمدد فوق جسده الضئيل: اذهب يا ولدي، سوف ألحق بك. رفع الغلام صوته مصرا على مواصلة ندائه الذي غطى عليه نباح كلاب خرجت من الأركان والجحور وأخذت تعوي بلا انقطاع، فقاطعه الشيخ: لا تحاول يا ولدي، لم يبق أحد يذكر الزرقاء. تحرك الغلام وهو يصرخ: لن أرجع حتى يسمعني الوالي نفسه! أمسكه الشيخ من ذراعه وتدحرجت كلماته كأنها أحجار تهوي على رأسه من أعلى الجبل: عامل كسرى على اليمامة؟ ومن أدراك أنه سمع باسمها؟ من يشغله عن ندمائه وجواريه ومغنيه وكئوسه المترعة بينما يتضور جوعا كالجراد كل من بقي من جديس؟ وقف الغلام مذهولا يتطلع إلى الشيخ الرابض أمامه كالجدار الشامخ أو السد المنيع. وتفرقت الكلاب بعد أن طافت حولهما وشمت ثيابهما وتفرست في وجوههما الذابلة وأدركت أن أيديهما فارغة كغيرهم من أهل جديس. وترك الغلام يده لليد الكبيرة الخشنة التي أطبقت عليها في حنان، وقبل أن يضعا أقدامهما على الطريق إلى بيت الزرقاء جلجلت في سمعهما ضحكة خليعة قذفتها صاحبتها قبل أن تصفق بابها بعنف أثار نباح الكلاب: «أكانت الزرقاء لا تزال حية؟!»
كان سعد غلام الزرقاء قد خرج من الباب دون أن تشعر بوقع خطاه، وكانت خطاه أخف من لمسات ظله الذي انطلق يجري وراءه مع حلول المساء كطيف كلب أمين. لم تكن أيضا لتستطيع أن تسمع صياحه بعد أن أطبق الظلام على أذنيها مع الظلام الذي طوقها منذ أن أمر حسان بن تبع باقتلاع عينيها الزرقاوين. بدأ صدرها يعلو ويهبط ويهدر ويزفر كالريح التي تعصف بأمواجه المضطرمة. رفضت أن تدخل اللقمة جوفها، جف ريقها ولم تطلب الماء، غارت الحفرتان السوداوان في وجهها المشدود مثل كهفين صغيرين في وجه صخرة عنيدة، وعندما كان يدنو منها ويضع أذنيه بالقرب من شفتيها كان يخيل إليه أن رعشات همسها المنغوم تردد الوصية التي طالما لقنتها له: «هناك يا غلام حيث يهوي المنحدر. هناك حيث دبت الحياة في الشجر. احفر لي القبر عليه شاهد من الحجر.» وأدرك أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة فجرت دموعه مختنقة بصرخاته العاجزة.
دخل حفار القبور من الباب الخشبي الموارب ومعه حمله الثقيل. لم تفلح الأدوات التي ارتطمت بأرض القاعة الكابية العتمة في تحريك الجسد الطويل الضامر كالمومياء المتحجرة في مغارات الملح الرطبة، وما إن جلس على الحصيرة المهترئة الناحلة وأسند رأسه على ركبته حتى تحرك الوجه الجامد كقناع الموتى وندت عنه صيحة مرتجفة: سعد يا سعد! يا غلام!
اقترب منها الحفار تسبقه يده الممدودة التي لم تجسر على لمس الجسد النحيل الممدد كالحربة الصدئة الملقاة على الرمال بعد أن فقدت لمعان النصر القديم: «أنا هنا يا زرقاء، لم أنتظر صياح الغلام اليتيم.» أدارت وجهها نحوه وسلطت عليه الحفرتين الغائرتين: ومن أمره بالصياح؟ من أذن له بالخروج؟ تشجع الحفار ولمس كفها البارزة العظام: لا بأس يا زرقاء، ربما أراد أن ينبه الكرام.
انخرطت فجأة في نشيج ممدود ارتج له الجسد المصلوب على الحصير الذابل المجدول من سعف النخيل، وارتبك الرجل الشاحب المصفر الوجه وهي تدمدم وتئن وتموء مواء قطة عجوز قبل أن تغوص في غياهب ظلامها الحميم، ظلامها الذي أخذ يطلق شظايا الكلمات المهشمة كعصافير مقتولة تهوي من شجرة قديمة يابسة: ومن استمع إلى صيحاتي يوم جريت ممزقة الثوب محلولة الجدائل؟ من صدق المجنونة التي راحت تدق الأجراس وتنعق كالبومة وتعوي عواء كلبة مخبولة يرجفها الزلزال قبل وقوعه؟ من صدقني حين صرخت عن الشجر يجر وراءه البشر؟ ألم يقولوا: كيف يجتمع الشجر والبشر؟ ألم يضحكوا ثلاثة أيام حتى قطع حسان ضحكاتهم بسيوفه؟
هز قضاعة ذراعها وأوشك أن يكتم على فمها بقبضته، لكنها كانت قد صمتت فجأة كما اهتاجت فجأة، وهزت رأسها ثم أخفت وجهها بذراعيها قبل أن تقول غاضبة: الكرام.
لم يشأ الحفار أن يخرجها عن صمتها. أراد أن يقول أشياء كثيرة سمعها من عجائز ماتوا بين يديه، ومن راع شيخ كان يبحث عن الكلأ لأغنامه بعيدا عن مضارب القبيلة وبيوتها ومرابعها التي اكتسحتها المحنة كالعاصفة النارية.
راحت خلجات شفتيها تتلوى تحت ضغط المياه الراكدة التي تتصاعد من جوف بئرها المظلم العميق: الكرام! كم وقفوا أمام بابي كأعجاز نخل يابسة في الريح. كنت أحس الندم والحزن يرتعشان فوق وجوههم وأصواتهم المرتجفة بالذنب تحاول أن تلف حبالها حولي. كم طلبوا العفو وتلبية الحاجات فصددتهم عن بابي، وأخذت وفودهم تتراجع حتى لم يعد أحد يطرق بابي أو يذكرني في ليل أو نهار. عرفت الحرمان وشظف العيش وأغلقت جحري علي كذئبة جائعة متكبرة. كان زوجي قد اختفى ولم يظهر له أثر. قيل قد نجا من المذبحة وقيل بل شطره ابن تبع بسيفه شطرين، وشقيقي رباح الذي وشى بي؟ ما كان أخسك يا رباح وكم كان حنانك وبرك بي! وهل كان بوسعي أن أرفض الصرة المملوءة بالطعام والمال والثياب التي يسلمها لي عابر سبيل بين الحين والحين وهو يقول: هذه من رجل أوصاني ألا أذكر اسمه؟
صبرت على سنوات الجدب السبع وسنوات الذل العشرين، وانطفأت كل نجوم سمائي وشموعي ذابت في الصمت المتفحم، وصمت عن الضحكة واللقمة منذ أن فقئ سراجي وتم ظلامي وخيمت علي صور الرعب القاتل من أن يقطع حسان لساني.
لم يسمع قضاعة هذا الكلام، ولو سمعه لما أدرك معناه. كان غريبا رمته محنة قبيلة مجاورة على هذه القبيلة أو ما بقي منها. دخلها مع الراجعين إليها من فلول الناجين والهاربين الذين خرجوا قبل المقتلة يستطلعون أخبار القوافل العابرة إلى الحدود مع اليمن أو يهاجمونها وينهبون ما يستطيعون نهبه، وعندما رجعت النساء والفتيات الصغيرات اللاتي سباهن جيش التبابعة ومعهن اليتامى والعجزة والمتسولون، وجد له خيمة وعرف الطريق إلى أرملة ثكلى وسلك الدروب الجبلية الوعرة إلى الآبار البعيدة ليحمل الماء إلى خيام الفقراء وبيوت التجار وأوكار اللصوص وقطاع الطريق ، ولما شح الماء في الآبار وطال الجفاف الينابيع بعد أن شقق الأرض وأحرق الزرع وحصد الأشجار والأعمار، اكتشف أن حفر قبور الأموات يضمن حياة الأحياء في زمن القحط، القحط الذي لم يسمن سنواته العجاف سراب الوعود من عمال حسان وخلفه على جديس، ولا الفضلات المتبقية من موائدهم وقوافلهم المتجهة في حراسة جنودهم إلى ما وراء الحدود.
خرج قضاعة من بئره ولم تخرج الزرقاء. أخذت تغوص في مياهها العكرة حتى ارتفع صوت شخيرها الذي لم تقطعه حشرجة صدرها ولا ارتفاعه وهبوطه مع أمواج رؤاها التي ظلت تفور في باطنها وتمور، وعندما دخل سعد وراء الشيخ العجوز الذي أوقفه على الطريق كان جسدها قد تصلب وتخشب كفرع نخلة جافة تسف الريح عليه ذرات الغبار وتلفه سحب الرمال. جرى الغلام نحوها والتقط يدها. لمس الصدر الذي يعلو ويهبط فاضطرب صدره وتحجرت غصته وخنقت آهته الخافتة كحفيف جناح كسير: خالتي، سيدتي ... وبدأ ينشج بصوت عال عندما أحس أن الصدر يتوقف لحظات قبل أن يعاود ارتجافه ويقذف حممه من جديد. أسرع الشيخ نحوه وضمه إليه قبل أن يهتف بصوته القوي الذي خرج من فمه الخالي من الأسنان كما يخرج زئير وحش أشعث من جوف وكره المخيف: زرقاء! يا زرقاء! تحرك الرأس قليلا واهتزت الشعرات البيض في عارضيها قبل أن تختلج الشفتان وتهتز اليد تحت كف الغلام الصغير: سعد ... هل نسيتني يا ولدي؟ انفتحت فوهة الفم الأهتم ومالت رأس الشيخ فوق الجبهة المتغضنة بالتجاعيد حتى كادت الأنفاس تصغر في الفتحتين الغائرتي السواد: أوصنا يا زرقاء. صمتت طويلا وتجمد وجهها الصخري ثم خرج الصوت من فمها كصوت الماء المنسكب من جرة قديمة: هناك حيث دبت الحياة في الشجر! هتف قضاعة وهو يلم أدواته: الغلام يعرف الطريق يا زرقاء. وقال الشيخ لنفسه وهو يلتفت إلى حفار القبور الذي أخذ يربط الرفش والسلال والحبال ويضعها فوق كتفه: أجل! أجل! هناك حيث البرج والشجر!
تجمدت اليد التي كانت تربت على كف الصبي. تثلجت فوقها كعصفور ميت ثم سقطت.
وتشبث بها الغلام وهو يرتمي على الصدر الذي سكنت فيه الحركة وكف عن الصعود والهبوط، وتساءل الشيخ وهو يضع يده على رأسه ويمد ذراعه ليبعده عن الجسد المتصلب في كهف الموت: ألم تعرف أن الشجر جف واقتلعه أهل جديس ليستدفئوا به في برد الشتاء؟ ألم يقل لها أحد أن البرج تهدم كما تهدمت سائر الأبراج والحصون وأخذ الناجون من المذبحة أحجاره ليبنوا بها بيوتهم المخربة؟
هامش أول:
يقال - والعهدة على راوية مجهول - إن الزرقاء انتفضت فجأة قبل أن يفلت طائر الروح من صدرها وطلبت مرآة. سألوها: وماذا تفعلين بالمرآة يا زرقاء؟
قالت: أنظر عيني الزرقاوين اللتين سأرجع بهما في وجه بومة جميلة. تعجبوا وكادوا يضحكون: وجه بومة؟ قالت: أجل أجل! تتخلق من بقايا رمادي وتقف على شاهد قبري وترفرف فوق أطلال جديس القديمة وسطوح ربوعها الجديدة وهي تولول صائحة: تنبهوا فقد تحرك الشجر! تنبهوا فقد تحرك الشجر!
هامش ثان:
يقال كذلك - والعهدة على المؤرخين والرواة الأقدمين - إن أحد الشعراء الصعاليك كان يحوم في مقابر الفقراء في أطراف جديس عندما وجدهم يحفرون قبرا صغيرا بطول جسد الزرقاء الفارعة الطول. كان قد يئس من العثور على شيء يأكله أو ينهبه من مرابضها المقفرة ومراعيها اليابسة وربوعها الدارسة فاتجه صوب المقابر لعله يعثر على حيوان ضال مثله أو يلتقط ثمرة من شجرة نسيها الجائعون، وعندما عرف أن القبر للزرقاء تذكر طرفا من شعرها الذي وصل إليه وتطلع إلى قمم الأشجار فوجد الأوراق ترتجف في الريح، ولم يملك أن صاح بأعلى صوته قبل أن يواصل الرحيل في الجبال: تعلموا من الشجر! تعلموا من الشجر!
هامش ثالث وأخير:
بعد أجيال وأجيال جاء إلى جديس زائر غريب، وفي الطريق إلى دار الضيافة أدهشته مناظر العمارات الضخمة والأبراج السكنية العالية والطرق العريضة المسفلتة والأسواق والمحلات والمعارض المرصعة بأضواء النيون الساطعة. سأله موظف الاستقبال عن أوراقه فقدم له جواز سفره وهو يبتسم: أنا مؤرخ يجمع أخبار الأولين ويدون حكاياتهم. لقد أصبحت جديس الجديدة مدينة رائعة!
نظر إليه الموظف باستغراب وهتف : ألم تسمع بقرار مجلس الثورة بتسميتها مدينة الزرقاء؟! قال الغريب: حقا؟ وأين أجد المكان الذي رأت فيه الشجر يتحرك؟ هل يمكنني أن أصعد البرج الذي اكتشفت منه جيش ابن تبع؟ قدم له الموظف خريطة المدينة وفردها أمامه وهو يشير بإصبعه إلى سهم أسود في الطرف الأقصى منها: لقد أقيم فيه فندق سياحي خمسة نجوم! سأل الغريب: وهل بقيت آثار تدل عليها؟ قال الموظف: بالطبع، ولا يصح أن تفوتك زيارة متحف الزرقاء. ثم مال بجذعه ومد وجهه نحوه وهو يهمس في أذنه: يقول المختصون إنهم عثروا على خصلة من شعرها الذي أمر حسان بحلقه، وقطعة من ثوبها الذي مزقه جنوده، والحجر الذي انطبعت عليه آثار قدميها الحافيتين في الرمضاء، وفي المساء يمكنك أيضا أن تشاهد في حديقة دار الضيافة عرض الصوت والضوء ... إلى هذا الحد نهتم بالتراث! عاد الغريب يسأل: وطسم التي حكمها عملوق الظالم، هل توقفت غاراتها؟ قهقه الموظف ضاحكا حتى تندت عيناه: هناك أجهزة الإنذار المبكر؟
تجول الغريب في أرجاء المدينة ثلاثة أيام. رأى قصورها وقبورها، سمع نعيق غربانها وأنين عصافيرها، تملى طويلا في وجوه ذئابها ونمورها وقرودها وكلابها وجرادها وفيرانها، وبحث عبثا عن شاهد وحيد على الزرقاء، وعندما تطلع من نافذة القطار الذي أقله إلى مدينة أخرى بدا له كأنه يلمح وجه عمياء طويلة القامة محلولة الجدائل تجري مسرعة وتحاول أن تخترق غابات الإسمنت وتشق عباب الزحام وترفع صوتها ليطفو فوق هدير القطار وزعيق المكبرات: من يسمع استغاثة الزرقاء كلما تحرك الشجر؟! من يسمع استغاثة الزرقاء كلما تحرك الشجر؟!
1
تائهة على الصراط (1)
1
صامتة غائبة عن الوعي منذ أن داهمتها الجلطة فعطلت مراكز الكلام والفهم والاستجابة لما يدور حولها أو في داخلها. تجلس مستندة إلى ظهر السرير المعدني البني اللون، أو تتمدد على جنبها الأيمن أو الأيسر كتلة سوداء لا يميزها شيء عن البطانية والملاءة الكالحة في الحجرة المسدلة الستائر التي لا يزورها ضوء الشمس إلا لحظات في الصباح لتجديد الهواء أو نفض الأغطية، وعندما يفتح عليها الباب ليطل عليها زائر من الأهل أو الجيران، أو لتقدم لها ابنتها الأرملة الطعام، تظل على حالها نائمة على جنبها أو مستندة إلى ظهر السرير، وجهها متجه إلى الحائط، عيناها الصافيتان تائهتان زائغتان على الدوام، يداها الصغيرتان تتشابكان ثم تفترقان وتمران على الرقبة والصدر ثم إلى حجرها تتشابكان من جديد، وإذا توقف الزائر أمامها أو جلس قليلا على طرف سريرها فلا بد أن يتعجب من براءة الطفولة التي تكسو الوجه وتسبح في العينين رغم تجاوزها السبعين وربما الثمانين (فلا أحد يحتفظ لها بشهادة ميلاد أو تسنين أو بطاقة هوية ...) ولا بد أن يصدق ما يردده الجميع عن ارتداد الشيوخ إلى الطفولة، وأن يندهش من منظر طفلة عجوز لا تتحرك ولا تنطق ولا تهتم. حتى الصلاة التي كانت شاغلها الوحيد لم تعد تؤديها، والمسبحة الطويلة التي كانت لا تكف ليل نهار عن تلاوة الشهادتين عليها والدعاء لأمواتها وأموات المسلمين لم تعد تثير في يدها أي رغبة للإمساك بها فبقيت ملقاة أمامها كالهيكل العظمي المتحجر لحيوان بحري منقرض. لم يبق فيها إلا فم يزدرد الطعام الذي يقدم إليه في نهم حيواني، ولم يبق إلا جسد يتغذى ويتمثل الغذاء ويخرج الفضلات. وأحيانا تسأل ابنتها نفسها أو تسأل الضيف أو القريب الذي يتصادف زيارته لهما: هل يمكن أن يتحول الإنسان فجأة إلى شجرة ثابتة أو تمثال حجري أو حيوان أعجم توقف كل شيء فيه إلا الفم والمعدة والمسالك؟ وربما تضحك من شدة عجبها وتعبها في خدمتها وهي تقول: حكمتك يا رب! أنت الذي حكمت بهذا عليها وعلي. ثم تستدرك قائلة كأنها تبكي: أحيانا أسمع من حجرتها صوت أنين كمواء قطة عجوز تنادي على صغارها، وأكاد أميز صوت ندائها: يا ولدي، تعال يا ولدي ... وتضرب كفا بكف والألفاظ الخارجة من حنجرتها تتهدج وترتعش على حافة العتبة الصوتية التي يتداخل فيها الضحك مع البكاء مع صيحة تختلج بالغضب والسخرية: اللهم لا اعتراض، اللهم لا اعتراض.
2
في صباح ذلك اليوم الدافئ من ديسمبر المتقلب رن الجرس ثم تبعته خبطات خفيفة على شراعة الباب الخارجي للشقة الصغيرة. كانت الأرملة قد فرغت من طعام أمها وحمامها وانصرفت لإتمام زينتها وإعداد فطورها فلم تسمع شيئا حتى تتابعت اللمسات الحنون على الزجاج كطرقات أنامل طفل أو دقات منقار عصفورة وحفيف رجليها وجناحيها، وعندما فتحت الباب ندت عنها صيحة فرح لم تستطع أن تخفي نغمة الشكوى الحبيسة: خالي عبد الهادي، جئت في ميعادك يا حاج.
ألقت بنفسها على صدره وأشبعته تقبيلا قبل أن تترك له الفرصة ليتفضل ويدخل بقامته النحيلة الطويلة، ووجهه المضيء باللحية الصغيرة البيضاء، والبركة التي تشع من ملامحه الواضحة وعينيه الهادئتين الطيبتين. قال وهو ينظر في لهفة إلى الباب المغلق على شقيقته: بركة إنكم بخير. قلت أطمئن عليكم بعد المطر والزوابع الأخيرة.
أسرعت الأرملة تقول: قلت لك جئت في ميعادك. الإفطار جاهز وإخوتي على وصول.
سأل وهو يشد كرسيا من كراسي السفرة وعيناه مثبتتان على الباب: يصلون بالسلامة، والله لهم وحشة، وواجب يطمئنوا على أمهم.
قالت الأرملة وهي تساعده على الجلوس بعد أن وضعت حشية طرية على الكرسي: لا يقصرون أبدا
أن أخرج مسبحته وبدأت سبابته تدور على حباتها الصفراء اللامعة: ربنا يعينهم يا بنتي، كل حي مشغول بنفسه وأكل عيشه. الكل على هذا الحال. لكل يومئذ شأن يغنيه.
قالت الأرملة قبل أن تتجه إلى المطبخ: كلها ساعة أو اتنين ويحضرون. على الأقل يأخذوا منك البركة. ثم وهي تلاحظ نظراته القلقة المثبتة على الباب: أدخل لها بعد ما تشرب الشاي وتأكل لك لقمة. الحالة هي هي.
سألها وهو يتمتم بالدعوات الخافتة: والدكتور يا بنتي ...
قالت وهي تشير بيدها: ربنا هو الشافي، قال استمروا في الدواء والعلاج، الحالة صعبة يا حاج، والعظمة كبيرة، ادع لها ربنا يشفيها ويشفي كل مريض، وادع لي أيضا يا حاج، دقيقة واحدة الشاي على النار.
لم يقل لها إنه أفطر كعادته قبل أن يغادر داره. فمنذ أن ماتت زوجته وتفرق أولاده وتسترت بناته وهو يعيش للعبادة والصلاة ورعاية شئون الجامع في بلدتهم الصغيرة. هو أيضا ينتظر أمر الله ويسأله اللطف في قضائه بعد أن وهب شبابه وكهولته للتعليم في المعهد الديني وخرج إلى المعاش، لم يبق إلا الانتظار في الصف مع أخته الوحيدة وتسليم أمره لرب العالمين.
هيه، ربنا يشفيك يا عالية ويجعل يومي قبل يومك. سنكون آخر الراحلين يا حبيبتي والبركة في الباقيين.
نهض من على كرسيه وخطا نحو الباب المغلق وهو يردد لنفسه: قادر يا حبيبتي أن يجمعنا يوم اللقاء، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات، يوم يقوم الناس لرب العالمين. هو القادر على كل شيء.
3
دخل في شبه عتمة مطبقة لا يرى الإنسان فيها حتى الأشباح والظلال، ولولا بصيص من الضوء المتسلل من أعلى النافذة التي أحكمت عليها الستارة القطيفة الداكنة لاحتاج لوقت أطول قبل أن يتبين معالم السرير والكتلة السوداء المكومة عليه. تحسس بيده الحافة المعدنية ورمش بجفونه كثيرا حتى استطاع أن يجد ركنا ضيقا يتسع له. خيل إليه بعد قليل أن وجه شقيقته قنديل يضيء وسط الظلام، وأنه يرى عينيها الصافيتين الواسعتين تشعان بنفس الذكاء القديم والتصميم المخيف والعزم الصارم. أطرق برأسه وأخرج المسبحة من جيبه، وشرع يقرأ ياسين وبعض قصار السور التي اعتاد قراءتها كلما أم المصلين في الجامع أو كلما حز به أمر أو خطب شديد، وغاب مع التلاوة لحظات ثم أغمض عينيه وتراءت له شقيقته في شبابها كأنها حاضرة واضحة أمامه. سبحانك ربي القادر على كل شيء. كيف تقع الشجرة العالية وكيف يبرك الجمل الشديد؟ هي نفسها عالية التي طالما شددتها من خصلات شعرها الأسود الطويل كذيل حصان عربي أصيل، وطالما طلبت منها أن ترحم نفسها من الحمل الثقيل من صبحية ربنا إلى ما بعد العشاء بزمن طويل؛ حمل العجين والخبيز والطبخ والكنس والغسيل والنفخ في نار الفرن على الفطير في الصباح والحلل الكبيرة في الغداء وطواجن السمك والأرز المعمر والعصيدة وأم علي في المساء. الجمل نفسه يقع من طوله يا عالية، حتى الثور في الساقية لا بد أن يستريح، وتضحكين وتقولين: إذا استراح الجمل والثور فالساقية لا تستريح. وأقول لك دائما وأنا طالب تكلل رأسي العمامة الصغيرة ويغرق جسدي الهزيل في القفطان والجبة الفضفاضة، ثم وأنا المعلم والواعظ والحاصل على العالمية: كنت دائما نزيهة وتحبين الضحك والملابس والعطور وتسريحة الغدائر الطويلة حتى ظهرك، تذكري نفسك يا عالية. وتردين وأنت تضحكين من قلبك الفوار كبئر صاف غويط: والرجل والأولاد والبنات يا عبد الهادي؟ غدا يكون لك بيت وعيال وموال طويل، غدا يحيينا ربك وربي ونتقابل وتشرح لي الأحوال. وكم تقابلنا يا حبيبتي بعد أن ثقل الحمل على ظهري الضعيف، وكم حسدتك وضحكت معك ولم أتوقف عن القر على الشجرة العفية العالية والجمل القوي العنيد، وها أنت أمامي الآن لا تحسين بي ولا تلتفتين. تنظرين في الفراغ كأنك لا تعرفين أخاك ولا تريدين أن تريه. سبحانك يا مغير الأحوال، يا من تطلع على الأفئدة وتعلم ما تكن الأرحام وعندك علم الساعة يا علام الغيوب يا رحمن يا رحيم.
ظلت عيناها مسمرتين على الحائط ووجهها الناصع ساكنا كالجرة المصقولة، وراحت يداها الصغيرتان تنزلقان على رقبتها ثم تنزلقان على حجرها وتشتبكان من جديد، وعندما بدا له أنها حركت وجهها نحوه ورنت إليه أقبل نحوها ومد يده بالمسبحة لعلها تتلقفها منه وتستأنف تسبيحها الذي لم يتوقف عشرات السنين، لكن سرعان ما أبعدت عينيها وثبتتهما على الحائط كأنها تنتظر أن تنشق حجارته عن وجه مجهول، وتشجع فمر بيده على رأسها وجبينها وأخذ يتلو ما تيسر من ياسين. بقيت جامدة كالصخرة لا تطرف لها عين ولا تند عن رقبتها أو يديها حركة واحدة. عز عليه ألا تعرفه ولا تغيبه بين أحضانها وتسأل عنه كما كانت تفعل دائما، وتناهت إليه أصوات مرحة عالية ودبيب أقدام قوية تدخل الصالة وقبلات ونداءات وضحكات فقام يائسا من مجلسه، وقبل أن يصل إلى الباب خيل إليه أنه يسمع أنينا خافتا ولكنه مبحوح وواضح كرنين النحاس في أذنيه: تعال يا ولدي، يا ولدي تعال. التفت إلى الوجه الطفلي العجوز واستغفر الله من ذنوبه وذنوب المسلمين، ثم أغلق الباب وراءه في حرص وسكون وهو يتمتم:
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .
4
كانوا قد دخلوا بالزيطة والزمبليطة يسبقهم عواء البوق المدوي للمرسيدس الجديدة التي وقفت كالعروس المجلوة أمام البيت الصغير. هللوا صائحين حين خرج من الباب وأقبلوا عليه مرحبين: خالي عبد الهادي، والله سلامات يا حاج.
عانقه المقاول حازم وهو يردد: طيبون، طيبون.
وانحنى الطبيب حمادة على يده فلثمها بخشوع: البركة حلت علينا يا حاج (ثم وهو يلتفت إلى الضيف الذي جاء معهما) بركة أهل زمان، خلاص عطلت علينا يا خال.
ابتسم الخال وهو يلملم قفطانه ويجلس إلى الفطور والشاي الذي تركه على المائدة: أنتم الخير والبركة يا بني، ادعوا لنا بحسن الختام.
هتفت الأرملة وهي تضحك وتمسك بذراع شقيقها الطبيب: دعواتك أنت يا حاج هي الدواء والعلاج الشافي بإذن الله.
من ساعة وهو عندها حتى برد الشاي ولم يلمس لقمة من الفطور.
كركر حازم بالضحك وأشار لأخيه: عدية ياسين أفضل من كل أدويتكم يا حمادة، معك حق يا فاطمة، ماذا قال الدكتور؟
ولما هزت الأرملة كتفيها وأشارت بكفيها اللتين وضعتهما على فمها إلى أن الحال على ما هو عليه تقدم حازم من الباب وتبعه حمادة على استحياء وخطواتهما المترددة تنطق بأنهما يريدان أن يطلا على العجوز لأداء واجب لا بد منه، وارب حازم الباب وغابت رأسه قليلا قبل أن يلتفت لشقيقه قائلا: شخيرها عال. هل تفحصها يا حمادة؟
زام الطبيب وهو يدخل رأسه ويتأكد من أن الكتلة السوداء غارقة في سوادها ونومها الأزلي: ممكن طبعا، لكن ...
شدتهما الأرملة من ذراعيهما وارتفع صوتها قليلا وهي ترمق شقيقها الأصغر بنظرة غاضبة: وتتعبها وتتعب نفسك من غير داع، قلت لكم الحالة على ما هي عليه وممكن تستمر لشهور أو حتى سنين، الدكتور نفسه كلمني أكثر من مرة، تعالوا اشربوا الشاي وسيبوا خالكم يأكل له لقمة.
صاح الحاج عبد الهادي وهو يرفع كوب الشاي إلى فمه ويبلل فيه لقمة صغيرة: الوقت ضيق يا بنتي، لا بد أن أرجع البلد قبل صلاة العصر.
قالت الأرملة وهي تقرب منه طبق الفول وطبق الجبن القريش وتستدير مسرعة إلى المطبخ: بلا عصر بلا مغرب، أنت معنا اليوم، هات الشاي لأدفئه على النار.
ضحك حازم وهو يتجه نحو الصالون للجلوس مع ضيفه: نحن أيضا وقتنا ضيق ووراءنا أشغال، حتى الدكتور ...
قال الطبيب مؤمنا على كلامه: أي والله يا خال، لا بد أن أرجع للمستشفى قبل العصر، عندي حالات منتظرة، والمستشفى ...
ارتفعت ضحكة حازم مؤكدا كل كلمة: المستشفى الجديد، المستشفى الاستثماري يا خال، حتى ابن أختك الطبيب المستشيخ أصبح من رجال الأعمال.
رد حمادة كأنه يبرئ نفسه أمام الخال: وهل يتنافى هذا مع التقوى والدين؟ قل له يا خال، قل له إن الحسنة بعشرة أمثالها، واستثمار يختلف عن استثمار.
أسرع الخال بالتصديق على كلام حمادة الذي يعرفه من صغره قبل أن يحتج حازم المتهور أو يغلط في الكلام: ربنا يوفقكم يا أولاد، ما دام عملك لوجه الله ومرضاة الله، للذين أحسنوا الحسنى وزيادة.
جلجل حازم ضاحكا وكأنه يشهد الضيف والخال والجميع: والحسنة بالدولار والدينار والريال يا عم الحاج، ابن أختك ناصح وبحره غويط.
قال حمادة متأففا ومغلقا الباب الذي تأتي منه الريح: المهم كله بالحلال ولوجه الله، ربنا هو العالم يا حاج.
تمتم الحاج وهو يتطلع لوجه حازم: ونعم بالله، إن لم تكن تراه، فإنه يراك، هل تذكرون يا أولاد؟
وجاءت فاطمة بصينية الشاي التي يتصاعد الدخان من الأكواب المصفوفة عليها ونظرت لحازم نظرة لها مغزاها وقالت: تفضلوا الشاي أولا حتى أجهز لقمة لأجل خاطر سعادة البيه.
صاح الضيف بصوت مرح: حلفت بالله لا تتعبي نفسك، وراءنا أشغال ومستعجلين.
وامتدت الأيدي لأكواب الشاي الذي يغري كما هو معروف بالسمر والثرثرة التي تطوف في كل واد ولا ترجع إلا بخفي حنين.
5
هدأ الجو قليلا ولم يعد يسمع سوى رنين المعالق في الأكواب وصوت الشفاه التي تتجرع الشراب الدافئ المعطر بالنعناع، وانصرف الشيخ لطعامه الذي أقبل عليه بشهية فضحت نهمه الشديد وانكفاءه عليه كالمحروم على الرغم من تكراره لاسم الجلالة مع كل لقمة يزدردها من الفول والبيض المقلي بالزبدة، وانشغل عن الجميع الذين انشغلوا عنه أيضا بالحديث المعاد في السياسة وفساد الأحوال والإصلاح الذي بدا في الأفق كأنه الطرق على أبواب المحال، رمى الضيف نسخة الأهرام من يده وهو يزفر في غضب: شفتم المذبحة في قانا، والعالم نائم على أذنيه.
قال حمادة: ونحن نغط في أحلام السلام السعيد.
زفر الضيف مرة أخرى محاولا أن يوقف حمم السخط الكظيم: والله لم أنم لحظة واحدة، منظر الجثث والأطراف المتناثرة والرءوس المقطوعة والوجوه المحترقة، رعب، رعب حقيقي. زأر الخال من بعيد وهو يكرع الشاي بصوت مسموع: لا حول ولا قوة إلا بالله، أشراط الساعة يا ولدي،
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون .
وارتفع صوت حمادة وهو ينحني لتناول الجريدة ويمر بعينيه على الصور المخيفة: لم تكفهم صبرا وشاتيلا، وقبلها دير ياسين وكفر قاسم وعشرات وعشرات.
احتج الضيف معاتبا: هكذا نحن يا عرب، نبكي دائما على الأطلال، أليس كذلك يا حاج؟ لولا ضعفنا ما تجرءوا أبدا.
جمجم الحاج ثم قطع كلامه فجأة: وأعدوا لهم ...
قال حمادة موجها كلامه للضيف كأنه ينبهه من غفلته: قل لولا ضعف مصر ما تجرءوا، نحن الآن أضعف من أي وقت مضى.
قال الضيف متلفتا للوجوه التي حوله كمن يدافع عن قضية لا يثق تماما في قوتها: إنهم يفعلون كل شيء لتخريب مصر، وعندما يضرب القلب فالأطراف كما تعلم يا دكتور.
ولم يستطع حمادة أن يخفي امتعاضه فقال متأففا: الكلام سهل يا عزت بيه، جزء من غرورنا القديم وإعجابنا الزائف بأنفسنا.
حاول عزت بيه أن يتدخل: لكن يا دكتور، الحقائق تقول ...
أشاح حمادة بيده ثائرا وقاطعا في محاولة لإنهاء الحديث: الحقائق لا تقول سوى شيء واحد: نحن المسئولون أولا وأخيرا، من المسئول عن الفساد الذي انتشر كالوباء ولم يسلم منه حتى الماء والهواء؟ إسرائيل أم أمريكا أم أوروبا أم الجن والشياطين أم لعنة الفراعنة ؟ من المذنب؟
قال حازم وهو يرفع يديه ويضعهما أمام وجهه كأنه يتقي شرا قادما نحوه: الفساد، كله إلا الفساد، والرشوة أصبحت ضريبة محددة، حق معلوم، ماركة مصرية مسجلة، أعوذ بالله، أعوذ بالله، الناس أصبحوا بلا ضمير.
رمقه شقيقه بنظرة انطلقت من عينيه كسهم حاد وهو يقول بسخرية: الناس؟
استمر حازم وكأنه لم يسمع ولم ير: تصوروا ابن الكلب يطلب كم؟
ولما لم يسأله أحد عن ابن الكلب ولا عن الكم المطلوب قال وهو ينظر للضيف ليشهده على صدقه: عشرين باكو بالتمام.
هتف الخال الذي كان قد استقبل القبلة بالقرب منهم ولم يرفع يديه للشهادة قبل أداء ركعتي الضحى: لعن الله الراشي والمرتشي ...
واستطرد حازم بعد أن سمع تكبير خاله فقال: صب السقف متوقف على الدفع، وإلا فالهدم طبقا للقانون، والقانون لا يملأ عينه إلا تراب الفلوس.
ضحك عزت فازداد حماس حازم: لولا عزت بيه واسطة الخير لوضعني الكبير في كرشه وخرب بيتي.
فكر حمادة وهو يسند رأسه على كفه ويهزه قليلا: وكم وضعت أنت في كرشك يا أخي العزيز؟
وضحك عزت بيه وهو يربت على كتفه: أستغفر الله، أستغفر الله، أفضالك سابقة يا حازم بيه.
وفتح حازم فمه ولكنه وجد أن المقام لا يسمح بأي مقال، وخاصة عندما نبهه عزت بك إلى الساعة وأن وقت التحرك قد أزف.
تأهبوا جميعا للقيام بعد أن فرغوا من شرب الشاي والكلام، وفكر الحاج نفسه بعد أداء الصلاة أنه يمكن أن يلحق وقته ويتوكل على الله، ولكن صوتا كزمجرة حيوان غاضب أو حشرجة طاحونة خربة وصل إلى أسماعهم قادما من الطرقة. تحول الطنين الخشن إلى صيحات مكتومة متلاحقة، طلقات غضب مدوية تبحث عبثا عن لفظ تدخل فيه وتنطق به. لم يطل عجبهم كثيرا؛ إذ وجدوا العجوز تشق طريقها بصعوبة كشجرة ليلية ضخمة متلفعة بملاءة السواد والحداد.
أما ابنتها التي كانت تسير بجوارها كالديدبان الحارس وتشدها من كتفها وذراعيها فكانت تحاول أن تكتم صرخاتها المولولة: ارجعي يا وليه، اعقلي يا مجنونة، الحقوني يا أولاد ، نفسك معنا يا خال.
6
وجه جمل غاضب يدمدم وينفخ من أوداجه ومنخريه هواء كالسعير، والأبصار شاخصة إليها وهي لا تنظر إلى أحد ولا ترى أحدا. خطوة خطوة كطفل ضخم عجوز لا زال يتعلم المشي، وذراعاها ممدودتان إلى اليمين والشمال كأنها تحاذر من الوقوع في هوة سحيقة. ماذا تريد؟ إلى أين تتجه؟ وما الذي أثارها وجعلها تغادر مرقدها الكهفي؟
وقف الجميع ذاهلين. الفزع والحيرة والاندهاش واليأس والعجز ترسم ظلالها على ملامح وجوههم ونظراتهم الزائغة. أسرع الحاج عبد الهادي إليها بعد أن أتم صلاته وختم تلاوته وطوى السجادة الحريرية الناعمة. حاول أن يسندها على كتفيه فنترت يده بعنف لم يتوقعه. تبسم وقال للحاضرين: تفضلوا يا حضرات، توكلوا أنتم على الله. مريضة وربنا يشفي كل مريض. ثم وهو يدعو حمادة الذي نهض محاولا التدخل بأي شيء: الوعي الباطن يا دكتور، ألا تسمونه كذلك؟ يفور ويمور ويخرج ما في البير، تفضلوا ولا تخافوا، هيا هيا، وصلنا للشباك، انظري الشمس طالعة والهوا الله عليه، يالله يا عالية، خطوة خطوة يا أختي، عدينا الصراط والحمد لله، تعالي نرجع في أمان الله، تمام يا حبيبتي. كله بأمره.
ظلوا ينظرون إلى الكابوس المتحرك أمامهم وهم لا يعون. صيحاتها المتلاحقة ونداؤها: تعال يا ولدي، تعال، تعال. لم يفهموه ولم يتذكروا أنهم سمعوه من قبل. ضمة يديها عندما اقتربت منهم. ماذا تعني وماذا تقول بغير كلام؟ كانت قد ضمت يديها وكورتهما كأنها تلملم كل ما قالوه وثرثروا فيه لتجمعه في قبضة يدها وتلقيه من النافذة المفتوحة كأنما ترميه على أكوام القمامة المتراصة في الخرابة العفنة المقززة أمام البيت الصغير. حتى كلام الخال لا يفهمون معناه. كيف تنادي على ولدها وولداها أمام عينيها ولم تنظر إلى واحد منهما نظرة واحدة توحي بأنها عرفته. هل كانت تستمع دون أن يشعروا لما يقولون؟ هل يتصور أن تفهم شيئا بعد كل ما جرى؟ وهل غفل الديدبان عن حراسته ولم تفطن لوقوفها على رأس الطرقة أمام الباب؟
قال الحاج عبد الهادي وهو يكرر محاولته معها فتنفض يده وذراعه بقوة، بينما يدفعها في حرص إلى باب حجرتها المكنونة في الظلام والنسيان: شدة وتزول يا حضرات، ربنا يشفيها ويشفي كل مريض، تفضلوا، تفضلوا.
لم يتفضل الحضور لأنهم نظروا إلى ساعاتهم في وقت واحد وأدركوا أن الوقت سرقهم. أخذ حازم ضيفه من يده وراح يسر إليه كلاما لا يسمعه غيرهما والضيف يهز رأسه ويشد على يده ليعفيه من الاعتذار، ونهض حمادة إلى التليفون وأدار القرص واستغرق في حديث دام عدة دقائق قبل أن يرفع صوته ويقول: كلمت الدكتور عوض، هو زميلي ودفعتي فلا تقلقوا، تفاهمنا على العلاج وربما يحضر إليها اليوم أو غدا بعد المغرب حسب ظروفه، الحالة معروفة والعلاج مستمر والشفاء من الله، أستأذنكم فلا بد أن أرجع الآن.
هتف حازم: ونسيت الاتفاق؟
رفع حمادة حاجبيه: الاتفاق؟ (ثم خبط بيده على جبهته واستدرك) نعم نعم، سأوصلكم للمحافظة بطبيعة الحال.
قال حازم وهو يضحك: يا بختك يا عم، وسأرجع على المغرب وأمر على الميكانيكي.
رد حمادة وهو يردد ضحكته: ذنبك على جنبك، حذرتك من الفولفو ولم تسمع الكلام (ثم إلى الضيف وهو يسلم عليهما) من صغره وهو متهور ولا يسمع الكلام.
أقبلت الأرملة مصفرة الوجه مخطوفة اللون ووقفت أمام شقيقها الطبيب، قالت له بصوت خفيض: شفت الفضيحة؟ شفت العذاب؟
ربت على كتفها وهو يقول: قدها وقدود، المريض معذور وأنت ست العارفين، سأكون على اتصال بعوض فاطمئني، اليوم أو غدا بعد المغرب سيكون هنا للكشف وتكرار الدواء.
ومد يده إلى جيبه فأخرج في السر مظروفا وضعه في جيب سترتها الشتوية الطويلة، وجاء حازم فأدخل يده في نفس الجيب بخفة وهدوء، واتجه الثلاثة إلى الباب بعد أن عانقوها وشددوا عليها أن تشد حيلها وهي تدعو لهم على عتبة الباب: حظي ومكتوبي والأمر لله، ينجيكم يا إخوتي ولا يحرمني من حنانكم، بالسلامة، بسلامة الله.
أسلم لكم عليه بإذن الله، طبعا طبعا، هو القادر على كل شيء.
7
رجع من حجرتها بعد أن أغلق الباب وراءه بهدوء. كانت الأرملة أيضا قد أغلقت الباب الخارجي وذهبت إلى النافذة لتودعهم وتدعو لهم بالسلامة، وعندما أدارت وجهها إليه طلب منها سجادة الصلاة ليلحق الظهر قبل أن يتوكل على الله. ناولته السجادة وهي تتطلع في وجهه وعينيه دون أن تقول شيئا، وتطلع هو لحظة في عينيها وقرأ فيهما الاتهام الصامت. لا بد أنها قالت لنفسها: ما الفائدة من الكلام وقد رأى بنفسه كل شيء؟ ما الفائدة من الشكوى وهي لغير الله مذلة؟ ولا بد أيضا أنه قال لنفسه: ما جدوى الكلام معها عن ماض لم تشهده لا هي ولا أحد من إخوتها حماهم الله؟ هي تعرف بالطبع أن لها شقيقا بكريا مات صغيرا قبل ولادتها - إذ إنها هي الكبرى - لكنه وحده يعرف كل شيء وربما تحمل بعض المسئولية عما حدث اليوم من شقيقته أو ما قد يحدث منها في غيابه.
فرد السجادة أمامه ولبث لحظات يتأمل الخيوط الحريرية الدقيقة المختلفة الألوان التي نقشت فيها الكعبة وحولها أمم المطوفين كأمواج البحر، وحاول بدوره أن يرد أن أمواج الماضي البعيد التي بدأت تلطم شواطئ وعيه المضطرب لكي يتفرغ للصلاة، لكنه شعر أنها لن تكون صلاة خالصة لوجه الله وأنها ستلقى في وجهه كالخرقة القديمة إن لم يخل ذهنه من كل ما خلا الله.
قعد على القماش الناعم وأخرج المسبحة وراح يصب من البئر القديم محاولا أن يفرغه مما فيه وفي أسرع وقت ممكن. كان تيار الألم يسري في كل أعضائه ويعكر كل نقطة في دمه. هل يستطيع أن ينكر ذنبه القديم؟ هل يبرئه هذا أمام من يعلم السر وأخفى؟ يوم أن زار أخته - ولم يمر على زفافها العام - وهو شيخ صغير يتلفع كالقزم المضحك في قفطان وجبة قصيرة فضفاضة ويضع على رأسه عمامة كورها له أبوه واعتنى بفرز الشراشيب الدقيقة التي تنزل منها كالأشعة البيضاء. كان محمود البكر ممددا أمامها تعصف به الحمى التي أعجزت الطبيب، وأخته تمر بيدها على جبهته وجسده الصغير المنتفض وتحس أنها تغلي كالملسوعة، ودموعها تسقط كزخات المطر في يوم شتوي عابس بالسحب الثقيلة التي لا تكف عن الهطول، وها هو يتذكر ما قاله لها مما سمعه من أستاذ الحديث والتفسير: اطمئني يا أختي وسلمي أمرك لعلام الغيوب، الطفل الذي يموت صغيرا يأخذ بيد أمه على الصراط. تقولين ما هو الصراط؟ ألا تقرئين مع كل صلاة:
اهدنا الصراط المستقيم ؟ إنه جسر فوق النار؛ فوق جهنم والعياذ بالله، يمر عليه الجميع، لا بد أن يمروا عليه في طريقهم إلى النار أو إلى النعيم. يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض. يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
آه يا عبد الهادي. كنت لا تتوقف عن الكلام وتلاوة ما حفظت من الآيات. تكرر ما قرأته وما سمعته من معلمك الذي ذهبت إليه لتسأله عن حال الأطفال يوم القيامة، يوم تزلزل الأرض زلزالها، ويصدر الناس أشتاتا، المعلم قال لك وأنت قلت لأختك، تذكر يا عبد الهادي ماذا قلت؛ إن أولاد المؤمنين في جبل الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة حتى يردوهم إلى آبائهم يوم القيامة. وأخذت تؤكد لها أن نبينا رأى إبراهيم عليه السلام في الجنة وحوله أولاد الناس، قالوا: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: «وأولاد المشركين.» وتنظر أختك إليك وهي تبكي، وتختلج في عينيها أضواء اليقين وظلال الشك، ثم تبتسم كأن نفحة من الجنة هبت عليها، ويرتعش جسدها وترتجف يداها وهي تمدها وتقول: تعال يا ولدي، تعال، تعال. وتستقبل موت الصغير بالسلام والتسليم، بل يخيل إليك أنها كانت تبتسم وتكاد تستحم في نور الأمل واليقين وهي تمد يديها إليه وتهتف به ونحن نخرج نعشه الصغير في طريقنا إلى الجبانة الصغيرة: تعال يا ولدي، تعال، تعال، لا تنس أمك
ويلتفت إليها فيخيل إليه أنها تبكي وتبتسم في وقت واحد وتكاد تند عنها الزغرودة الطويلة المجلجلة التي عرفت عنها.
آه يا عالية! كيف خرج هذا التاريخ القديم من بئرك القديم؟ كيف لم تنسه بعد أن تعطلت مراكز التفكير والإحساس والفهم والكلام؟
شعر أن ابنة أخته تنهنه باكية في ركن بعيد. لم يجد من المناسب أن يدخل معها في حوار أو يكرر عليها القصة القديمة والكلام المعاد. قام وكبر بالشهادتين وخطف الركعات الأربع وهو يحاول أن يلقى الله بقلب سليم، وبعد أن سلم طوى السجادة ووضعها على مائدة الصالة واتجه ناحية الباب. قامت الأرملة متثاقلة وهي تحاول إخفاء دموعها ونظرت إليه بعيون محتقنة من البكاء وهي تقول: لا تتأخر علينا يا حاج، توكل على الله مع ألف سلامة، إذا تكلمت بدرية وحسن فسلم عليهما كثير السلام. جمجم بكلمات مختلطة وهو يواصل ختم الصلاة وقبلها من خدها وهو يقول: شدي حيلك يا بنتي، جزاؤك عند الله كبير.
وقبل أن تغلق الباب وراءه خيل إليه أنه يسمع من وراء الباب الآخر صوتا واهنا يتسلل إلى أذنيه: تعال يا ولدي، تعال، تعال.
تائهة على الصراط (2)
1
الظاهر أن الدموع كانت لا تزال في عيني أو على خدي عندما سمعتهم يقتربون من الباب. ابنتي وحارستي فتحته عنوة فارتطم بباب السرير المعدني ودوت الفرقعة التي رجت زجاج النافذة وارتجت لها جدران حجرتي أو تربتي الضيقة المظلمة، وارتفع صياح ابنتي الذي نفذت سكاكينه الحادة في أذني، مع أنها تعلم تمام العلم أنني أسمع وأفهم: قومي كفاية نوم، حضرة الدكتور حضر بنفسه للكشف عليك.
ثم وهي تشد الستارة الثقيلة وتفتح الشيش على مصراعيه فتنهمر سيول الضوء الذي حرمت من رؤيته وإن لم أحرم من الإحساس بجناحه الكبير الشفاف يرف علي وفوقي وحولي كالروح تسري في كل مكان ولا يرى لها وجه ولا يسمع خطو: ابنك الدكتور حمادة الله يبارك له وصاه عليك. الرجل الطيب لم يتأخر، يالله اعملي لك همة، الدكتور مشاغله كتيرة.
جاء صوت الطبيب المطمئن الهادئ كأنه ترتيل شيخ يؤم المصلين: ألف سلامة يا حاجة، الصحة عال والحمد لله، أحسن من آخر مرة بكتير.
هللت ابنتي وحارستي وهي تضحك بصوت عال: مثل الحصان يا دكتور، تاكل الجمل مع الجمال، وتسمع وتفهم ولكن ...
قاطعها الطبيب وهو يفتح حقيبته ويستخرج بيده السماعة والأجهزة التي وضعها من قبل على صدري وظهري ومعصمي ودماغي: لكن الكلام مقطوع، المنطقة المسئولة كما قلت لكم فسدت خلاياها، ربما تساعد الأدوية في تنبيه الذاكرة، وربما ...
قالت ابنتي مسرعة: أحيانا تنطق كلمة أو كلمتين، وأحيانا أسمعها تتشهد على نفسها وتذكر اسم الله.
قال الطبيب وهو يمر بالسماعة على ظهري الذي كشفت عنه ابنتي بعنف وسرعة شديدين: وطبعا اسم الدكتور حمادة وحازم بيه.
ردت في أسف كأنها تكتم البكاء: لا والله يا دكتور، حتى اسم أولادها يغيب عنها. أذكرها به فتقول فجأة: وهل أنا تائهة عن أولادي؟
ويقول الطبيب وهو يواصل الفحص الدقيق: ثم تتوه من جديد وتعجز عن النطق بكلمة واحدة.
وترد ابنتي: تمام يا دكتور، كأنك معنا والله.
يستمر الطبيب الذي يبدو أنه نظر في عيني المحمرتين: سنكرر الدواء ونضيف بعض الفيتامينات، الشفاء من الله والمعجزات بأمره لا بأمر الأطباء، المهم أن تعملي كل جهدك لكيلا تبكي الآن.
وهي تضحك بصوت مجلجل: وهل مثلها يعرف الضحك أو البكاء؟ قلت لسعادتك إنها تأكل كالحصان، والمياه البيضاء ...
وهو يغلق حقيبته وأسمع صرير قلمه على الورق: نحمد الله على كل حال، المياه البيضاء لا تمنع الدموع، حاولي بكل جهدك.
قالت تبرئ ذمتها أمام الله: ربنا وحده هو العالم يا دكتور، أنا محبوسة معها في نفس الزنزانة، قدري وحكم الله.
قال لها بنفس الصوت الهادئ العميق: تفضلي، إن شاء الله كل خير، سلمي لي على الدكتور حمادة، يا ساتر، أترككم في رعاية الله.
سمعت الباب يقفل وراءه بشدة. لا بد أنها هي الريح، ولملمت ثيابي وغطيت نفسي وكومت جسدي وتركته يدخل مع وعيي التائه في الظلام الذي أحاط بي من البداية وشعرت أنه اشتد سوادا بعد أن أغلقت النافذة والستارة والباب. أجل يا بنتي وحبيبتي وحارسة نومي ويقظتي وموتي البطيء الذي تلكأ أطول مما تريدين ويريدون. هل قلت إنني تائهة؟ تعرفون أنني أسمع وأفهم ما يدور حولي، وأحيانا كما قلت تخرج من باب الشفتين كلمة أو كلمتان، لكن ماذا أفعل يا بنتي والأفكار تدوم في رأسي كالعصافير أو الغربان السوداء ولا تستقر في عش الألفاظ؟ وماذا أفعل والإحساسات والمشاعر والأحلام تمور وتفور في داخلي كأمواج البحر التي تعلو وتهبط ثم تذوب وتتلاشى وهي تلهث في لهفة إلى شاطئ الكلمة فتبتلعها رمال الصمت المطبق علي؟ وتسقط الدموع من عيني المظلمتين على جلدي المظلم المتغضن داخل خيمتي المظلمة التي نصبت فوقي وحولي وعلي ولا أدري متى سترفع أو كيف، وأنت بعيد يا ولدي بعيد، أراك هناك بعيني المظلمة البيضاء وأنادي: تعال
2
تراني مكومة على السرير وأجلس القرفصاء فتقترب مني وتجلس على حافته. لا بد أنها أبصرت الدموع التي تسح من عيني المحمرتين التائهتين وراء السحابة البيضاء المظلمة فتمد يدها وتربت على ظهري وتقدم لي المسبحة السوداء ذات الشراشيب الحمراء. أحاول أن أمسكها بأصابعي وأنا أسأل نفسي لماذا تقدمها لي؟ تهت ونسيت يا بنتي، حتى إذا لم أكن نسيت فقد أصبحت عاجزة، عاجزة عن نطق لفظة واحدة. تقرب وجهها الأبيض الصارم الملامح من وجهي وتمسح دمعة سقطت على خدي وتتصعب على نفسها وعلي. لا تحزني يا بنتي ولا تتهمي نفسك، أنا قدرك يا حبيبتي وهل نهرب من قدرنا؟ أنا التي جعلتك حارسة زنزانتي وحكمت عليك بأن تدخليها معي، والعالم يذهب ويأتي والباب مغلق علينا وحدنا. وتسح الدموع فتنهض واقفة وترف نسمة من ناحيتها فأشعر بجسدها العملاق ورأسها العالية تطل من أعلى، ثم تمضي إلى المطبخ وأسمع صليل المواعين ولهاث الغاز ورنين الملعقة في الأكواب وأعرف أنها ستصنع الشاي وتجلس في الشرفة وتتسلى بضجيج الأولاد والجيران والعربات، وأسأل نفسي من أين تأتي الدموع ومن أي بئر خفي تصعد إلي وتنحدر من الفتحتين اللتين انطفأ فيهما النور. أظل أعصر دماغي وألتقط الطيور السوداء المرفرفة حتى تعاودني الرؤيا ويخيل إلي أنني تذكرت. نعم هي الرؤيا التي تزورني منذ ليال. تزورني ولا تنقطع ليلة واحدة. أخي المرحوم وأختي المرحومة يظهران لي ويمران أمامي مسرعين. يا حسرتي عليك يا عالية وأنت تحاولين أن توقفيهما، تحاولين أن تنادي عليهما، تحاولين وتحاولين وتفتحين فمك العجوز على اتساعه فلا يخرج اسماهما منه. يا حسرتي عليك، نسيتهما يا ترى أم تذكرتهما في المنام وتهشمت الحروف وابتعدت عن بعضها ولم تتلاحم في لفظ يضغط ويضغط ليخرج من اللهاة إلى الحنجرة إلى اللسان لينطلق مسموعا من الفم كما ينطلق الغريق من لجج الماء الطامي في البحر. أختي بوجهها المدور الصبوح وشعرها القصير تدير رأسها نحوي وألمح العتاب المحفور على قسمات وجهها الأبيض كالبنور والمحيط كالسوار الأسود بفمها الواسع الدقيق. معها الحق فكم قصرت في حقها ولم أتردد عليها كثيرا أثناء مرضها، وتمر مسرعة وطيفها النوراني يجرجر وراءه ذيل ردائها الأبيض الممرغ في الطين، وكأنما تشير بالتفاتة من وجهها الحزين إلى أن هذا الطين هو تقصيري الفظيع في حقها. أجري خلفها وفمي ينفتح وينغلق على الفراغ فتنظر بحزن أوجع وأشد وهي تقول: حتى اسمي أيضا نسيته؟ ولا تكاد تختفي حتى تلد الرؤيا وجها آخر شامخ الرأس أسمر البشرة من لفح الشمس متجهم الوجه واسع العينين. هذا هو وجه شقيقي الذي مات في المستشفى بعد أن فتحوا بطنه وكشفوا علته. هذه هي السبابة تشير إلي في حزم وتقول بحروف مؤكدة وواضحة: وصيتك الأولاد يا عالية، وصيتك الأولاد. آه يا شقيقي يا حبة عيني، يا من كانت دخلتك علي تسند ظهري أمام زوجي وأولادي وتشبعني وترويني وترد ماء الورد والحياة إلى وجهي المتعب المصفر، وأجري وراءك وأجري وفمي ينفتح ولا يندفع الاسم إلى باب الفم ولا يتركني أيضا لأتنفس إلا كما تتحشرج الأنفاس في صدور المحتضرين، وتعبر الرؤيا ويغيب الطيب والعيون الواسعة لا تزال تنظر إلي بحزن وحزم، والسبابة لا تزال تشير نحوي منبهة ومحذرة.
وتتوقف الرؤيا ولا يتوقف سيل الدموع. أرفع رأسي وأسند ظهري إلى الحائط ويلهمني الله فأتشهد على نفسي وأردد اسم الجلالة، بعد قليل أتوه ويسرق الظلام روحي فتغرق في الظلام، وما هي إلا لحظات حتى أراها أمامي وأجدني أنادي عليهما ويسمعان ويتكلمان. أصرخ حين أرى وجهه الأبيض المستدير والنور الإلهي يشع منه والبركة تلف جبينه العريض بعمامة خضراء تلمع كالزمرد وتضيء البئر الذي وقف فيه وصدره المشعر ورأسه المدورة تطفو بارزة منه، وأهتف: أبي، أبي، هل أنت المرحوم أم أنت سيدنا الخضر؟ تزداد الزمردة لمعانا وتتمايل أشعتها الخضراء على سطح الماء الذي تنثر منه يداه على صدره ووجهه وشعره وهو يضحك ويقول: أنا أبوك يا عالية وأستحم في نبع الخضر. ألم أنصحك وإخوتك دائما بالطهر والعفاف والاستقامة؟ تعالي يا صغيرة وتطهري معي، ويقول الصوت الهاتف من بئري الراكد: لم أعد صغيرة يا أبي، أنا الآن عجوز في قبوي المظلم، وتسألني يا أبي: عجوز في قبو مظلم؟ ما زلت عبيطة يا عالية، الجميع هنا شباب يا بنتي، الجميع غلمان وبنات يستحمون في نبع الخلود. ويقول الصوت الخارج من بئري المظلم: والجميع هنا في الظلام يا أبي. في الظلام والضوضاء والغبار والقبور الحجرية، وترد علي مشيرا بيدك إلى البعيد البعيد: وهذه أمك آتية من هناك، ستلحق بي لأنثر عليها ماء الخلود.
وأنظر بعين القلب فأراها وأتحقق منها. هي أمي بلحمها ودمها، بوجهها المستطيل النحيف، بأنفها البارز المنحني كالقوس الكبير، بعينيها الضيقتين المكحولتين من أثر الرمد المستديم. هي نفسها التي أغمضت عينيها بيدي وتشهدت وقرأت عليها الفاتحة ليلة ماتت وصاح الديك قبل أن تلفظ نفسها الأخير وأوصتني عليه وعلى شقيقي الغائب في البلد البعيد. أنادي عليها فتلوح بذراعها وتقول: تعالي يا عالية، الماء كثير والخير كثير والبئر يتسع للجميع. أحاول أن أكلمها فتتطاير الكلمات وتتصادم كالطيور السوداء العمياء ويصيح الديك، وأفتح عيني وأحس بأنفاس الحارسة العملاقة تقف على رأسي: الديوك صاحت من زمان وأنت في سابع نومة، قومي افطري
هو ديك واحد يا بنتي، هو الديك الذي ... لكنني لا أجمع حرفا مع حرف، وأسأل نفسي وأنا أمر بيدي على عيني وخدي وآخذ منها طبق اللبن المغموسة فيه قطع الخبز : لماذا لم أرك هناك يا محمود؟ لماذا لم تظهر لأمك التي تنتظرك؟ متى تأتي يا ولدي، متى تأخذ بيدي؟
3
الخبط على الباب شديد والأقدام القلقة تضربه بقسوة وبغير توقف. تسرع ابنتي وحارستي فتفتحه ويدخلون صائحين ضاحكين، ويندفع الأولاد والبنات إلى الصالة ويجرون إلى الشرفة وينادون على أبناء الجيران ثم يرجعون بسرعة لفتح الصندوق الذي تتناهى إلي أصوات السيرك الدائم فيه ولا أرى صوره؛ أفيال ودببة وخيول وأسود ونباح كلاب وغناء طيور وصياح أولاد وبنات وآباء وأمهات. أسمع صوت حمادة وهو يضع ما في يده على سطح البوفيه: يا ترى الدكتور عوض ... أسرعت أخته مقاطعة وهي تأخذ منه ومن أخيه حازم بقية اللفائف والحاجات وترتبها بجوار بعضها: الحالة على ما هي عليه؛ يعني مستقرة.
سأل حمادة: وصف لها حاجة جديدة؟ قالت: كالعادة؛ مقويات وفيتامينات. جلجل صوت حازم بعد أن شخط في أبناء أخيه ووبخهم على الهوسة التي عملوها: مقويات؟ يالله، شدي حيلك يا حاجة. وخطا بضع خطوات في الممر الموصل إلى حجرة أمه، لكنه تراجع ليواجه أخاه الذي برز على سحنته النفور والامتعاض. قال حازم وهو يمر بكفه على صدر أخيه: بذمتك يا شيخ ...
نتر أخوه كفه الطرية السمينة: أنت تتكلم عن الذمة؟
أسرع حازم ضاحكا في سخرية: يا منافق، أنت أيضا تتمنى هذا من قلبك، أليس كذلك يا طبيب الأرواح؟ أدار حمادة ظهره له وسرح ببصره في الصور المتحركة التي التف حولها الأولاد، ودوت فرقعة شديدة على السلم فأسرع إلى الباب الذي كان لا يزال مفتوحا وزعق: ألم أحذرك يا طارق من البمب وسنينه؟ يكفينا يا بني ما فينا، ادخل واخرس تماما.
هتفت أخته: العيال نفسها تفرح، ربنا يفك ضيقتنا جميعا.
وضع حمادة نفسه على كرسي بعيد وتعمد أن يعطي ظهره لأخيه وللتلفزيون، وأسند رأسه على يده وراح ينظر إلى الأرض، ثم نهض فجأة كمن لدغته عقرب واتجه إلى حجرة أمه. أدركته أخته قبل أن يفتح عليها الباب وهي تقول: في الأول نفطر وبعدها أصحيها من النوم، هي كويسة وبخير ، لا تخف عليها، خف على أختك وعلى نفسك أنت.
قال حمادة باشمئزاز وهو يرجع إلى مكانه: ورائي شغل ومستعجل، أنت عارفة الحال ومسلسل الولادة شغال.
ضحكت الأرملة التي لم تنجب من زوجيها السابقين وكأنها تنوح على نفسها أو تعزيها: وآخرتها عنيك لا ترى إلا النور، هم وغم وفي الآخر حفنة تراب، اقعد نأكل لقمة وبعدها تتوكل على الله.
قال بصوت آمر ندم عليه: لا أكل ولا غيره، هاتي أمي أولا تقعد معانا.
ضحكت أخته وهي تطوح ذراعيها في الهواء: عروسة تقول للبدر قم وأنا أقعد مطرحك، فكر أنت في حالك، مصيرها تفنى أجيال.
تراجع إلى مقعده وهو ينظر شزرا إلى أخيه وزوجته وأولاده المتحلقين حول سحر الصندوق الملعون، ودخلت حارستي علي فوجدتني جالسة على سريري وتعجبت لأن شفتي تتحركان فهتفت صائحة: أمكم رجعت تسبح وتذكر الله يا أولاد، قومي شوفي أولادك وادعي لهم، هاتي يدك، تعالي.
جرجرت لحمي وعظمي والسقف المائل الذي ينهار علي. فاتت على الحمام ورشت وجهي بالماء وجففته بالفوطة وسحبتني من يدي إلى الصالة، وقامت زوجة حازم من مطرحها وطبعت قبلة على خدي وساعدتني على الجلوس، ووضع حازم يده على كتفي وقبلني أيضا وصاح ضاحكا: عود في عين الحسود. ثم وهو يوجه كلامه إلى حمادة الذي أمسك بيدي: والله ورجعت خمسين سنة للوراء، حمادة يريد أيضا أن يقبلك ويقول لك شدي حيلك.
هللت أختهما وهي تتجه إلى المطبخ: دقيقة والشاي يجهز، قوموا اقعدوا على السفرة، طيب طيب، ممكن نفطر هنا، تعالي يا حكمت دقيقتين.
جلست وسطهم أسمع وأفهم ولا أنطق. أطراف الكلمات تتلوى وتتصادم وتتبعثر في ظلامي الأبدي وأعجز عن التلفظ باسمها. يشخطون في العيال ليهدئوا، يقلبون المعالق في الأكواب الزجاجية، يثرثرون كالعادة في كل شيء وأي شيء. في مذبحة الخليل والانفجار الأخير والمرأة التي قطعت زوجها ووضعته مع أبنائها في أكياس وفضائح الرشاوى والهروب من البلاد والفساد والفساد والفساد.
صوت حازم مرتفع وغاضب وهو يصيح بحمادة: يعني لا أمل على الإطلاق؟ معقول هذا يا مستشار اليائسين ؟ وحمادة يؤكد في غضب ويغلق الأبواب: قلت ألف مرة مستحيل، لماذا لا تذهب إلى لندن أو باريس؟ اصرف يا أخي من المال الحلال. يثور حازم ويسب ويلعن وصوته يرتعش برياح الغضب واليأس ويهدد أخاه: خسارة فيك الغربة والتعليم على حساب الدولة، فكرت أنك طبيب بحق وحقيق ... وحمادة يزعق نافد الصبر ويبدو أنه نهض كذلك واقفا وصاح قبل أن يفتح الباب ويرزعه وراءه: قلنا مستحيل مستحيل، هل أنا المسيح عيسى عليه السلام؟ سلام يا أمه، سلام يا نظيرة، إذا احتجت لشيء عندك التليفون، يالله يا أولاد، يالله.
آه يا أولادي، دائما مثل ناكر ونكير، دائما مثل الديوك، تحضران مع زوجاتكما كل يوم جمعة وتتكلمان وتتعاركان وتذهبان، مشغولان دائما يا أولادي والكل عني مشغول، هل يذكر أحد منكم تعبي وشقائي حتى تتربيا وتكملا التعليم؟ هل تذكران أباكما الطيب الصامت على الدوام؟ كان كل مناه أن يراكم تحت عينيه في الغيط والبيت ويغطيكم بالليل وأنتم نيام. حاربت وصممت ووقفت كالقطة التي تعشش على أولادها وتحميهم من الذئاب والكلاب، وضعت القرش على القرش والجنيه على الجنيه وبعت الحلقان والأساور والمباريم لكي تعلوا وتعلوا إلى النجوم، وفي بيتنا القديم كنا مستورين؛ بيتنا الذي جمعنا مع البقرة والجاموسة والحمارين والبط والأوز والحمام والدجاج والديك الأحمر السعيد، وصممتم على بيع البيت بعد وفاة أبيكم وجئتم تعيشون في غابة الأحجار والزحام والضوضاء والغبار والكرب العظيم. الله يبارك فيكم يا أولادي. يبارك فيكم ويسامحكم ويخفف عنكم حملي الثقيل. ما هذا الذي أسمعه؟ هل سمعت صياح الديك؟ كيف أقول لكم الديك يصيح والفجر يوشك على الطلوع. تاهت الحروف في الظلام ومن يقرب الدال من الكاف؟ وتهت على الصراط وأنت بعيد يا ولدي محمود، تعال يا حبيبي وخذ بيدي حتى لا أسقط في الجحيم. ألم تسمع يا ولدي صيحته، صيحة الديك الأحمر السعيد؟
4
لولا صيحة الديك في بيت الجيران لابتلعني الكابوس. لف ملاءته السوداء علي أثناء وجود الأولاد فأغمضت جفوني وغبت عنهم وعن نفسي. وحين فتحت عيني على ظلامي الأبدي كان لا يزال يلفني ويعصرني ويضغط على كل أعضائي، السكون يطوقني ولا أسمع صوتا من حولي، وابنتي وحارستي تجلس في الشرفة أو ربما أمام الصندوق الملعون الذي تطفح منه سيول الكلمات والدقات والضحكات والصرخات. القطة تأكل أولادها إذا جاعت أو خافت على ضعفهم من قسوة الحياة، أما أن يأكل الأولاد القطة فهذا هو الذي رأيته في الكابوس. كانوا ممددين من حولي وأفواههم الصغيرة النهمة تشفط من ضروعي التي التهبت حلماتها كالجمر ونزفت منها الدماء، والقطة تتلوى وتنفض جسدها ورأسها ويشلها العجز عن إبعادهم عنها. لم يشبعوا أبدا فراحوا ينشبون مخالبهم في بطنها وصدرها ويدفنون أفواههم الشرهة في الجروح المفتوحة. لم يشبعوا أيضا فبدءوا يجربون أسنانهم الصغيرة التي تحولت إلى أنياب حادة تنهش الجسد الذي ظل دافئا بعد أن فارقه السر الإلهي، وبرغم عماي رأيت القطة واقتربت من رأسها ونظرت كأني أنظر في مرآة وصرخت: هي رأسك يا عالية، وهذا هو شعرك وأنفك وفمك المفتوح من الألم، القطة هي أنت يا عالية والجسد المشوه الملوث بالدم والقروح هو جسدك. مع أنك يا عالية لا تبصرين ولا تدرين ولا تنطقين ولا تملكين الخروج من عتمة الكابوس. لولا صيحة الديك، نعم هي نفس الصيحة وإن لم يكن هو نفس الديك ... رنت كالجرس فبدد صليلها جيوش العتمة وطارد الفجر الذي طلع منه فلول الكابوس، ووجدتني فجأة أنزل من الحنطور وأدخل من باب البيت الذي ولدت فيه. كانت عيني قد رفت وقلبي قد انقبض خوفا على أمي التي رجعت من مصر قبل أسبوع. قلت أخطف رجلي وأطمئن عليها وعلى أبي فلا يعلم الموت من الحياة إلا علام الغيوب، ووالله لولا الحمل الثقيل ما تركتك يا أمي أبدا ولا تأخرت عن خدمتك ولا ابتعدت لحظة عن سريرك الذي ترقدين عليه.
وجدتها ممددة على الكنبة في القاعة ملفوفة في الحرام الأسود الطويل، وحين دخلت عليها وقبلت جبينها ويدها ودعوت لها بالشفاء قالت وهي تحاول أن تفتح شفتيها وتخطف ابتسامة من الوحش اللابد تحت الهدوم وفي زوايا القاعة المظلمة وفوق الصدر الذي يطلع وينزل بالنفس المنقطع القصير: والله بنت حلال وجئت في ميعادك، القلب يا بنتي ... قلت وأنا أضع يدي على صدرها الراجف المضطرب: سلامتك يا أمه وسلامة قلبك، ربنا وحده هو العالم، والله لولا ...
قالت وهي تشير إلى أن أقلبها على جنبها الأيمن: القلب مثل الديك المذبوح يا بنتي.
قلت وأنا أسندها وأعدل مخدتها: سلامتك ألف سلامة.
نظرت إلي والبسمة تنور عينيها: ما عاد إلا القليل يا بنتي، ابقي معي اليوم يا عالية ولا تتركيني، من يضمن يا بنتي ...
صحت مستنكرة: كل خير يا أمه، إن شاء الله كل خير.
قالت وهي تربت على صدري بكفها ثم تتأوه وتنزلها بسرعة: طبعا يا بنتي، لقا وجه الكريم كله خير، هل سلمت على أبيك؟
فتحت باب المندرة ووجدته في مكانه، متربعا على الكنبة وأمامه المصحف المفتوح وشفتاه تتحركان وتتمتمان مع حركة النظارة لليمين والشمال. انحنيت وسحبت يده البيضاء ولثمتها فرفع عينيه والتفت إلي وشفتاه لا تتوقفان عن الحركة والهمس: بركة أنك حضرت، أمك بعافية من يومين، خذي بالك منها يا بنتي.
قلت في حذر وأنا مطرقة الرأس مغمضة العينين: الحكيم شافها يا أبا؟
قال وهو يشير بيده البيضاء التي لثمتها: الحكيم هو الله يا بنتي، الدواء عندك أعطيها منه إذا النفس غاب، روحي يا بنتي والشافي هو الله.
رجعت لأمي فسمعت النفس المطرود ورأيت الصدر الذي يعلو ويهبط كموج البحر في اليوم العاصف العصيب. أمسكت زجاجة الدواء وأردت أن أصب لها ملعقة فهزت رأسها وقالت: دواي أني أخرج من هنا، طلعيني يا بنتي للهوا والنور، طلعيني للسطوح.
ضربت صدري ضاحكة: السطوح؟ وأنت في هذه الحالة يا أمه؟
مدت ذراعها وهي تتأوه وشدتني من صدر فستاني: المهم أخرج من القبر يا عالية، ساعديني الله يبارك لك يا بنتي، ساعديني أموت في الهواء والنور.
قطب جبيني وعبس وجهي وفكرت في عواقب المخاطرة ولم أستطع أن أقول شيئا، وشدتني مرة أخرى من ثوبي وهي تتأوه من جديد: يوم واحد في العمر، آخر يوم يا بنتي، يالله يا حبيبتي وتوكلي على الله.
تلعثم لساني ووقف الكلام في حلقي ولم يخرج منه إلا اسم أبي، غامت نظرتها لحظات وحدقت في وجهي قليلا كأنها تذكرني بما نسيت وقالت: أبوك سيخرج الآن ليصلي العصر جماعة، خلنا في حالنا
بعد أن سمعت أبي يتنحنح ويفتح الترباس ويغلق الباب وراءه، حاولت أن أتصنع المزاح وأرد إليها دعابة واحدة مما غمرتنا به طول العمر.
وتعثر صوتي في ضحكة مهشمة وأنا أقول: ونعصي ولي الأمر وكلام الحكيم؟
قالت وهي تحاول أن تصلب ظهرها وتمد ذراعيها لأسندها: الأمر لصاحب الأمر يا بنتي، يالله
ووضعت كفها اليسرى على صدرها بينما كنت أسندها لتنزل على الأرض وأطوق خصرها بقوة وأتحاشى في نفس الوقت أن ترى الجزع المرسوم على وجهي والمطل من عيني. انحنيت وأدخلت فردتي الخف القماشي في قدميها القصيرتي الأصابع اللتين ازداد تورمهما أكثر من أي وقت مضى، وخطوة خطوة أسندت الطفلة التي شابت سوالفها وبرى المرض وتعب العمر جسدها وكأني أسند على جنبي كومة قش جمعتها وأنا صبية صغيرة في موسم الحصاد، وخطوة خطوة نخرج من القاعة المظلمة منذ طفولتي وصباي، ونمر في الطرقة المؤدية إلى وسط الدار، ونطلع سلمة سلمة وأنا أرتجف رعبا من المجهول، وأتابع أنفاسها المطرودة وشهقاتها بين لحظة وأخرى وأطلق من فمي سيول الدعابات والذكريات وصور الأهل والأحباب في الأمس القريب والبعيد، وتشهدت وصدقت وآمنت بالله ورسله وملائكته ومعجزاته حين دخلنا من باب القاعة التي كانت مخصصة لإخوتي الذكور، ورفعتها بعزم ما في إلى السرير النحاسي المترب ومددتها عليه. فتحت الشبابيك وتركت نسمات العصر تلفح وجهها، ودخلت أشعة الشمس الغاربة ونشرت أجنحة فراشاتها الملونة في كل مكان، واكتسى الوجه الشاحب المخدد بالرضا والسكينة بعد أن عدلتها على الفراش وأسندت ظهرها بمخدة عالية، وتدفق الكلام الذي حبسه الظلام في القاعة السفلية وراح يحطم كل السدود: أخوك الغائب يا بنتي ...
قلت ضاحكة وأنا أجلس بجوارها وأمر بيدي على صدرها وأمسح على ذراعيها وأتحسس نبضها المتسارع: أيهم يا أمي؟ الغائب عذره معه.
قالت: عبد الهادي، يا ما نفسي يحضر ويقرأ علي آيتين.
طمأنتها وأنا أدعو الله أن يغفر كذبي: ربما يحضر اليوم ومعه الشهادة الكبيرة، خليك أنت في نفسك يا أمه وادعي له. - القلب دائما يدعو لكم أنت وإخوتك يا بنتي، وأخوك عبد الله، يا ترى يا بني أحوالك إيه؟ كنت أعلم أنه قاطعنا منذ سنين وأقسم ألا يعتب البيت منذ أن طرده أبي وقال له أمام القريب والبعيد: أنا بريء منك إلى يوم الدين. وسمعت من زوجي سالم الذي سمع من أصحابه على القهوة أن الله فتح عليه وحبب خلقه فيه واشتغل في المباني والسمسرة والشراء والبيع؛ لهذا قلت لها وأنا أستغفر الله أيضا من الكذب عليه وعليها: بخير يا أمه، وأحواله عال والفلوس تجري في يديه.
سألت في جزع: بعت لكم يا بنتي؟ - نعم يا أمي، كتب لسالم ويسلم عليك كثير السلام.
غامت في عينيها سحابة شك وعلى شفتيها ابتسامة وسألت: وأخوك الذي أخذوه في الجيش، أوحشني يا بنتي. - إجازاتهم قليلة يا أمه ومصيره يحضر ويأخذك في حضنه.
تطلعت في وجهي متشككة فأسرعت أقول: الجيش والبلد كلها واقفة في وجه الأعادي، ادعي له يرجع بالسلامة.
رفعت عينيها الضيقتين الكليلتين إلى السقف وتضرعت قائلة: ربنا ينجيه هو وأصحابه ويطمئن أهلهم عليهم، كان نفسي يا بنتي ...
انقضى الوقت إلى ما بعد المغرب في السؤال والجواب عن أخبار الحاضر والغائب وسيرة الأقارب والحبايب والجيران. مسحت وجهها وجسدها بالماء ونظفت الحجرة والسرير وقدمت لها جرعة الدواء التي رفضتها كما رفضت اللقمة التي جهزتها للعشاء ولم تشرب إلا شفطة من كوب العرقسوس، ساعدتها أن تصلب ظهرها على السرير وتوجه رأسها للقبلة لتؤدي صلاة التيمم وناولتها السبحة الطويلة التي تلمع حباتها السوداء الكهرمان. سكتت طويلا وغابت في النوم ثم صحت منه ونهج صدرها كالمجنون وانطلق لسانها بالشهادتين أكثر من مرة. أخفيت دموعي عنها مرات وحاولت أن أبدو طبيعية وأن أكلمها عن أولادي وعن الأيام والسنين التي ستجيء وستكون أحسن من الأيام والسنين التي ذهبت. شعرت أنها تستمع صامتة ولا تفكر في الرد علي. تمد أذنيها وتميل برأسها ورقبتها نحو السطح حينا وفي اتجاه النافذة حينا وكأنها تصغي لصوت تنتظره وتتوقع أن ينطلق بين لحظة وأخرى، وعندما غابت عني تماما وعرفت أنها دخلت في غيبوبة الاحتضار وطوقتها بذراعي وأسندت قلبها على قلبي رن صوته كالجرس الذهبي. فتحت عينيها ونظرت إلي كأنها تقول: ألم أقل لك؟ وأشرق فجر ابتسامة خاطفة وسعيدة على وجهها وفمها وهي تهمس: الديك أذن ...
اندفعت قائلة: هل أذبحه وأسويه بسرعة يا أمي؟
قطبت ملامح وجهها وتجعد جبينها ثم ما لبثت الابتسامة أن أشرقت على شفتيها كلمعة البرق عندما سمعت صيحته قبل أن تشهق شهقتها الأخيرة وتميل برأسها على صدري وأمر بأصابع كفي على عينيها وأغمض جفنيها لتنام في سلام، وعاود الديك صياحه من فوق السطوح وعلمني من يومها أن أبتسم وأفرح كلما سمعته وإن لم أعرف أبدا ماذا أرادت أمي أن تقول ولا أي وصية أوصتني بها على لسانه.
وها أنا الآن أصحو على صيحته من الكابوس الذي كان يبتلعني وأسمع ابنتي تهز كتفي وتهتف متعجبة: الفجر شقشق والظهر أذن وأنت نائمة؟ قومي يا شيخة قومي، الحاج عبد الهادي تكلم وعلى وصول، قومي اغسلي وجهك وافطري.
تشهدت في سري ورنت في سمعي صيحة الديك.
5
تسحبيني من يدي فأتوكأ عليك وألهث مقطوعة النفس لأرفع الحمل الثقيل. تلفين ذراعك اليمنى حول خصري وتلصقين جذعي العجوز بشجرة جسدك العملاق. عجبت والله ألا تصل رأسي إلى صدرك ولا تلمس إلا الطرف الأدنى من ثدييك، مع أني كنت النخلة الطويلة في العائلة كما سماني أبي وأمي، وأحاول أن أشد حيلي وأصلب ظهري. لكن ماذا أفعل وهو السقف المائل الذي ينهار فوق البيت الآيل للسقوط؟ وتصبرين يا بنتي وتمسكين الحيوان الأعجم ليقضي حوائجه ويتخلص من فضلاته ويبلل رأسه وشعره وينظف الجماد الأخرس الذي يجره معه كحجر ضخم وكثيف وكئيب.
تأخذينني إلى الحمام فتمسحين وجهي ورأسي بالماء، وتمشطين الخصلات الهائشة التي تبقت من الضفائر السوداء الطويلة التي كانت تصل إلى ظهري ويحسدني عليها الجميع، ثم تريحينني على السرير المرتب وتحضرين الصينية وعليها كوب الشاي والجبن وطبق اللبن مع الغموس الطري الذي يتحمله طقم الأسنان، وترين يدي تتحركان في كل اتجاه، تتشابكان وتتفرقان وتمران على الرقبة والخدين وتتوهان في غير اتجاه ثم تتشابكان وتتفرقان، وتمدين يدك بالمسبحة السوداء الكبيرة وتذكرين اسم الله وأردد الاسم وراءك وتشل يدي وتخرس أصابعي وتحتار فلا تمتد إليها ولا تمسك بها كما فعلت منذ أن فتحت عينيك يا بنتي وعرفت ووعيت، وأسمع ما تقولين أو تصيحين به وأفهم ما تقصدين، ولكن فمي مسدود كباب مغارة ويدي خرساء مصمتة كيد مشلول، وأنظر في عينيك فأحس فيهما العتاب؛ العتاب الصامت المستكين الذي يتكاثف في سحب سوداء تسقط منها دمعة تعاسة حبيسة وبكاء على النفس طوال ليال وأيام بلا عدد، ويتصورك عقلي الكليل وخيالي العاجز العليل مسلسلة معي في نفس القيد الحديدي، ونحن كالعبيد المغلولين من أقدامهم وأيديهم في الدهاليز المعتمة أو وراء قضبان الزنازين أو في قاع السفن التي كانت تحملهم في التصاوير والأفلام إلى أسواق العبيد وتجار العبيد، أرى كل هذا بعيني الثالثة التي نبتت في أغوار بئري المظلمة وأحاول وأحاول وأعجز عن إخراج لفظة واحدة يمكن أن تواسيك.
رعاك الله يا بنتي ووفقك وبارك فيك. هذا هو قدرك كما أسمعك تقولين لكل من يكلف نفسه ويسأل عنا من الأقارب والأباعد ومن المتعاطفين والمتشفين. نعم أنا قدرك يا حبيبتي، قدرك أنت وحدك دون الجميع المنشغلين بأعمالهم وأرزاقهم عني وعنك وحتى عن أنفسهم مشغولين. أحس بقلبي وأرى بعيني الباطنة أن عينيك تلومان وتعتبان وربما تلعنان أيضا وتصرخان، لكن هل أنا المسئولة يا بنتي؟ هل يقع ذنبك علي وحدي؟ هو قدرك يا حبيبتي وأنا قدرك. هل صنعته أنا وحدي أم شاركت كذلك في نسج خيوطه؟ وماذا نفعل أنا وأنت وكل أولاد آدم وحواء. هل نملك تغيير المسطور على اللوح المحفوظ؟
عندما أحببت الطيب وتمسكت به هل كنت أنا قدرك؟ ألم يشعر بك قلب الأم ويدافع عنك دفاع الأم عن وليدها بلحمها وأظافرها وبكل عضو وخلجة ترتعش فيها لتحميه من الوحش المتربص به؟ ألم يجر الخطاب عليك وتحف أقدامهم وتكل أيديهم من الدق على الباب فتكلمت بلسانك وذدتهم عنك؟ محامون وأطباء وموظفون محترمون من الأهالي وأولاد الأعيان ومن البندر والبراري. رفضتهم جميعا ورفضتهم معك وعيني تدمع وأنا أراك تتقدمين في السن والطيب المسكين لم يجهز نفسه وتفوت الشهور والسنين وأنت تنتظرين. كان يسكن معنا في الحارة وكنت أعرف بقلب الأم أنه يحبك وأنك تحبينه ولا تريدين سواه، وكنت ألاحظ وأفهم وأسكت حين أراك تطلين عليه وتكلمينه بلغة الإشارة وتخفين رسائله عن أعين الجميع وأيديهم الطويلة. قالوا: ابن ناس على قد حالهم. وكنت أقول ابحثوا عن الأصل لا عن العز والجاه والأطيان، يكفي اسمه وخلقه، أليس هو الطيب ابن الطيبين؟ وتقدم إليك بواسطة خالك الذي كان يعرفه ويسهر معه ويحبه مثل كل الشبان في سنه، ووقف أبوك ورأسه وألف سيف ألا يعطيك للموظف الصغير الغلبان.
واجتهد الطيب وتحدى قدره وانتسب كما أفهمتني للجامعة وتعلم الحقوق. قلت لهم ولنفسي: سيتخرج وهو محام قد الدنيا فما هو عيبه يا مسلمين؟ وبعد أن أخذ الشهادة الكبيرة حاربت كالصقر وقاتلت كالذئبة ووقف خالك معنا حتى وافقوا عليه، وعشتما بعيدا في البندر حيث يعمل ويتعب ويسهر مع الكتب الكبيرة ليحصل على الدبلوم بعد الدبلوم. ماذا تريد يا طيب ولماذا لا تشتغل مثل المحامين؟ العمر يفوت يا بني وأنت تضيعه في الكتب والسياسة والخطب والكلام. ويضحك ويضحك ويقول أنا يا حاجة محامي الفقراء والمظلومين، أنا محامي من لا محامي له وأومن بالزعيم؛ أعمل في الحزب وأسعى للعدل وأتعب لمستقبل الملايين. لكن صحتك لا تساعدك يا ولدي والروماتيزم في الرجلين والمفاصل لا يعينك على الجري مع السياسة والسياسيين. الشعب هو قضيتي
الكبيرة على مكتبك وفي الصالة وغرفة النوم وفي كل مكان إلا المطبخ والحمام لن تمد أيديها لك. وتضحك حتى تكركر وتقول سموني الطيب يا حماتي لكي أعطي ولا آخذ، وأنا أعطي الحب لبنتك وأعطيه للشعب والمستقبل ولا أطلب شيئا من أحد ولا أنتظر شيئا من أي إنسان.
وتمضي الأيام والشهور يا بنتي ومحامي الفقراء والمظلومين موظف بائس صغير، وتسوء علته ويضيع مرتبه في الكتب والسهر مع الزملاء وفي الحقن والأقراص والمراهم والبلابيع، وتمر الأيام والشهور والسنين وليس معك بنت ولا ولد يسليك ويملأ عينيك ووقتك وقلبك المشغول الحزين، وينهزم العسكر وتنكسر البلد ويموت الزعيم فتسود الدنيا في عين الطيب وتزيد العلة ويرقد في البيت يكلم نفسه ويلعن حظه ويكره الدنيا ويكره نفسه، وتلاحظين ذبوله يوما بعد يوم وانطفاء الحياة في عينيه فتحاولين أن تواسيه وتشجعيه، وتمدين يدك إليه بالمرآة لعله يفطن لحاله وينتبه لما جرى له فينتشها منك ويرميها على الأرض بعزم ما فيه ثم ينزل من فراشه ويسحق الشظايا بقدميه الحافيتين وتغرق الأرض والسجادة في الدماء. كانت أياما قاسية عليك وعلي وعلى الطيب المسكين، وترفق بك القدر عندما ترفق به وسكت قلبه يوما بعد أن وصل الروماتيزم إليه وظل يزحف عليه بالبرد والوجع والصقيع حتى تجمد فجأة كتمثال متصلب من الثلج أو الملح الأبيض، وأخذتك بعد المأتم إلى بيتك وبيتنا القديم لتكوني تحت عيني وأكون دمعتك وسندك وعكازك. حظك ولا بد من الرضا بالحظ والمقسوم. لا زوج ولا ولد ولا بنت ولا رغبة عندك ولا أمل في غد يأتي بجديد، وبدأت الرجل تسعى واليد تدق على الباب وأنت ترفضين وتصرين وأحيانا تظهرين بنفسك وتسبين وتلعنين، وتبقين وحيدة مع الطيب وصوره التي تطل عليك من الجدران كأنها تذكرك بالعهد الأمين. صورته وهو قوي متفجر بالشباب، وصورته وهو معك على شاطئ البحر، وصورته وهو مريض وشاحب ونحيل. خياله وهو طموح يخطب أمام الألوف، وشبحه وهو مهزوم ومكسور ويائس بائس يستند إلى عكاز. هذا هو قدرك يا حبيبتي وأنت مؤمنة وتعرفين أن ربك هو مقسم الأقدار، وتنظرين إلي ولا أرى عينيك ولا ملامح وجهك، لكن قلبي يحس ويرى ما تراه عيوني التي غشيتها المياه البيضاء. قلبي يحس ويرى ويسمع ما تقولينه لنفسك في كل لحظة أو تقولينه للأهل والأغراب وربما تحسبين أنني لا أسمع ولا أفهم: هي قدري وهو حكم الله. نعم يا حبيبتي وابنتي وراعيتي وحارسة همي وشيخوختي، وأين يهرب الإنسان من قدره إلا إلى قبره؟
تقولين الباب يدق وهذه هي دقة خالك؟ تعال يا عبد الهادي يا بن أمي وأبي فربما يأتي معك الفرج، تعال يا أخي وهات معك ابني وحبيبي ليأخذ بيدي، افتحي الباب يا حبيبتي ليدخل ومعه الوعد أو الوعيد.
6
لم يكد يدخل من الباب حتى حدثت المعجزة؛ خرجت الحروف كما تخرج الوحوش من الحبس الطويل. تلامست وتعانقت ثم تكورت وانطلقت كالقذيفة من فمي: عبد الهادي ... حاولت أن أكمل وفتحت فمي مرات وأغلقته ولكن المعجزة لم تتم. راحت الحروف تتصادم وتصلصل في سقف الحلق ثم تختنق وتتفتت في حشرجة متقطعة خرساء، ويبدو أنه سمعني أو أحس بي فشعرت بملمس قبلته على خدي وفي جبيني، وبضغطة يده الطويلة الخشنة علي يدي. جزاك الله كل خير يا أخي ولا حرمني منك. تدعو لي بالعافية وطول العمر وتضحك وتقول لحظة وأرجع لك، وتجلس في الصالة مع ابنة أختك وتوشوش معها ولا تعلم أنت ولا هي أن الله عوضني في أذني عن عجز العين وشلل اللسان والفم. هل تصورتما يوما أنني أسمع دبة النملة وأنفاس الريح وزحف الموت في شراييني؟ - بركة أنك طيب وبخير يا خال. - وكل شيء تم بخير وبفضل الله. - ربنا يقدرنا على رد الجميل ونتعب لأولاد أولادك في الأفراح. - في حياتك يا بنتي، الدنيا كلها تعب في الأفراح وفي الأحزان، لكن ربك هو المعين. - ونعم بالله يا حاج، وما دام وضعت فيها يدك ... - ويده أيضا فيها البركة، الحاج متولي التربي وحارس الجبانة. الرجل لم يتأخر وحضر معي بعد صلاة العصر. فتحنا المدفن وقرأنا الفاتحة على أمواتنا وأموات المسلمين. هو الله يستره الذي دلني على تربة ستك الله يرحمها ويحسن إليها. أصل الزحام يا بنتي في الموت وفي الحياة، والنائم تحت الأرض مثل الماشي فوق الأرض. المدفن ازدحم يا بنتي والعقل تاه. فتحنا التربة كأننا نفتح في كوم تراب، الله يرحمك يا أمي. - صدق من قال يا خال: المتعوس في الدنيا منحوس في الآخرة. - لكن ربك لا يرضى بالظلم يا بنتي. غفقنا التربة بالأسمنت وفرشنا الرمل على الأرضية، مد الرجل يده وأنا معه وسمينا وركنا العظم على جنب، حال الدنيا ومصير الكل يتلاقى، المهم الواحد يطمئن لنومته في الدنيا والآخرة. - كتر خيرك يا خال، لو كانت في وعيها كنت قلت لك ادخل وطمئنها. - العلم عند الله يا بنتي، جائز أنها تفهم أكثر مني ومنك.
ضحكت نظيرة وقالت وهي تتجه إلى المطبخ لتعد له كوب الشاي: الله يجازيك يا خال، دائما الضحكة على لسانك والقبول في وجهك.
دخل عبد الهادي وهو يبسمل ويحوقل وجلس على حافة السرير، وضع يده في يدي التي راحت تمر عليها وتضغط وتتكلم بدلا عن لساني. عجزت عن إخراج حرف واحد من فمي، وجعلت أناملي تتلمس أنامله وتلتف حولها وتنطق وتصمت صاعدة هابطة وساكنة متحركة. كنت أريد أن أسأله وأسأله ولكن كيف أخرج وحوش الكلام التي تفترسني بين أقفاصها. كيف أقول وأعبر عما يفيض من القلب ثم يقف في اللهاة ويتعثر وينكفئ ويسقط في الظلام. أنت يا حبيبي الذي تعرف ما لا يعرفون. يا من كنت معي وهو يتلوى من الحمى كالفأر الصغير وأنت تشجعني وتعزيني وتفتح طاقة القدر في عز الظلام. أخذت تقرأ من كتاب الله وتمرر يدك الطيبة على رأسه، وحكيت لي وحكيت عن بخت الأم المسعدة التي يموت لها طفل صغير. كان محمود يصارع الوحش أو الملاك وأنت تكلمني عن بختي وسعدي المقسوم. وحياتك يا حامل الشرع وحافظ الكتاب، هل سيظهر محمود يوم يحشر الأموات يوم العرض العظيم؟ هل يجري نحوي ويأخذ بيدي ولا أسقط في الجحيم؟ وأصابعي تسأل وتسأل، تتحرك وتسكن وتصعد وتهبط وتتشابك وتتفرق وأنت لا تكف عن تلاوة الآيات وترتيل الدعوات.
وتتم المعجزة مرة أخرى فتخرج الحروف من الحبس الطويل، تقترب من بعضها وتتلاقى وتتعانق ثم تنطلق فجأة كمواء القطة العجوز التي رأيتها بعيني الأخرى في الكابوس: محمووود، تعال يا حبيبي، الديك صحا وصاح، تعال يا ولدي وخذ بيدي، تعال، تعال.
1
نقل دم
1
كيف يمكنه أن ينسى تلك الليلة عندما كان يتمشى على شاطئ النيل؟ لم تكن كغيرها من الليالي التي شهدت مسيرته المعتادة على الجسر التاريخي العتيق بحثا عن الراحة من تعب النهار وضوضائه، وتلهفا على شيء من السكون الذي أصبح في حكم المستحيلات، وتهيؤا للنوم الذي يعز عليه دائما ويسرق منه، وتطلعا لشعاع من الأمل يستقبل به مهام اليوم التالي وواجباته. لم يكن الشيء الذي ميز الليلة وحفر ذكراها في صدره كالجرح الغائر هو الضباب الخانق الذي لف خيمته الداكنة الكثيفة على السماء والأرض وغشي الأطياف القليلة التي كانت تعبر به وربما تأخذها الدهشة من رؤيتها له وهو يتنزه في الجو الخانق المنذر بالمطر. لا لم تكن ليلة عادية بل تحولا في المصير، نقلة مباغتة من خارج قطر الدائرة إلى مركزها، ثقبا في الضمير ظل يتسع منذ تأكد له أن الإلهات الثلاث المكلفات بنسج خيوط أقدار البشر على مغازلهن لن يستطعن أن يرتقنه مهما حاولن.
كان قد عبر الجسر في اتجاه الجزيرة الهادئة التي يقع فيها مسكنه عندما سمع صرخة دوت في أذنيه كاستغاثة غريق. تصلب في مكانه وفقد القدرة على الحركة، وأحس أن قوة طاغية قد تسلطت على أعضائه وشلت ساقيه وقدميه. تلفت حوله في كل الاتجاهات فلم يشعر بشيء غير عادي، وخطر له أنه مر أثناء عبوره للجسر بأكثر من شبح يميل على سوره ولم يكلف نفسه حتى بالنظر إليها، وهو لا يذكر الآن هل كانت أشباح نساء أو رجال، شبان أو عجائز، ودوت الصرخة مرة أخرى ثلاث مرات في اتجاه الجنوب، وكأن صاحبها يرفع رأسه في كل مرة فوق الماء بحثا عن اليد التي تنقذ الغريق. الأرض رمال ساخت فيها قدماه. جسده ينتفض ويرتج من داخله وخارجه والعرق يتصبب من جبينه بالرغم من زخات المطر المتلاحقة. توغلت الرعشة كالحمى في كيانه وأخذت تحرك رأسه وأطرافه يمينا ويسارا فتصور أنه ساعة مسمرة فوق حائط ولها أكثر من بندول يترنح كالمجنون. وماذا يفعل وهو لا يعرف العوم؟ هل هناك وقت للنداء والاستغاثة والصياح؟ وأين شرطة النجدة المخصصة للمساحات المائية والمفروض أنها لا تتوقف عن التجول بقواربها في النهر وفي هذا الوقت من الليل الذي تكثر فيه حوادث الانتحار أو الغرق أو الإغراق؟ توقف مكانه كالجثة المدلاة من حبل مشنقة، وتوقفت ساعته الجسدية وخرس كالحائط الذي التصقت به.
لم يدر هل يتقدم أو يتأخر، هل يصرخ أو يصمت، هل يجري إلى اليمين أم اليسار وإلى الشمال أم الجنوب. شعر أنه جذع شجرة يابسة يغوص بقوة قاهرة في كومة طين بلا حدود ولا أعماق. فاتت لحظات لم يسمع فيها أي صوت. خيل إليه أن ساعته بدأت تدق من جديد، وتحركت قدماه نحو بيته وهو من الخجل والعجز واليأس في غاية. إنه لم ير أحدا، وربما لم يره كذلك أحد. صحيح أنه سمع صوت الاستغاثة يخرق أذنيه ويخترق لحمه كالسكين الحادة، لكن من يضمن له أن هذا الصوت لم يكن وهما؟ وما الذي يؤكد أنه كان صوت استغاثة غريق أو غريقة ولم يكن من عبث الصبية الفقراء الذين كثيرا ما رآهم يتجردون من ملابسهم البائسة ويتنافسون على السباق ضد التيار في عرض النيل؟ من يضمن له أي شيء أو يؤكد له أي شيء؟ إنه لا يدري ولا يستطيع بعقله أن يحكم أو يثبت أو ينفي، لكن لماذا نفذت الصرخة إلى قلبه؟ ولماذا اتسع الخرق في ضميره يوما بعد يوم وسنة بعد سنة؟ وإذا برأه العالم كله من ذنبه فمن الذي يعفيه من محاسبة نفسه واتهامها مع طلعة كل شمس وغروبها؟ من الذي يملك القدرة على إسكات تلك الاستغاثة الحادة التي لا تتوقف عن التردد في سمعه والطرق بوحشية على كل بوابات وجوده؟
2
لم يتبق أمامه سوى ساعات معدودة قبل أن يستقل الطائرة عائدا إلى البلد النفطي الذي يعمل فيه، فإجازته لا تتعدى اثنتين وسبعين ساعة يسلم نفسه بعدها في الموعد المحدد ويوقع في دفتر العائدين، وقد قضى معظمها مع زوجته في مشاوير لا تنتهي لتجهيز الشقة الجديدة التي كادت تبتلع كل مدخراته للزمن العصيب. استأذن في قضاء ليلة الخميس مع أصدقاء العمر الذين تعودوا على اللقاء منذ أوائل الشباب، بشرط أن يستأذن مبكرا للقيام بالمشاوير المتبقية في صباح اليوم التالي قبل رجوعه إلى مقر عمله، وعندما عبر الممر الشاحب الضوء ووقف أمام باب الكهف - كما سماه الأصدقاء - وضغط على جرس الباب تساءل عمن تراه يكون بالداخل من الأصحاب الذين تفرق معظمهم في البلاد وغاص بعضهم تحت الماء أو استطاع أن يطفو على سطحه ويتحدى ويصنع الأمجاد. هل سيجدهم يتحدثون كما هي العادة عن محنة الأدب وأزمة الثقافة والحرب الأهلية الخفية أو المعلنة بين الكتاب والشعراء، أم سيجرفهم التيار إلى فضائح الفساد والانفتاح وسماسرة العصر الذين لم تنج منهم سوق الأدب والفن التي ترتفع فيها أصوات الشطار ويغطي الصوت المرتفع على الأصوات الهامسة التي آثر أصحابها أن يلزموا كهوفهم ويعملوا في صمت أو يستسلموا للصمت اليائس المترفع عن فتح فمه بكلمة أو آهة واحدة؟ لا بد أنهم يجلسون الآن في البار أو في سجن المرايا كما كان يحب ضاحكا أن يسميه. بعضهم أمامه زجاجة كوكا كولا والبعض يرتشف من الكأس المشعة والمشتعلة في الزجاج وفي الأحشاء على مهل، والأنا المتضخمة أو المنسحقة تنظر إلى نفسها في بقية المرايا فتنتشي أو تتحسر على حسب الأحوال.
هلل الصديق وأخذه بالأحضان، ومن الباب أعلن للجميع مفاجأة حضوره، وخطا إلى الداخل على مهل وألقى نفسه على صدور الحاضرين. قبله البعض في شوق وسلم عليه البعض دون أن يعرفوه أو يسمعوا عنه، ولم يلبث الجميع أن انصرفوا عنه إلى الصديق الجليل الذي توسط الحلقة وبدأ يستأنف حديثه الذي يبدو أنه أسر الجميع داخل دائرته السحرية وأزال المرايا المعهودة من الوجود: تصوروا الدوخة والهم الأزلي ، كل يوم ومن صبيحة ربنا عليه أن يدبر مائتين وخمسين جنيها، مائتين وخمسين على أقل تقدير، وأين؟ في القصر العيني لا في المستشفيات الاستثمارية.
قال الروائي الذي بدأ يلمع نجمه: الاستثمار هو الغول الذي يقبض الآن على كل شيء.
قال الصديق الجليل وهو يمسح رأسه الثلجي بيده القوية: حتى الدم، تصوروا؟ يدوخ الرجل طول النهار بحثا عن أكياس البلازما المطلوبة، يقف في الطوابير أمام أبواب المؤسسة فيقولون له نفدت الحصة الموجودة وعليك بالسوق، وفي السوق إذا ساعده الحظ يشتري الكيس الواحد ب...
قاطعه زميل طويل القامة أبيض الوجه لم يكن قد رآه من قبل وتكهن أنه طبيب: الكيس لا يقل ثمنه عن خمسين جنيها وهو غير مضمون.
سأل صديق قديم وهو يتفرسه بعينين أرهقهما تحقيق المخطوطات: ألا يحصل عليها من بنوك الدم؟ قهقه الذي تصور أنه طبيب وقال: يجب أن تضيف: بنوك الدم الخاصة، السمسرة هنا أيضا على أشدها، والأهم أن الدم في الغالب ملوث، أو على الأقل لم يخضع للرقابة الواجبة والتحليلات الضرورية للتأكد من صلاحيته.
قال صديق شاعر معروف بسخريته اللاذعة وطفولته الرعناء التي لا يرحم لسانها: البركة في الخصخصة وفي الثراء الفاجر والفقر الأشد فجرا الذي جلبته علينا.
تساءل بصوته الهادئ الذي ألفوا وداعته وغباءه معا: هل تقصد أن الفقراء هم الذين يتطوعون اليوم بدمائهم؟
ضحك الشاعر قائلا: وليتهم كانوا أصحاء، لكنهم مضطرون لبيع دمائهم لكي يعيشوا، الدكتور معه حق.
وتدخل الصديق الجليل الذي حفر الألم والسخط على وجهه علامات بارزة: تجارة حقيرة، حتى الدم يتاجرون فيه، والضحية من؟ رجل لا يزيد معاشه على المائتين والخمسين جنيها. أي ثمن الدم الذي يحتاجه ابنه الوحيد في اليوم الواحد.
تكلم زميل يعمل أستاذا على المعاش في جامعة إقليمية: لو كان مثقفا عصريا ما وجد مشكلة، كان من الممكن ... وكان من الممكن ...
ضرب الصديق الجليل منصة البار بيده فمالت كأسه على جنبها وكانت لحسن الحظ قد أفرغها قبل ذلك في جرعة واحدة: ملعون أبو الثقافة والمثقفين ونحن وأنا أولكم، والله هذا كفر، كفر وجنون وجحيم.
تساءل محقق المخطوطات أملا في تهدئته: الظاهر يا دكتور أنه صديق أو قريب عزيز.
قال الصديق الجليل محاولا أن يخرج عن الصمت الذي خيم عليه وعلى الجميع لحظات طويلة ولم يجد بدا من اللجوء إليه بعد أن لم يبق أمامه غيره: بل زميل من أيام الابتدائي والثانوي، باع كل ما يملك وضحى بكل شيء، أي والله بكل شيء في سبيل البلد الذي يقتله هو وابنه الوحيد. الثقافة؟ لعنة الله عليها إذا لم يكن وراءها إلا الموت والجوع.
رنت ضحكة الشاعر الخفيف الدم: وأحيانا يكون وراءها الكراسي والمناصب والنجومية والرقصات الجديدة على البطون والرءوس في الزفات الميري التي تنصب خيامها في كل مكان.
تدخل رب الدار ووجه دفة الحديث إلى موضوعات أخرى، وبدأ بسؤالي عن أحوال الإعارة فلم تلبث سيول الشكوى أن تدفقت من شفاه صديقين آخرين، وشعرت أن الكهف قد رجع إلى طبيعته، وأن المرايا بدأت تملأ الحوائط أمامي ووراء ظهري ومن حولي، وانطلق أكثر من واحد يتكلم عن عمله الأدبي الجديد؛ فيثني عليه واحد وينتقده آخر ويعتذر ثالث عن عدم الاطلاع عليه مع وعد أكيد وحازم كالقسم بقراءته في أول فرصة تسنح له.
وقبل أن ننسى أنفسنا في السباحة فوق بحور الإبداع والغرق في هموم النشر وتياراته السفلية والتحليق بأجنحة الخيال السعيد أو الخيال المحبط إلى سموات الأحلام الخاصة والعامة، يضع الصديق الجليل يده على كتفي وهو يقول: أنت في سكتي، تعال أوصلك.
3
وهما في الطريق إلى حيهما البعيد في الشمال الأقصى من العاصمة راح يتطلع للوجه الصارم النبيل الذي ذكره فجأة بوجه بطل إغريقي أو مصارع روماني قديم التف حول جسده ثعبان ضخم جعله يتلوى من الألم الفظيع ولكنه يتحمله بقوة خارقة ولا تند عنه إلا آهة مكتومة خرجت من بين شفتيه ولم يستطع الحجر نفسه أن يمنعها من الانطلاق في الفضاء كصيحة نسر عظيم، وتأمل الشعر الأبيض الذي يتوج الرأس الجليل وهو يتعجب كيف تستقر القمة الثلجية فوق بركان يغلي ويفور وسرعان ما يتفجر بالحمم النارية: هذه البلد لا تقتل إلا أبناءها المخلصين.
قال محاولا تهدئته: يبدو أن الإخلاص أصبح ذنبا يستحق أشد العقاب.
انفجر في غيظ ملتهب: المصيبة أنه مثقف ثوري، لو كان من إياهم.
قال ليخفي رعشة الخجل التي غمرته بقشعريرة برد مفاجئة: وربما كان السجن هو أهون عقاب. أمن على كلامه وهو يلعن زحام المرور في آخر الليل: منذ أن عرفته وهو لا يخرج من السجن إلا ليرجع إليه، وكلما سمعت الشرطة عن مؤامرة على نظام الحكم أو قبضت على تنظيم جديد كان في طليعة المقبوض عليهم، كم حذرته بغير فائدة.
سأل في حذر: حتى بعد السقوط والانهيار الفظيع؟
رد بضحكة مترجرجة في صدره كالنشيج: حتى صورة ماركس لم يرفعها من مكانها في صالة بيته. في آخر زيارة له قبل أن يحدث ما حدث لابنه قلت له: يا أخي ماذا يعجبك في هذه اللحية الفظيعة والعيون المخيفة التي يطق منها شرار الغضب والاستبداد؟ أتريد أن نتركها هنا حتى يسقط البيت على رأسك أنت وابنك؟ ألا تصدق أنه سقط إلى الأبد هو ومذهبه اللعين؟ ضحك كطفل عجوز عنيد: وهل سمعت عن نبي سقط تحت الأنقاض؟ ما بقيت الأرض وبقي الفقراء فلن يسقط نبي الأرض والفقراء.
قال في أسف يخالطه رنة الإعجاب والإشفاق: أراهن على أنه لم يرفعها حتى بعد العقاب الذي حل به.
قال الصديق بعد أن اجتاز إشارة المرور التي طالت وقفته أمامها: وأي عقاب؟ لقد باع كل ما وراءه وقدامه. حتى الأثاث والكتب والفرش الذي ينام عليه والسجاد الذي تبقى من أيام الزواج والذهب الذي تركته زوجته بعد وفاتها باعه قبل ذلك للإنفاق على تعليم ابنه الوحيد. حتى البيت القديم الذي ورثه عن أبيه لم يتردد عن بيعه لمواجهة المحنة الأخيرة، وبالطبع بأبخس الأسعار لأخس التجار. حاول أن يستبدل المعاش فقالوا: المعاش هزيل ومدة الخدمة لا تسمح. وحاول أن يقترض سلفة من البنك الذي يقبضه منه فطالبوه بضمانات مستحيلة، لم يجد أمامه إلا الأصدقاء الذين جاع وعذب معهم في السجن، ولكن أين هم الأصدقاء؟ هل تظن أن كلمة الصداقة تحتفظ اليوم بأي معنى؟
قال وهو يتأمل وجهه ويبتسم: أظن طبعا ما دمت موجودا يحمد الله.
قال بغير أن تنقشع سحابة الغضب التي تظلل ملامحه القوية: وماذا أفعل أنا وعشرات مثلي أمام هذه المصيبة؟ يعلم الله أنني لم أبخل بأي شيء. حتى آخر قرش جاءني من المحصول أعطيته له، وهو كل ما أملكه من الدنيا غير المعاش الذي تعلم مدى تفاهته.
قال له وهو يغتصب ضحكة تهشمت على فمه: وهل كنت أبقى في الإعارة لولا علمي بحقارته؟
قال وهو يقترب من الشارع الذي تعود أن يوقف السيارة على ناصيته: معذرة لإزعاجك بمأساة إنسان لا تعرفه.
رد عليه وهو يبحث عن مقبض الباب: وكيف لا أعرفه وهو صديقك؟ لست حجرا على كل حال.
قال مواصلا اعتذاره: وماذا نفعل أنا أو أنت لإيقاف نزيف الدم؟ أليس هذا هو معنى المرض اللعين الذي يسمونه ... حتى الاسم نسيته، المهم، متى تسافر بإذن الله؟
قال وهو يفتح الباب وينظر من الزجاج ليخفي ارتباكه: غدا في مثل هذا الوقت أكون هناك في فراشي، لكنني سأتصل في أقرب وقت.
مد له يده مودعا وهو يقول بصوته القوي الحنون: لا تشغل بالك. تسافر وترجع بالسلامة.
4
بعد منتصف الليل بساعات انتبهت فجأة على وجوده بجانبها. أحست أنه قد أسند ظهره إلى جدار السرير وراح كعادته يحملق في الظلام، قالت شبه مذعورة: خير كفى الله الشر، لماذا لا تنام؟
أجاب بسرعة خاطفة: خير بإذن الله، استريحي أنت.
قالت وهي لا تزال تتوجس شرا: ألا تستريح قليلا قبل السفر؟
قال في محاولة فاشلة للدعابة: الهدوء الشامل هناك سيساعدني على النوم الذي يحسدني عليه أهل الكهف.
قالت ضاحكة: وهنا أيضا، هل نسيت أن وراءنا ...
قال بحزم ليصد الأبواب: وهل النسيان ممكن؟ قلت لك استريحي أنت من تعب النهار.
لم ينس بطبيعة الحال أن غده سيكون من أشق الأيام؛ سيدور معها في معارض النجف والسجاد الصغير لغرفتي الأولاد وحجرتي المعيشة والمكتب، وسوف يضطر كذلك للمرور على المعلم المراوغ في ورشة النجارة لاستعجال غرفة السفرة التي احتاجت منهما لأكثر من مشوار. سيكون يوما مرهقا، ولكن متى خلت حياته من المتاعب؟
رجع يلف مع الدوامة التي جرفته دوائرها السوداء. أحس أن جسده ما يزال ينتفض من البرد وأن العرق ما يزال يتصبب من كل خلية في جسده. تساءل هل يمكن اللجوء إلى الاستعارة والقول بأن العرق هو دموع الجسد المنهك أو المنتهك على الدوام؟ وكيف يصف دموع النفس المضناة والمحبطة في سجن البدن أو قبره؟ أين الاستعارة أو الكناية أو التشبيه أو الرمز الذي يعبر عن بكائها الأخرس في قاع البئر المصاب بالجفاف؟ لو أنه ... لو استطاع، لو تجرأ وفعلها، وألف لو لا توقف زخات العرق البارد ولا دفقات الدمع الكظيم، لماذا شلت يده فلم تمتد إلى الجيب المكدس بآلاف الدولارات والجنيهات؟ أيكون الوقت قد فات كما فعل معه أو بسببه آلاف المرات؟
أخذ يهدئ نفسه بالعزاء المعتاد، قال لها: أبدا لا يفوت الوقت إلا لمن يتركه يفوت.
وبدأ يستعيد كلام صديقه الجليل معه في السيارة وهناك مع الأصدقاء. حاول أن يجمع الكلمات المتناثرة في لوحة واحدة تكون صورة الوجه الذي لا يعرفه ولم يره أبدا وربما لن يراه. أليست إعادة التركيب والبناء شيئا مألوفا في العلم كما في الحياة؟ ألا يثرثر الجميع وهو واحد منهم عن قدراته وأسراره ومعجزاته في كل مجال؟ فليقف على شاطئ المجهول ويركب البيت أو القصر أو حتى الكوخ من نثار الحصى والقواقع والأصداف والرمال، فليحاول أن يتخيله طويلا نحيلا محني الظهر والعينين أو متوسط القامة مهددا على الدوام بالانهيار والسقوط، وليحاول أن ينظر في عينيه طويلا ويتشرب الكلمات التي تنهمر كالدموع السوداء من بين شفتيه.
5
آه يا ولدي المسكين. بعد تعب العمر يخذلني فيك المرض والحياة والناس والأصدقاء والأعداء. كدت أقول يخذلني القدر لولا أنني عشت مؤمنا بالثورة الدائمة وبأن الإنسان هو صانع التاريخ وما يسميه الجهلاء المهزومون بالقدر أو النصيب.
أي انتقام هذا يا ولدي؟ أأسلم - وأنا الصخر العنيد - في النهاية بتلك القوى الغيبية السخيفة التي أنكرتها طول العمر؟ أأركع وأسجد على أقدامها في خشوع وأنا أقول: ها أنا قد سلمت ورجعت إليك رجعة الابن الضال الذي يعود تائبا إلى حظيرة أبيه وراعيه؟ وكيف أفعل وأنا لم أتعود الركوع ولا السجود؟ أجل يا ولدي، ها أنت تراني أقع فيما هو أسوأ من الركوع والسجود ... وأي شيء أسوأ من مد اليد المرتجفة الخالية لمن يساوي ولا يساوي؟ أبوك الذي لم يكن يصحو أو ينام إلا على وجه الثورة والمستقبل والحلم الحتمي بالعدل المطلق والفجر الباهر الجديد؛ صار الآن يدق أبواب أصدقاء الشباب ورفاق السجون والمعتقلات والزنزانات وزملاء الكفاح والجوع والحرمان والجلد والتعذيب، لكن الأبواب لا تفتح يا ولدي. كل الأبواب موصدة، كل العناوين قد تغيرت بقدرة ساحر أو حاو عربيد. الذين كانوا مثلي لا يجدون قوت يومهم ولا يفكرون فيه لفرط انشغالهم بالغد الثوري أصبحوا رؤساء وأعضاء مجالس إدارات. لمعت نجومهم في سماء المجتمع وبقدرة قادر غيروا الجلد والقلب والعقل والضمير مع تغير الأحوال وألوان الرمال التي يزحفون عليها. النادر منهم هو الذي اكترث بمقابلتي ومد لي يده ببضع جنيهات وعيناه تنطقان بفصاحة تغني عن كل كلام وبيان: حظ طيب. أرجوك ألا تشبهني مرة أخرى. لقد تركت كل شيء وأريد أن أعيش في هدوء وأربي أولادي في الأيام الباقية.
وبعت كل شيء يمكن يا ولدي أن يباع. حتى صورة أمك الحبيبة أخرجتها من الإطار الذهب لأبتاع بثمنه كيس دم وحيد، والبيت القديم الذي تربيت فيه على الستر والمبادئ التي لم تشاركني دائما فيها، البيت الذي بقي لي من الدنيا ومن تراث أبي الفقير بعته للجار، والجار هو العطار الجشع الذي طالما أبديت إعجابك بنجاحه وحسه العملي والتجاري الذي فطر عليه. قلت لك الفطرة لا تكفي ولا بد من أن نؤمن بالعلم ليكون هو الفطرة الثانية، وصدقتني في هذا الأمر وحده وتابعت طريق العلم حتى أوشكت على الوصول. فلماذا تتوقف يا ولدي فجأة؟ ومن أين جاءك هذا النزيف اللعين ؟ أين هو وجه العدو الذي يمكن أن أفضح قناعه وأحرق جلده وأشوهه بكل الغيظ والغبن والغدر الذي ترسب في كياني أو ما تبقى من كياني من أنقاض وأطلال؟
ها أنا ذا أهيم في الشوارع وأضيع فوق الجسور وأضل الليل بطوله بحثا عن المعنى وصراخا في وجه اللامعنى الوقح الجبار، لكن ماذا يفيدني هذا أو يفيدك؟ ودمي يتسرب في دهاليز اليأس كما يتسرب دمك من كل فتحاتك وأحاول أن أوقفه مع بقية الطيبين. آه يا سندي في الكهولة والشيخوخة،
ولحظة بعد لحظة وتتحول في يد البؤس والحاجة إلى أفعى مسمومة تلتهمك يا وحيدي وتلتهمني؟ هل يجدي الآن أن أهتف معك أيها الطيب العميق الإيمان وأدعو إلهك الذي لم أتوجه إليه أبدا بالدعاء: ساعدني يا ربي؟ استجب لوحيدي إن كنت ترفض أن تستجيب لي، ارحمه يا رحمن يا رحيم من المرض الملعون، وعاقبني إذا أرادت مشيئتك أشد عقاب.
6
في الخامسة من مساء الجمعة، يجلس في مقعده بجوف الحوت الحديدي العملاق الذي يشق كالحربة الخرافية جبال السحب المتراكمة كأمواج الزبد على ارتفاع يزيد على العشرين ألف متر أو كيلو متر لا يدري، فقد أعلنت المذيعة الرقم من داخل غرفة القيادة، بينما كان رأسه يميل على صدره للإغفاء لحظات، وصحا على لكزة خفيفة من جاره السمين المتشح الرأس بالغطرة والعقال ليجيب على سؤال المضيفة الآسيوية الوديعة الوجه والعيون والابتسامة عن نوع العشاء الذي يحبه. أجابها بالإنجليزية باختصار وتناول من يدها كوب الليمون وهو يكرر الشكر والاعتذار. ثم مال رأسه على صدره بعد أن شرب العصير ليحمي عينيه المحمرتين من المشاهد المضحكة المبكية على شاشة التلفاز ويحمي رأسه الثقيل من مطارق الثرثرة مع الجيران. أخذت صورة الراقد على فراش المرض الملعون تتركب في رأسه وتجمع خطوطها وظلالها وألوانها الداكنة وتكلمه أيضا وهو يهبط بين اليقظة والنوم إلى عالمه السفلي: أكلمك يا أبي فاسمعني وإن عجزت عن النطق بعبارة واحدة ، ومن غيرك يفهم لغة الوجه المصفر الشاحب والعيون التي انطفأ فيها سراج الأمل الذي كان يتوهج بالوعود قبل أيام معدودة؟ من غيرك يلمس أيضا جرح القلب وعثرة الساقين والقدمين على أول خطوات الطريق؟ آه يا أبي، يا أبي الحبيب. أتعلم الآن أنك أقرب إلي مما كنت في أي يوم مضى من حياتنا البائسة التي كانت مستورة ثم كشفت يد مجهولة عن وجهها التعس وحجبت عنه إلى الأبد نور الشمس والأمل المؤجل في شيء من الراحة والأمان؟ في كل يوم أراك فوق فراشي ولا أنخدع بابتسامتك التي تمر على وجهي وصدري وشعر رأسي وهي ترتعش من الخوف والخجل والذل والهوان، وما زلت تحمل معك أكياس الدم وتخفي عني الحقيقة التي لم تغب عني لحظة واحدة. هل شعرت أنني أشفق عليك أكثر مما أشفق على نفسي؟ وما قيمة حياتي أو موتي وأنا أرى شجرتك العجوز المصفرة الأوراق تطقطق في الريح ويتماسك في داخلها الخواء أمام ضربات المطر والسوس والظلام المطبق الذي يتردد فيه عواء كلاب الموت المتوثبة؟ أعرف ما تتعرض له كل يوم وكل ساعة. أتساءل عن قيمة بقائي أو ذهابي مع ما تلقاه من جحود الأصدقاء وتنكر الأقرباء وانغلاق الأبواب وقلة الحيلة. أود أن أقول وأنا ألمح أمارات الذل والقنوط على ملامحك: الحالة ميئوس منها يا أبي. أنا وأنت ونحن وهم. أليس هذا هو الحصاد الحتمي للزمن الرديء؟ لقد عشت تتحدى كل الأخطار وتواجه كل الذئاب والكلاب المسعورة. حتى النسور التي تنهش كبدك كل يوم كما حدثتني عن ذلك البطل الأسطوري الذي نسيت اسمه، لكن أسراب النسور التي انهالت عليك كانت أبشع من كل ما قدرت، وحتى التحدي الذي جربته مني وتحملته لم يكن أقل قسوة عليك. كنا نتصادم ونتلاطم ويرتطم كل منا بالآخر ثم لا نلبث أن نتصالح ونتلاقى في منتصف الطريق. أؤدي الصلوات في أوقاتها وأزدري السياسة وأسخر من ساس يسوس لأتوج العلم على رأس الزمن القادم فتبتسم في النهاية وتقول: المهم يا ولدي هو أن تؤمن بصدق وبعمق ، حتى الإيمان بالخرافات والأحلام وبما كان يبدو كالأوهام قد ولد العجائب والمعجزات، آمن بما تشاء، ولكن آمن، وآمنت بالله وبالعلم وجعلتهما سيدي مصيري وقائدي عربتي الضعيفة المرتعشة الأطراف. تابعت معي طريق الأمل وأعنتني على عبور حفره المفاجئة، وشجعتني حين حكيت عن زاد العمر الذي أعطتنيه حبيبة القلب وزميلة الدراسة، لم تخف تذمرك واستنكارك عندما عرفت أنها ابنة برجوازي ورجعي عريق، وطمأنتك أن قنديل حبها الساطع كسف شموع ظنوني وهواجسي، بل إن أباها الذي عرفتني به قد ذكرك باحترام شديد وأبدى رغبته في لقاء لم يتم ولم يكن غضبك لكرامتك ليسمح بأن يتم أبدا، لكنك لم تقف عقبة في الطريق، وكررت علي خطبتك المعتادة عن الحرية والكرامة والضمير واحترام النفس وسائر الكلمات التي داست عليها أقدام العصر الغليظة. آه يا أبي، وهي تزورني كل يوم وتحاول أن تضع البكاوي في يدي أو تحت مخدتي فأصرخ في وجهها الحنون الذي أطفأ اليأس المتزايد أضواء مرآته الشفافة، وأنا الحائر بين أب يهيم على وجهه بحثا عن كيس واحد من الدم وبين الآلاف التي تقدمها لؤلؤة القلب فأفضل عليها الغرق في قاع القاع، وبينكما أتساءل كل يوم بل كل لحظة بينما يجثم فوق صدري الكابوس الزاحف على ذبالة العمر المرتجفة: متى يا رب أغرق في القاع؟ متى يا أرحم الراحمين ترتفع بالسيف ذراع الكابوس فتطيح برأس المهندس الموعود وتضع نهاية لشقاء الأب المنكود؟
7
حمد الله أن يدا طرقت باب كهفه بقوة فانتشلته من الموت الأصغر قبل أن ينتصف النهار ويفوت أوان التوقيع. نفض صوت زوجته النوم من عينيه وجلجل كأجراس الخطر في وديان ذاكرته الضعيفة: هيه. حمدا لله على السلامة، حذار أن ترجع للنوم ويفوتك ... - لا تخافي، سأذهب في الحال. - في الحال، وإلا خصموا اليوم من الراتب والمكافأة النهائية، لا تنس ... - ماذا أيضا؟ - قسط غرفة النوم يحل أول الشهر، وشهادات الأولاد، والقسط الأخير للسيارة، أنا نفسي كنت نسيت. - العدوى أصابتك مني، كيف حال الأولاد؟ - بخير بخير، المهم ترسل المبلغ في أول فرصة ممكنة، خذ بالك أيضا ... - إنني متزوج ولي أولاد وعلي مسئوليات. - نسيتني كالعادة، أردت أن أقول خذ بالك من نفسك. - حاضر حاضر، بوسي الأولاد حتى أراكم في أقرب وقت. - ولماذا المصاريف؟ هل نسيت أننا ... - ربك يقدم ما فيه الخير، مع السلامة، مع السلامة.
8
شرب كوب الشاي على عجل وأسرع إلى الكلية. سلم على الزملاء والطلاب الذين وجدهم في طريقه وفوجئ بالساعي البنجلاديشي القصير يجري نحوه ويأخذه بين أحضانه، ووقع عند السكرتير على دفتر الحضور وسأل كل من رآه عن الصحة والأحوال، وبينما كان يشرب القهوة التي حملها إليه الساعي الطيب القلب أخذ يستمع إلى مسلسل المهام التي تنتظره في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة: محاضرة الموسم الثقافي، الندوة التي سيرأسها والندوة التي سيعلق عليها عن أزمة المنهج في نفس الموسم، اللجان الخمس أو السبع التي سيخطره السكرتير بمواعيدها المحددة، ورقة العمل التي شارك بها في ندوة مجلة الكلية عن غياب بعد المستقبل عن الفكر العربي، ثم هناك التحضير المتواصل للمادتين الجديدتين اللتين كلف بهما في هذا الفصل الدراسي، تذكر العبيد المقيدين بالسلاسل في قاع السفينة المظلم في مسلسل الجذور الذي كان يحرص على متابعته وتساءل وهو يرتشف آخر جرعة من قهوته: ما المخرج من هذا الملل الأزلي؟ هل ثمة شيء أو شخص ينقذه منه وهو الذي لا يفتأ يحلم بالمنقذ والإنقاذ؟ ومتي تأتي لحظة التجلي وتكشف عن وجهها الذي احتجب خلف ستائر الأيام والأعمال وفر هاربا من ضجيج عجلة التعذيب العقيم؟
ودارت عجلة التعذيب وهو لا يملك أن يدافع عن نفسه، وأخذ يقاوم في صمت حتى لا يغوص في دوامة الرمال التي تسحب قدميه وتهدد بأن تغمر رأسه ببعض الأعمال الجانبية التي كان يكلف بها بين الحين والحين، وفكر أن يسارع بإرسال مبلغ لا بأس به إلى صديقه الجليل ولكنه تذكر أن الذاكرة قد خذلته كعادتها، وأنه نسي حتى أن يحصل منه على رقم الهاتف ورقم حسابه في البنك أو أن يتأكد من اسم الشارع الذي طالما سارت فيه قدماه بحكم الفطرة والشوق دون أن يخطر على باله أن يتحقق منه: هل هو شارع ابن حنبل أم ابن مالك أم ابن باجة أم ابن ... وابتسم حين طافت بذهنه صورة الحمار الأبيض النشيط الذي كان أبوه يرسله من الحقل أو من المحل إلى البيت فيجده واقفا أمام البوابة الكبيرة في ثقة وأمان.
غير أن هذه الابتسامة وأمثالها كانت تتوارى خجلا وراء وجهي الابن والأب اللذين لم يرهما أبدا، وصمم بينه وبين نفسه أن ينتظر أول الشهر ويستأذن في زيارة خاطفة ولو أدى الأمر ألا تزيد عن ثمان وأربعين ساعة لسبب طارئ لا يحتمل التأجيل.
9
هاتف الصديق فور وصوله بعد أن تأكد من الرقم المنسي واستأذنه في زيارة عاجلة. رحب به الرجل النبيل واعتذر بسبب مشوار إلى البلد لا يحتمل التأجيل. - خير إن شاء الله، هل أراك بعد رجوعي مساء غد؟ - سأكون في الطائرة التي تقلني في رحلة العودة، خطفت خروجية لمدة ثمان وأربعين ساعة وليتني أراك. - وأنا أيضا، خسارة، إن شاء الله. - لا أدري كيف أعتذر عن التقصير، لعنة الله على الظروف والتطلعات، المهم أنني جمعت مبلغا لا بأس به ويسعدني أن أساهم. - لا أفهم شيئا. - يعز علي أن تكون وحدك، أقصد صديقك وابنه شفاه الله. - خل فلوسك في جيبك. - ماذا تقصد؟ - الابن رحمه الله من عذابه بعد سفرك بيومين، والأب لحق به بعد أيام. - لا إله إلا الله، بهذه السرعة؟ - الدنيا لله، كنت في البلد ولم أتمكن حتى من المشي في الجنازة، توالت الأحداث أسرع من الخيال، ربما لم تسمح الظروف حتى بإقامة الجنازة. - كل هذا النحس يا ربي؟ هل تأكدت بنفسك من المستشفى؟ - طبعا طبعا، ذهبت بمجرد حضوري من البلد ومعي مبلغ كبير، قالوا: البقية في حياتك، الأب أيضا أحضرته عربة إسعاف ومات في نفس الليلة. قلت لهم: من الذي جهزه وليس له أحد؟ ضحكوا وقالوا: هذه شغلتنا. ليس هو أو ابنه أول ولا آخر من تحملهم عربة المستشفى إلى مقابر الصدقات، أتعرف ماذا تمنيت على الله في هذه اللحظة؟ - وهل بقي شيء تتمناه ؟ - أن يكونوا دفنوه بجوار ابنه، كانت هذه هي أمنيته الوحيدة.
10
غادر مسكنه بسرعة دون أن ينظر في عيون طفليه التي أطلت منها الدهشة والتعجب الشديد من حاله. لم يجب كذلك على أسئلة زوجته التي انهمرت فوق رأسه كقطرات المطر وراحت تتسرب إلى مقبرة الذاكرة وتنبش فيها. واستقل عربة أجرة حملته إلى نفس المكان الذي وقف فيه قبل أسابيع على كورنيش النيل. كان وجوم المساء الشتوي يجلل المكان وما فيه ويغطيه بغشاوة داكنة من السأم والاكتئاب والغيبوبة، وخيل إليه أن الغياب قد ابتلع كل ما هو حاضر أمام عينيه. حتى العابرين على الجسر والعشاق القليلين على السور الحجري المنخفض وبائعي الترمس والذرة المشوية والمصابيح المتوهجة وأكوام القمامة المتراكمة بروائحها الكريهة لم تشعره إلا بالتوغل مع كل خطوة في نفق الغياب. أخذ يذرع الكورنيش جيئة وذهابا ويمد بصره إلى البواخر السياحية العابرة ومراكب الصيادين الفقراء في الهلاهيل التي تكشف عن عري أجسادهم النحيلة ولا تسترها. تمنى أن يجد مقهى يجلس فيه ويسكت مطارق الصداع الوحشي بفنجان من الشاي أو القهوة، وآذن الليل بالانتصاف ففكر في الرجوع حتى لا يتعرض للشبهات أو للأسئلة الخرساء التي تهدد بالانقضاض عليه، وخيل إليه لحظة ابتعاده عن الشاطئ أنه يسمع صوت الاستغاثة التي تشق صفحة الماء، تتلوها صرخات استغاثات مكتومة تخرج من جوف الأرض وتنفذ من فتحات النوافذ في العمائر المطلة على الشاطئ وتتصاعد من الأشجار الهامدة في الظلام، وألقى نظرة أخيرة على جسد النيل الراكد كبطن حوت أبدي يحتضر فهالته حشود الأيدي التي تشق المياه الآسنة وهي تزحف وتتلوى وتتكاثر كأيدي الغرقى أو الجنود المهزومين. توقف في مكانه وعاودته الرعشة التي ترج جسده كالزلزال وتساءل في همس تشويه رنة السخرية: بمن تستغيثون وقد مات الضمير؟
1
لا ...
لأن الحادثة التي وقعت في البلدة الريفية القريبة من البحر قبل أكثر من ثلاثين سنة كانت غريبة وفظيعة، ولأن الحادثة التي جرت وقائعها في نفس البلدة قبل شهور قليلة لا تقل عنها غرابة وفظاعة، فقد آثر الراوي أن يخفي شخصه وعقله ولسانه وراء الأطراف الثلاثة الذين كان لهم الدور الأكبر فيها؛ لذلك يترك لهم الحديث مكتفيا بتدوين ما قالوه ...
1
قالت لطيفة هانم زوجة العالم الفلكي الدكتور محمود نجم - المشهور في الدوائر العلمية في مصر والخارج - وأم أبنائه الثلاثة:
لم يكد محمود يعبر مرحلة الخطر بعد أيام وليال لم يغمض لي فيها جفن حتى صممت على البحث عنه وإحضاره بأي وسيلة. كان زوجي قد تلفظ باسمه مرتين أثناء غيبوبته وهذيانه بعد إسعافه وإجراء غسيل المعدة له: تعال يا أستاذ علام، يا مرصد حلوان ثبت منظارك القديم علي، تعال، تعال، تعال!
وضعت يدي على جبهته واطمأننت على انخفاض درجة الحرارة على الرغم من استمرار الحمى والهذيان والغيبوبة، وتذكرت الاسم الذي التقطته أذني قبل ذلك وإن لم أهتم به أو أسأل عنه. لعله حكى لي عن تعلقه به في المدرسة، وربما حدثني - وهو يطلق ضحكته الظافرة المجلجلة التي كان يعلم كم تضايقني لأنها لا تناسب وقاره ومكانته العلمية - عن المنظار الكبير الذي كان يجذبه لزيارته في بيته وملازمته ساعات يتأمل فيها النجوم في قبة السماء كلما دعاه وسمح له بذلك. لم أكترث بمعرفة شيء آخر عن معلمه وعلاقته به؛ فقد أحس قلب الزوجة والأم أن هذا المعلم العجوز - إن كان لا يزال حيا - هو الوحيد الذي سيرد الحياة لزوجي وينتشله من محنته ومحنتنا المباغتة. سألت وسألت حتى عرفت من الأستاذ محمد - شقيق زوجي الأصغر الذي نزلنا عنده والمدرس في المعهد التجاري - أنه لا يزال حيا، وإن كان لكبر سنه وثقل سمعه في حكم الميت الحي أو الحي الميت، وخرجت من باب البيت وأغلقته خلفي دون أن يشعر أحد بي ولا بتصميمي على العثور عليه مهما كان الثمن. •••
مشيت مسرعة حتى وصلت إلى أول الشارع الرئيسي على أطراف المزارع ووقفت على الصف الذي يوجد فيه مبنى المحكمة والمعهد الديني القريب منها، وأشرت إلى حنطور عابر فتوقف السائق الشاب وسألني في أدب عن وجهتي. قلت له: إنني أبحث عن عنوان الأستاذ محمد علام مدرس العلوم والرياضة العجوز. قطب حاجبيه وفرك تجاعيد جبهته بأصابعه بحثا عن علامة مميزة حتى ذكرت له المرصد فخرجت منه صيحة أشبه بصيحة ديك منتصر على جحافل الليل المنهزم: آه! مرصد حلوان! لماذا لم تقولي هذا من الصبح؟ حالا يا هانم. دقائق ونكون أمام بيته. إنه على المعاش من سنين ولكن لا يشبع! قلت ضاحكة: تقصد لا يسمع؟! قال: وهذا أيضا، لكنه رجل طيب ولا يتأخر عن فعل الخير. قلت في نفسي وأنا أدعو الله أن يستجيب لي: ولهذا قصدته في أمر ضروري.
مرت العربة بشوارع وحواري متربة تراصت فيها البيوت الطينية كما تراص الذباب والأطفال والنساء في ثيابهن السود على أبوابها، وأكوام السباخ والقش والقمامة على جانبيها، حتى وقف فجأة أمام بيت ذي شرفة واسعة وسور من الطوب الأحمر لم يتم طلاؤه وكأنه فيللا ناصعة البياض وسط العشش والأكواخ والجدران الرمادية الكالحة. شكرت السائق ونقدته أجرته وطلبت منه أن ينتظر، دعا لي بالستر وطلب مني أن أبلغ سلام مغاوري للمرصد فوعدته خيرا، وفتحت الباب الحديدي الذي لم يبد مقاومة وأسرعت بارتقاء درجات السلم والطرق على الباب الخشبي العريض. أطلت من ورائه امرأة سبقها صوتها الرفيع الحاد، لم تكد تفتح الشراعة حتى استفسرت عن طلبي، ولم تكد توارب ضلفة الباب حتى بادرتها في لهفة وأنا أحاول أن أستجمع أنفاسي اللاهثة: أرجوك، أريد الأستاذ علام، أقصد المرصد، أقصد مرصد حلوان، أرجوك أسرعي.
ولم يطل ارتباك «سيدة» التي تجمدت أمامي من الذهول؛ إذ سرعان ما فتح باب جانبي في القاعة الواسعة المتواضعة الأثاث وخرج المرصد نفسه بجلبابه الأبيض الطويل والطاقية الحريرية المحبوكة على رأسه وهو يسند جسده الطويل السمين على عصا ويطرقع بالقبقاب في قدميه ويقول بصوت ممدود: من يا سيدة؟ •••
قبل أن يحجل بساقه التي يبسها الروماتيزم ويستقر في داخل الحنطور كالصيد العجوز الذي سقط في حفرة وطوقته الشبكة كنت قد استطعت أن أذكره بتلميذه القديم وأبين له مقدار حاجته إلى مساعدته. انهمرت كلماتي الملهوفة كزخات المطر المتساقط في حفرة غائرة منسية ، وكان علي أن أسرج ألف شمعة في ظلام الزمن والذاكرة التي كادت أن تنطفئ. راحت كلماتي وتنهداتي ودموعي تتدافع بغير ترتيب وهي تتصادم كالعصافير المذعورة على أبواب أذنيه ورأسه العجوز الخرب. لم أنتظر منه ردا ولا استفسارا ولم أبال إن كان قد سمع أو لم يسمع وفهم أو لم يفهم؛ فقد اتضح لي بما لا يقبل الشك أن سمعه ثقيل كما قال لي شقيق زوجي وكما أكد سائق الحنطور، ولكن لهفتي على سرد وقائع المحنة بكل تفاصيلها كانت أقوى من كل رغبة في الانتظار أو الإشفاق عليه. •••
تلميذك العزيز يا سيدي اشتاق للعودة إلى البلد. بعد أن صعد إلى النجوم ولمع أسمه في سماء الشهرة وكرمته الجهات العلمية في كندا والولايات المتحدة بالأوسمة والنياشين والجوائز صمم أن يلمس تراب البلد. حذرته من الوحل والذباب والناموس فلم يكترث. قلت له: ماذا تنتظر هناك ومن تنتظر؟ قال: هناك تراب أمي وأبي وزهرة، وكذلك أخي الأكبر الذي لم أره من سنين. لم أفطن لاسم زهرة ولم أعلق عليه. ظننته نوعا من الخلط الذي كان يهذي به أحيانا كالطفل أو المراهق الشقي الذي أعرفه وأحبه ولا أتوقف كثيرا عند كل كلمة يقولها، وذكر اسمك أيضا يا سيدي، ألست أنت المرصد؛ مرصد حلوان؟ ألم ترعه وتشجعه وتفتح أبواب السماء أمام عينه وعقله القلق؟ نعم، أنت الأستاذ علام مدرس العلوم والرياضة الذي احتضنه وأخذ بيده ربما أكثر من أبيه العجوز المشغول بالعبادة والتجارة. قال لي مرة: إنك كنت تسميه الولد «لا»، ولكنني لم أسأله عن سر هذه التسمية، وعندما كان يتذكرك وهو يتنهد معبرا عن حيرته وشوقه إلى لقائك كنت أكتفي بأن أقول له: لا يا دكتور لا! عندك الآن ما هو أهم ... لكنك بقيت دائما في باله، في حبة قلبه وعينه. هل هو الوفاء أم الحنين المرضي أم الارتباط بالجذور كما يقال؟ أهناك داع أن أحكي لك عن إنجازاته العلمية وكشوفه الفلكية؟ سمعت عن هذا؟! قرأت عنه أيضا في الصحف والمجلات؟! كان مشغولا بإحدى مهامه العلمية عندما صرح برغبته الأثيرة التي ظلت تتحرك في صدره كالشوكة في الجرح القديم. غضبت وقلت له إننا تركنا كندا التي تعلمت فيها وتفوقت ورزقت باثنين من أولادك، ولم نكد نصل إليها وتنال التكريم من الجمعية الفلكية حتى عادت ريمة إلى عادتها القديمة. ماذا بك؟ هل تحولت إلى ندابة لا يحلو لها العديد إلا في العرس؟ أكلما استقر بنا المقام في بلد وقلنا سنمد فيه الجذور تحن إلى جذورك في وحل بلدك؟ المهم رجعنا إلى مصر برغم الإلحاح والعروض والإغراءات السخية التي انهالت عليه، وفي مصر انهالت عليه عروض أخرى من الكلية والجمعية الفلكية والمرصد الجديد، وغرق في العمل وسبح في بحار التكريم، وعندما رجعنا إلى شقتنا في المعادي بعد تسلم الجائزة من الوزير ومعها وسام العلوم الذهبي تحركت الشوكة كما قلت في الجرح القديم، ورجعنا يا سيدي للوحل والتراب والذباب والناموس وللنكبة التي كانت تنتظرنا. •••
ماذا أقول لك يا عم علام؟ كيف أفهم ما حدث له وكيف أفسره؟ لست طبيبة نفسية حتى أحلله وأعرف مشاكله وعقده المكبوتة كما يقولون. إنني زوجته وأم أولاده، مجرد ربة أسرة عاجزة أمام رياح الماضي والحاضر والمستقبل، وأنت الذي عرفته في صباه وكنت أحن عليه من أبيه ربما تكون أقدر على معرفة الداء ولمس جذوره. آه! لعنة الله على الجذور الدفينة التي لا تترك فروع الشجرة في حالها!
هل تعلم ماذا فعلنا في أول يوم وصلنا فيه إلى البلد؟ أخذنا حنطورا قبل الغروب وذهبنا إلى المدرسة المهجورة، أجل أجل، نفس المدرسة التي علمته فيها ورعيته وضربته أيضا علقة ساخنة على قدميه! هل تذكر الآن؟! لم يقل لي سبب ضربه، اكتفى بالضحكة التي أعرفها من الولد الشقي وقال: من يومها وهم يسمونني الولد «لا»، ألست كذلك حتى اليوم يا لطيفة؟! وجلجلت ضحكته وهو يطوف بحوش المدرسة الخالية ويريني المكان الذي شدت فيه قدمه في الفلقة أمام التلاميذ والناظر والمدرسين، بينما أخذ يعلو صياحه كجرو صغير ينزعون أسنانه أو هدهد ينتفون ريشه: لا! لا! لا!
أجل يا سيدي المرصد، شيء مضحك بلا أدنى شك، والمضحك أيضا أنك لم تنس «اللا» أبدا بدليل أنك سمعتها تماما وضحكت حتى دمعت عيناك الصغيرتان الضيقتان، وتركنا المدرسة بعد أن مررنا على الفصول البائسة التي كان يجلس فيها، والسبورات المتآكلة التي كان يكتب عليها، والسور الحجري المتهدم الذي كان يقفز أحيانا من عليه، وحيينا البواب الصعيدي العجوز الذي لم يتذكره أبدا وركبنا الحنطور في طريقنا إلى بيت شقيقه الذي ينتظرنا على العشاء هو وأولاده. كانت سحب المساء قد تجمعت في صفحة الأفق وراحت تلف البلدة في عباءتها السوداء، واخترقت العربة والحصان الهزيل صفوف المارة والفلاحين العائدين من حقولهم بصعوبة. لا أخفي عليك أنني لم أستطع أن أكتم ضيقي وتأففي من المشوار كله، لكن أي ألم لا تكتمه الزوجة المحبة لأجل خاطر زوجها وأب عيالها، خصوصا إذا كان موهوبا ومشهورا مثل زوجي ومشاكسا وشقيا لم ينضج مثله؟ عبرنا الجسر الخشبي الذي يتوسط البلد وتتراكم على جانبيه أعداد غفيرة من باعة الفاكهة والخضراوات الذين كانوا يلمون قففهم ومقاطفهم ويستعدون للرجوع إلى بيوتهم، وسرحت قليلا فلم أتابع شيئا ولا أحدا ممن حولي ولم أنتبه للشوارع والحواري التي اجتازتها العربة الحنطور حتى أفقت على صوت محمود يقول لي: اذهبي أنت الآن، سأرجع بعد قليل ... لا لن أتأخر، مغاوري وحصانه يعرفان الطريق خيرا مني ومنك. •••
وقفز من العربة وغاب عن بصري. رأيته وهو ينعطف يمينا ثم يسارا بالقرب من كنيسة عتيقة بدت في الظلام كنافورة أثرية ضخمة، وتابعت قامته النحيلة المستقيمة العود وهو يسير مسرعا بجانب السور الأبيض الذي زرعت فوقه قوائم وقضبان حديدية مدببة الأطراف حتى اختفى من دائرة الرؤية. ربما تساءلت ماذا يجعله يسرع هكذا وكأنه على موعد سابق ومن يا ترى الذي ينتظره؟ لكنني انصرفت عن التفكير في شيء لن أفوز منه بشيء، وبدأت أعاين الطريق المتجه إلى الطرف الجنوبي للبلدة وأتسلى بالتفرج على البيوت الجميلة والفيلل المطلية الجدران والأسوار بألوان فاقعة، واستمعت وأنا صامتة إلى تعليقات مغاوري الذي تقمص دور المرشد السياحي وأخذ يحدثني عن أصحابها الذين رجعوا من السعودية والخليج ومعهم زكائب الذهب وفتحوا التوكيلات والسوبر ماركات وكانوا قبلها لا يجدون اللقمة والهدمة.
ها نحن نمر بنفس الشارع ونرى نفس الفيلل والعمارات والمحلات المضاءة بأنوار النيون، ولا بد أن أحكي لك باختصار ما حدث. كنا جالسين أمام مسلسل في التليفزيون عندما دخل من الباب. لم يدرك أحد غيري مدى ذهوله وغيابه. عينان تائهتان، شعر مهوش، ملامح منطفئة كملامح عجوز يطارده شبح النهاية، واليأس والكمد الفظيع يطل من نظراته وإشاراته وصمته الذي لم يخرج منه. كنت متعودة على نوبات الاكتئاب التي تفاجئه وتفاجئني من حين إلى حين، ولا تتعجب إذا قلت إنها تفاجئنا في مناسبات الفرح والابتهاج أكثر من أي وقت آخر، ولكن ما وجدته أمامي كان شيئا مختلفا: كان الموت نفسه قد ألقى ظلاله السوداء عليه وأخذه في قبضته. سألته ضاحكة عن نزهته الليلية بين الأطلال. نظر إلي في غضب هائل حتى خيل إلي أنه يضمر لي كراهية قاتلة لم يفصح عنها وجهه الطيب قبل ذلك أبدا. وعندما اقتربت منه وعاتبته اعتذر بأنه متعب وليس له نفس للعشاء. أردت أن أغلق الباب لأنفرد به فردني بإشارة عصبية من يده وقال إنه يحس بمغص شديد ويريد أن ينام. تركته يفعل ما يريد وأكملت المسلسل وسط العائلة الصغيرة التي لم تبخل علينا بكرم ضيافتها، وعندما استبد بي القلق ونظرت إلى شقيقه حامد ولمحت على وجهه نفس القلق قمت أبحث عنه. لم يكن في غرفة النوم. طرقت باب الحمام فلم يرد إلا الصدى. أقبل حامد وزوجته وأخذا يضربان الباب بقوة حتى خفت أن ينكسر، وسمعنا من الداخل أصواتا مرتبكة ورنين علب صفيحية وصوت انكسار زجاج على الأرض، وفتح الباب أخيرا وأطل علينا الوجه الممتقع وعليه ابتسامة مغتصبة شاحبة. لا شيء، لا شيء، ألم تسمعوا عن أحد مصاب بالمغص؟ فتشت نظرتي المكان الضيق بسرعة. كل شيء في مكانه. أدوات الحلاقة وزجاجات الشامبو وعلب الدهان والمراهم مضطربة قليلا، لكن لا شيء يثير الريبة، والبشكير الأبيض الكبير ملوي وملقى في البانيو. هل يمكن أن يخطر على باله ...؟ لا لا، ما هذا يا دكتور؟ هل يمكن أن يؤثر مغص بسيط على بطل مثلك؟ نحن متنا من الجوع، تعال إكراما لخاطر الناس إن لم يكن لخاطري ...
أخذت أثرثر فصرخ في وجهي: أرجوك، أرجوك يا لطيفة ... ولم يكمل صيحته التي رنت في سمعي أغرب من أي صيحة سمعتها منه طوال عشرتنا. شد يده على بطنه ودخل حجرة النوم واستلقى على السرير دون أن يخلع ملابسه. •••
لن أطيل عليك، كان من الممكن أن يضيع من أيدينا لولا أن أسرع شقيقه مع ابنه الأكبر بإحضار الطبيب. ماذا أقول عن ارتباكي وذهولي؟ وكيف أصور يأسي وفزعي وخيبة أملي؟ والحيرة التي انقضت علي قبضتها الحديدية كيف أعبر لك عنها؟ لا تنزعجوا. حالة اكتئاب شديد سيزول بإذن الله. مصحوبة بحالة إحساس فظيع بالذنب. هل هذه أول مرة؟ لا لا، إن شاء الله يصبح على خير، المهم لا تتركوه وحده ... ثم همسا لي: أبعدي عنه علب الأسبرين في الحال. فتشي جيوبه وتخلصي منها، لاحظي عدم وجود حبال أو فوط حمام كبيرة في متناول يده، أرجوك، كل شيء ممكن، لا تبعدوا عيونكم عنه، النوبة يمكن أن تعاوده، أنا تحت تصرفكم في أي وقت، افتحوا عيونكم جيدا، كلها ساعات ويرجع لوعيه، البكاء الشديد وربما الهيجان محتمل، تصبحون على خير.
ولم نصبح على خير عشرة أيام. ظل غائبا عن الوعي حتى بعد أن تقيأ كل ما في بطنه، ومع أني لم أغفل عنه لحظة واحدة إلا أنه عاود الكرة بعد ذلك، لا أدري من أين حصل على الأقراص ولا أي شيء ابتلعه حتى رجعت إليه الغيبوبة مرة أخرى وأخذ يهذي ويبكي بكاء لا ينقطع، سبعة أيام بلياليها أشد علينا من السنين العجاف، ذاهل ومصمم على الموت كما لم أره من قبل، لسانه يهذي بكلام لا أعرفه، ترددت فيه كلمة زهرة أكثر من مرة، أرجوك يا مرصد حلوان، أرجوك يا أستاذ علام أن تساعدني، ساعدني أرجوك وأنقذ زوجي وتلميذك المحبوب . لماذا ربطت يداه وساقاه بالسرير؟ لأنه يمكن أن يرمي نفسه في أي لحظة، يمكن أن يغافلنا في أي لحظة، أنت الدواء للجرح الذي لا أعرفه، أسرع يا أستاذ قبل أن يضيع! هل تعلم مدى حجم المسئوليات التي تنتظره؟ هل تعرف أن ثلاثة اجتماعات في الجامعة والأكاديمية ومع الوزير نفسه يمكن أن يتغيب عنها؟ وأولاده الذين ينتظرون في القاهرة؟ هل يمكن أن يصدقوا؟ وأنا؟ ماذا أفعل وكيف أتصرف؟ أرجوك
أفعل يا ربي؟ أرجوك، أرجوك.
2
وقال مدرس العلوم والرياضة العجوز وهو يمسح بشدة على جبهته ليتذكر: دفعتني دفعا في الحنطور فلم أعرف ماذا أقول ولم أفهم شيئا مما يجري. لم أكن قد أفقت تماما من نوم القيلولة ولا فرغت من التهام طبق الفطائر والنقل والفواكه الذي اعتدت أن أتسلى به مع الشاي، وكوب الشاي ظل دافئا يتصاعد منه البخار ولم تمسه يدي المرتعشة بحكم السن والتخمة، وانحشرت بجسدي السمين وكرشي المتورم في الحنطور بجوارها، وملت بأذني ورأسي وكياني كله نحو فمها الذي يتفجر منه شلال الكلمات التي لا أسمع ولا أعي معظمها، حالة اكتئاب فظيعة، ورجل طريح الفراش تستنجد بي زوجته ولا يرد على خاطري إلا كالطيف الشاحب الذي يعبر في الحلم في صمت وهدوء. ماذا تنتظرين مني يا سيدتي ولست طبيبا ولا ساحرا ولا صاحب سلطة من أي نوع، والذاكرة - لو تعلمين - مدينة مهجورة تتصادم الأشباح في خرائبها. آه! ما أثقل عبء الشيخوخة بعد أن تعديت الستين وكدت أن أتم السبعين! وما أحوج الشيخ لراحة البال والجلوس على الكنبة الطرية في انتظار الزائر المحتوم دون طرق مزعج على الأبواب!
التقطت أذني الثقيلة اسمه فلم تستطع الحروف أن تحوله إلى صورة في ذهني. تمهلي يا سيدتي! فالأسماء التي ناديتها في حياتي مع التعليم مئات ومئات، ونفذت في سمعي كلمات العلقة الساخنة على القدمين في حوش المدرسة فعجزت كذلك عن تحديد شكل التلميذ أو صفته، وكيف أستطيع والأقدام التي كانت تشد إلى الفلقة أكثر من تحصى؟ وبدأت الغيوم تنزاح قليلا من سماء ذهني الراكد عندما التقطت كلمة المرصد والمنظار المكبر. تذكرت السطوح في بيتنا القديم والطموح الذي تخليت عنه وتخلى عني من زمن أقدم، ومع تدفق سيل الكلمات والدموع والنشيج من الشلال المتفجر لمعت صورة الولد الشقي الذي ضربته بالسوط ثم احتضنته ورعيته، واتضحت الصورة الضئيلة الباهتة وحركت مشاعري التي بدأت تهتز وتبرز من طبقات الأعماق المظلمة كالمياه الجوفية التي يحركها زلزال مفاجئ، وأحسست بنغزة في قلبي فقلت لنفسي: هي شكة قلب الأب الذي تعاوده ذكرى الابن الضائع الذي خرج من سنين طويلة من الباب ولم يرجع، فما بالي الآن أسمع أن النجم الصغير كما كنت أسميه قد رجع إلى بلده بعد أن سطع كوكبه في سماء الشهرة والعلم العالمي؟
أجل! أجل! ها هو ينفض تراب النسيان وأيام العمر الميتة ويخرج للنور كالخلد النشيط الذي أطل برأسه من الجحر واستقبل شمس الوطن ودفئه وصدر معلمه وأبيه الروحي! أجل هو محمود نجم الذي بدأت صرخاته يوم العلقة المشهود تنداح في بحيرتي الآسنة. لكم تألمت يا ولدي من اللسعات التي حفرت خيوطها الغائرة الدامية على قدميك الصغيرتين وساقيك وفخذك أيضا، ولكم تعبت حتى عالجت التقرحات وطهرتها من آثار الدم والقيح والصديد كما عالجت عقلك الطائش بالنصائح والمواعظ المكررة.
وعرفتك عن قرب وحاولت أن أكون المرفأ الذي يرسو قاربك على شاطئه لينجو من عنف الأمواج التي تعصف بهيكله، والحق أنها كانت عواصف عاتية، وأن قاربك قد تحداها في طيش لا يتوقع من
•••
لماذا فعلت ما فعلته يا ولدي؟ وإذا كنا - نحن المعلمين - لا نستطيع أن نفهم حمقك وطيشك، فكيف نبرره للناظر الثائر ومأمور المركز المصمم على العقاب الرادع، ورئيس المجلس البلدي الذي طالب بإدخالك الإصلاحية في عاصمة الإقليم، وعشرات التجار وأصحاب الورش والحرف والدكاكين الصغيرة، بل وشيخ الكتاب الكفيف الذي قرأ له الأولاد الحروف التي نقشتها على كتابه العتيق فملأ البلد بصياحه عن الكافر الفاجر العربيد؟ حتى أبوك الطيب التقي الذي يسلم المارة عليه ويتبركون بلثم يده وطلب الدعاء منه ضرب كفا بكف وقال: ابني وأنا بريء منه إلى يوم الدين؟ نعم تذكرت الواقعة. ذكرني بها الحرفان الملعونان اللذان لطخت بهما الجدران في كل مكان ولم ترحم جدارا واحدا في البلدة الآمنة المغمضة العيون على بؤسها وحزنها الثقيل. حتى القبور الهاجعة في المدافن كاد الناس يشكون في أنك بصمت عليها الحرفين الشريرين بفرشاتك الشريرة ومدادها الأسود الشرير.
أجل يا بني الطائش المسكين، كانت الشكوى منك قد صعدت إلى السماء نفسها وأوشك الصوت أن يتنزل علينا مطالبا بالقصاص الرادع، وكنت أنت - كما اعترفت لي بعد ذلك تحت قبة السماء المرصعة بآلاف النجوم وأمام المنظار الذي دعوتك لمراقبتها منه - كنت أنت المسئول عن الإزعاج الذي سببته للمدرسة والبلد وربما للأموات أيضا وإن لم أتأكد من هذا بنفسي لخوفي المزمن من زيارة القبور، كنت أنت الذي غافل الجميع أياما وأسابيع طويلة وراح يطبع اللا على كل الحوائط والجدران مبتدئا بالمدرسة التي تصطف فيها كل يوم في طابور الصباح وتدخل الفصول وتخرج منها كالحمل البريء، كل المدرسين اشتكوا من هذه اللا التي يجدونها في الصباح مرسومة بالطباشير على السبورة كأنها سيقان عقرب متربص باللدغة القاتلة لليد التي تمحوها، وتحيرنا في مجلس المدرسة وفسرنا الأمر بمختلف التفسيرات، وعللنا الجريمة بآلاف الحجج والتعلات، ونسبناها لشقاوة الأولاد وقسوة بعض الآباء والمدرسين والتراخي في الحفاظ على النظام والانضباط داخل أسوار المدرسة وخارجها وغير ذلك مما هو مألوف ومعتاد، لكن الأمر تجاوز المألوف والمعتاد عندما جاءت الإشارة من المركز وفيها اسمك الواضح واسم عائلتك وسنك ورقم فصلك، كان فلاح راجعا من السهرة في الغرزة مع صديقه النجار قد لمحاك وأنت تجري من حائط إلى حائط وفي يدك دلو صغير وفرشاة يتساقط منها الحبر الأسود، واشترك معهما حلاق الصحة الحاج مبروك رحمة الله عليه الذي لم أنس اسمه حتى الآن لكثرة ما غرز في جلدي من الإبر وكثرة ما فتح ونظف من الجروح وطاهر من أولادي وأولاد الأقارب والجيران، ونادوني على عجل فأسرعت إلى المركز مع العسكري الذي دق علي بابي في عز الليل. كنت أنت الذي ذكر اسمي وطلب ألا يحضر أحد غيري ولا تبلغ الحادثة لأبيك، وذهبت ورأيتك وتشفعت لك عند البيك المأمور.
وعلمت بما ارتكبت يداك ووعدت بأن تجد جزاءك من المدرسة وتوسلت ألا تكبر المسألة، وكانت العلقة أمام المدرسة كلها ثم كان ما كان بعد ذلك. قربتك مني وحاولت أن أكون لك الأب والراعي والمعلم، ودعوتك للتطلع من المنظار على سطح بيتي، وكنت أيامها العزب الطموح الذي لا يزال يحلم الأحلام السخيفة ويلهث لارتقاء سلم المجد. آه! لم يكن الواقع قد حاصرني بعد! لم تكن مسئوليات تربية الإخوة الصغار وتزويج الأخوات قد ألقيت على كتفي بعد الوفاة المفاجئة للأب الفقير المطحون، ولم تكن جذوة الأمل في متابعة الدراسة في العاصمة والحصول على الماجستير والدكتوراه في الفلك قد انطفأت في صدري، حتى الأمل في القناعة بالعمل في مرصد حلوان اختفى من حياتي تحت وقع الضربات التي انهالت علي والتبعات التي لم يكن منها مفر، وقنعت من أحلام الطموح القديم بالمنظار الصغير الذي أطل منه على النجوم كلما صفت السماء في ليالي الصيف، وشراء بعض كتب الفلك التي أتوصل إليها من زميل أو صديق قادم من العاصمة قبل أن ألقي بالمنظار وسط كراكيب السندرة مع كراتين الكتب والأوراق والأنابيب والدوارق والأدوات والأجهزة التي ترقد الآن منذ أكثر من ربع قرن في سباتها الطويل.
نعم يا ولدي نجم، يا من لم تنطفئ كما انطفأت ولم تخمد فيك شرارة المجد والطموح، ها أنا ذا أرى وجهك الصغير المستدير الذي كنت أصفه بملاكي الصغير، لماذا يشتعل بالألم والعذاب كنجم مرتعش في السماء يتقلب في دمه؟ ألا تعلم خيرا مني ألف مرة أن ضوءه لم يصلنا إلا بعد ملايين أو بلايين السنوات الضوئية، وأنه يمكن - مثل كل النجوم - أن يحتضر ويموت؟ أشفق على نفسك يا ولدي الحبيب الذي رجع لبلده ولصدر معلمه بعد غياب السنين، وأشفق على السيدة التي تحبك، وأولادك الذين ينتظرونك، واسمك وسمعتك وشهرتك.
كنت قد دخلت الحجرة التي يرقد فيها على سرير سفري صغير كأنه مصنوع من عظام حيوان بحري منقرض، وكنا قد نزلنا من الحنطور على عجل وسلمنا على شقيقه الأكبر حامد الذي يعرفني وأعرفه ونلتقي دائما في صلاة الجمعة أو في الأعياد والمواسم والمناسبات والجنازات. رأيته ممددا على الفراش وتمليته قليلا قبل أن أفاجأ به يرمي رأسه على صدري ويحتضنني ويجهش بالبكاء. التفت لزوجته التي بقيت خارج الحجرة وهي تطل علينا جزعة متلهفة فأغلقت الباب، واحتضنته وبللت خده بدموعي كما بلل خدي. منعتني المفاجأة من تأمل وجهه على مهل، وكدت أتحاشى النظر في عينيه الباكيتين حتى أتمكن من القيام بدور الراعي القديم. كان الوجه صغيرا كما عهدته قبل ربع قرن أو يزيد، لم يكبر إلا كما يكبر وجه الأرنب الوليد الذي يحتفظ بخطوطه وملامحه في وجه الأرنب العجوز. أما اليدان المعروقتان والجسد النحيل الطويل فما زالا عصبيين متوترين وما زالا مصرين على رفض التحنيط القديم أو الحديث!
قلت له: أنت بخير يا نجم، أنت بخير، لم أنسك يا ولدي أبدا، لكنها الأيام والأعمال وتحولات السنين، اطمئن يا ولدي فالدنيا بخير ولا تتغير كثيرا كما تظن أنت وأمثالك - هل يخفى هذا على عالم الفلك الكبير؟ وهل غيرت شيئا من مسار الكون وقوانينه أم اقتصر جهدك وجهد العلماء على معرفتها وفهم أسرارها؟ - لا تقلق يا بني، لا تظلم نفسك بالحزن ولا تعذبها بالرعشة والبكاء، هذا شيء لا يليق بنجم متألق يخضع ككل الكواكب والنجوم للسنن الأزلية.
ماذا؟ بالطبع سمعت قبل سنوات عن كشوفك الرائعة وإن كنت بصراحة قد عجزت عن فهم أسرارها لأني تركت العلم وتركني منذ أن غادرت البلد وهاجرت، وقرأت أخيرا عن تكريمك في بلدك فسعدت وإن لم تسعفني الذاكرة ولا قصر النظر على التحقق من النجم المحتفى به أو التثبت من صوره المنشورة في الجرائد. نعم يا ولدي! ضعف البصر وكلت الصحة وزال حتى طموح قراءة الأخبار في الصحف والمجلات. لا أكتمك أن اليأس تسرب إلى دمي وخلايا مخي البليد منذ أن يئست وترهلت وأصبحت كما ترى و... لكن حدثني أنت عن نفسك! نعم نعم، هكذا أنتظر من نجم العزيز الحبيب، اعتدل وضع هذه المخدة خلف ظهرك، فضفض عن نفسك وتكلم يا بني، أنا أيضا لم أكن أحلم بهذا اللقاء، لم أكن أتصوره ولا في الأحلام. •••
انهمرت نافورة الأحزان القديمة فأخرجت كل ما فيها، تلقيتها في حنان كما يتلقى الوادي الرحب المنبسط سيول الحمم المتفجرة التي تتساقط من فوهة البركان العالية المتأججة بالخطر والرعب. رجع بي إلى الأيام الأولى التي كنت قد رميتها خلف ظهري وردمت عليها التراب، وأخذ يحدثني عن كل شيء في حياته منذ أن أكل العلقة الساخنة على قدميه، أمسياتنا فوق السطوح وأحاديثنا الطويلة عن الفلك والتنجيم والجاذبية والتصوف والعلماء القدامى والمحدثين. فتح لي الأبواب والنوافذ التي أقفلتها إلى غير رجعة بعد أن سلمت رأسي وطموحي لقبضة لقمة العيش حتى صرت زكيبة لحم متورمة يهددها التعفن والدفن! وعرفت كل شيء عن هجرته إلى كندا ودراسته الطويلة وتفوقه وتكريم العلماء والجمعيات العلمية له، وفرحت لأن بلده تذكرته وأرادت أن تشارك في الحفاوة والتكريم وكلمته عن أهمية العودة للجذور، وبعد أن توهج نجمه فجأة وراح يتكلم عن جولته في حواري البلد وشوارعها أدركت أن الجذور كانت لا تزال تئز وتغلي باللهب الراقد فيها منذ صباه. خفت أن ترجع النوبة وتتفجر أفظع مما فعلت فجعلت أصرفه عن ذكرياته الدفينة وأصب فوقها مياه الدعابة والمرح وأسرد له القصص والحكايات عن تبلدي واستسلامي للظروف ونشاطي العظيم في جمع المال والفدادين والعقار من تربية الخيول والعجول والأغنام والمواشي والدجاج والحمام واليمام، وبدأت الضحكة تغزو سحب الغم المتلبدة على وجهه وهو يرى كرشي المتورم ويتفرس في كتل اللحم والشحم المتدلية من وجهي حتى أوشكت أن تمنعني من التنفس. •••
هون عليك يا ولدي، هون عليك، تعلم من أستاذك القديم الذي أصبح حجرا حتى لا تحترق بنيران ذكائك وثورتك وطموحك، اطمئن يا ولدي في حضن الكون الذي جبت أبعاده وغصت في أعماق ثقوبه ودروبه ومجراته - ضع روحك بين يدي الخالق واطمئن، وها هو الإمام في مسجد أبو السعود يقول: آمين، والمصلون من أهلك يرددون وراءه بصوت واحد: آمين، اطمئن يا ولدي واهدأ! عد لزوجك وبنيك وعلمك وكشوفك وردد ورائي: آمين، آمين.
3
وقال عالم الفلك محمود نجم بعد أن ودعه معلمه العجوز محمد علام: لا أدري كيف حدث ما حدث ولا متى ولا كم استغرق من الوقت. كل ما أذكره أنني بكيت كما لم أبك في حياتي، واحترقت كالنيزك الذي يهوي في غيبوبة الخلاء قبل أن يرتطم بالأرض ويتفحم. لا أدري أيضا كيف أمكن أن يظهر أمامي وجهك الأبيض المستدير كأنه: وجه بدر أطل على بئري المظلم ومد إلي من ضوئه الناعم العذب حبل النجاة فطفوت على السطح وفتحت عيني وتنفست وتكلمت وضحكت أيضا معك، ربما هتفت باسمك المطمور في أغوار الشعور وما تحت الشعور فسمعته زوجتي الوفية وسألت عنك حتى وجدتك.
وربما تذكرت في ساعات محنتي أنني نطقت باسمك كثيرا ورويت لها أحاديثنا الطويلة ونحن نجرب حظنا مع المنظار العتيق ونطل منه على حقول السماء المتلألئة بآلاف الزهور ونحلم بالعمل في مرصد حلوان وبالتحليق أيضا مع سفن الفضاء.
لقد وقعت المفاجأة ورأيتك أمامي، بل تمت المعجزة وألقيت رأسي المدوي كخلية النحل على صدرك وأطلقت الدموع من محبسها كما أطلقت النكات والصيحات!
من كان يصدق أنني سألقاك أو أنك ستنتشلني من الغرق بعد هذه السنين؟ هل كان من الممكن أن أتصورك حيا ترزق بعد أن علمت بهجرك للتعليم وانشغالك بلقمة العيش وضياعك وسط الزحام وإحباط أحلامك وسقوطها في وحل الركود واليأس والاستسلام؟ وها أنت تنتزع الضحكة من فمي الفاغر من الدهشة وأنا أتخيلك تراقب وجوه العجول والثيران والأبقار والأغنام بدلا من رصد الكواكب والنجوم والأفلاك، وتتحدث عن ثروتك وأملاكك ومأدبتك العامرة في الإفطار والغداء والعشاء، وأحدثك عن ليالينا مع المنظار العتيق وحكاياتك عن إيكاروس وعباس بن فرناس وموسيقى الأفلاك التي سمعها فيثاغورس وأشعار شكسبير عن غناء الكواكب كأنها جوقة الملائكة التي تصدح بألحان التناغم الكوني وتتغنى بها أرواح النجوم في السماء، ويمنعنا من سماعها الثوب الترابي الذي يطوق نفوسنا حتى تغيب في التراب. •••
وضحكت ضحكت كثيرا - حتى دقت زوجتي الباب وأطلت برأسها الصغير وشعرها القصير ورأتني وسمعتني فاختلجت قسمات وجهها بالفرح الغامر وأغلقت الباب بسرعة وهي تعتذر! - أقول ضحكت كثيرا عندما ذكرتني بالعلقة الساخنة أمام زملائي التلاميذ وتحت بصر الناظر السمين القصير العابس الوجه على الدوام. ضحكت على بكاء الصبي النحيل وصراخه من لسعات السوط الذي ضربته به لتوقظه من سباته وعبثه الشيطاني، وكنت محقا في غضبك لأنهم جرجروك إلى المركز في عز الليل وصدعوا دماغك بالتحقيق في واقعة تافهة على الرغم من غرابتها وذهول الناس منها في البلد الصغير، لكن هل تصورت يا معلمي مدى الألم الذي كان يكمن وراءها؟ هل شعرت به من بعيد أو من قريب فأقبلت على رعايتي وتهذيبي وتدليلي أيضا كالأب الحنون؟ أجل كان ألما لا يطاق ولا يوصف؛ فالصبي الطائش الذي لطخ جدران البلد بالحرفين اللعينين كما تصفهما كان يحمل، كما يقال، عبئا تنوء به الجبال، ويحس أنه منبوذ ومرفوض من العالم والناس والأرض والسماء والماضي والحاضر والمستقبل، وكان يرى أمه كل يوم وهي تذبل وتنكمش على نفسها وتنزوي واضعة يدها على قلبها في ركن قصي من البيت أو في حجرة مظلمة، وبدأ يدرك قسوة أبيه عليها وتجهمه وعبوسه كلما أبصرها أمامه وكلما حاولت أن ترضيه، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يمر بباب حجرتهما فيسمعه وهو يسبها ويلعنها ويتوعدها بنار جهنم، وأمي تبكي وتدعو الله ليل نهار أن يريحها من وجهه وتحتضنني أحيانا وتهتف دامعة: ماذا ستفعل بعدي يا مسكين؟ وحضرت من المدرسة عصر يوم ممطر فسمعت صراخ أختي الكبيرة وبكاء أخي الأزهري الذي وصل قبل أيام من عاصمة المركز بعد أن اشتد عليها المرض وطلبت من أختي أن تكتب له ليكون بجانبها ويتلو الآيات الكريمة على رأسها ويغمض عينيها بيديه ويوسدها المقر الأخير. لم أكن قد رأيت ميتا قبل ذلك ولا جربت التغيير الذي يطرأ على البيت وأهله وأثاثه ورائحته عندما يموت فيه إنسان ويجهز للسفر الطويل ويتوافد المعزون وتنوح النساء ويتعالى صوت المقرئ ليلا في الصوان، وكان أبي وأخي حريصين على إبعادي عن البيت فسلماني للجيران، ولما شعرت بخروج النعش للصلاة عليها في الجامع تسللت وراء المعزين، وبقيت وحيدا كالقط المحتضر مستندا إلى جدار بعيد وأنا أفكر في معنى الموت ومعنى أن تذهب أمي ولا تعود. لا أذكر إن كنت قد فهمت شيئا أو لم أفهم. كل ما يحضرني الآن أنني بكيت وأخفيت بكائي عن الجميع، واستطعت أن أختصر الطريق وأسبق موكب الجنازة إلى المقبرة وأزحف خفية كالكلب الضال حتى وصلت إلى المكان الذي تجمعوا فيه. كان أصدقاء أخي يسندونه عن يمين ويسار، وأبي في الخلف تتمتم شفتاه وتتحرك باستمرار، وأيدي الرجال تشد على يده في طابور طويل، وحانت لحظة الدفن والتفت الأجساد حول القبر وعلت الأصوات بالتكبير والدعاء، ووجدوني وسطهم كأنما خرجت من فجوة تحت أقدامهم. رحت أزاحم وأزيح الكتل المتراصة لأجد منفذا منها، وسددت فوهة التربة بجسدي المرتجف الضئيل وأنا أصرخ: لا، لا، لا. جذبني القارئ والتربي مع أحد المعزين الذين لا أعرفهم بعيدا عن الفم الأسود المفتوح، وأسرع أخي يحتضنني ويمسح رأسي المشتعل بالغضب والهياج وهو يردد: استغفر الله العظيم، قل إنا لله وإنا إليه راجعون، قل، قل ... صرخت فيه: لا، لا. صحت بالوجوه التي التفت حولي: لا، لا. رفعت رأسي للسماء وأنا أتشنج مرتجفا: لا، لا. انحنيت على الأرض وجرفت حفنة من التراب ونثرتها على وجهي وعلى الوجوه التي كانت تحدق بي وتحملق في بعيون مسترخية كابية كعيون الغربان وأخذت أصيح: لا يا أبي لا، لا يا أمي لا ... لم أدر ماذا جرى لي بعد ذلك إلا عندما أفقت على سريري وأخي بجانبي يمسك بيدي ويربت بحنان على صدري وهو يقول: وحد الله، أنت عاقل وهذا أمر الله. عاودتني نوبة البكاء والصراخ فصحت في غضب : لا، لا. وأطل وجه أبي المتجهم وهو يردد وحد الله فعلا صياحي كأنه إصبع اتهام غارق في الدم: لا، لا، لا. •••
لم تكد تمر الأربعون على وفاة أمي حتى سمعت أن أبي يستعد للزواج. لم أصدق أبدا حتى فوجئت ذات صباح بسيارة تقف أمام باب البيت وتنزل منها امرأة ضخمة بيضاء الجبهة والذراعين تلف جسدها في ملاءة سوداء وتغطي عينيها وأسفل وجهها بحجاب أسود. أخذني أخي من يدي وهمس في أذني: هذه زوجة أبيك على سنة الله ورسوله، هي في مقام أمك. صرخت فيه لا، وجريت خارجا إلى الشارع وأنا أصيح لا، لا، لا. ومرت أيام وأنا أهذي بصراخي في كل مكان. كان العالم هو السجن الذي يضيق علي، والبلد هي قبري الكبير الذي أعيش فيه وحيدا كما ترقد أمي وحيدة في قبرها الصغير، ومع أن زوجة أبي كانت امرأة طيبة ولم تقصر لحظة في إرضائي إلا أنني كنت أشعر مع الأيام بأن أنفاسي تختنق في القبر الواسع الكبير، ولزمت الصمت في البيت والمدرسة حتى تصور الجميع أنني فقدت القدرة على الكلام، لكنني كنت قد فكرت في طريقة أخرى للصراخ، وهكذا اهتديت إلى تلطيخ الجدران بالحرفين اللعينين وتمنيت لو أستطيع أن أكتبهما على جدران الكون الشاسع الرهيب، وهكذا عثر النجار والحلاق والفلاح ذات ليلة علي وسلموني للمركز، وتدخلت أنت لإخراجي منه وتعهدت بأن تضمنني وتوقع علي العقاب. •••
هل تعلم أن سكين الألم غارت في قلبي منذ ذلك الحين على الرغم من عطفك علي ومن أمسياتنا التي قضيناها أمام المنظار؟ لقد حفرت اللا على جدران قلبي وراحت خطوطها تكبر وتمتد وتتعاظم حتى انطبعت على كل شيء. خيل إلي أنني أكبر أيضا وأتعاظم وأتضخم كمارد أو شيطان يتلفع في عباءة كبيرة سوداء ويحرك ذراعيه ويديه الهائلتين وهو يختم الحرفين بالسواد على كل شيء في الأرض والسماء، ولم يستطع كلامك عن أنغام الكواكب وتناغم الأكوان أن يغير من موقف النفي المطلق لكل شيء على الإطلاق. كنت أستمع إليك باهتمام وأتطلع من فتحة المنظار إلى كواكب ونجوم وطريق لبني متعرج ومختنق بالضباب في سماء رفضتها كما رفضت الأرض بما فيها بلدتي التي تحولت كما قلت لك إلى قبر صغير داخل القبر الكبير. لا أدري كم سنة لبثت على هذه الحال ولا إلى متى بقيت سجين الفكرة المتسلطة. فلا بد من الاعتراف بأن زهرة التي لم أذكر لك اسمها أبدا هي التي أخرجتني من السجن الكبير.
زهرة! زهرة! لماذا ظهرت لي بعد كل هذه السنين؟ لماذا خرجت من تربتك المجهولة في مقابر الصدقات وعبرت أمام عيني وأنت مشتعلة بالنار وشعرك وثيابك ولحمك يحترق؟ ألم نتفق أن تصبحي زهرة متوهجة في السماء تضيء لي طريق العالم المظلم حتى ألقاك وأتوهج بجوارك إلى الأبد؟ لماذا اخترت هذا الوقت وهذا المكان بالذات؟ أكنت يا حبيبتي تنتظرين عودتي لترمي علي نظرتك المنداة بالحنان والوعود برغم النار التي تلتهمك شيئا فشيئا؟ آه! لماذا ظهرت لي بعد كل هذه السنين؟
اعذرني يا معلمي العزيز - تقول رجعت النوبة القاتلة؟ لا لا، فقد ظهر وجهك الطيب الحبيب ومسح الدموع ومر كالبلسم على الجرح القديم، لكن الجرح الغائر في طبقات الماضي يمكن أن يتحرك فتنز منه الدماء، فاسمح له أن ينزف قليلا ولا تخف علي من الجنون أو الانتحار. •••
كنا قد تربينا في شارع واحد وبيتين متجاورين، وكم لعبنا لعبة العروس والعريس وتقاذفنا الحصى والرمل ونتف القطن وحفنات القمح قبل أن ينبض قلبانا بالوجيب الغامض الوليد وتكثر لقاءاتنا ومناجياتنا من النوافذ، وكان أبوها النحيل الصامت على الدوام عاملا بسيطا عند صاحب مخزن الفراشة القريب من محطة السكة الحديد، يحيي أبي عندما يراه خارجا من باب البيت أو من باب الجامع القريب ويقبل يده في خشوع ويسأله البركة والدعاء، وأمها كانت تزورنا خلسة وتشكو لأمي من عناء الحياة مع رجل خائب مذهول كما تقول وتخرج من عندنا وهي تحمل صرة منتفخة تخفيها تحت ملاءتها مع الأمل في مئونة الزكاة التي تصلها خفية عن الأعين حين يحل العيد الكبير، وكنت أجري إليها وأحملها السلام إلى زهرة التي أشم عطرها في أمها فتقف أمامي ساكنة رافعة يديها إلى السماء كأنها تؤدي الصلاة: ربنا يا بني يكتب لها ابن الحلال. وأشير بإصبعي إلى السماء وأنا أقول: سيحصل يا أم زهرة، سيحصل، انظري بالليل إلى السماء تريني أنا وزهرة كالكلوبات! وتضحك المرأة المتعبة القسمات وهي تحكم ملاءتها السوداء حول وجهها وجسدها وتغلق الباب وراءها في هدوء: ربنا يا بني ينور لكم طريقكم على الأرض قبل السما!
ونور الرب طريقنا على الأرض وملأه بالزهور والعطور والوعود، كنت قد كبرت واخشوشن صوتي ونبت زغب شعرات دقيقة في ذقني وشاربي، كما كبرت زهرة وبدأ وجهها يحمر وتبرز في صدرها تفاحتان صغيرتان، وكان رأسي قد امتلأ بحكايات العلماء وعجائب الأفلاك وأشعار التناغم الأزلي التي ظللت أسمعها منك ونحن على السطوح في الليالي الصافية نطل من مرصد حلوان الصغير ... ونلتقي أنا وزهرة بعيدا عن الأعين المتطفلة عند الطاحونة المهجورة على أطراف المزارع أو في الساحة الموحشة القريبة من المقابر، وأحيانا نجازف بالتجول في المقابر نذرع ممراتها الضيقة الغنية بشجر الصبار كشبحين هائمين في بستان الأموات، لا، لا، كنا في الواقع نتجول في بستان السماء ولا نشعر بأقدامنا تسير على الأرض ولا بالأرض التي نقف عليها أو نسير، وتنطلق الأفكار التي اختزنتها كالحمام الزاجل من برج الرأس الحالمة فترفرف فوقنا قبل أن تحلق وتختفي في السماء، وتموت على نفسها من الضحك وهي تسمع مني أسماء العلماء وتفتش عبثا عن مدارات الأفلاك وقوانين الجاذبية والفجوات والثقوب السوداء والأشعة القادمة إلينا من بلايين السنين فأحذرها من غضب الأموات وأنذرها بأنني سأسبح في السماء وأصبح واحدا من أولئك العلماء اللامعين، وتضحك في طيش: أنت وحدك؟ فأقول وأنا أزم شفتي: هل ترين هذه الزهرة فينوس؟ سنكون مثلها زهرتين مشتعلتين في السماء! وتميل في صمت على زهرتين صفراوين نبتتا على فرع شجرة شوكي وهي تقول: أنا أفضل أن نكون هنا أولا على الأرض، متجاورين ولو على فرع شجيرة صبار! وأضع يدي على كتفها وأضمها إلى صدري وأطبع على فمها أول زهرة في بستاننا الذي ازدهرت فيه بعد ذلك عشرات الزهور. •••
ومرت الأيام والشهور والسنوات فندرت لقاءاتنا حتى انعدمت، وأصبح عزاؤنا الوحيد بالتناجي من النوافذ المتجاورة أمرا مستحيلا بعد أن أغلق أبوها الصامت الشرس كل الشبابيك بالخشب والمسامير وحرم عليها فتح الأبواب والإطلال على الشارع، وذهبت إلى المدرسة في عاصمة الإقليم لأعيش مع شقيقي الأكبر حامد، وبقي شعاع الأمل الوحيد في الأوراق الصغيرة التي كانت توصلها شقيقتي إليها أو إلي. كانت تذكرني في كل ورقة بالزهرتين من شجيرة الصبار فأرد عليها مذكرا بالزهرتين المشتعلتين في السماء، وقلت الرسائل بعد زواج أختي وانتقالها إلى بيتها الجديد، واصطدمت محاولاتي رؤيتها - ولو مرة واحدة للحظة خاطفة وعند حضوري في الإجازة الصيفية - بأبواب المستحيل وجدرانه وسدوده على الرغم من التصاق الحائط بالحائط واستماع القلب إلى دقات ساعة القلب التي تنفذ من الجدران، واستقر بي المقام في القاهرة عند أحد أخوالي بعد التحاقي بكلية العلوم وغرقت في بحور الفلك والرياضيات وسبحت على أجنحة الطموح لمنافسة كبلر وجاليليو ومشرفة وآينشتين نفسه الذي عارضت بعد ذلك نظريته عن تمدد الكون بنظرية مضادة عن انكماشه وانطفائه برغم المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية الذي افترضت معادلات أخرى تخالفه.
وعندما رجعت في ثاني أو ثالث إجازة صيفية وأنا على أبواب التخرج فاجأتني شقيقتي التي حضرت للسلام علي بقولها: البقية في حياتك. فهمت أنها تقصد زوجة أبي التي توفيت فجأة قبل شهور وتركت أبي مستندا على عكازين أو قانعا بالجلوس وأداء الصلاة على الكرسي المتحرك. قلت لها وأنا أكسو وجهي بعلامات الرضا والصبر: هذه حال الدنيا، الحمد لله على كل ما يأمر به الله. قالت: تعال. وانفردت بي في الحجرة الصغيرة التي كانت تنزوي فيها أمي وقالت وهي تخرج ورقة من جيب تنورتها الطويلة: فكرت كثيرا أن أبلغك ولكن حسن نصحني بأن أتركك لعلومك. قلت وأنا أتوجس شيئا مباغتا: لقد اكتفيت بالبرقية كما أخبرني أخونا حامد. قالت: أف من الفلك وسنينه! هذه الورقة من زهرة، تركتها لك قبل ... سألت ملهوفا: قبل ماذا ؟ أرجوك تكلمي. قالت وهي تخفض رأسها إلى الأرض لكي تتحاشى النظر في وجهي: تركت لك طول العمر، ادع لها بالرحمة.
اشتعلت كل زهور البساتين في رأسي: ماذا تقولين؟ ماذا حدث وكيف ومتى؟
ولماذا لم ... قاطعتني وهي تربت بيدها الصغيرة الدافئة على وجهي وصدري: قلت لك ادع لها بالرحمة، واخفض صوتك حتى لا تزعج أباك، لقد احترقت زهرة، صبت الغاز على رأسها وصدرها فاشتعلت فيها النار وخرجت تجري إلى الشارع قبل أن يهرع الناس إليها ويلفوها بالبطاطين ويحملوها إلى بيتها، ثلاثة أيام وليال ثم خرج السر الإلهي، قلت لك ادع لها بالرحمة.
انتابتني حالة من الجنون أو التحجر، شعرت بأنني بركان تغلي صخوره الباطنة بسيول الحمم ولكن وقت انفجاره في علم الغيب، وخرجت صامتا إلى القاعة التي استسلم فيها أبي للنوم فوق عربته المتحركة وجلست على الكنبة في مواجهته وأنا أتمتم لنفسي: أنا المشلول لا أبي، وسأبقى مشلولا مثله ما بقيت في هذه البلد، هذه البلد التي لن تتغير حتى تمنع احتراق الزهور. •••
لا تسألني ماذا فعلت بعد ذلك، فأنت تعرف كل ما يمكنني قوله، صممت في تلك الليلة على الهجرة، وتحددت أمام عيني مسيرة حياتي وهدفها كما تتحدد مدارات الكواكب والنجوم وقوانينها، لا تضحك إذا قلت لك إنني صممت منذ تلك اللحظة، والورقة لا تزال مطوية في يدي، على مواصلة دراستي للفلك وبحثي عن زهرتي المشتعلة في السماء وفي كل المجرات التي نعرفها والنظم التي يأتينا رنين إشعاعاتها وأطيافها، شيء مخبول اختلط فيه العلم بالتنجيم بالتصوف بالسحر، أعلم هذا تماما، لكنني مضيت فيه وجعلته صراط حياتي المنصوب كما تعلم بين النار والأعراف، يحدوني اعتقاد ربما لا يقل تخليطا وخبالا: أن حياتنا لا تعرف الموت أبدا، قد تتحلل وتفسد وتتحول إلى أشكال أخرى من الطاقة، لكن الموت نفسه كذبة وخرافة، رحت باختصار أعلل نفسي بأن النفس كذلك طاقة، وأنها طاقة خالدة وإن كنا لم نكشف بعد عن أسرارها، ولازمني اليقين منذ ذلك الحين بأن نفوسنا التي نتعهدها بالمعرفة والوعي لا يمكن أيضا أن يجوز عليها الفناء، كما لازمني اليقين الذي لم تخمد شرارته أبدا بأن نفس زهرة خالدة، وأنها قد تكون هناك في مكان ما فوق رأسي، في نفس أحد النجوم التي أحسب حساباتها وأتابع دورات ميلادها وحياتها وموتها وأكرر بيني وبين نفسي ما تصوره كهنة الإغريق وفلاسفتهم عن أرواحها المقدسة، وما تصورته وآمنت به من وجود زهرة واشتعالها في نقطة بعيدة من الكون، وانتظارها أن ألحق بها وأشتعل بجوارها كما اشتعلت زهرتا الصبار الضئيلتان في مقبرة البلدة أثناء نزهتنا العجيبة. •••
آه يا معلمي الحبيب، ماذا بقي أن أقوله أو أسكت عنه بعد أن عرفت ما عرفته من زوجتي عن نوبة البكاء والجنون والانتحار التي هاجمتني في الأيام الأخيرة؟ أأكرر عليك أنني نزلت من الحنطور بعد زيارة المدرسة وجست في شوارع البلدة وحاراتها حتى وصلت إلى الشارع الضيق الصغير الذي احترقت زهرة عليه؟ أأقول إنني وجدت الجامع القديم والكنيسة ذات السور الحجري التي تشبه النافورة البيضاء المستديرة ولم أجد لا بيتنا ولا بيت زهرة؟ ومع ذلك جلست هناك على حجر أجرد وظللت ساعات أحدق في الأرض وأنتظر وأنتظر كأن زهرة ستخرج إلى الشارع مشتعلة بالنيران أو تتوهج فوق رأسي في السماء الصافية التي تسبح فيها الغمامات البيضاء على مهل كأجنحة الحمام؟
كان المارة القليلون يتفرسون في وجهي ثم يعبرون صامتين أو محركين رءوسهم أسفا، واقترب مني رجل يرتدي بدلة داكنة حائلة اللون وفي يده حقيبة سوداء، ظننته حلاق الصحة القديم وتبين أنه شخص آخر ككل من أراهم وقال: أي خدمة يا سيدنا البيه؟ اعتذرت له شاكرا وقلت: إنني أستريح قليلا وأريح مفاصلي من التعب. كان كل شيء قد تغير في الشارع والشوارع المجاورة ومع ذلك لم يتغير شيء. ما زال الوحل والبرك الصغيرة والبؤس وأكوام القمامة والذباب كما هي، ما زال الركود والهمود والجمود واليأس والتسليم يطوق كل شيء وكل حي، وشعرت بالنوبة تتحرك في أغوار البئر القديم وحجارة ثقيلة تسقط فيها تباعا وتلطم أمواجه، وتدافعت الأمواج ولكن البكاء امتنع، وعصفت الأعاصير ولكن الصرخات اصطدمت بالسدود من كل نوع وحجم وشكل، ونهضت ذاهلا زائغ العينين من مجلسي بعد وقت لا أستطيع تحديده وحضرت إلى البيت فكان ما كان وتفجر البركان. •••
هل كلمتك عن الورقة المطوية التي تركتها زهرة وسلمتها لي أختي؟ ها هي ذي، احتفظت بها مع بطاقتي وأوراقي الشخصية طوال ربع قرن أو يزيد. اقرأ بنفسك ما كتبته بخطها الذي يشبه النبش في التراب بأقدام الدجاج أو العصافير، أبلغوها بالزواج من التربي الذي كان يعرفه أبوها ورحب به طلبا للستر لأنه ميسور الرزق وسيكون زيتنا في دقيقنا، واستنجدت زهرة بالعالم السابح مع الأفلاك فلم يعلم بشيء إلا بعد أن دفنت بقايا لحمها المتفحم هناك في المقبرة القديمة وربما بالقرب من شجيرة الصبار، أقول المقبرة القديمة لأنني ذهبت أبحث عنها فقالوا إنها سويت بالأرض ونقلت العظام بأمر المجلس البلدي إلى المقبرة الجديدة وحلت محلها محطة بنزين ومجزر آلي وسوق كبير لبيع المواشي والأغنام، هل تغير شيء يا معلمي العزيز؟ أنت سلمت بأن شيئا لن يتغير فصرت إلى ما صرت إليه، وأنا سلمت بأن شيئا لم يتغير وصممت على الرجوع إلى المهجر واستئناف حياتي مع البحث في السماء، نعم، نعم، لا تخش شيئا علي، تلميذك الولد لا تعلم أن يقول نعم، وسيرجع حتما إلى الجذور ويوصي بدفن عظامه مع عظام أهله في التراب نفسه الذي انغرست فيه الجذور، طبعا طبعا، انصرف أنت الآن مطمئنا وطمئنهم علي.
وأرجوك أن توصيهم بفك قيودي فلا داعي الآن لهذه القيود.
فراشات
الأسئلة حول الجسد المهان
يبدو أنه كان يتابع ببصره طائرا شد الحنين جناحيه لاحتضان زرقة السماء، ربما كان عصفورا صغيرا نزقا، أو حمامة بيضاء طارت من برجها القائم على سطح منزل قريب، أو هدهدا وحيدا وبديع الألوان سبق أن رآه واقفا على حافة الإفريز الأعلى لدار الكتب العتيقة، عندما أقبلت شاحنة سوداء مسرعة كقبضة القدر من الناحية الأخرى ودوت الصدمة التي أخرست عقله وشقت سكاكينها طينة جسده وشجت من الخلف رأسه الذي نزف الدم على سالفيه وقميصه الكتاني الرخيص. انطرح الجسد القصير النحيل على رصيف الشارع بعد أن رفرف لحظة في الهواء كغراب مندفع في هبوطه إلى الأرض، وقبل أن يسقط الجسد في المجرى المخصص لشريطي الترام الذي تصادف زحفه من الشارع الضيق المزدحم نحو الميدان، امتدت يدا فاعل خير قفز على الفور فشده بعزم ما فيه ومدده على الرصيف وهو يبسمل ويحوقل ويسأل الله اللطف بعباده. صاحت فلاحة عجوز كانت تجلس على الرصيف المقابل أمام المشنة التي فرشت عليها حزم الجرجير وحبات الليمون: الحقوا الجدع يا أولاد. يا عيني عليك يا ضناي، وفزعت تجري نحو الجسد المصدوم حتى وقفت أمامه وأخذت تشق طريقها وسط الدائرة التي بدأت تتحلق حوله وهي تصرخ: يا كبد أمك يا بني! ربنا يكون في عونها
أولادك يا نن عيني، ربنا قادر يصبرهم ويصبر أمهم. وقبل أن تكمل عديدها أزاحها الرجل الذي عدله على الرصيف وهو يشخط فيها: وحدي الله يا ست، وحدوا الله يا جماعة واطلبوا الإسعاف. وقبل أن ينحني صاحب بذلة أنيقة عليه ليفحصه ويجس نبضه كان صاحب دكان الفول والطعمية على الناحية الأخرى ومعه جاره المصوراتي يجريان لأداء الواجب. قال صاحب البذلة الأنيقة وهو يعتدل ويواجه الدائرة التي تكاثفت حول المصاب: فات الأوان يا إخواننا، ادعوا له بالرحمة، من يعرفه يخبر أهله. هتف صبي يلبس نظارة: أنا أعرفه، ياما رأيته في قاعة المطالعة بالدار وتكلمت معه. وقاطعه ولد آخر يرتدي قميصا بنيا على بنطلون قصير ويمسك في يده ببعض الكتب والكراسات: كنا نسميه دودة الكتب. الجميع في الدار يعرفونه من سنين. بعضهم يسميه الشاعر والبعض يؤكد أنه مجنون وعلى نياته. ارتفع صوت وقور: بس يا ولد أنت وهو، وسعوا يا أولاد، الإسعاف في السكة، هل مع أحدكم جرنال لوجه الله؟ (هو الآن هادئ منكفئ على جرحه وصمته وتاريخه الخاص كتمثال حجري سقط على الأرض وبدأت تطمره الرمال، الجريدة اليومية تغطي رأسه ووجهه حتى جذعه وساقيه، والحذاء الأسود المستهلك مستكن ومعفر بتراب الرصيف. هل تتسرب الحروف السوداء إلى رأسه الشاحب المصفر وتلتقي بالحروف والكلمات والأسطر التي تدوم فيها كخلية النحل منذ سنين وسنين، أم خمدت وتراخت وانطفأت فيها الحياة وتناثرت الذكور والإناث والشغيلة مع ملكتهم كالأشلاء الممزقة على الساحة الهامدة لجيش مهزوم؟ هل فكر ساعة الصدمة في القبلة التي لم يمنحها لزوجته حين رآها في الصباح عارية على الفراش كالوردة العطشى لقطرة ندية؟ أم في طفله أو طفلته التي خطر له أن يوقظها قبل خروجه ليداعب وجنتيها ويضمها إلى صدره وهو يضحك ويغريها بالضحك؟ أم تراه لم يفكر إلا في الفصول المتبقية من الحكايات القديمة التي يقرؤها أو في القصيدة التي ما برح منذ أيام أو شهور يلم شتات أطرافها ويجمع بذورها المغمضة الجفون من رياح الجهات الأربع محاولا أن ينفخ فيها الحياة لتتنفس وتفتح عيونها وشفتيها؟ ها هو الجسد ملقى هناك، والرأس المثقوب غارق في بركة الدماء الحمراء-السوداء المغبرة بتراب الرصيف وغبار الشارع المزدحم في المدينة المتورمة بالضجيج والتلوث والأوجاع والأحقاد. أشياء كثيرة لم يقلها، مواعيد كثيرة أخلفها، وأسئلة جمة راحت تحوم كالفراشات حول الجسد المطروح المهان ...)
لاحت عربة الإسعاف من بعيد وهي تتخلل الشارع الضيق المكدس بالعربات والناس مثل سلحفاة ضخمة تشق طريقها في الأحراش، ويضيع صليل أجراسها وسط غابة من زعيق الأبواق ولغط الصياح والشتائم والضحكات المختلطة وجحيم الأغاني الجديدة الذي تسيل حممه من الكاسيتات وأجهزة البث المرئي والمسموع المسلطة على الخلق في المحلات والمقاهي والنوافذ الخشبية المفتوحة على وسعها، ولأن عربات الإسعاف قد عودت المصابين في الحوادث على الوصول بعد فوات الأوان، فقد ابتسم بعض الواقفين حول الجسد الملقى على الرصيف عندما تناهت إلى آذانهم أصوات الأجراس المتكسرة كولولة النائحات بعد خراب مالطة، ووقفت العربة أمام الحشد الذي اتسعت دائرته بمرور الوقت وظهرت فيه بذلة عسكري بشريطين كان قد أسرع إلى المكان إما لأداء الواجب لوجه الله، وإما لكتابة محضر بالواقعة يمكن أن يشهد على نشاطه ويقظته ، أو للسببين معا.
فتح باب العربة الأمامي رجل سمين واسع العينين بشكل ملحوظ وتبدو على وجهه الطيبة والأسى برغم التجهم الذي يكسو ملامحه، بينما لاحقته عبارات ساخطة ومتضجرة من السائق النحيل الذي برزت عظام وجهه الشاحب الضيق الجبهة والعينين: اعمل لك همة يا عبد الحق، صاحبك على لحم بطنه من الصبح. قال عبد الحق وهو ينظر إليه متبرما: أنت همك دائما على بطنك. يا أخي اتعظ مرة واحدة في العمر. واختنقت ضحكة السائق في الدوي الذي فجره إغلاق الباب بعنف لم يتوقعه من زميله.
وسع المتزاحمون موضع قدمين للرجل الذي ألقى نظرة خاطفة على الراقد تحت ورق جريدة الصباح واتجه إلى الباب الخلفي للعربة وسحب النقالة منه في هدوء. أسرع لمساعدته رجلان من أهل الخير وهما يقولان: عنك أنت يا ريس، حاسب على البالطو الأبيض.
ولكنه لم يتنح عن النقالة الطويلة الخضراء القماش ولم يحاسب على البالطو ولا على نفسه. قلب عينيه بين الواقفين حتى استقرت على العسكري المكرش الطويل القامة فسأله بسرعة وحسم: أي معلومات تفيد التحقيق يا شاويش؟ - طبعا يا سعادة البيك، صحيح أنا وصلت بعد الرجل ما توكل على الله، ولكن تحفظت على هذه الحقيبة ...
قاطعه عبد الحق وهو يمد ذراعه ليأخذ منه الحقيبة السوداء المتهالكة وقال في تصميم يدل على ضيقه بالثرثرة: اطلع معنا بسرعة وأكمل كلامك مع سعادة الضابط وسعادة وكيل النيابة. - لا أستطيع يا سعادة البيك، أنا عسكري مرور وعندي شغل، وحضرت ... - توكل على الله وروح شغلك، والمحفظة في الحفظ والصون وستوضع في الحرز مع باقي متعلقاته، المهم أن نسرع الآن.
خرج صوت لا يخلو من السخرية من وسط الزحام: ولا داعي للسرعة يا حضرة الباشحكيم، الرجل تعيش أنت والدكتور شافه من نصف ساعة وقال لنا البقية في حياتكم. - وأين الدكتور؟ تعال يا ... - لا تتعب نفسك، الرجل كان عابر سبيل كشف عليه الله يستره ولما لقي الحال على ما هو عليه راح لحاله.
تقدم عبد الحق وكشف الجرنال عن الوجه المحتقن الغارق في الدم والغياب، وعندما رفع رأسه وعدل قامته وبدأ يقلب بصره مرة أخرى بين الواقفين، تقدم منه رجل وقور تسبقه لحية كثة بيضاء وهو يمد ذراعه اليمنى نحوه: الحقيبة السوداء وجدها الإخوة بجوار المرحوم وسلموها للعسكري أمانة حتى تأخذها الحكومة. - ألم يستدل منها يا حاج على الاسم أو العنوان أو ال... - أستغفر الله يا بني، هذا شغل الميري، فتشوا أنتم فيها بمعرفتكم وربنا يوفقكم.
هتف أحد الواقفين ومد رأسه الصغير المحترق بوهج شمس اليوم القائظ التي كانت تميل للغروب دون أن تخف حرارتها: أنا لمحت الرجل وهو ينزل من على سلالم الدار ...
قاطعه التومرجي متعجلا: تقصد داره؟ - لا لا، دار الكتب (وأشار ناحية الدار العريقة المتلفعة بعباءة القدم والغارقة في روائح الكهوف المعبأة بذكريات التاريخ) ثم رأيته وهو يسقط على الأرض بعد أن ضربته الشاحنة لعنة الله عليها وعلى ... - طيب طيب، تحب أن تأتي معنا. - اعفني الله يسترك، عندك بواب الدار اسأله بنفسك.
وظهر البواب النوبي المستطيل الوجه العجوز الملامح وتطوع بالإدلاء بما يعرفه فقال بلهجته السريعة المحببة: نحن نعرفه يا حضرة الحكيم ولا نعرفه، رجل طيب، الله يرحمه، ولا يفوته السلام أبدا علي وعلى زملائي، ولكنه ليس موظفا في الدار، طبعا أنا أعرف كل الموظفين.
صاح الصبي الذي يضع النظارة على عينيه: نحن نقابله في الدار كل يوم على الله، يظهر أنه ... (وأشار إلى دماغه دون أن يضحك أو يتجرأ أحد على الضحك).
قاطعه الصبي الآخر في غضب: لا تصدقه يا حضرة التومرجي، إنه كذاب.
احتج الصبي الأول فأسكته متسائلا: وما هو الصدق في نظرك؟
اندفع الصبي قائلا: قلت لك إننا نراه كل يوم في الدار، الجميع أيضا يعرفونه؛ يقرأ ويكتب في مكان لا يغيره من القاعة ولا يشغله أحد غيره، يظهر أنه شاعر أو ربما ...
قال عبد الحق وهو يتأمل الجسد الناحل والرأس الكبير المشعث الشعر وجانب الوجه الذي تجمدت عليه خيوط الدم المتخسر المغبر بالتراب: ربنا هو الأعلم بعبيده، والحكومة أيضا لا يفوتها شيء، نفسكم معنا يا رجالة . (من أنت أيها المسجى هناك وهم ينحنون عليك الآن ليضعوك على النقالة؟ رجلا تبدو في الأربعين أو الخمسين من عمره. تتسرب أسرار جسده وأفراحه وأحزانه وخطاياه في جسد الأرض، هل تسربت قبل ذلك في قصيدة أو قصة أو كتاب؟ إلى عقل أحد أو قلمه؟ أم احتواها قمقم الصمت وطوقتها أسوار الإهمال؟ مثل برق يمر، مثل صوت المطر، لمع السر لحظة في راحتك فتشنجت تقبض عليه، ثم هوى إلى أطرافك، وابتل شخصك الذاهل عنك وعن العالم بماء الحقيقة. انشقت الروح وشقت قشرتها، وبرز الفتى الحائر والكهل الضائع الذي جلد نفسه وجسده بالتواضع والخجل والانكسار والتردد. أتراه أكمل الآن دورته وأمسك في راحته المتجمعة بوردة الكمال، وردة الموت الذي اختاره ولم يختره؟ أهو يتلفع الآن بالضوء والظل أم ببرودة السكينة والصبر والهزيمة التي نسجتها سنوات عمره العجاف؟ بعيد أنت جدا وقريب - ما أبعد الواقفين حولك بالرغم من قربهم منك - وسرك سيدخل معك إلى وحشة قبرك ليؤنسك كما كانت زوجات الملوك القدماء وخليلاتهم يدخلن معهم في صحبة حراسهم المقربين، ولن نعرف أبدا إن كنت سعيدا بامتلاك السر أم حزينا لأنك فشلت في التعبير عنه بكلمات تغلفه وتبقى لنا ولأولادنا وأحفادنا، لكنك صامت هنا وهناك، مزموم الراحتين والشفتين على سرك، منطفئ ومحروم حتى من الدهشة التي انغلقت عليها أبواب جفنيك، وأبدا أبدا لن نسمع نبض فؤادك أو همسة شفتيك بعد رجوعك من رحلة الوهم والحلم إلى الشاطئ الأخير، أبدا لن تستطيع العبارة أن تغري كآبتك الأزلية بالبوح، لن تخترق قناعك الحديدي سهام العيون الجميلة، ولن يهزك حتى السؤال عنك من الأحباب الهاجرين والغادرين، ربما لأن أسئلة أخرى تباغتك، ولأن لهيبا آخر يتسعر الآن في جوفك، سوالفك اشتعلت بالشيب. رأسك وصدرك يلطخهما وشم دمك القاني المسود، ماذا ترجي الآن؟ ماذا تنتظر؟ وهل يمكن أن تشتعل من رماد انطفائك وردة لزمان بهي، لزمان جميل طالما انتظرته وربما عبرت عنه أو فشلت؟)
وضعوه داخل العربة كأنهم يقذفونه في نفق باهت مظلم السقف والجدران لم تزره أشعة الشمس أبدا ، شكر التومرجي عبد الحق أهل الخير الذين ساعدوه على حمل الجثمان وعزاهم نيابة عن المجهول الذي غطاه بمشمع أصفر كبير وتمتم بقراءة الفاتحة عليه، وبعد أن أغلق الباب بالمفتاح تطلع إلى الواجهة السامقة المخططة باللونين الأحمر والأصفر اللذين يتذكرهما جيدا كما تتذكر قدماه الدرجات العريضة للسلم العالي الذي طالما تقطعت أنفاسه من الصعود عليها في سنوات فتوته وشبابه الأولى. كانت أشعة الشمس الغاربة ترسم وشمها الذهبي الهش على جدران الدار وتعكس مراياها الآفلة على وجوه المتفرجين الذين بدءوا في الانصراف كل إلى حال سبيله. قال لنفسه وهو يتحسس الباب ويتأكد من إحكام غلقه: شاعر؟ وأمام دار الكتب؟ ما أشبه اليوم بالبارحة. ثم استدار متجها إلى الباب الأمامي ليجلس إلى جوار السائق الثرثار، بينما الخواطر والذكريات تفتح أشرعتها وتمخر به بحر الزمن الذي تتلاطم أمواجه ولا تتشابه أبدا، وعاد ينظر إلى واجهة الدار التي جلس أمامها البوابون النوبيون الذين كان يعرفهم جيدا، أو أولادهم الذين ورثوا عنهم الطيبة والنقاء والصدق الذي ربما كانوا آخر شهوده وشواهده: ها هي الأيام والسنوات تمر وكل شيء يتغير فيك ولا يتغير، ويموت شاعر تربى في بطون كتبك وداسته العجلات أمام أبوابك وكل شيء هو كل شيء ولا شيء؛ الزحام هو الزحام، والضجيج هو الضجيج، والقبح هو القبح وإن كان يزداد دمامة ويكتسي بألوان البؤس والبلادة والسأم والتعاسة، وكل شيء لا يحس بك أيها الشاعر ولا شيء، العصافير تطير كعادتها، والشمس تشرق وتغيب كما فعلت بلايين السنين، الفقراء يغطسون في بحار الفقر والأغنياء يتباهون بثرائهم المستفز وقصورهم ومستعمراتهم المسورة وعرباتهم الخنزيرة والشبح وما لا أدري من أسماء، والشعراء الشعراء يغتالون خفية أو علنا أو ينفون عن أوطانهم أو يسقطون صرعى الطغاة أو الشاحنات، وأنت مطروح في هذه العربة ولا أدري إن كان أحد قد سمع عنك. - يا عم عبد الحق، هل سنقضي الليلة هنا؟
فاجأه الصوت فدلف إلى مقعده والتفت إلى صالح الذي كان يأكل بشراهة سندوتشا تفوح منه رائحة الفول. قال وهو يضحك: همك على بطنك وحظك من السماء أيضا؟ ضحك صالح دون أن يخطر على باله الميت المسجى وراء ظهره: صاحب المطعم رجل كله ذوق، يبدو أنه سمعني وأنا أقول لك إنني من صباح ربنا على لحم بطني فأحضر أربع سندوتشات. رحمة ونور على المرحوم، مد يدك باسم الله. - لا أريد، دعني في حالي. - يا رجل سل نفسك، كلنا لها.
سكت عبد الحق ولم يمد يده فقال له ضاحكا وهو يقضم السندوتش الباقي: إذن أسليك بطريقتي.
قال وهو شارد الفكر: وما هي يا شيخ الطرق؟
جلجلت ضحكة صالح وقال: السياسة والكرة، هل عندك غيرهما؟ والنسوان.
قال عبد الحق ولا تنس الجريمة أيضا. هل قرأت اليوم عن الولد الذي ذبح أمه؟
أسرع صالح قائلا: والمرأة التي أكلت ذراع زوجها، والتي عملت منه كفتة بالساطور، الحكاية يا صاحبي وصلت للسيما.
قال عبد الحق كأنما يحدث نفسه: خذ بالك من السكة، أمامك مزلقان وكوبري علوي. ثم وهو يلتفت وراءه وينظر من خلال الزجاج المعتم إلى داخل العربة: ونسيت الشاعر الذي معنا؟ المسكين الذي لطشته الشاحنة؟
قال صالح ولم يستطع أن يكتم ضحكته المتفجرة: حظه ونصيبه، بدل ما يموت من التعذيب أو ينتحر فداء ليلى. (هل خرجت من قبو الحروف والكلمات المهجور ودخلت النفق المظلم الذي ربما يفضي إلى النور؟ أبلغت الآن مدن الحب والحلم التي طالما اشتقت للحياة فيها؟ وهل استقبلك على أبوابها المنقذ فوق جواده الأبيض وشاهدت سيفه الأبيض وزمردة الحق الضائع التي تسطع على مقبضه؟ وأخيرا هل ذقت خبز العدل وتفيأت ظلال السلام وتوحدت بنور الحق والجمال والنظام وحدائق الحسن والمعنى والانسجام؟ كم تسللت من هذا القبو - ومعك قصائدك وقصصك الموءودة في رحم الشوق والحسرة والانتظار - وتجولت في مدن القبح وعاينت جيوش الفقر وجراده الذي أطلقه على حقولنا الملوك والطغاة والسلاطين من كل العصور، خرجت شاهرا شعرك وحبك وحزنك وإصرارك على أسنة رماح قصائدك في وجه الدمامة والحقارة والظلم والنذالة، وذرفت الدمع العاجز على طفل وطفلة يبحثان عن الفتات في أكوام القمامة، وعجوز يفتش في الأعين عن أمل يسند عليه شيخوخته، وبقيت الطفل العجوز الذي يتجول مع أحزانه في شوارع وحدائق مدن الأحلام، وينتظر وينتظر ويسقط كل يوم في حفر الخراب والفساد والغدر واللؤم، وتجرحه الشظايا المتطايرة من مرايا السراب والوهم. أتراك وصلت الآن إلى المدن التي صنع الله بهجتها، وأجرى ماءها وأنبت فيها شجر الحب ونخيله وأزهاره، أم ما زلت تسير على الأشواك وترتطم بالقذارة والحقارة، وتزكم أنفك عفونة الجثث الفاسدة المفسدة التي تزحم المدن وتعوي فيها مسعورة وأنت تسأل نفسك: كيف يترك هؤلاء الموتى بغير قبور ولا أسوار؟ هل رأيت الآن ذلك الذي شعرت في خلواتك أنه سيقتلك ذات يوم؟ وهل انكشف لك السر الذي لم تفهم أبدا أنه على الدوام - كما يدل اسمه - مخبوء ومكشوف. ها أنت ملقى كالحجر ومنكفئ كالقنفذ الجريح داخل جسدك المهان، من يدري إن كنت سترجع أبدا لتحكي لنا عن مدن الحب والحلم والعدل التي نحن لها ونسافر في كل لحظة إليها؟ آه، ماتت اللغة والقصيدة ماتت معك ولن تستطيع أن تعبر عن دهشتك ودهشتنا العاجزة البائسة، منفرد أنت الآن في صحراء صمتك، ترف حولك فراشات الأسئلة وأجنحة المدن التي عرفتها بالقلب وعرفتك بالذكرى والدموع ...)
كانت أطياف الغروب قد بدأت تنفض عنها أطراف الغلالة الشاحبة للشمس التي توارى عرشها الذهبي وراء المباني العالية والمآذن السامقة وأشجار النخيل والكافور والجزورين المتناثرة على الطريق المؤدي إلى المستشفى الكبير. ارتفعت دقات الأجراس لتنبيه الحراس، فانفتحت البوابة الحديدية الضخمة بينما حاول البواب والشرطي الواقفان أمامها أن يوقفا السائق قبل أن يتجها إلى قاعة الاستقبال، كبح صالح فرامل العربة وهو يتأفف ويبرطم وتأهب عبد الحق للاستماع لما عندهما من أخبار جعلتهما يلهثان جريا وراء العربة.
قال البواب: حاسب أنت وهوه، الدنيا مقلوبة.
صاح السائق متبرما: طول عمرها مقلوبة، فيه إيه؟
مال الشرطي السمين بفمه على أذن عبد الحق وهمس فيها: المستشفى كلها على رجل، خلية نحل تشغي بالعساكر والضباط والبكوات الكبار. سألت عينا عبد الحق الناعستان وخرج صوته من الغيبوبة التي احتوته : خير كفى الله الشر؟
كتم الشرطي ضحكته وقال: هي الحوادث بذمتك وراءها خير؟ ابن مسئول كبير يا سيدي ...
سأل عبد الحق بعد أن ألقى نظرة تائهة على الزحام المتدافع أمام أبواب الاستقبال والطوارئ: خير إن شاء الله.
قال الشرطي بعد أن تلفت حوله في حذر: ابن وزير مهم يا سيدي، حادثة تصادم كانت ستقضي عليه هو والذين معه.
دعا عبد الحق ببراءة: ربنا يسلم وينجيه هو وأصحابه.
أطلق الشرطي ضحكته التي طال حبسها: قل هو وصاحباته، قادر ينجي الجميع، المهم تقف من بعيد ولا تدخل الآن.
سأل صالح متبرما: والمسكين الذي معنا؟ يعفن يا شاويش؟
قال الشرطي لأمن البوابة الذي لحق به على كلامه: نصيحة لوجه الله، تقف على جنب حتى ينفض المولد أو تدخل الحالة من سكات وتقف في ركن بعيد.
صفق السائق بيديه وهو يقول: يا مستعجل عطلك الله.
أردف البواب: احمد ربك يا صالح، من بختكم والله.
استنكر صالح وأيده عبد الحق بهزة من رأسه: العطلة من بختنا؟ يعنى أروح كل يوم لأولادي على أذان الفجر؟
قال الشرطي مازحا: قال لك احمد ربك، بدل الدوخة على المحضر والسؤال على العقيد والعميد ووكيل النيابة قدامك نقطة الشرطة بحالها ومديرية الأمن كلها.
حرك صالح الموتور فقال البواب مبتعدا عن زجاج النافذة: المهم تنتظر لغاية ما الميري يروح لحاله.
قال عبد الحق مواسيا زميله وملطفا من الموقف: متشكرين يا جماعة، الأمر أمره وربك يطمئن القلوب، توكل على الله يا صالح. (وأنت الآن داخل النقالة ملقى في الركن المنزوي البعيد، الكل مشغول عنك وأنت أيضا في شغل عن الجميع، كما في الحياة كذلك في الموت، لا أحد يسأل عنك أو يكترث بك، ودائما تتشبث في العاصفة بمجاديف الصبر والصمت والاستغناء، مسجى هناك متحد مع جسدك ملموم كالحجر، مغمض العينين مسود الجبين مربد الملامح متفحم الطاقة والعزم والطموح والأمل، أتراك تضحك في داخلك أم تبكي؟ وهل كافأك الله على ضحكك أو على بكائك بتحقيق الحلم الذي راودك طوال العمر؟ لعله قد أنبت في كتفيك أجنحة الفرح النبوي وندى عشب المحبة في حدائق قلبك وأخرجك من كهوف النار والصقيع ومن غرف الحروف الرمادية وأطعمك من مسراته وأنواره، بل لعله قد أرسل إليك براقا صغيرا يليق برجل صغير مثلك وانطلق بك صوب سموات لم يحلق فيها خيالك ودرت معه في مدارات مجهولة وبين نجوم وشهب لم تحرقك وجبت أعلى السموات وصافحت ملائكة الله وأخذت مكانك خلف صفوف الحكماء والشعراء والملهمين الذين حاولت أن تصحبهم على الأرض وطردوك من نواديهم غاضبين؟ ها هو سبحانه قد أمر بأن ترتدي غيمة زبرجدية خضراء وأن تشاهد ما لم تر عين أو يحس قلب أو يعبر عنه لسان، وربما أوصلك عبر غيبوبة الصحو وأسلمك إلى شجرة الملأ الأعلى لتلمس الأوراق وتشم العطور وتعاين الألوان وتقطف الثمرات التي لم تذقها في حياتك؟ أم تراك الآن واقف بين الضحك والبكاء، يلفك غبار الكلمات الخرساء وتسقط من راحتيك العبارات البكماء، وتميد بروحك المذهولة المرتعدة تلك الدهشة التي كانت قدرك، وهي الآن تتلفع وجهك الشاحب الغريب وتنصت معك إلى المرثيات التي تترنم بها النجوم والرياح وزهور الأفق الزرقاء المبللة بدموعك أو بندى الفجر الجديد؟ قل لي أيها المسجى هناك: أأنت الآن الميت الحي أم ما زلت الحي الميت المهان في الجسد والروح؟)
طال انتظارهما بجوار النقالة والجثمان الهامد في القاعة الكبيرة المصفرة الأضواء. الأقدام تجري وتتدافع داخلة إلى غرفة العمليات وخارجة منها. ممرضون يجرون المحفات البيضاء وممرضات يحملن الأنابيب والدوارق والأجهزة التي تتدلى منها الخراطيم، وعساكر وضباط من كل الرتب يغدون ويروحون ويذهبون ويأتون.
ظهر مسئول كبير تبدو على وجهه المحمر المحتقن علامات الجزع والاضطراب والمهابة، يحيط به ويمشي وراءه عدد كبير من الأطباء النواب والامتياز وأكبرهم يحاول أن يطمئن المسئول ويرد على أسئلته الملهوفة. حاول عبد الحق أن يكلم أحد النواب الذين يعرفونه فصاح به: بعدين، بعدين.
ورجع إلى مكانه ليستند إلى النقالة المهجورة وهو يتشبث بالحقيبة السوداء كأنها حرز الأحراز أو كنز الكنوز. لم يكن قلقا ولا ملهوفا على شيء، فكم رأى وجرب في حياته الطويلة حتى لم تعد ترتسم على ملامح وجهه ولا تحرك قلبه علامات الدهشة أو الاستغراب.
واستطاع أخيرا أن يعثر على كرسي جلس عليه وهو يتمتم بأن يلطف الله بالعباد.
أما صالح فلم يطق الصبر وانفلت مسرعا إلى نقطة الشرطة الملحقة بقسم الحوادث والطوارئ، وتمكن بعد جهد من اختراق الزحام والوصول إلى الشاويش علام الذي يعرفه حق المعرفة وكم أكل معه العيش والملح في الأيام والليالي السابقة. أفهمه علام أن عليه الانتظار لأن الموضوع كبير والبهوات مشغولون. أفهمه كذلك أنهم ينتظرون مثله انصراف المسئول الخطير والاطمئنان على المصابين وأسر في أذنه بأسرار مهمة سرعان ما فقدت - ككل الأسرار في بلادنا - سريتها ولم تنعم بدفء الكتمان لحظات، ثم طمأنه في النهاية أن البيك العقيد ومعه البيك وكيل النيابة لن يكون لديهما وقت ولا جهد لإطالة التحقيق وسيخلصان المحضر بأسرع مما يتصور، ثم ابتسم مداعبا: هذا إن بقي لديهما وقت كاف ولم يؤجلا موضوعكم للصباح رباح.
رجع صالح يجر جسده النحيل الطويل جرا إلى زميله عبد الحق الذي يبدو أن النعاس غلب جفنيه وخلايا مخه فصدر عنه شخير خفيف. أيقظه من غفلته وهو يهتف به: يا بختك يا أخي، ويجيئك نوم وسط الزلزال؟
فتح عبد الحق عينيه المحمرتين وسأله دون أن يزايله الهدوء الذي عرفه عنه: وماذا فعلت أنت أيها الهمام وسط حقول الألغام؟ - عرفت كل شيء، هل فيك من يحفظ السر؟
ضحك عبد الحق ثم وضع كفه على فمه وهو يحس بالذنب الشديد: لم يبق سرا بعد أن وصل إلى طرف لسانك.
قال صالح متخذا سمت العارف ببواطن الأمور: الموضوع كبير وخطير، آخرة التسيب والفوضى وبعزقة المال بغير حساب.
سكت عبد الحق فاستطرد: ابن الوزير كسر له ضلعان وجاءه ارتجاج في المخ، أما البنتان ... - هل كان معه أحد؟ - طبعا طبعا، شباب هذه الأيام، الكاسيت العالي والشرب والمسخرة والاستفزاز، كان لا بد أن يحدث ما حدث. - وما للناس وما لهم؟ - يا أخي افهم، قلت لك استفزوا الناس بالمسخرة والضوضاء ، كانوا في الهرم بالقرب من مزرعة خضار فخرج عليهم الفلاحون بالنبابيت، والنتيجة ما سمعته الآن؛ الابن ربك هو العالم بحاله والبنتان واحدة كسر في العمود الفقري والأخرى كدمات في الوجه والصدر ونزيف حاد بين الفخذين. - ربنا يلطف بعبيده. - هذا هو كل ما عندك؟ - ماذا تقصد يا صالح؟ - هذه هي الحوادث وإلا فلا، لو كان من حظنا أن نسعفهم لكان الحال غير الحال. - يا أخي ارض بنصيبك واحمد الله. - له الحمد في كل الأحوال، لكن هل يرضى الأولاد؟ أحمد ابني يريد الجينز الأمريكاني وفاطمة مصرة على الجزمة البوت ماركة أديداس، وحسين، على فكرة، هل سيسأل أحد عن صاحبنا؟
قال عبد الحق في ضيق لم يستطع أن يخفيه: وماذا يهمك أنت؟ الله ورسوله أعلم.
أشار صالح بيده في سخط وأسند ظهره إلى الحائط وهو ينظر في غيظ إلى زميله وإلى الراقد تحت المفرش الأصفر ثم قال وهو ينغم صوته ويردد أغنية محفوظة: مفقود يا ولدي مفقووود. (وأنت في الحق مفقود في نظر الحياة والأحياء لا في نظر السائق وحده، لم يعرفك أحد ولم يحاول أحد أن يعرفك، لكن من ينكر أنك بالموت تكتمل الآن وتصبح مؤهلا للبهاء أو للفناء؟ وبعد أن تسلمتك الأيدي الخفية ووضعت على رأسك تاج العدم الخالد، هل تنداح من حدقتك النعسانة الحدائق والمرايا والقباب الذهبية لمدائن الغد المأمول والمستحيل، أم تراك تتدحرج كعادتك في آبار الشجون وأغوار السجون وأنهار الجنون التي تسحبك إلى قاع الحزن الأبدي أو الأبد المحزون؟
بالموت وبالصمت تكتمل الآن، تعرف أنك جئت منه ووصلت إليه، أن البداية والنهاية تتحدان فيه، أنه هو الذي كان وهو الذي سيبقى ويكون، الصمت أنت الآن والوحدة والكمد، والأرض نفسها مهجورة بلا سند، والحب لما لم يجد مكانا في صحارى القلب طار وابتعد، وحين ساد الجوع للحنان والأمان واستشرى الظلام واستبد، لم يبق غير القحط والبدد، لا شيء غير الموت غير الصمت لا أحد.)
كانا قد استسلما لسلطان النوم كالخيول المجهدة التي تنعس وهي واقفة، وقبل أن يوغل الليل إلى منتصفه بقليل دوى على بلاط القاعة الساكنة الشاحبة الأضواء كعب الحذاء الميري للشاويش علام الذي اقترب منهما لاهث الأنفاس دون أن يوقظهما، لم يكن لديه وقت ولهذا مد يده وهز كتفي عبد الحق هزة شديدة ففتح عينيه وعرف وجه الشاويش وابتسم بصعوبة كأنه يغتفر له حركته المفاجئة من عشمه فيه: خير إن شاء الله يا علام. - أنتم فين؟ الدنيا مقلوبة عليك وأنت ولا هنا. - سعادة البيك العقيد سأل عني؟ - العقيد تعب وروح بيته، لكن النقيب حازم الله يستره ولأجل خاطرك. - شاب طيب وابن حلال، عمري ما قصدته في شيء ... - وهو منتظر ويريد أن ينصرف، اعمل لك همة، وتعال بسرعة لإتمام المحضر، ولا تنس الحرز والذي منه.
فتش عبد الحق عن الحقيبة السوداء التي كانت قد انزلقت من على حجره واستقرت تحت الكرسي، قبل أن يسوي شعره وملابسه سمع الشاويش يوبخ صالح على نومه وإهماله: وأنت يا حضرة، لو كنت في الجيش أو البوليس كنا علمناك النظام. - حصل خير يا شاويش علام، كفى الله الشر.
ضحك الشاويش برغم تعجله ولهفته قائلا: الاسم إسعاف وأنت محتاج لمن يسعفك، التليفونات هوستنا وأنت ولا هنا، تفضل العنوان، بسرعة على الزمالك.
قاطعه صالح هاتفا: الزمالك مرة واحدة؟
قال الشاويش: يالله شد حيلك، ولد وقع من البلكونة والحادث غامض.
قال صالح ولم يخف فرحته: غامض ولا واضح، المهم أنه في الزمالك، والله وفرجت يا أولاد ... خليك أنت يا عبد الحق مع الشعر والفقر، تركتكم بعافية، على فكرة يا شاويش ...
برطم علام كأنه ينخس حمارا بليدا: قلت لك يالله الولد زمانه غرقان في دمه.
قال صالح وهو يتهيأ للانصراف: يا ترى ابن الوزير و...
رد علام شاخطا فيه: كلهم في الجبس والحمد لله، يالله تحرك يا أخي.
جرى صالح مسرعا نحو الباب كغراب جائع يستعد للهبوط على صيده، بينما مشى عبد الحق إلى جانب الشاويش وشفتاه تتمتمان وتستغفران الله من كل ذنب عظيم. كانت يده تمسك بالحقيبة السوداء المنتفخة التي أصابها الجرب وتهرأت أطرافها وهو يسندها إلى صدره كأنه يحتضن طفلا محموما تورمت خدوده وبرزت عظام وجهه وضلوعه، بينما وردت عليه أثناء عبوره للقاعة الفسيحة إلى الممشى الطويل الناصع البياض لمحة من الحلم الذي طاف به للحظات لا يدري هل طالت أم قصرت. تراءت له طرقات الجبانة الكبيرة وشوارعها الضيقة ومقابرها الداكنة المتشابهة كالمتاهة التي راح يبحث فيها عن قبر جديد لم ينشف الأسمنت الطري الذي سد فوهته ولم يوضع عليه اسم ولا تاريخ ولا فرع صبار ولا ورقة خضراء واحدة. خيل إليه من التعب والدوخة أنه عثر على القبر الطازج وأسند عليه رأسه المتعب وراح يسأل ساكنه الجديد عن اسمه وعنوانه وهويته وصنعته، والأغرب من ذلك أن الميت رد عليه وأفهمه أنه شاعر يبحث عن نفسه التائهة في المدينة الضخمة التي لا تقل رعبا عن مدينة الموتى التي كلت قدماه من السعي بين أضرحتها وقبابها وشواهدها الصامتة، ويبدو أنه كان على وشك أن يتذكر بقية الحوار بينه وبين الشاعر الضائع المجهول حين تنبه إلى أنه قد وصل بالفعل مع صديقه الشاويش علام إلى الباب الذي سيدخلان منه على النقيب.
وجد نفسه مباشرة أمام وجه مشرق بالرضا والابتسامة العريضة بالرغم من آثار الإرهاق البادي عليه. هتف وهو يمد ذراعه مرحبا: قربنا من نصف الليل يا عم عبد الحق، تفضل اقعد.
قال التومرجي وهو يطرق برأسه معتذرا: العفو يا حازم بك، أستغفر الله يا سيادة النقيب.
هتف به النقيب: دائما مثل البلسم على الجرح، قلت لك ألف مرة ناد باسمي فقط، ألست واحدا من أولادك؟ - ربنا العالم بالقلوب، وأعز والله. - تأخرنا عليك يا عم عبد الحق والعقيد استأذن من شدة تعبه. - الله يكون في عونكم يا حازم بك، كنتم مشغولين على الآخر. - ياه، كان مولد وانفضت زفة العريس والعروسين، تصور، عريس وعروسين مرة واحدة، المهم ربك سترها. ابن المسئول الكبير نجا بمعجزة، شفت آخرة الفجر وعدم الانضباط؟ خل الحكومة تندم على تدليلها للأغنياء وأولاد الأغنياء، المهم ندخل في الموضوع، ما هي آخر أخبار المصاب؟ - المصاب بعيد عنكم مات في ساعتها. لما وصلنا كان السر الإلهي خرج منه، صدمة شديدة في المخيخ كما قال الدكتور نبيل. - هل كشف عليه بنفسه؟ والله كتر خيره، مع أنه كان معنا طول الوقت في الدوامة، وأين حدث هذا؟ - أمام دار الكتب، عشرة أمتار فقط من سلالمها العالية، كان المسكين يريد أن يلحق بالترام القادم من شارع محمد علي فصدمته شاحنة فاجأته كالصاعقة، الظاهر أنه ...
كان النقيب حازم يدون بعض الملاحظات في دفتر أمامه ليثبت الحالة ويتمم المحضر.
ولأن الكاتب ووكيل النيابة كانا غائبين بعد ذلك اليوم المرهق، فقد وجد نفسه مضطرا لتسجيل كل شيء بنفسه. رفع رأسه بعد قليل وسأل عبد الحق الذي غمر وجهه الأبيض العريض ضوء ناصع ينبعث من نور داخلي خفي: قلت الظاهر أنه ... - نعم، نعم، الظاهر أن خياله سرح من كثرة ما قرأ في الدار. - ولماذا لا تقول إنه موظف فيها؟ - لا لا. البواب بنفسه أكد أنه يتردد عليها من سنوات ليقرأ فيها، بل أكد لي صبيان أنهما يعرفانه أيضا بالمكان المحدد الذي يشغله دائما في قاعة المطالعة، على فكرة ...
تساءل حازم وقد غلبه الشوق لمعرفة الحكاية وأنساه لهفته على الانصراف: نعم يا عم عبد الحق؟ - أحدهما قال إنهم يسمونه الشاعر، والآخر قال عنده لطف.
ضحك حازم رغما عنه وقال: والشعراء في كل واد ... ما المانع أن يكون الاثنين في وقت واحد؟
قال عبد الحق وهو يمد ذراعه إلى النقيب ويسلمه المحفظة السوداء التي ظلت طول الوقت راقدة على ركبته كقطة سوداء ميتة: من يدري يا سعادة النقيب؟ ربما تكشف هذه الحقيبة التي وجدناها ...
أمسك حازم بالحقيبة وقلبها بين كفيه وطافت على وجهه ظلال حزن غامض عندما أحس أن كل ما فيها ورق في ورق، نظر لوجه عبد الحق وقال: قبل فتحها وفحص محتوياتها، ألم تجد في جيوبه شيئا يدل على شخصيته؟ - طبعا قمت بالفحص الأولي، لم أجد أي شيء مفيد. - لا بطاقة ولا إيصال؟ من أي نوع لا يهم، إيجار، نور، سداد مبلغ مالي، أي شيء يمكن ... - للأسف يا حازم يا بني، منديل جيب رخيص، بضعة قروش وورقة قديمة من ذات الخمسين قرشا، وتذكرة الترام الذي ركبه في الصباح. - من أين؟ ربما تهدي إلى سكنه أو حتى الحي الذي ركب منه. - يظهر أن حضرتك لم تركب المواصلات من سنين، التذاكر لا يوجد عليها إلا السعر والرقم المسلسل، ثم كيف نهتدي إلى ...
وضع حازم القلم على المكتب وحاول أن يخرج ضحكة تخفف حيرته ثم قال وهو ينظر في ساعة يده: والعمل الآن؟ أغثنا، أدركنا يا عم عبده. - ليس أمامنا إلا فتح الحقيبة، ربما ... - وماذا تنتظر؟ هيا بسرعة، تشرب فنجان قهوة.
اقترب الشاويش علام الذي كان يقف زنهارا على الباب من النقيب عندما سمع كلمة القهوة وأسر في أذنه أن البوفيه شطب مبكرا هذه الليلة، فصاح الضابط الشاب من ضيقه: مفهوم، مفهوم، كل الأبواب مسدودة، لم يبق إلا أن تسرع بفحص الحقيبة قبل أن نقع من طولنا، تفضل يا عم عبد الحق، على مهلك. - كلها أوراق، هل نفحصها واحدة واحدة؟ - المهم نعثر على شيء يفيد في تحديد شخصية الرجل، وإلا اضطررنا لتحويله كما تعلم ... - لا داعي أبدا، الدكتور نبيل لم يجد ضرورة لتشريحه، كما أن مستشفى الجامعة لا يحتاج في الإجازة، المهم.
أخذ التومرجي يفرغ ما في الحقيبة وعلامات التعجب ترتسم على وجهه وتزحف على جبينه المتغضن وتسحب التمتمات من بين شفتيه فلا تلبث أن يسمع حفيفها شيئا فشيئا: لا حول ولا قوة إلا بالله، أوراق من كل الأحجام والألوان والأشكال صغيرة وكبيرة، بيضاء وحمراء وزرقاء، وملاحظات وخطوط من كل الأنواع نسخ ورقعة وكوفي، ما هذا؟ أشعار أيضا؟ يظهر أنها مختارات من المتنبي والمعري و...
قاطعه حازم مغتصبا ضحكة قصيرة: هل قلت المعري؟
لم يتركه يكمل دعابته فاستطرد: أجل أجل. أبو العلاء المعري، صاحب اللزوميات ورهين المحبسين. - مفهوم مفهوم. - وقيس بن ذريح، أقصد مجنون ليلى، حتى شوقي وناجي و...
تدخل حازم: يمكنك أن تقرأها فيما بعد - ثم وهو يتفرس وجهه بحب وشوق - هل كنت شاعرا يا عم عبده؟
قال عبد الحق وهو يرفع رأسه ويهزها في أسف: كنت وأفلست، ياما قرأت وحفظت، ياما كتبت أغنيات للإذاعة ولم يرد علي أحد، أقصد بالعامية، هل تعلم أنني عرضتها يوما على بيرم فنظر فيها قليلا وربت على كتفي قائلا: رح يا بني شف لك شغلة تنفع الناس. ثم أعطاني ظهره المنحني قليلا وضغط على حزمة الأوراق التي لا تفارق إبطه. - يعني قابلت بيرم نفسه؟ صاحب الأوله آه وغنى لي ... - نعم نعم، وفي مرة أخرى قال لي: رح يا بني وتزوج، المهم تبعد عن الشعر ويبعد عنك. - لا بد أنك كنت مدمنا على دار الكتب. - وعلى المكتبات القديمة في الأزهر والحسين، بعدها قررت أن أسعف الناس ما دمت لا أستطيع أن أسعف نفسي. - وتعلمت التمريض وصرت أعظم وأشهر ... - أستغفر الله، ولم أنقطع مع ذلك عن القراءة، على الأقل لمساعدة الأولاد في دروسهم. - المهم أنك ما زلت تعيش الشعر بدلا من أن تقوله، الطيبة والكمال وحب الناس يا عم عبده، أكمل أكمل.
رجع عبد الحق الفحص الأوراق والدهشة تطل من عينيه في كل لحظة دون أن تفصح عن نفسها بكلمة، كان يعلم أن الوقت ضيق والنقيب مرهق ومتعجل؛ ولذلك راح يقول كأنه يقرأ من لوح مسطور أمامه: ومذكرات، ربما كان يكتب مذكرات أيضا، لكنها مبتورة كقطع فخار مهشمة وليس فيها شيء محدد يدل على شخص محدد، ما هذا؟ - هل وجدت شيئا يا عبد الحق؟ - أوراق مطبوعة، بروفات، لا بد أنها بروفات كتب تحت الطبع، انتظر، العنوان موجود أيضا، وبعض الملازم تم تصحيحه وشكله، بدائع الزهور في وقائع الدهور. - ماذا؟ - الكتاب المشهور لابن إياس الحنفي، فيه سير الأنبياء عليهم السلام، من آدم إلى موسى وعيسى ويونس بن متى وسيدنا الخضر وأهل الكهف، وهذه ملزمة من كتاب آخر أهوال يوم القيامة وعذاب القبر. - أعوذ بالله، وماذا نفهم من هذا؟ - ربما يكون نساخا يرتزق من ... - نقول نساخ؟ - نعم نعم، كنت أراهم بكثرة في الدار، عجائز ملتحين مصفري الوجوه محنيي الظهور على الكتب والمخطوطات، ينسخون ما يطلبه منهم العلماء والأدباء والناشرون، لا سيما الكتبية والوراقون وأصحاب المطابع القديمة في الأزهر والحسين والعتبة وشارع المعز ... - المهم، المهم، كان ينسخ بخط جميل كما تقول، وربما كان يكتب الشعر أيضا وينشره، وربما يعرفه الكتبية في الأحياء الشعبية والأدباتية. - تقصد الأدباء يا سيادة النقيب؟ - لا فرق، وربما بعض النقاد والقراء، لكن ماذا ينفع هذا كله؟ لم نعرف الاسم ولا العنوان، لن نستطيع الاتصال بأهله إن كان له أهل، ولا يمكن أن نوزع صورته على هؤلاء الناس ولا أن نطرق كل الأبواب في الشوارع المقطوعة والحارات المسدودة لنسأل عن شاعر بائس فوق السطوح أو نساخ فقير أو مصحح على باب الكريم.
قال عبد الحق في صوت حزين: بالطبع مستحيل، حتى هذه الأوصاف لا ندري إن كانت تنطبق عليه، المسكين عاش مجهولا ومات كذلك مجهولا. - مجهول، معك حق يا عم عبد الحق، وليس أمامي الآن إلا أن أقفل المحضر وأعطيك الأورنيك كما هو معتاد: يحول إلى المشرحة ويحفظ لمدة أسبوع على سبيل الاحتياط حتى يسأل عنه أهله. (فحصوا أوراقك وجذاذاتك وخواطرك ومشروعاتك، لكن لم يجدوا وجهك منعكسا في أية صفحة، أيضا لم يجدوا ذلك الطفل الذي كنته ذات يوم وربما يتأمل الآن وجهك المحتقن العجوز وجسدك المنسي المهان، وهل تذكرته عينك الداخلية التي تفتحت فجأة كوردة الموت. عندما كان يدخل خلسة إلى مكتبة أبيه ويغرق نفسه في بحار الحروف الغامضة؟ والكتب تطل عليك من فوق الرفوف كوجوه مومياوات محنطة تبتسم لك وتغريك بالنزول إلى توابيتها، أو كملاحين عجائز يرتدون أقنعة نساك أو مغامرين أو أولياء يمشون على الماء ويشيرون إليك من بعيد ومن قريب. الأغاني كانت هناك وإحياء علوم الدين والبخاري والمسعودي وعرائس المجالس وتلبيس إبليس وألف ليلة وليلة، وأنت تبكي على الشاطئ من الرعب بينما تتخلق في داخلك القصائد المبتورة والقصص المهشمة والحكايات التي رويتها بعد ذلك ولم يسمعها أحد، أتراه الآن بعينك الداخلية التي تغلي وتستعر فيها النيران كعين الحياة التي غطس فيها الخضر، بعد أن سقطت عنك أقنعة الخوف والحيرة والطموح والفرح والحزن؟)
من أنا؟ ماذا أريد من العالم وماذا يريد العالم مني؟
كانت هذه هي الكلمات أو بالأحرى الأسئلة التي نفذت كالمسامير المحمية في صدر عبد الحق عندما لملم الأوراق المبعثرة ووضعها بحرص في المحفظة السوداء ثم أسندها على صدره واستأذن من النقيب حازم وتمنى له الراحة واللقاء القريب على خير. عاودته صورة القطة السوداء الميتة التي خطرت على ذهنه عندما وجد نفسه يحتضن الحقيبة السوداء وهو في طريقه مع الشاويش علام إلى حجرة النقيب فتساءل وهو يبتسم لنفسه: من كان يصدق أن القطة الميتة تختزن في بطنها المتورمة هذا القطيع من صغار القطط العمياء؟ هل كانت تتصور أن الحكم قد صدر عليها وعلى أولادها بالموت قبل أن تفتح عيونها وتستقبل النور؟
جر خطواته المتئدة على بلاط القاعة الفسيحة الشاحبة الإضاءة كأنها سماء مقلوبة غشيها الضباب الكثيف وانطفأت فيها كل الكواكب والنجوم، ووجد في طريقه إحدى العربات البيضاء التي تستخدم في نقل المرضى فسحبها أمامه في هدوء واتجه إلى الركن البعيد الذي أركنت فيه النقالة والجثمان الذي لا يعرف له صاحب ولا أهل، وبالرغم من إحساسه بالدوار والجوع والعطش وجد من واجبه أن يسلم الأمانة ولا يؤجل شيئا إلى الغد. تحامل على نفسه حتى وضع النقالة على العربة وراح يدفعها ناحية المشرحة. الباب الكبير مفتوح والأضواء الباهتة تنعكس على الأرضية والجدران الرطبة والثلاجات الرابضة بجوار بعضها كصفوف وحوش مائية منقرضة تجفف نفسها على اليابسة، لكن أين أنت يا عبد العاطي المتعوس؟
نادى بصوت خفيض ثم بصوت أخذ يرتفع شيئا فشيئا ويرتد إليه صداه الثقيل: يا عطا، يا عطية، يا ولد يا صعلوك في وادي الملوك. وابتسم لهذه الكنية التي أطلقها عليه أكثر من مرة وهو يسلمه رزقه الموعود في أوقات الليل والنهار دون أن يفقه الصعلوك الذي يفغر فاه من الدهشة شيئا مما يقول؟ كان عجبه يتزايد وتتسع ابتسامته كلما رأى أمامه الجسد القصير المفتول العضلات فيسأله على الدوام: كيف نقلوك من السيرك إلى المشرحة يا عطية؟ ثم يتذكر ما قاله له النائب سمير ذات مرة وهو يداعبه: كلما رأيتك يا عطية تذكرت حفار القبور في هاملت. ويواصل عطية نشاطه الدائب كالنحلة دون أن تزايل الدهشة والحيرة فمه ولا عينيه، ويضرب عبد الحق الذي لم يفهم كذلك شيئا مما قال النائب كفا بكف ويردد وهو يبسمل ويستعيذ بالله من شر ما خلق: حكمتك يا رب، بلياتشو وحارس مشرحة، اللهم لا اعتراض، لك حكمة في هذا وأنت أحكم الحاكمين.
لما يئس عبد الحق من سماع صوت عبد العاطي أو رؤية جسده ورأسه الصغير المضحك أقنع نفسه بأنه سيرجع حتما بعد قليل وليس أمامه إلا أن ينتظره في ركن هادئ، وتذكر الحقيبة السوداء عندما سقطت منه على الأرض وقال لنفسه: هي فرصة للتقليب في أوراقها قبل تحريزها وختمها بالشمع الأحمر في الصباح. فرش منديلا على الأرض تحت مصباح صغير معلق على الحائط وفتح الحقيبة وأفرغ محتوياتها على البلاط وبدأ يستعين بالقراءة على الملل المميت الذي تلفحه أنفاسه الثلجية من الكتل المعدنية الرابضة أمامه. - كل هذه الأوراق يا ربي. كل هذه السطور المضطربة كخربشة الدجاج؟
لم يلبث أن هتف بهذه الكلمات بمجرد أن تراكمت الأوراق أمامه وكونت تلا هرميا تجري عليه الحروف الصغيرة والكبيرة والسوداء والحمراء كجيوش النمل الأبيض والداكن من كل الألوان ... وقعت عيناه على خليط يصعب تمييزه: أوراق سائبة دونت عليها ملاحظات ونصوص نثرية وشعرية منقولة عن كتب عديدة ودواوين لا حصر لها، حزم ورقية كدفاتر اليد الصغيرة على كل منها عنوان مختلف عن الآخر: مشروعات، مسودات قصص وحوارات نثرية وشعرية، لم تركتني (وتحتها عنوان فرعي: سيرة ذاتية لن تكتمل)، مختارات شعرية (وتحتها كذلك عنوان فرعي: تم العدول عنها مؤقتا)، قصص حاضرة وقصص مؤجلة لم تنضج بعد، خواطر كاتب حر (وبين قوسين: يصارع كل شيء ليكون حرا من كل شيء ...)، النسخة الأولى من الجحيم، مذكرات من وحي اللحظة (وعنوان فرعي شطب على أكثر كلماته: أو من وحي الغربة، الحرمان، الإحباط، المرارة، غدر العقارب اللعينة والذئاب والكلاب السمينة ...)، نصوص يمكن الاستفادة منها في أعمال مقبلة (كانت حزمتها هي أضخم الحزم وأغناها بالنصوص وبالحذف والشطب والمحو المتكرر)، بجانب الصفحات المنسوخة والملازم التي أخرجها قبل قليل وعرضها على النقيب حازم وهو يقول إنها قد تكون تجارب طبع لكتب قديمة تعيد نشرها مكتبات قديمة في الأحياء الشعبية العتيقة، وإنها ربما تدل على أن الميت كان يكسب خبزه اليومي من نسخ الكتب والمخطوطات أو من تصحيح تجارب الطبع أو منهما معا ومن أشياء أخرى لا يعلمها.
أسند عبد الحق رأسه إلى الجدار الرخامي البارد وأخذ ينظر إلى الأوراق المتناثرة كسائح متعب يتأمل أطلال مدينة أثرية ترامت على ساحتها الخربة صنوف وأشكال من الأحجار والنقوش ورءوس تماثيل مبتورة وبقايا أسوار هياكل ومعابد وأمكنة مفرغة من أزمنتها القديمة.
استراح قليلا ليلتقط أنفاسه ومد أصابعه ليلتقط الحزمة التي كتب على غلافها المطوي بخط كوفي منسق وبديع: لم تركتني؟ سيرة ذاتية لن تكتمل، نزع الخيط المطاطي الذي ربطت به وبدأ يتابع السطور والجمل التي تشبه عناوين مؤقتة لا تؤدي معنى مفيدا، مجرد علامات طريق أو إشارات وتنبيهات للذاكرة ومفاتيح لأبواب يمكن أن تفتح في المستقبل: المطرود أو المنبوذ أو الغريب أو الشريد، لا، لا، كلمات صاخبة ومثيرة للسخرية.
لا داعي للفجاجة المنتشرة في هذه الأيام، ربما يكون الأفضل: لم تركتني؟ على الرغم من إشارتها الواضحة إلى المسيح على الصليب، أنا أيضا تركت وتركت نفسي للجلادين من كل نوع.
الفصول الأساسية (1)
المطرود: الخروج من البيت ليلا على صراخ الأم ونباح الكلاب الفشل في التعليم الديني والتصميم على عدم إكماله ورفض العمل مع أبي وإخوتي، كيف وهبت حياتي للأدب مع علمي بأنني وهبتها للجوع والحرمان وتنكر الحياة والمجتمع. (2)
التوجه للمدينة والبحث عن عمل ومسكن. صديقي عبد البصير الذي سبقني إليها واستقر في العمل الصحفي يرشدني إلى مطبعة الهدى والنور ويوصي علي صاحبها العجوز البخيل. عذاب النسخ والتصحيح وضياع الوقت والعمر. (3)
الحب الأول (لا لا، الثاني بعد صفاء ابنة مدير مكتب البريد التي ردت رسائلي وفضلت علي معلما مضمونا يعمل في السعودية لتعيش في جوار الحرم ونعيم الريال) كيف عرفني عبد البصير على اليونانية الضخمة ذات اليد الحديدية صاحبة البنسيون في شارع محمد علي، وكيف حللت محله في الغرفة التي كان يستأجرها ويعاكس منها حفيدتها الجميلة التي ازدرته وكرهته. قصتي مع الحفيدة التي فاجأتني بحبها لي وفاجأتها بأشعاري وحكاياتي التي لا تفهمها وإن كانت تضحك كثيرا عند سماعها، مفاجأتها الأخرى الكثيرة واتفاقنا على الزواج ثم رفض أهلها للشاعر الذي لا يطعم نفسه وإشفاقي عليها من المصير البائس مع كاتب لم يعترف به وربما لا يكسب من عمله إلا المزيد من التجاهل والفقر، تركي للغرفة ومفاجأتها الأخيرة بزيارتي في حجرة البدروم التي أويت إليها في الغورية وسفرها مع زوجها إلى اليونان قبل أن تعلمني اليونانية أو أعلمها الفصحى. (4)
الشعر قيدي وخلاصي، توقفي عن قوله بعد فشلي في نشر الديوان، عبد البصير التقدمي يسخر منه ويسفهه وينصحني بالاتجاه للقصة والرواية والتردد على المسرح، البدء في مشروعات قصصية ومسرحية لم يتم منها إلا «الجحيم». (5)
تفاصيل الرواية التي عرضت فيها جحيمي الخاص واستفدت من ترجمة جحيم دانتي التي دلني عليها عبد البصير ومن رسالة الغفران ورفض الناشر الذي دخت حتى وصلت إلى مكتبته في الفجالة. بعد ستة شهور يعيد إلي المخطوطة وعليها تأشيرة ناقد كبير: عنوان منفر وكاتب مبتدئ مشوش وليته يجرب الكتابة عن النعيم بدلا من الجحيم الذي نحيا فيه ليل نهار. غضبي وثورتي على الناشر وتمزيق المخطوطة أمامه وخروجي من جحيمه إلى الأبد والدوخة بالمجموعة القصصية على غيره من الناشرين. (6)
مشروعات أخرى تستغرقني بينما تغرقني دوامة النسخ والتصحيح والعجز الدائم عن مواجهة الضروريات، اللجوء لتعليم الصبية والأطفال مبادئ القراءة والكتابة والحلم المستمر بمدينتي الفاضلة المستحيلة. (7)
فصول أخرى لم أستقر عليها واضطراري لترك البدروم بعد رفضي للزواج من صاحبته المعلمة الثرية التي أصرت على إبقاء العصمة بيدها ومواصلة حياتها ولهوها. (8)
الحب الأخير للقارئة الجميلة التي تعرفت علي في قاعة المطالعة بالدار ونسخت لها كراريس المحاضرات وأصلحت بحوثها ثم فوجئت بها يوما أمام الدار تعرفني على خطيبها الرقيع الرابض في سيارة فارهة أمام السلالم العتيقة والبوابين النوبيين الطيبين ... إلى آخره، إلى آخره.
طوى عبد الحق حزمة السيرة الذاتية التي لفتت نظره سطور أخرى على غلافها لم يكن قد انتبه إليها: مراجعة الأيام وزهرة العمر وحياتي والسبعون، البحث عن ترجمة اعترافات روسو ومذكرات جوته اللذين سمعت اسمهما لأول مرة من عبد البصير، ثم هذه الملاحظة وتحتها خطوط سوداء كثيرة: لا بد من تعلم لغة أجنبية، المعاهد الخاصة نفقاتها باهظة ... وبعد أن استراح قليلا ومسح زجاج نظارته ونادى عبثا على عبد العاطي مد يده مرة أخرى إلى حزمة كتب عليها بخط نسخ أحمر جميل: مشروعات (وبين قوسين هاتان الكلمتان: فرعونية وإسلامية) أخذ يتابع المخططات التي تشبه السقالات المقامة فوق العمائر التي لم تكتمل جدرانها فبقيت كالهياكل العظمية المفتقرة للحم يكسوها: المجد لسيت: صياغة جديدة لأسطورة قديمة. كنوز رامسيتيت معالجة مسرحية، شعرية أو نثرية، للقصة البديعة التي قرأتها في كتاب «هيرودوت في مصر». الشقيقان المسكينان يضحكان على فرعون المستبد الخبيث وينتصران عليه ويخرجان سالمين من كمائنه وفخاخه. سقوط الشقيق الأصغر في الفخ واضطرار شقيقه لقطع رأسه حتى لا يتعرف الفرعون وجنوده على شخصيته وتسليم الملك في النهاية وتزويج أخيه من ابنته ثم هروب العريس من حفل الزفاف إلى قريته ليقف إلى الأبد في صف الشعب ويساعده على التخلص من الحاكم المستبد ويسلم كنوزه للناس. «الحمار الفصيح»: إعادة كتابة القصة المشهورة على لسان الحمار، الاستفادة من القصة القديمة ومن حمار الحكيم وحمار الكاتب الإسباني الذي غاب عني اسمه. «اعترافات الحلاج»: مشاهد نثرية في حوار.
شهيد النور: كتب منها ثلاثة مناظر والباقي يحتاج لمراجعة هياكل النور وبعض كتب التصوف، البحث في مكتبتي وفي المكتبات الخارجية عن اللمع ودوائر المعارف والرسالة القشيرية، أنوار الروح تذيب طبائع الاستبداد، الجلاد هو الصديق الحميم، والسيف هو النور.
آه يا سقراط، هل عرفت نفسك في النهاية؟ هل أعرف نفسي أنا أيضا؟ حوارات معه في شوارع أثينا وفي بيته مع زوجته الشرسة وأولاده وخصوصا في زنزانته قبل أن يتناول السم.
طبق عبد الحق الأوراق ووضع الحزمة في مكانها وهو حائر يسأل نفسه عن الحلاج والسهروردي المقتول والملك الفرعوني اللئيم وست الجبار الشرير وسقراط المظلوم، لم يكن قد سمع بهذه الأسماء ولا وقعت عينه عليها فيما قرأ ويقرأ منذ أن هجر الزجل أو هجره في أول أيام الشباب، ومد يده إلى حزمة كبيرة كتب عليها المختارات وتكدست أوراقها بقصائد وأبيات انتخبها الراقد تحت المفرش الأصفر بالقرب من الثلاجة من دواوين قديمة وحديثة لا حصر لها. لم تكن كلها أشعارا بل اندست بينها كذلك حكم وفقرات وعبارات متناثرة يبدو أنها حازت إعجابه ولم تقل شاعرية عن القصائد والأبيات المختارة، وقبل أن يتأهب لمتابعتها بشوق ولهفة تحيي جذوة شوقه ولهفته القديمة للشعر الذي تركه إلى الأبد، لفتت نظره على الغلاف هذه العبارات التي ربما يكون الشاعر قد أضافها حديثا: العدول عن هذه المختارات. أين هو الناشر؟ وماذا ستضيف إلى المختارات القديمة والحديثة؟ إعلان الحرب على القراءة النهمة، خصوصا على الشعر الذي هجرني وهجرته، لم يبق إلا أن أواجه الجدار الأخرس والقلم في يدي، أن أواجهه وأنتظر الطلقة التي ستمزق القلب أو الطعنة التي تخترق الظهر. لم يبق إلا ...
كانت الأصوات قد اقتحمت قاعة المشرحة وكادت أن تدنس كذلك حرمة الخشوع في محرابها الساكن سكون الموت، أصوات أقدام تضرب الأرض برعونة وجرأة، وأصوات غناء هابط لا يراعي هيبة المكان ووحشته ورهبته، وتأكد عبد الحق أن الصعلوك قد شرف أخيرا فرفع صوته مناديا بينما انشغلت يداه في لم الأوراق وحشرها في بطن القطة السوداء: أخيرا وصلت يا عطية؟
مرت لحظات قبل أن يظهر شبح قصير ممتلئ الجسم مترنح الخطوات، قطع عبد الحق عليه غناءه الفاضح الخشن بصوته الرزين العميق: ولك نفس تغني أيضا؟ - من؟ عم عبد الحق؟ يا محاسن الصدف، وأنا أقول المشرحة نورت وأصبحت تشرح الصدر. - كأنك راجع من البار أو من السيرك.
أغرق عطية في الضحك ثم وضع يده على فمه وقال: الله يجازيك كل خير يا طيب يا أمير، دائما تفكرني بالذي مضى، وأنا أطول أرجع للسيرك أو حتى أتفرج عليه، كفاية علي سيرك الأموات من صباح ربنا، تعرف يا عمنا الكبير ... - لا أعرف ولا أريد أن أعرف، يالله وراءنا شغل. - حلمك علي، والله ولا لك علي يمين، أنا دائما أسليهم وأضحكهم وأهون عليهم وأسمع كلامهم وشكاويهم، أعدلهم وأمددهم وأطبطب عليهم وأغني لهم أغاني المهد الأخير قبل ما يرجعوا لأمهم، هي التي تريحهم وتضمهم لصدرها وتغطيهم بترابها لأجل ما يناموا، تعرف يا عم ... - قلت لك وراءنا شغل يا رجل. - رجل؟ هاها، والله ومعك حق، هل تعرف أين كنت الآن؟ - كنت مطرح ما كنت، المسامح كريم. - ونعم بالله، عارف يا عم عبد الحق، من طول التعب طول النهار قلت أخطف رجلي للمهرة العطشانة في البيت، رويتها وأشبعتها وغطيتها ورجعت. - والشغل ولا على بالك، هل هذا يرضي الله؟ قلت لك اعمل لك همة. - جاهز وتحت أمرك، لأجل خاطرك بس. - ولأجل خاطر الشاعر المسكين.
أشار عبد الحق إلى النقالة والعربة في الركن الغارق في الظلال المشلولة.
اتجه عطية نحو العربة وهو يسأل: قلت شاعر؟ - أظن يا عطية ... - لا اسم ولا عنوان؟ - اطمئن. على الأورنيك شخص مجهول، حضرة النقيب حازم كتبه بنفسه، ننتظر كالمعتاد إلى أن يظهر له أهل.
وقف الاثنان أمام العربة ثم سحباها إلى إحدى الثلاجات الكبيرة، ولمح عطية الحقيبة السوداء التي وضعها عبد الحق على المفرش الأصفر فسأله: أليس فيها شيء يدل عليه؟ قال عبد الحق وهو يهز رأسه: أوراق في أوراق، كلام في كلام في كلام، فحصتها كلها ولم أصل لشيء، تذكرت، أنت والله ابن حلال، له صاحب اسمه عبد البصير، إذا سأل عليه سلمه له، طبعا بعد إذن حضرة العقيد أو النقيب والإجراءات اللازمة.
غمغم عطية وهو يرفع المفرش ويمر بيده على الوجه المتقلص الملامح والجبهة العريضة المتغضنة وخيوط الدم المتخثرة على الصدغ والعنق وياقة القميص الكتاني الداكن: نفسك معي يا عم عبد الحق، على مهلك، لا لا، من الناحية الثانية، الثلاجة كلها تحت أمره، يا بركة أم هاشم .
سأل عبد الحق وهو يحدق في الفراغ المعدني: ثلاجة أو خرابة؟
قال عطية وهو يعدل وضع الجثة في جوف المغارة الكهربائية ويمنع نفسه بصعوبة من الانفجار في الضحك: قلت لي إنه شاعر، قلت يشعر لوحده لغاية يوم القيامة.
شاركه عبد الحق في تسوية الجسد النحيل وثني الساقين الطويلتين بالقرب من البطن، وظلت شفتاه تتمتمان بالآيات والدعوات وعطية مطأطئ الرأس بجانبه يتصنع التقوى والخشوع ويرفع عينيه إليه بين لحظة وأخرى حتى سمعه يقول لنفسه أو للميت ما لم يفهمه: نفذت الطلقة وغارت الطعنة، ليس أمامك إلا مواجهة الجدار الأخرس.
أغلق عطية باب الثلاجة، انتظر حتى فرغ عبد الحق من مسح وجهه وخديه عدة مرات ثم قال له: إن شاء الله في عينيه، بالسلامة أنت يا عمنا، بالسلامة.
قال عبد الحق وهو يتأهب للانصراف: قبل ما أنسى، سلمهم هذه الحقيبة في الصباح، لا تنس وحياتك يا عطية. هي الحرز الوحيد من المتعلقات.
قال عطية: طبعا طبعا. في أمان الله.
وتساءل عبد الحق وهو يتوجه ناحية الباب الخارجي: هل كان علي أن أضع القلم في يده؟ (وحيد في المشرحة ولا أحد هناك، لا لست وحيدا فبجانبك رجال ونساء وعجائز ويتامى منسيون، والجدران تطوق صدرك وصدورهم، تطويك وتطويهم في ظلمات العتمة. أتراك ستخرج من هذا المنفى وترى الضوء بعيني قلبك ينداح يفيض كفجر أبيض؟ حتى إن لم تره فهو يراك. سوف يفاجئك ويملأ أركان الأرض ويطرد كل خفافيش الظلمة، وعندما يسير بك النعش أو عربة المستشفى إلى مقابر الصدقة سيخرج وجهك من ضجر الموت ويتوحد مع كل الوجوه في الجبانة الكبيرة، وربما تخرج من شفتيك حروفك وكلماتك التي لم يسمعها أحد ولم يقرأها أحد وتصرخ - كالمتشبث بالعلم المرفوع أمام الجيش المهزوم - بأبجدية رفضك وتمردك على اليأس والتبلد والغربة والموت المنتظر، عندئذ تتجلى بنور وحدتك مع الواحد وتوحدك مع الكل، تحوم حولك فراشات الأسئلة التي تحلم بأنها عثرت على الجواب ...)
بعد سبعة أيام سلم عطية الجثة لسائق العربة والتومرجية والحانوتية المتجهين إلى مقابر الصدقات، أمام باب المستشفى كانت صبية شاحبة الوجه تسحب أباها الأعمى العجوز المتوكئ على عكاز، همست لأبيها كلمات فرفع صوته بالدعاء: بالسلامة يا حبيبي. بالسلامة يا بني. (وحيد أنت الآن تماما، هل غادرتك الفراشات وكفت الأسئلة؟ أم بقيت تحوم حولك وتنتظر؟)
1
أحزان عازف الكمان (1)
يتسلل ضوء الفجر - كما يفعل منذ سنوات طويلة - من خصاص النافذة الوحيدة في الحجرة فتسقط أشعته الباهتة الخافتة على الوجه الخريفي الشاحب المستدير، المتغضن بالتجاعيد كالليمونة الذابلة الجافة. يفتح عينيه - ومن حسن الحظ أنه ما زال قادرا على أن يرى ويسمع وإن كان قد فقد القدرة على الحركة من زمن بعيد - فتقع نظرته على علب وزجاجات الأدوية المتراصة فوق التسريحة القديمة المشروخة المرآة، أقراص مختلفة الأشكال والألوان، وأكياس وحقن وأوعية شتى مجهزة كلها لتسييل الدم وتحريك الجسد الذي طوقه الشلل الحديدي حتى أوشك أن يصبح حجرا جامدا أو جثة هامدة، ويمد بصره إلى الملاءة التي لا يقوى على تحريكها أو الإمساك بطرفها، وإلى السرير السفري الصغير الذي أصبح تابوته ونعشه الدائم، وإلى الكراسي التي صفت في الحجرة الصغيرة ليجلس عليها الضيوف والزوار الذين انقطعت زياراتهم وأخبارهم ورسائلهم ومراسيلهم ولفهم الصمت الذي لف كل شيء فيه وحوله بكفنه الطويل العريض، وتحركت أنامل يده اليمني - فالذراع قد أصبحت كالرصاص الثقيل - فلمست أوتار الكمان الراقد بجواره، قريبا من القلب ولصيقا بالصدر كأنه يحضنه. قال له ولنفسه: تعال يا رفيق عمري، يا عذابي وسلواي ومرفأ قاربي المنسي المكسور، يستغيث بك الغريق الذي طالما انتشلته من المستنقعات، ويناديك المحاصر بالحريق الذي طالما أنقذته من ألسنة اللهب وغسلته وطهرته بماء نغمك ولحنك الشجي الحنون، أستغيث بك وأناديك كما فعلت من سنين، لكني اليوم أبتهل إليك أن تستجيب، الوقت مضى يا صاحبي وحبيبي ولم يعد في العمر بقية، واليوم يوم فاصل في حياتي وحياتك، واللحن الذي تخلق في مهجتي وأحشائي نطفة فمضغة فعلقة قد أصبح جنينا يصرخ شوقا للنور والحياة؛ لحن العتاب الطويل الذي نما على مر السنين والتأمت أطرافه وحلقاته يريد أن يخرج للحياة ويتردد في الأجواء حتى ولو لم يسمعه أحد سواي وسواك، مرت الأصابع النحيلة على الأوتار فرنت بأصوات واهنة ومتقطعة كبكاء أرملة ونهنهة يتيم، وامتدت اليد تبحث عن القوس فلم تجده. فتشت عنه تحت الملاءة وفوق الكرسي المجاور للسرير حتى اصطدمت به القدم اليمنى هناك على المخدة الموضوعة على امتداد الساقين. استجمع قوته وعبأ إصراره وتصميمه لكي يحرك ذراعه أو يثني جذعه ليطول القوس. حاول عدة مرات حتى تعب وتلاحقت أنفاسه اللاهثة وابتسم رغم كل شيء وهو يقول: ولكن اللحن لا بد أن يخرج، لا بد أن يندفع اليوم ويكسر كل القضبان ويحوم فوق رأسي كالنورس العائد من سفر طويل، ستأتي أمينة وتناولني إياه ثم أحاول وأحاول وأصارع وأصارع حتى ينبثق شلاله الحبيس ويدمدم ويثور ويفور ويرفرف في الأرض والسماء كسرب كامل لا نورس واحد وحيد.
آه! منذ متى ضربتني الصاعقة فشجت رأسي وشلت جنبي وكادت أن تعمي عيني؟ لا بد أن سنوات طويلة قد انقضت على رجة الزلزال الذي نفضني وحفر تحتي حفرة رحت أغوص فيها يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة. كل ما أذكره أن سيدتي وسيدة الكل قد غضبت في ذلك اليوم أو في تلك الليلة المشئومة؛ أفهمتني حين مثلت أمامها بعد انتهاء الحفلة أنني حر أن أبقى مع الفرقة أو أخرج منها بلا عودة، استأذنت وانصرفت أجر ورائي كرة عمري وأحمال تعبي وشقائي في تراب الشارع الذي لم أدر ما اسمه ولا إلى أين يؤدي بي، وعندما وصلت إلى باب مسكني، ولا أدري كيف ولا متى، شعرت، وكنا بعد منتصف الليل، كأنني أصبت فجأة بضربة شمس بزغت في عز الليل لتضربني أنا وحدي دون الناس أجمعين. آه! كم كنت طيبة وأصيلة يا أمينة؛ تلقفتني قبل أن أسقط على الأرض، مددتني على الفراش وأسرعت باستدعاء الطبيب الذي أعلن بصوت جهوري: جلطة في المخ. هو الفالج كما يقولون بالفصحى، الراحة مطلوبة، والبعد عن النكد أهم شيء، والدواء المكتوب بانتظام وعلى وجه السرعة.
شلت ذاكرتي أيضا فما عدت أتذكر التفاصيل، كل ما يخطر على بالي الآن أن سيدتي حين بلغها الخبر أرسلت مع زميلين من الفرقة باقة ورد ومعها مظروف مطوي فتحته زوجتي بعد ذلك وهي تقول بصوت هامس: شيء يساعد على الدواء. وربما قال الزميلان - عاطف عازف الكونترباس وسيد عازف القانون - شيئا يشبه ذلك وأضافا: مؤقتا حتى تتم إجراءات النقابة.
وأخذ الزملاء يتوافدون علي بعد الحادث لعدة شهور أو ربما لعدة سنوات. في الحقيقة لم يتأخر أحد منهم ولم يقصر أحد، لكن المرض طال وانتشر وأحكم حصاره. الأيام تمر والمشاغل تتوالى والزمن ينسى، وها أنا ذا وحيد منذ شهور أو سنوات لا يكاد يطل علي أحد أو يسأل عني أحد. كم تلهفت على كل جرس يدق على الباب ورحت أمد صوتي كرأس الغريق فوق الموج الهائج لأسألك يا أمينة عن الطارق، بكلمات مهشمة ظلت تتكسر مع توالي الأيام حتى صارت مجرد آهة مبحوحة تائهة، وأنت يا أمينة لا تملين من فتح الباب ولا من الرد علي بينما تضحكين وتواسين: هو بائع اللبن. جارتنا صفية تطلب بصلة أو ملعقتين فلفل. عداد النور. البواب يساعدني في حمل الطلبات. ودائما تتحملين وتصبرين يا زوجتي الحبيبة، ودائما يتراجع الزوار فلا يتذكرني وجه واحد، ودائما يتخلق لحن العتاب الكبير وينمو وينضج ويكتمل ويلح أن يخرج للنور والحياة، نعم لا بد أن يخرج، اليوم لا غدا ولا بعد غد، نعم لا بد، لا بد، لا بد. •••
صحت أمينة من نومها مبكرة على غير عادتها المألوفة، اغتسلت وتناولت إفطارها البسيط المكون من كوب الشاي بالحليب ولقيمات تغمسها في العسل الأبيض أو تحشوها بقطع الجبن الأبيض أو الرومي. لم تنس أن تفتح باب الشقة لتنقل اللبن والزبادي والخبز الصابح الذي تركه أهل الخير دون أن يدقوا على الباب أو يرنوا الجرس منعا للإزعاج، ومراعاة للظروف التي ألمت برب البيت الذي يدعون له كل صباح بأن يتولاه الله برحمته، وتهيأت أمينة للانصراف إلى مشاغل البيت وتبعات اليوم الذي لا يكاد يختلف عن أي يوم سبقه منذ سنين ربما قاربت العشر أو يزيد. قالت لنفسها: لا بد أن راضي ما يزال نائما يحتضن كمانه ولا داعي لإزعاجه قبل أن يحين موعد إفطاره وتنظيفه ومداعبته أيضا لمحاولة انتزاع ضحكة من فمه الذي أصبح في حالة عجز مطلق عن الكلام. كومت الخضار الذي اشترته بالأمس على مائدة المطبخ وراحت تخرط البطاطس وتقشر الكوسة وتقطع الجزر والفاصوليا قبل أن تغسلها بالماء وتضعها في الوعاء الذي تعد فيه الشوربة المسلوقة التي يحبها أو لا يقدر على تذوق أو هضم شيء غيرها، وبعد أن قلبت قليلا محطات الراديو الصغير الذي تعرف منه أخبار الدنيا وأحوال الطقس، ولا مانع من أن تسمع أيضا بعض أغاني الصباح وضحكاته، مضت تكمل عملها اليومي الذي تعرف وتعرف معها كل سيدة بيت أنه لا ينتهي أبدا ولن ينتهي إلا بعد التهام العمر. كان من الطبيعي أن يسرح بها الخاطر إلى الوراء وإلى الأمام، وأن تتزاحم الذكريات فلا تدري ماذا تدع منها وماذا تختار. هل يمكنها أن تهرب من ذكرى ذلك اليوم المهول الذي رجع فيه راضي وقد نفض عنه كل أثواب الرضا والقناعة والاتزان التي كانت تكسوه على الدوام، وإذا بوجهه يتقلص وترتعش كل عضلة فيه، ويديه ترتجفان رجفات متوالية جعلتها تسرع باحتضانها بين كفيها ومحاولة تهدئته بكل وسيلة ممكنة. تصورت في البداية أنها ضربة شمس شديدة كما تصور هو نفسه بعد انصرافه عن سيدة الكل وضياعه بين الشوارع والميادين بينما الشمس الحارقة تشوي رأسه، وأصداء الكلمات القاسية القاطعة التي تفجرت من شفتيها تطرق سمعه ودماغه وكيانه كله بمطارقها الحديدية التي تشبه الطلقات العنيفة والصدمات المفاجئة. لم يكن هناك وقت لكي يشرح أو يحكي أو يبرر ويفسر، لسانه راح يردد بغير انقطاع: بعد كل هذا العمر؟! بعد احتراقي كالشمعة الحقيرة في خدمتها وإرضائها؟ أنا راضي الذي رضي منها بكل شيء وابتلع نظراتها وكلماتها الغاضبة في عشرات الليالي وعشرات البروفات، كيف أرضى عن إهانتها وعنف ألفاظها التي لا تفترق عن الصفعات والركلات والضربات المباغتة؟ لم تكن هناك فرصة لسؤاله والاستفسار منه. لم يسمح الوقت ولا الظرف الملعون بتهدئته أو التفاهم معه أو التسرية عنه بمداعباتي المعتادة. سقط على الأرض كمبنى قائم يهتز وينتفض ثم ينهار فجأة. حتى القدرة على الكلام سقطت معه مهشمة محطمة ولم تبق إلا الإشارات التي تعودت على فهم لغتها منذ ذلك اليوم، ومنذ أن جاء الطبيب وأعلن أنها الجلطة وشدد على مراعاة العلاج بانتظام ودقة وأنا التي أتحمل الحمل كله بحيث أستحق - كما فسرت بعض إشاراته وإيماءاته - أن أستعير منه اسمه الذي رددته عن طيب خاطر وجعلني أعيش راضية عن كل شيء، حبا ووفاء للرجل العزيز الذي لم يقصر يوما ولا لحظة في إرضائي وإضفاء ظلال البهجة والحنان والموسيقى على كل ساعة عشناها معا.
نعم، منذ ذلك اليوم المشئوم وأنا أعمل كل ما يرضيه ويرضى عنه؛ أطعمه وأسقيه كأني أم ترضع ابنا يكبرها في السن، أنظفه كل يوم من البول والغائط وأبدل غياراته الداخلية وأطمئن على شربه للبن وملاعق الزبادي القليلة مع العسل الأبيض أو المربى وأنتظر - كما تنتظر المرضع - أن يتجشأ فأضحك وأنا أقول له: صحتين. قبل أن أسحب الملاءة عليه وأقرب الكمان منه وأسند رقبته تحت ذقنه وأضع القوس في يده التي تعجز أصابعها عن القبض عليه، ثم أنصرف في هدوء بعد أن أعلن غيرة الزوجة من الحبيبة البنية الرقيقة التي تحتضنه ويحتضنها.
مرت سنوات لا أذكر عددها وهو راقد على سريره السفري في غرفته التي كان يلزمها ليل نهار للتدريب على العزف والاستعداد للحفلات المتتالية. من يراه يتصور ميتا لم يدفن، أو بهيما يأكل ويشرب ويخرج ولا شيء غير ذلك، لكنني أنا زوجته أشعر بالألم الذي يعتصره، وألمح الدموع في بعض الأحيان وهي تنساب على وجنته، أتحاشى النظر إلى عينيه الناطقتين بالأسى أو بالغضب أو بالخجل وأقول له وأنا أتكلف الضحك: سيرجع كل شيء كما كان وأحسن، المهم يا راضي ألا تفقد الرضا، وأخطف نظرة إلى عينيه فأرى سحابة عدم التصديق تظللهما باليأس والسواد، ولا يكاد جرس الباب يرن في أي وقت من أوقات الليل أو النهار حتى أجري لأفتحه وأنا أصبر نفسي وأقول ربما يكون أحد الزملاء أو الأصدقاء، وربما تكون بشرى خير من أي جهة أو أي إنسان، ولأني أعلم أنه ينتظر أكثر مني أن يطرق الباب زميل أو صديق أو مرسال يحمل باقة ورد ومعها بطاقة تمنيات بالشفاء، لأني أعلم هذا أسارع إليه قائلة: لا لم يأتوا بعد، لا بد أنهم في الطريق. بينما أعرف تمام المعرفة أن الطارق لا يخرج عن كونه البواب أو كشاف عداد النور أو بائع الفاكهة والخضار أو جارتي صفية التي تطلب شيئا ينقصها أو تسأل عنه وعني أو تستأذن في الجلوس معي ساعة لتفك ضيقتها على فنجان قهوة.
ودائما ومنذ سنوات أناجي نفسي قائلة: متى يعلم أن زميليه عاطف وسيد اللذين كانا يزورانه في بداية مرضه قد أصبحا في ذمة الله، وأن سيدة الكل التي تذكرته في بداية المرض بباقة ورد ومنحة متواضعة قد ماتت هي الأخرى وشبعت موتا وتوقفت حفلاتها الشهرية التي كانت البلد كلها تنتظرها بفارغ الصبر، وفي كل شهر لا يفوتني في مواعيد محددة أن أذهب إلى النقابة وإلى معهد الموسيقى لأصرف المعاش الذي يسترنا، وأن أتوجه إلى السبتية لأحصل إيجارات الشقق في البيت القديم المتهالك الذي كان نصيبي من الميراث الذي تركه أبي، ودائما وكل حين أقوي السدود التي تقدر على صد شلال دموعي وتأجيل انفجاره اليومي، وأغرق نفسي في العمل اليومي لكيلا أنصب خيمة المأتم المحتوم الذي أنفرد فيه بالنواح على حظي وحظ رفيق عمري، بل أتعمد أن أرفع صوت الراديو وأدير شرائط الكاسيت التي تنطلق بالأغاني التي يحبها وأعلم أنه شارك في عزف موسيقاها، أو بالعزف المنفرد على الكمان الذي سجلته له إحدى الشركات المشهورة أيام أن كان هو العازف الأول في الفرقة الذائعة الصيت، وبجانب الأغاني والموسيقى ترن ضحكاتي التي أحرص على أن يسمعها كلما دخلت عليه لأطعمه أو أسقيه أو أغير ثيابه؛ ضحكاتي التي ترن في فضاء البيت وتحاول أن تغطي على الصوت القوي الدافئ الذي أعلم أنه يعيش معه وأنه ينسى كل شيء ولا ينساه. •••
نعم صوتك الذي غطى على كل الأصوات، سنوات طويلة أعيش معه وعليه، هو شمسي التي أتدفأ بها في برد الحياة، مصباحي الذي أهتدي به في ليلي المعتم، ظلي الذي أحتمي به من حرائق الأضغان والأحقاد، جنتي التي ألوذ بها من إزعاج العالم وضجيج صراعاته ومآسيه، وحين تغنين يكون غناؤك مصدر لذة مؤلمة، ونشوة موجعة، وسعادة لها طعم التعاسة ومرارتها، والكل - وأنا منهم - يسأل نفسه عن سر اللغز الكامن في صوتك الدافئ القوي الحنون، المتسلط كالحاكم الجبار والمترفق كيد الأم الرءوم على رأس اليتيم والمحروم. نعم كان وما يزال هو السر الملغز، والمعجزة المتحققة التي تصيب كل من يدخل في دائرتها بالحيرة والانبهار والذهول. لا! لم يكن أبدا مجرد صوت أو غناء. لقد اختزن في قطرات عصارته الشجية ماء النيل، وحرارة الكوكب الأبدي، وجلال الجبل، وجيشان البحر، وعذوبة النسيم، ولون الورد، وسكون الشجر، ورعشة همسات العصافير الوحيدة في أعشاشها الليلية المهجورة، وصخب حفل ملوكي ترن فيه الكئوس وتصدح الأوتار وتدق الطبول وتتزاحم الصيحات والرقصات والصرخات. لم أكن أنا وحدي الذي يحن لسرك المعجز في أوقات المحن والهموم، كان الجميع داخل القاعة وخارجها، في القصور وفي الأكواخ، في الملاهي الفخمة والمقاهي البلدية، في أحياء الأغنياء المترفين وأحياء الفقراء المستورين، كان الكل يحن لسرك السحري ويسلم له سمعه وروحه، ويستمد منه العزاء لمواجهة الحياة الصعبة، ويحلق معه إلى الآفاق البعيدة المرتفعة فوق المصائب والنوائب الخاصة والعامة، وهل ينسى أحد وقفتك أمام الجماهير مثل قبطان يقود سفينة تواجه الأعاصير وتتأرجح فوق الموج الغاضب والصاخب، أو وقفة قائد جيش يهيئ جنوده للاقتحام والإقدام، ثم يحدث التحول فجأة فتصبحين الأم الطيبة التي تهدهد الأطفال ليناموا، والعاشقة البتول التي تصل المحبوب ولا تحرمه من رسائل الهمس والوله والهيام، وكم كان الصمت يجلل رأسك ورءوس المستمعين المشدودين إليك كالفيران المتلاصقة المحبوسة الأنفاس، صمت كأن جناحي طائر ضخم يرف فوق الحاضرين المستسلمين لأمرك والمنقادين لرياحك وأعاصيرك ونسماتك وهمساتك، وفجأة يتفجر هدير التصفيق كأنه ألف شلال حبست مياهها الغاضبة آلاف السنين.
مرت السنون وحدث ما حدث وما زلت أسأل نفسي كل يوم لأني لا أجدك ولا أجد أحدا أسأله: لماذا تخليت عني؟ لماذا أخرجتني من ملكوتك السماوي وطردتني من جنتك الأرضية؟ أتراه صوتك هو المسئول عما جرى لي؟ وبعد أن سحرني شلني، بعدما سحبني من نفسي أسلمني لموتي، وحين عرف أنه أحياني وأدفأني وأخذني من كل شيء، أفرغني من كل شيء وحشاني بالقش ورماني فوق المزبلة الكبرى للعالم والتاريخ وتركني كما أنا الآن لا أحيا ولا أموت.
هل أخطأت أو أذنبت عندما أعطيتك كل شيء وكرست لك كل طاقتي ومواهبي؟ هل أثار غضبك - وأنت التي قدمتني ورفعتني إلى مقام العازف الأول - أن أقوم بين الفواصل وأنوع على اللحن تنويعات طويلة تفجر التصفيق الهائل من بين صفوف المستمعين الصامتين اللاهثي الأنفاس، وإذا بهم يقفون ويشيرون ويهللون ويهتفون باسمي ويطلبون تكرار اللحن؟ أأكون قد أعطيت نفسي حقوقا أكثر مما أستحق وربما خرجت في بعض الأحيان على اللحن الأساسي وشردت مع مقام آخر فأربكت الفرقة معي أو أربكتك وجعلتك تقفين حائرة ولم أنتبه لنظراتك المتوعدة الغاضبة؟ نعم كان وفاء وإخلاصا تحملت جزاءه - و يا له من جزاء - ولما داهمني الشلل كالزلزال أو الصاعقة في نفس الليلة التي دوى فيها صوت تأنيبك وغضبك، تصورت أنك يمكن أن تطرقي بابي يوما وتمدي إلي يدك وتتذكري العمر الذي عشته معك ولك، أجل أرسلت إلي باقة ورد مع مظروف مطوي، وأبلغني الصديقان تمنياتك بالشفاء، لكن أين أنت وأين هما؟ ألم يخطر على بال أحد منكم أن يطوف على شاهد قبري أو يزورني مرة في مقبرتي الصغيرة؟ والسنون تمر يا سيدة الكل ويعاودني السؤال الذي يحترق به الفؤاد ولا تقوى الشفتان على النطق به: ما الذي أثار غضبك علي؟ لماذا تركتني وتخليت عني؟ آه، لا أملك إلا الآه، هي لغتي الوحيدة الباقية مع الإشارة والرعشة والإيماءة، وعندما يعجز اللسان عن النطق وتكف الشفاه عن التلفظ ، هل يبقى للمشلول العاجز إلا أن يهتف: آه، وماذا يبقى للمغدور المقهور المدحور سوى أن يخرج اللحن الذي تخلق عبر السنوات والآلام، لحن العتاب الطويل الذي يبدأ بالآه وينتهي بالآه؟! •••
ربما تناهى إلى سمعها صوت يشبه أن يكون بحة في الحلق أو حشرجة في الصدر أو ارتطام زجاج النافذة تحت تأثير الريح التي اشتدت في هذا اليوم من أيام الخريف، كانت شمس الضحى قد ارتفعت في الأفق ولم يخطر على بالها أنه صحا على غير العادة مبكرا أو أنه قضى الليل ساهدا مؤرقا لا يطرف له جفن، وأنه كافح طويلا لتحريك ذراعه وساقه ليقربا منه الكمان التي كانت قد انزلقت إلى جانبه واستقرت تحت قدميه، دخلت أمينة عليه في موكبها الصباحي الصاخب. لم تكف الابتسامة العريضة التي تطالعه بها كل صباح ولا القبلة التي تضعها على جبينه ووجنتيه، بل جلبت معها جلبة من الصياح والضحك والهذر وهي تبادره قائلة: نحن اليوم أحسن بكثير، الله على الوجه الجميل واللحن الجميل، الله الله على النهار المشمس البديع، هيا يا زوجي العزيز،
اقتربت منه وعلى يدها الصينية التي تحمل الإفطار المعتاد، أرادت أن تضعها على ساقه ريثما تعدل من وضع الملاءة وتسوي البطانية والفراش فأخذ يزوم محتجا دون أن تفطن إلى السبب. قربت منه كوب اللبن وطبق الزبادي فلم تجد منه إلا الرفض والصدود، وبعد الإلحاح بحق لقمة العيش والعشرة ولأجل الخاطر المكسور وباسم الله وملائكته ورسله استطاعت أن تجعله يشرب جرعة لبن وملعقة واحدة من الطبق الذي طالما أقبل عليه في الصباح والمساء بشهية مفتوحة على الدوام، ولما تكررت الآه التي يخرجها مبحوحة ومهشمة كشظايا الزجاج وكثرت الإشارة إلى أسفل القدمين دست يدها تحت الملاءة فأخرجت الكمان من مخبئها. ضحكت وهي تتلقفها وتضعها على ذراعها ثم تلقي بها على صدره وهي تصيح: طبعا أوحشتك حبيبة القلب. ها هي تمد عنقها إليك وتنظر إليك بعيونها المفتوحة وتنتظر أن تخرج منها أعذب الألحان، هز المشلول رأسه يمنة ويسرة وأخذ يشير بأصابعه التي يستطيع أن يحركها إلى أعلى وأسفل، فهمت أمينة أنه يقصد القوس التي اختفت هي الأخرى في تضاعيف الفراش أو ربما سقطت على الأرض هناك بجوار الحائط، أخذت تبحث عنها بين ثنيات الملاءة والبطانية وتحت قدمي المشلول فلم تجدها، وضعت الصينية على التسريحة ثم انحنت تفتش تحت السرير لحظات حتى قامت وهي تهتف كمن وجد كنزا غائبا: تعالي يا وجه السعد والهنا، تعالي وارينا شطارتك.
استقرت الكمان على صدر المريض كما نامت القوس في قبضة يده اليمنى. حاولت أمينة أن تقرب اليد القابضة على القوس من الكمان، كانت تعلم سلفا أنها محاولة يائسة سبق أن بذلتها عشرات المرات دون فائدة، لكن لهاث راضي والآه التي تخرج منه ملهوفة محمومة جعلتها تكرر المحاولة، ولما تيقنت من تصلب اليد والذراع واستحالة تحقيق الحلم البعيد المتكرر، داعبت المشلول ضاحكة: انتظر عليها قليلا، هي من نفسها ستتقرب منك وتثبت حبها ووفاءها لك وتعزف لك في الحلم ما عجزت عنه في الواقع. ولما ترددت في أذنيها الآهة المنكسرة من جديد وضعت الصينية على يدها وقربت شفتها من جبهته وطبعت عليها قبلة طويلة وهي تقول قبل أن تنصرف وتغلق الباب وراءها: استرح قليلا، ليس عليك إلا أن تستريح، وسوف يخرج اللحن الذي تريده من تلقاء نفسه، المهم أن تهدأ وتستريح. تلاحقت الآهات من فم العاجز حتى تصورت أنه يغالب البكاء، وعندما فتحت الباب ونظرت إليه قبل أن تغلقه وراءها لم تلاحظ الدموع التي بدأت تنساب على خديه، ولا اللهاث الشديد الذي انتابه فجأة بحيث جعل صدره يرتفع وينخفض بسرعة مجنونة. •••
بعد أن فرغت من إعداد طعام الغداء - شوربة الخضار المسلوق مع نصف رغيف وطبق أرز صغير وكوب عصير البرتقال - طرقت الباب طرقات خافتة حتى لا تزعجه من نوم القيلولة. خيل إليها وهي واقفة على الباب أنها تسمع موسيقى شجية تنبعث من الحجرة، موسيقى ترفرف كسرب طيور عائدة من الغربة ومعه الحنين والفرح والشوق والأسى والحيرة والذهول، تذكرت أمينة أنها لم تدر جهاز المسجل بأي شريط وقالت لنفسها: ربما تكون آتية من عند الجيران. وعندما دخلت بالصينية على المشلول وجدته مغمض العينين غارقا في النوم والصمت. نادت فلم يرد، هللت وصاحت فلم يستجب، اقتربت منه وهزت يده وتحسست خديه ورأسه فلم تشعر بأثر للحياة في الجثة الحية للزوج المسكين، وعندما رفعت اليد القابضة على القوس إلى أعلى وتركتها تسقط هامدة كالحجر، صرخت مفزوعة من يقين النهاية. حركته فلم تصدر عنه حركة، هزت رأسه ووجهه فلم تند عنه نأمة، نادت باسمه وكررت النداء فلم يرد صوت ولم تنفتح عين ولم يتحرك يد ولا إصبع. صرخت مفجوعة حتى لمت عليها الجيران، والغريب أن صوت صياحها وصراخها ونواحها هي والجارات والجيران لم يستطع أن يطغى على اللحن الشجي الذي ظل ينساب كالجدول الحزين.
أحزان عازف الكمان (2)
أطل رأسه الأصلع ووجهه الأبيض المستدير كهلال الفجر من فوق أمواج الزحام والضوضاء والصياح بأسماء المشروبات وطرقات قطع النرد على الألواح أمام زبائن لا تكف عن الثرثرة والزعيق والسباب، قال لنفسه وهو يرى صديق صباه يشق بجسده الأبيض المترف تلك الدوائر الجهنمية: كيف تهنا كل هذا الزمن عن بعضنا؟ ألا يظهر اليوم بعد هذا العمر في حياتي كالمنقذ للغريق المستغيث، أو كالشراع الأبيض الرحيم لمركب أو قارب جانح يتمايل للسقوط إلى الأعماق؟ وأي صدفة عجيبة هذه التي جمعتنا أمس مساء على غير انتظار، وفتحت أمامي بابا للأمل ظننت أنه قد سد إلى أبد الآبدين؟ نعم يا صاحبي! من كان يصدق؟! من كان يصدق؟!
أخذه بالأحضان وقبل خديه قبل أن يدعوه للجلوس، تنهد الصديق وقال: من كان يتصور أن الانفجار السكاني سيطول قهوتنا القديمة أيضا؟ خبط على يده مرتين ونظر في الوجه الصبوح قبل أن يقول: الانفجار السكاني وحده؟ والوقاحة يا صديقي. قلة القيمة وطول اللسان وضياع الضمير وموت ...
ضحك الصديق قائلا: جئت لأقابل عازف الكمان القديم فإذا بي أمام فيلسوف، ما الذي غيرك إلى هذا الحد؟
تنهد ورفع صوته ليخترق الزحام والضجيج إلى أذن صديقه: ليتني تغيرت حقا، أنت الذي تغيرت
هتف الصديق بصوت جعل جيرانهما على المائدة القريبة يلتفتون مندهشين: وأنا أؤكد أنك تغيرت جدا يا عزيزي جورج سامي غطاس.
ضحكا معا عندما اكتشفا أنهما يناديان بعضهما بالاسم الكامل في ملفات السجلات المدنية، وأنهما فعلا ذلك مساء الأمس عندما وجدا نفسيهما متواجهين للمرة الأولى بعد سنوات طويلة ربما لا تقل عن الثلاثين، كان جورج يتمشى مع شقيقته الكبرى في شوارع الصاغة وحواريها الضيقة التي ترتفع وتهبط فجأة بمن يسير عليها، وكانت اللافتة الملونة وعليها الاسم قد لمست شيئا خفيا في ذاكرته حاول أن يجذبه إلى دائرة الوعي فلم يستطع، ولكنه لم يتردد عن دخول المحل وهو يمني النفس بأن تجد شقيقته بغيتها من الحلي الذهبية أو على الأقل تتفرج على ما تريده ريثما ترجع مرة أخرى ومعها ابنتها العروس، دخل المحل بخطى مترددة وقلب ازداد وجلا عندما وقع بصره على الوجه القديم المألوف، وقفز الاسم فجأة من مخبئه في بئر الذاكرة المظلم وانطلق كالقذيفة وهو يفتح ذراعيه: بشارة حنا الأسيوطي! رمقه هذا بنظرة حائرة وعقد جبينه ورمش بعينيه لحظة قبل أن يقوم منتورا من على مكتبه ويفتح ذراعيه للصديق القديم وهو يصيح: جورج سامي غطاس؟ هل هذا معقول؟ مدرسة المبتديان الثانوية والأستاذ يني بطرس مدرس الموسيقى والكمان اللقطة من شارع محمد علي و... بالحضن يا رجل بالحضن!
بعد أن شبعا من الأحضان والقبلات والسؤال عن الأحوال والمشاغل التي حجبتهما عن بعضهما أشار بشارة إلى الضيف الجالس إلى مكتبه وقال يعرفه به: الباشمهندس عزمي إبراهيم، جارك القديم.
نظر إليه جورج وأخذ يتحقق من وجهه فلم يذكر أنه رآه قبل ذلك. قال وهو يسلم عليه بأدب شديد يليق بموسيقي مهذب: ربما كان طفلا أو صبيا صغيرا أيام كنت أسكن بجوارهم. الأيام تغيرنا
ضحك الباشمهندس وهو يشير إلى يد جورج: لكن أمثالكم يغيرونها إذا شاءوا، يحركون الجبال أيضا إذا أرادوا ...
أسرع بشارة قائلا: تفضلا، تفضلا، الباشمهندس يقصد بالفن، بالموسيقى، باللحن الذي يزلزل الجبال والقلوب و... لكن أين الكمان يا جورج؟
قال هذا وهو يضحك وينظر إلى شقيقته التي كانت تتابع الوجوه بشغف شديد: ولمن أعزف به في الصاغة؟ هل يرضيك أن أعزف لك حتى تغرق في النوم وأحرك أنا الذهب والفضة والألماس إلى جيبي؟ ألا تتذكر قصة الفارابي التي حكاها لنا يني أفندي أيام زمان؟
استمر بشارة في الضحك كأنما أصيب بنوبة لن يفيق منها.
سكت قليلا ثم ضغط على زر بجانبه فظهر من باب إلى الخلف شاب أسمر وسيم الملامح شديد الحيوية فقال له: شف طلبات البهوات، عندنا هنا كل شيء يا حضرات، تفضلوا، تفضلوا.
وجاءت الطلبات بعد قليل، وانشغل الجميع بما كانوا فيه أو بما جاءوا من أجله. تفرجت شقيقة جورج على قطع عديدة ومشغولات بديعة وأخذت راحتها في السؤال عن الأسعار، وتناول الباشمهندس علبة مكسوة بالقطيفة الزرقاء الغامقة يبدو أنها تخفي في داخلها الهدية التي اختارها قبل حضور جورج وشقيقته، ولما نهض مستأذنا في الانصراف وضع بشارة يده تحت ذراعه وأخذه على جنب وتهامسا لحظات قبل أن يهتف الجواهرجي بصوت عال: مع السلامة، إلى اللقاء كما اتفقنا، لا لا، اطمئن، لن ننسى، أبدا. ثم بعد أن هبط العتبات القليلة أمام الدكان غمز لصديقه القديم: موعدنا غدا مساء في المقهى القديم بالمنيل، لن تنسى إحضار الكمان معك، أليس كذلك؟!
بعد أن شربا القهوة وعدل بشارة مزاجه بالشيشة ودفع الحساب بالرغم من إلحاح صديقه هب واقفا وهو يكاد يصرخ: هيا بنا يا جورج نخرج من هذا الجحيم. تعال نشم نسمة تعوضنا عن هذا العذاب (ثم وهو يساعده على حمل صندوق الكمان ورفعه فوق الموائد والرءوس) من يصدق أن هذه هي قهوتنا أيام زمان؟ سنتمشى قليلا على النيل.
سأل جورج: ولماذا على النيل، هل تسكن في حينا ولا أعلم؟
قال بشارة ضاحكا: لأني ركنت سيارتي هناك، بالقرب من بيت عزمي الذي لم أزره من مدة طويلة، بالرغم من القرابة التي بيننا من جهة أبي.
قال جورج: ولهذا كنت تزورني ثم تذهب إليهم، أقصد أيام زمان. وضع بشارة ذراعه تحت إبط صديقه وراح يستحضر الماضي البعيد وهو يسأله: نعم، ماذا فعل بنا الزمان؟ عجزنا يا عم جورج والذي كان كان.
ضحك جورج ونظر طويلا في وجه صديقه: أهل الفن لا يعجزون ولا يموتون.
تساءل بشارة ممتعضا: هم دائما شباب وفهمناها، لكن كيف لا يموتون؟
قال جورج وهو يخبط على ظهر الصندوق الأسود: لأنهم اختاروا موتهم الممتع المحبوب في كل لحظة من حياتهم، أما أنتم يا أهل المال والأعمال، ما علينا، قل لي أنت ماذا فعلت طوال هذه السنين؟
قال بشارة بعد أن خلص ذراعه من ذراع صديقه: بعد أن تخرجت من التجارة كما تعلم وكنت أنت ...
قال جورج: كنت أكمل دراستي بمعهد الموسيقي وأكرس حياتي ووقتي للتدريب ليل نهار، أنت نفسك رأيت هذا وأشفقت كثيرا علي.
قال بشارة: نعم نعم، عشت أنت مع كمانك وذهبت أنا إلى الخليج بعد الحصول بمعجزة على عقد عمل، في دبي ازدادت صلتي بقريبي عزمي وعشنا أياما وليالي لا تنسى، أنت أدرى بأجواء الحرية والمتعة هناك.
قال جورج: الحرية والمتعة، وأنا هنا حبيس الجنية النائمة في هذا الصندوق، حبيس سجني وملاذي وقدري ومصيري، وما الذي جعلك ترجع للصاغة وتجلس أمام صناديق الجواهر والمصاغ؟
تنهد بشارة وهو يقلب الذكريات: حكم الآباء على الأبناء يا صديقي، كنت على وشك الالتحاق بعمل مرموق في الشركة الأهلية للتأمين، وإذا بعمك غطاس يدخل علي ذات يوم وهو يلهث من التعب ولا يكاد يلتقط الأنفاس: اسمع يا بني يا بشارة، أبوك الآن رجل عجوز رجله والقبر، علمتك وكبرتك لتقف بجانبي وفي مكاني لا لتسيح في بلاد الله وتدفن نفسك أمام مكاتب الموظفين، اسمعني ولا تتكلم، أنا نذرت نفسي من اليوم لخدمة المسيح والكنيسة، عمك باسيلي راعي أمنا العذراء اتفق معي على كل شيء، انتظر كما قلت لك، المحل الآن هو مسئوليتك، وإيرين ابنة عمك تنتظرك، خذ مفاتيح المحل من أبيك ودعه يسير على الطريق.
قال جورج: وجلست أنت في المحل ...
قاطعه بشارة : وتزوجت وأنجبت مهندسا وطبيبا ومعلمة ترجمة ولغات، ومشى أبي على الطريق حتى سقط يوما أمام المذبح وهو يتلو ويعظ المؤمنين، لكن دعنا مني ومن أحوالي، ماذا فعلت أنت بعد سفري وانقطاعنا عن بعضنا لثلاثة أو أربعة عقود؟ أظنك تركت شقتك الصغيرة الجميلة التي كنت أزورك فيها.
قال جورج بعد أن اشتكى مني كل الجيران، الحقيقة أنهم اشتكوا من الساحرة الراقدة في هذا الصندوق لأنها لا تتركهم يهنئون بالنوم، أما أنا فكما تعلم عني، وحيد لا أهش ولا أنش، شبح هائم هو الخجل الفطري والحياء المجسد.
سأل بشارة: طبعا طبعا، وانتقلت إلى شقة أخرى؟
قال جورج: نعم، إلى شقة أخرى أكبر، في هذه المنطقة نفسها، كان شقيقي يسكنها قبل أن ينتقل إلى شقة أكبر في عمارة حديثة، آه، ربنا يحميك ولا يريك، شقة هي الجحيم في الصيف وزمهرير جهنم في الشتاء، لم يكن دخلي يحتمل الاحتفاظ باللؤلؤة الجميلة التي كنت تزورني فيها، لا تتصور يا أخي حسرتي عليها حتى اليوم.
توقف بشارة فجأة أمام بوابة حديدية سوداء تحصر مع سور من السلك باحة فناء صغير يفضي إلى عمارتين في الداخل. قال وهو يشير إلى الناحية اليسرى من العمارة المواجهة التي تمت تعليتها حديثا: وهذه هي شرفة لؤلؤتك الجميلة التي كنت تطل منها على النيل وعلى جيرانك الذين أزعجتهم وأزعجوك.
قال جورج وهو يقف مترددا ومذهولا أمام البوابة: وماذا تنوي أن نفعل هنا؟ هل ما يزال أقاربك هنا؟
قال بشارة وهو يرمقه بنظرة من يعاتبه ولا يصدقه: تقصد من بقي حيا منهم؛ الأم ماتت بعد مرض طويل، والبنات تزوجن وتفرقن كل في ناحية لم يبق سوى عزمي وجنتك.
تساءل جورج قبل أن يفتح صديقه البوابة الثقيلة العتيقة التي تبدو كأنها منتزعة من بقايا أثر إسلامي أو مسيحي قديم: هل تقول جنتي؟!
ضحك بشارة ثم وضع يده على فمه وهمس له: نعم جنتك، هل نسيت اسمها أيضا؟ أم نسيت أنني أعددت مفاجأة لك، وأنك سترى الآن جنتك وجارتك القديمة وتعزف أيضا أمامها؟ •••
قال لنفسه وهما يقطعان أول خطواتهما عبر الفناء المسور الذي اصطفت قصارى الزرع الصغيرة والكبيرة على جانبيه: كلا لم أنس الاسم يا صديقي ولكنني لم أعرفه أبدا ولم أسأل عنه، ولماذا أسأل عنه وأنا أرتعش وأنتفض كلما رأيتها ورجني تيار صاعق من عينيها الناريتين، وكلما قابلتها بمحض الصدفة أثناء ذهابها إلى كليتها أو رجوعها منها، فجأة على منعطف طريق أو في دكان من الدكاكين المحيطة أو حين تقع عيني في تاكسي أو حافلة ركاب على وجهها الأسمر المستدير بوجنتيها البارزتين وأنفها المتكبر الشامخ وفمها المزموم في عزم وإصرار يعلوه خطان منسحبان من تحت الخدين إلى الذقن المدبب النحيل؛ تستمر الرعشة والنفضة عدة أيام، وتتجدد كلما واجهتها بحكم قدر شقي أو سعيد، لا أحد يعلم بما كنت أفعله لأسكن الاختلاج المتواصل وأهدئ من لفح الحمى، كنت أسرع إلى سجني الحبيب الخانق داخل لؤلؤتي الصغيرة فأخرج الكمان من الصندوق وأحضنها أعلى الصدر وأجري القوس على أوتارها بما يفيض عن القلب ويلهمه الهاتف والخاطر؛ بلحن يتلوى ويتوقد بالنار وينبعث منه الدخان والشرار، ولحن ينسكب ويجري في هدوء وأسى ورضا وتسليم كمركب غامض ينداح فوق سطح البحر الساكن في يوم مشرق. كنت أحيانا أتمكن من تسجيل اللحن قبل تدوينه على النوتة، وأحيانا أخرى أصرف النظر عن ذلك وأستصغر شأن الكتابة والتدوين للحن المتوثب الهادر بشلال الدمع والغضب الممتلئ كليل غابت عنه النجوم بظلمات اليأس وكوابيسه، لم يخطر ببالي مرة أن أتجرأ وأسألها عن اسمها وأعرفها أيضا بنفسي، كنت أكتفي بالنظر إليها في صمت وأختزن حزني وعجزي وحيرتي وارتباكي في قرار عميق، أو أقف في شرفتي المطلة على شريط من سطح النيل لأنتظر ساعات؛ خطاها التي يدق كعبها العالي بلاط الفناء كخطى مهرة عنيدة أو فرس حرون، وأنتظر ساعات وعيني معلقة بالنافذة التي أبصرتها مرة تطل منها بمحض الصدفة، جيل خائب نحن وقليل الحيلة، قيده الخجل الفطري وألجمته التقاليد وغللت يديه ورجليه ولسانه مواعظ الآباء والأجداد والتزام الحشمة والحكمة. أين نحن من أجيال تالية حطمت القيود والأغلال وانطلقت تنهب اللذات المشروعة والمحرمة بقوة وشراسة ووقاحة وتبجح بالحقوق التي نسيت كل الواجبات؟ - هل أفسدنا شعر المرحلة وأدبها وأغانيها العاطفية وقصصها الدامعة المفجعة، ما الذي أضاعنا بالتحديد وأضاعني أنا دونا عن كل من عرفت من الصحاب والزملاء والأصدقاء؟ مع ذلك فالخجول العاجز الخائب لا يؤمن جانبه على الدوام؛ فكم من مرة دفعني دافع لا يقهر على الوقوف في الشرفة والعزف على الكمان كأنني على مسرح وأمام جمهور متحمس. إن أنس لا أنس تلك الليلة التي وقفت فيها تحت نافذتها بالتحديد ورحت أعزف كالمجنون لحنا لأغنية من أغاني أم كلثوم ولحنا آخر إذا لم تخني الذاكرة - ربما كان هو ضوء القمر لبيتهوفن - تصورت نفسي أتقمص شخصية روميو وأسترسل في الأداء تحت النافذة والشرفة الملاصقة لها، وماذا كان جزائي؟ فتحت درفتا النافذة فجأة ثم أغلقتا في عنف ولم يسعفني الوقت ولا العزف لأعرف إن كان هو وجه الحبيبة أو وجها آخر، بعدها بلحظات فتح عنوة شباك آخر في طابق أسفل الطابق الذي تعيش فيه المحبوبة المستحيلة، انفجر في الظلام صوت غاضب عارم يسب ويلعن: ناس لا عندهم دم ولا ذوق! انسحبت بطبيعة الحال إلى الداخل ولم أكرر المحاولة أبدا، واختمرت في ذهني منذ تلك الليلة، وبعد أن وصلتني شكاوى الجيران مما سموه وجع الدماغ، فكرة الانتقال إلى مكان آخر يتسع لألحاني وأحزاني، ومسكن آخر يسمح لي بالمران والتدريب المستمر بعيدا عن كل الآذان بقدر الإمكان.
كنت في ذلك الحين قد تخرجت من المعهد بنجاح وتفوق زاد من إحساسي بهما أن أساتذتي في قسم الآلات عرضوا علي أمر التكليف بتدريس الآلة في المعهد على أمل التعيين في وظيفة معيد ريثما تتم الإجراءات اللازمة، وأضيف إلى هذا نجاح آخر، إذ فوجئت برئيس فرقة الموسيقى العربية يدعوني عبر الهاتف للاشتراك في الفرقة، الأمر أو الأمران اللذان أمنا لي دخلا لا بأس به ويغنيني عن انتظار الأفراح واللهاث وراء الكازينوهات الليلية السيئة السمعة.
لم يكن من الممكن أن يبقى القديس الخائب وحيدا في كهفه مع وحش الموسيقى الجميل، وجد نفسه يتشجع على الفعل بعد أن بدأ يمارس التدريس ويشترك مع طاقم الكمان في الفرقة العربية ويسجل عددا من شرائطه الموسيقية التي بدأت الإذاعة ترسل بعضها مقرونا باسمه، وعند عودته ذات يوم من عمله المرهق وجد نفسه يجابه وجها يحييه بابتسامة ودود وهزة رأس ذات مغزى، كان هو وجه أمها الذي تصور فيه ملامح من وجه أمه الحبيبة التي كانت قد ماتت قبل سنوات قليلة أثناء تجنيده بالجيش، لا يدري حتى كيف ولا من أين واتته الشجاعة الكافية ليتقدم من أم المحبوبة التي لا يعرف اسمها، ويقترب من الجسد الضئيل القصير ويمعن النظر في العينين المرحتين قبل أن يمد يده بالسلام ويضع صندوق الكمان على الأرض، أحست الأم الطيبة بأن الجار الخجول يريد أن يسر إليها شيئا، عرفها بنفسه - ولم تكن في حاجة إلى تعريف - سألها إن كان من الممكن أن يتشرف بزيارتهم على أن يكون ذلك في أقرب وقت ممكن.
زاد انفراج الابتسامة على الفم الرقيق والوجه الحنون كله، وجاءه الصوت الضعيف ليقول: لا بد من التشاور مع الأهل وإبلاغ خال البنت، يمكنك أن تزوره في وزارة المالية وتسأل عن وكيل الوزارة للمراجعات الضريبية وستجد ألف من يدلك عليه، وعلى العموم لا بد من موافقة جنة وأخذ رأيها. سألت في خبث وهي تكاد تضحك: ألم تذهب إليها في الكلية؟ أغمض عينيه وغرق في عرق الخجل والارتباك فلم تنتظر الجواب بل مدت يدها بالسلام وذهبت في حال سبيلها.
منعه الخجل وقلة الحيلة من الذهاب إلى الخال الذي فاته أن يسأل عن اسمه، وتهيب موقف اللقاء العصيب مع المحبوبة التي تلبست روحه وعقله وأصبحت فكرته الثابتة المتسلطة فلم يجد في نفسه القدرة ولا الشجاعة للبحث عنها في الكلية التي لم يسبق له دخولها ولا يعرف طريقة الوصول إليها، ومرت أيام قليلة قبل أن يدق بواب عمارتهم الصعيدي العجوز بابه ليلا ويسلمه مظروفا صغيرا وجد فيه بطاقة كتب عليها بخط نسائي واضح ودقيق: «ننتظر تشريفكم بالزيارة مساء الخميس القادم، جيرانك.» شكر البواب وأعطاه ما فيه النصيب، وأمسك بالبطاقة وراح يقرؤها ويعيد قراءتها قبل أن يضعها في جيب قميصه فوق القلب مباشرة. أصبح الأمر جدا لا هزل فيه، فلتخض التجربة يا جورج وستخرج منها أنت وكمانك منتصرين، جرب جرب وكفى ترددا يا جورج.
ظل يردد هذه الكلمات ليل نهار حتى جاء مساء الخميس، لم يخطر على باله أن الأمر تحكمه العادات والأعراف والتقاليد، ولم يدر بخلده أن يطلب من شقيقته الكبرى وزوجها أن يصحباه في لقاء يتم فيه تقارب الأهل مع الأهل ولا مكان فيه لإنسان وحيد، وعندما تذكر ذلك قبل الموعد بقليل وبعد أن أتم ارتداء ملابسه لم يجد مفرا من الصعود وحده على سلم الجيران. فتحت الأم له الباب ولم تخف دهشتها من حضوره بمفرده؛ إذ خرجت إلى بسطة السلم بعد أن دعته بأدب شديد للدخول وكأنها تنتظر أن تسلم على بقية الضيوف. دخل من الباب فوجد نفسه في ردهة الاستقبال الكبيرة، وفوجئ بعدد كبير من الرجال والنساء الذين اتخذوا أماكنهم على الكنب والفوتيات والكراسي قبل وصوله بكثير؛ إذ لمح الأكواب والفناجين على الموائد الزجاجية الصغيرة الموضوعة أمامهم. سلم على الجميع في مودة ممزوجة بالرهبة، وبالغ في إحناء رأسه كثيرا أمام كبار السن، وألح عليه الشعور - بعد الجلوس على مقعد وحيد ومواجه للجميع - بأنه الليلة أشد وحدة مما كان في أي وقت مضى من حياته التي قضاها متوحدا مع كمانه، بل هاجمه الإحساس بأنه مهجور ومتروك للصدف وملقى به في عالم لا يعرف ماذا سيفعل معه، وداهمه الإحساس أيضا - إزاء الأعين التي تتفرس في وجهه - بأنه ملقى في حلبة صراع تاريخية قديمة وسوف تخرج عليه الوحوش الكاسرة التي ما زالت حبيسة الأقفاص.
رنت العبارات المألوفة في سمعه رنينا عجيبا: أهلا وسهلا، يا مرحبا بالفن وأهل الفن، سمعناك كثيرا يا أستاذ قبل أن نتشرف برؤياك.
رجع الجميع للحديث الذي كانوا منخرطين فيه بعد أن لاحظوا أن الضيف القصير ذا النظارة الطبية لا يكاد يرفع رأسه المطرقة نحو الأرض ، وأنه فيما يبدو قد صمم على ملازمة قوقعته وعدم مغادرة شرنقته إلا بعد وقت غير قليل، رجعوا لما كانوا فيه من أحاديث عن الأزمات التي كانت شائعة في ذلك الحين؛ أزمات زحام المواصلات والكبريت والملح والفكة، خصوصا وقد اقتربت مواسم الاحتفالات والأعياد. رفع رأسه محاولا أن يعثر في شبكة الحوار على ثقب يمكن أن ينفذ منه بكلمة أو عبارة أو حتى بابتسامة موافقة أو اعتراض. كانت الأصوات تعلو وتتزاحم وتجأر بالشكوى من الفساد العام والاختناقات في كل الميادين وغياب الحريات في ظل العسكر الذين قبضوا على رقبة البلد وأصبحوا بقدرة قادر هم الساسة وخبراء المال والاقتصاد والزراعة، وربما الفكر والفن أيضا، وهنا نظر إليه أحد الحاضرين وكان قريبا منه وسأله: نريد أن نسمع رأي واحد من أهل الفن بعد أن سمعتم رأيي عن الفساد المستشري في الجامعة والتعليم في كل مراحله. نظر إليه جورج وأدرك أنه قطعا من أهل العلم، كما فهم مع استمرار الحوار أنه مدرس بالجامعة وزوج شقيقة المحبوبة التي جاء يطلب يدها، وقبل أن يبلع ريقه ويدير الرد في ذهنه فوجئ برجل نحيل شاحب الوجه بصورة ملحوظة يرفع صوته وصدره يلهث ربما من ربو قديم: لا تتعبوا الضيف الكريم، طوفان الفساد عم وفاض ولا على أيام سيدنا نوح، المهم الآن هو من يصنع السفينة.
ضحك أحد الحاضرين وهو يسعل بشدة ويضع سيجارا غليظا في فمه: يصنعها كل المخلصين كما فعلوا في كل الأزمنة السوداء (ثم موجها سؤاله مباشرة إلى الضيف الذي بدا له الآن أنهم جميعا قد جاءوا لرؤيته والاستماع إليه) أليس الفن انعكاسا للواقع يا أستاذ؟ حتى الموسيقى كما تعلم ...
تنحنح جورج وهم بالكلام فقاطعه الرجل النحيل اللاهث الصدر الذي عرف بعد ذلك من سياق الحوار أنه خال المحبوبة ووكيل الوزارة المرموق: الموسيقى؟ وماذا تفعل الموسيقى أو الموسيقيون؟ هل يمكنها أو يمكنهم أن يصدوا الطوفان؟ هل توقف الموسيقى زحف جيوش الذئاب والكلاب والعقارب والثعابين؟ ليت الأمور كانت بهذه البساطة!
هبط السكون والوجوم على رءوس الجميع ، وأخذ الكل ينتظر ما سيقوله الضيف الذي تشجع واندفع يقول: الموسيقى كغيرها من الفنون تعكس الواقع وروح العصر بطبيعة الحال، لست فيلسوفا في الفن أو علم الجمال حتى أشرح هذا بالتفصيل، ولكن حتى الموسيقى تعكس الواقع كما قلت ولو من بعيد وبشكل غير مباشر، تذكروا مثلا أن سيد درويش هو الذي عكس بأغانيه وأناشيده ثورة الشعب الكبرى سنة تسعة عشر، وأن بيتهوفن بسمفونية البطولة عكس روح عصر نابليون وعبر عن خيبة أمله هو وجيله في البطل الذي تحول إلى طاغية. ماذا تكون الحياة بغير الفن؟ هل يتصور أحد أن يعيش بدون أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وبقية الملحنين العظام؟
سكت جورج ليلتقط أنفاسه فعاجله الرجل النحيل اللاهث الصدر وهو يسعل سعالا شديدا: وهل يمكن للموسيقى أن تغير شيئا مما نحن فيه؟
قاطعه جورج وكأنه وجد نفسه مضطرا للدفاع عن كرامة الفن: الفن يغير الواقع دائما، لقد غيره على الدوام ولكن ببطء شديد.
رجع الرجل النحيل يقاطعه: هل يستطيع الفن أن يطعم جائعا أو يكسو عريانا أو يضع طوبة فوق طوبة أو يوقف مستبدا أو لصا كبيرا أو صغيرا عند حده؟ اسألني أنا عن كم الفساد وخراب الذمم المنتشر في كل مكان، أنا أعمل في وزارة المالية وأراجع بنفسي مدى السلب والنهب للمال العام.
حلقت سحابة جديدة من السكون والوجوم فوق الجميع، واخترقها الرجل النحيل الذي توجه بالسؤال المباشر إلى جورج: لا تؤاخذني يا بني، هل تتصور أن في إمكانك وفي ظروف الفساد والكساد العام أن تفتح بيتا من الموسيقى؟ لا تؤاخذني بسبب صراحتي، ولكني في موقع المسئولية ولا بد من هذا السؤال.
تلعثم جورج قليلا وتنحنح عدة مرات قبل أن يرد بصوت واضح وواثق على السؤال الذي فاحت منه روائح الشك وربما الإهانة: أجل، أستطيع بإذن الله، ولكي أدخل في الموضوع وأكون صريحا مثل سيادتك أخبركم أنني أدرس الآن آلة الكمان في معهد الموسيقى ولن تتأخر إجراءات تعييني في أقرب وقت، كما أنني أصبحت عضوا عاملا في فرقة الموسيقى العربية ودخلي بحمد الله غير قليل.
نظر إليه الخال نظرة طويلة قبل أن يحول الحديث وجهة أخرى ومع شخص آخر، وبدأت الأحاديث الجانبية تطغى على الجلسة بجانب الأحاديث الشخصية والعائلية التي جعلت جورج يطرق برأسه من جديد ويدخل شرنقته أو قوقعته التي كان قد غادرها قبل قليل، ولما وجد أن الجميع، بما فيهم المتعاطفون مع الفن وأهل الفن، قد انصرفوا عنه تماما وكأنه غير موجود، نهض في أدب وهو يقول وعلى شفتيه بسمة حزينة وفي عينيه ما يشبه العتب على الخال الذي وقف أيضا مع الآخرين: تشرفت بمعرفتكم وإن شاء الله أسمع منكم كل خير. رد الخال وهو يمد يده بالسلام: ونحن تشرفنا بك والله يقدم ما فيه الخير.
أحنى جورج رأسه للجميع، وسلم على كل من مد يده إليه بالسلام، واتجه إلى الباب الذي دخل منه ووجد عنده الأم الطيبة التي استقبلته قبل بداية اللقاء بالأهل والأقارب الذين لم يكد يتعرف عليهم، وعندما هبط على سلم العمارة سأل نفسه وكأنه يغرز بيده خنجرا حادا في صدره: ترى لماذا لم تفكر في الحضور ولو لحظة واحدة للسلام علي؟ أهي التقاليد الصارمة أم الخجل أم الرفض المبدئي للزائر وللموضوع؟
عجز عن كل تفسير أو تبرير، وعندما قابله البواب الصعيدي العجوز بعد ذلك بأسبوع أو أكثر وقال له: الست هانم التي زرت الجماعة من أجلها تمت خطبتها يوم الخميس. سأل جورج في هدوء: تقول خطبت؟ قال البواب: نعم نعم يا بيه، لضابط كبير على كتفه نسر ونجوم. قال جورج بنفس الهدوء: مبروك يا حاج، قل لهم ألف مبروك، وربنا يتمم بخير.
وانصرف مسرعا كأنه هارب من عاصفة أو إعصار يتقدم نحوه ومعه الغبار والظلام والسواد. كان أعجز من أن يجد الكلمة التي تصف ما حدث، أحس بما لا يستطيع أن يصفه أو يدرك كنهه، ووجد نفسه يفتح باب لؤلؤته الصغيرة الخانقة ويسرع إلى صندوق الكمان فيخرجه من مرقده ويضعه على صدره ويواصل العزف كالمحموم أو المجنون طوال ذلك اليوم والأيام والليالي التالية . •••
تنحى عن المدخل قليلا لكي يتقدمه بشارة الذي يعرف أهل البيت وتربطه بهم صلة قرابة، وتذكر وهو يصعد الدرجات الخشبية اللامعة ويقلب بصره في الجدران والأنوار وأبواب الشقق الأخرى أنه سبق أن صعد هذا السلم نفسه قبل ما يزيد على الثلاثين عاما، وأنه قد أصبح أكثر بهاء ونظافة ولمعانا مما كان عليه، وهو لا ينسى أنه هبط على هذه الدرجات نفسها وكل خلجة فيه تنتفض بالألم والحسرة والإحساس بالاندحار والخذلان والمهانة، وأشد ما آلمه في ذلك اليوم والأيام التالية أنه قدم نفسه - ببراءة الفنان وسذاجته - بلا تمهيد ولا مقدمات لأناس لم يفهموه ولا كان من الممكن أن يفهموه أو يقدروه أو يتعاطفوا معه.
أخرجه من حصار ذكرياته صوت بشارة وهو ينادي باسمه وصوت صبي صغير يدعوه أن يتفضل بالدخول، وما هي إلا لحظات حتى كان عزمي نفسه، بقامته الطويلة وحيويته البالغة ووجهه البشوش، قد ظهر وراء الباب المفتوح وهو يهلل ويحيي بدفء وحرارة بالغين، ويسلم على جورج بترحيب شديد وهو يلتفت إلى بشارة: أعظم هدية منك يا بشارة (ثم وهو ينظر إلى صندوق الكمان) وهذه أجمل فرصة للاحتفال بمناسبتين سعيدتين في وقت واحد؛ تشريف الأستاذ جورج لأول مرة وأرجو ألا تكون المرة الأخيرة، مع حفلة عيد ميلاد صغيرة لا بد أن الكمان ستملؤها أنسا وبهجة. قال هذا وهو يهتف بصوت عال: تفضلوا، تفضلوا (ثم وهو يميل على أذن بشارة ويسر إليه هامسا) اليوم عيد ميلاد جنة، وأنت تعلم كم هي مريضة.
تفضل الضيفان وراء عزمي والصبي الصغير الذي كان من السهل أن يحدس الزائر بأنه ابنه، وقد أكد عزمي هذا حين قال وهو يشير إلى الأريكة البنية الواسعة وكراسي الفوتي المريحة، هذا هو ابني أنيس، أول العنقود وآخره، أمه تتغيب عنا يومين في الأسبوع بسبب المحاضرات التي تلقيها بجامعة الإسكندرية. لم أستطع أن أؤجل الاحتفال بعد أن تعرفت عليك يا أستاذ جورج؛ لهذا اغتنمت الفرصة العظيمة عندما رأيتك عند بشارة، وسترى بنفسك أنه لم يكن يحتمل التأجيل، هيا
والتقصير، وشكرا لك يا بشارة على هذا الشرف العظيم.
حاول جورج الذي ثبت صاحب البيت عليه عينيه أن يقول شيئا، لكن شفتيه تحركتا قليلا ولم يخرج منهما صوت. شعر أن الرد الملائم على مجاملة عزمي هو أن يخرج كمانه من جرابه ويعزف شيئا يحيي به البيت وأهله، وانحنى بالفعل على الصندوق وأخرج رفيقة العمر ووضعها على حجره. لم يغب عنه أن يلاحظ التغير الذي طرأ على الأثاث والسجاد والثريات المتلألئة في السقف عما كان عليه الحال قبل ثلاثة عقود أو أكثر، وأكد هذا ما قاله عزمي وهو يخبط بكفه على كتف بشارة: تغييرات كثيرة كما ترى، لتشعر كم أنت مقصر في زيارتنا. حاول بشارة أن يعتذر بدوامة الأيام والأعمال، وربت عزمي على ظهره وهو يقول مطرقا برأسه إلى الأرض: ليته اقتصر على الأثاث وحده (ثم وهو يخفض صوته كأنه لا يريد أن يسمعه أحد سواه) بعد مرض جنة المفاجئ كان لا بد من التصرف بسرعة، مات زوجها كما تعلم في حرب ثلاثة وسبعين، وزوجت بنتيها في الأعوام الخمسة الأخيرة مما أرهقها وأتعبها تعبا شديدا، وحين فاجأها المرض الملعون وفاجأنا لم يكن من الممكن أن نتركها تعيش وحدها وهي بهذه الحالة فأحضرناها لتعيش معنا ونستطيع رعايتها وتدبير العلاج اللازم لها في كل الظروف (وأضاف وهو يضع يده على وجهه ويكاد يبكي) الأمر لله، هي مأساة كبيرة ولا حيلة لنا. شد بشارة على يده وقال محاولا أن يخرج صديقه والضيف الحاضر من إطار اللوحة القاتمة: يا أنيس، الحقنا يا بني بالحاجة الباردة قبل الشاي. قال عزمي وهو ينهض متجها إلى الداخل ويهتف بصوت مرح يحاول أن يكون طبيعيا: يا أنيس، هل غرقت في شبر ماء؟ أين العصير يا بني؟
في هذه الأثناء كان جورج قد أخرج الكمان من الصندوق وأخذ يمر بأصابعه على الأوتار والمفاتيح في رفق وهو يضع أذنه بين الحين والآخر على الجسد الخشبي المحتشد بشتى الأنغام . تطلع أمامه وفوقه وحواليه في هدوء وراحت أجنحة خياله تحلق في سماء اللقاء القديم. لم يسأله أحد أن يعزف شيئا محددا، ودون أن يدري وجد نفسه يسبح على أمواج ذكريات القصبجي، كما وجد الحاضرون أنفسهم يغوصون مع اللحن في دهاليز الوجوم والاكتئاب والحنين والندم والحسرة والتسليم للتعاسة الخالية من أي أمل. كانت الصينية وعليها أكواب العصير والمشروبات المتنوعة قد وضعت على المائدة، حتى أنيس الذي أحضرها وقف متجهما وكاد أن يغرق في نهر النغم الحزين، واستطاع عزمي أن يخلص نفسه من أسر اللحن المعتم فاقترب من جورج وهو يتكلف الضحك وفي يده كوب من عصير البرتقال وقال له: لاحظ يا أستاذ جورج أننا سنحتفل الليلة بعيد ميلاد، أرجوك أن ... رد عليه جورج وهو يضع الكمان بجواره على الأريكة: معذرة يا أستاذ عزمي، سأحاول أن أخرج من جو الذكريات. وأضاف بشارة وهو يربت على يد جورج: ادخل في الجو المرح أرجوك، ستأتي بناتها الآن ومعهن الأزواج والأولاد، هذا ما فهمته من عزمي، الست مريضة جدا ولا داعي للمزيد.
دق جرس الباب ودخلت سيدتان شابتان في ملابس ملونة ومبهجة، وظهر وراءهما شابان يفيض وجهاهما بالصحة والنضارة، وضعا علب الهدايا التي يحملانها فوق المائدة المستطيلة وانطلقا إلى الداخل مسرعين بعد تحية عابرة للحاضرين، ونادى عزمي على ابنه: قل لهم يحضروا عمتك يا أنيس، نريد أن نسمع ونأكل ونحتفل معها، أليس كذلك يا حضرات؟
لم تمض لحظات حتى ظهر كرسي متحرك يدفعه أنيس من الخلف وتجلس عليه مريضة متصلبة ومتخشبة، رأسها مركون على المسند في أعلى الكرسي وخلف ظهرها وتحت قدميها مسندان آخران من قماش أحمر بخطوط سوداء. صفق بشارة وهو يسرع للمشاركة في دفع الكرسي المتحرك: هابي بيرث داي ... هابي بيرث داي تو يو. وردد عزمي وأنيس والزوجان الشابان اللذان ظهرا وراء الكرسي: والليلة عيد، عالدنيا سعيد ...
بدأ الجميع ينهمكون في صف الأطباق والأكواب وعلب التورتة والجاتوه والحلويات التي أحضرها الضيوف. حملق جورج في الوجه المتقلص الذي اعوج فكاه وزاغت فيه العينان ولفه التعب والإرهاق وأطبق عليه الهمود والجمود، أخذ يفتش فيه عن الوجه القديم الذي كان يرتعش لمرآه ويحس كأن صاعقة ضربته وداهمته من العينين الناريتين. هل هذه هي جنة التي عشت ثلاثين سنة في جحيم ذكراها؟ أهذا هو الوجه الذي كان يسحرني ويفتنني بملامحه الحادة المضيئة، وأنفه السامق المتكبر، وشفتيه المحمرتين الممتلئتين، وغمازتيه العابثتين الماكرتين تحت الوجنتين البارزتين، والشعر الأسود المسترسل كفرعي صفصاف على شاطئ ترعة أو بحيرة؟ أهذه جنة التي لم أعرف اسمها إلا اليوم، جنة التي كرست حياتي وألحاني ونومي وصحوي ونبضي وأنفاسي لتمجيد اسمها وإحياء جذوة حبي اليائس البائس لها وصونها من الذبول والخمود والسأم؟ ماذا أرى الآن أمامي؟ حطام إنسان أحببته بلا أمل وتوحدت من أجله ورفضت أن يكون لي ملهم أو رفيق حياة سواه؟ كيف تحول إلى صنم متحجر، مجموعة أعضاء متشنجة عاطلة من الحركة والجمال والوعي؟ وأنا الذي حلمت أن أراك عن قرب وأسلم عليك وأبادلك الكلام مرة واحدة ولتكن الأخيرة قبل أن يغيبني قبري؟ ما الذي جرى لك وأي لعنة وأي شيطان فعل بك ما فعل؟
أفاق جورج على صوت هامس في أذنه. كان عزمي يميل برأسه عليه ويسر إليه بما غاب عنه: إنه الشلل بعيدا عنك، أصابها في المخيخ ولم نستطع أن نفعل شيئا، قال الأطباء إنها ستبقى هكذا ولا أمل في أي تحسن، أرجوك أن تبدأ العزف حتى نحتفل وننسى.
سأل جورج: وماذا تفضل؟ هل أعزف موسيقى أغاني أم كلثوم أم موسيقى عبد الوهاب أم ...
أجاب عزمي: كانت تفضل أم كلثوم على أي صوت آخر، يمكنك أن تعزف ما تشاء ويناسب عيد الميلاد، حتى بيتهوفن ممكن، لقد وجدت عندها شرائط كثيرة له. لاحظ أن سمعها ضعيف، تماما مثل بصرها، ربما لا تجد أي استجابة من ناحيتها، لكن أرجوك ألا تتوقف عن العزف، نريد أن ننعشها ونسليها قليلا عن مرضها اللعين.
هب جورج والكمان على صدره والقوس يتحرك على الأوتار المشدودة بلحن الليلة عيد، غنى الجميع وراءه وهللوا وصفقوا. لم يبد على المريضة المتخشبة أنها أحست بشيء. لم تحول رأسها أو عينيها الزائغتين نحو النغم المنساب ولا نحو التهليل والتصفيق، وتواصل العزف لحنا بعد لحن وأغنية بعد أغنية؛ شمس الأصيل وهجرتك، مقاطع من غلبت أصالح وسهران لوحدي والأطلال والرباعيات. الكل يتابع ويغني مع الموسيقى الصافية المنسكبة في رقة وحنان، حتى مقطوعتي ضوء القمر ومن أجل إليز اللتين عزفهما جورج باقتدار واستغراق لا نظير له وجدا الاستجابة أيضا من الجميع. ظل الوجه المائل المسنود على كتف الكرسي المتحرك متصلبا على ما هو عليه، وبقيت عينا جورج مثبتتين عليه طول الوقت على أمل أن تتحرك فيه عضلة أو يرتجف رمش أو تهتز شفة بكلمة واحدة. كانت تخرج منهما آهة ممطوطة بين الحين والحين، آهة لا يدري أحد كيف يفسرها ولا يعرف إن كانت تعبيرا عن اليأس والتسليم أم عن الغضب والتمرد العاجز على الشلل الملعون، والمؤكد أن هذه الآهة لم تصل إلى كل الآذان؛ فقد انشغل الصغار والكبار بالرقص حول المشلولة، والتهليل بالغناء على أنغام الموسيقى، ثم بإطفاء الشموع بدلا من الصنم المسكين الغائب عن كل شيء، والانكباب على التهام الجاتوه وقطع التورته مع الشاي.
وأوقف عزمي الضجيج والضوضاء بإشارة حاسمة من يده التي تحمل علبة صغيرة من القطيفة الزرقاء. صاح على الملأ: جاء وقت هدية عيد الميلاد، اسمحوا لي أن أضع هذا العقد اللؤلئي حول عنق جنتنا العزيزة.
اتجهت نظرات الجميع نحو عزمي الذي وقف خلف المريضة وأخذ يلف العقد الناصع حول رقبتها، لم يبد عليها أنها لاحظت شيئا أو اهتمت بشيء، وحتى الآهة التي انطلقت مبحوحة من بين شفتيها الذابلتين لم يكد أحد يحس بها أو يلتفت إليها.
رجع جورج إلى مجلسه على الأريكة التي وضع عليها صندوق الكمان بعد أن شعر بالتعب والإرهاق، وتسمرت عيناه على الوجه المتصلب والعينين التائهتين. غاب هو أيضا عن الجميع فترة طويلة من الوقت ولم تمتد يده إلى الطبق الكبير الذي وضعه بشارة أمامه. أحس أنه يريد أن يخفي وجهه بين كفيه وينشج بالبكاء كما لم يحدث له طول حياته على الأرض. نهض واقفا والصندوق الأسود في يده اليسرى واليمنى تتقدم نحو عزمي بالسلام والرأس تميل على أنيس وبشارة لتقبلهما. حاول بشارة أن يثنيه عن الانصراف مؤكدا أنه سيوصله إلى مسكنه، لكنه اعتذر بضرورة انصرافه بسبب البروفة التي تنتظره في الصباح ولأنه يسكن في نفس الحي ولا داعي لتعب صديقه القديم، هز رأسه محييا الحاضرين، ووقف لحظة في خشوع أمام المريضة كأنه يودع ميتا أو كأنه شارك لتوه في إلقاء التراب على مثواه الأخير. لم يدر ماذا قال لعزمي وبشارة ولا كيف اعتذر لهما. كل ما يدريه أنه وجد نفسه يهبط درجات السلم نفسها التي هبط عليها قبل ثلاثة عقود أو يزيد، وأنه شعر كما شعر في المرة السابقة بالاختناق بالعجز عن التعبير عن إحساساته المرتجفة التي لم يجد اللغة ولا الكلمات التي تطابقها أو تدانيها، وسأل نفسه وهو يمشي فوق الممر المفروش بالرمل والحصى ويخرج من البوابة العتيقة: هل ضاع كل شيء سدى؟ هل وضعت نفسي في الجحيم بإرادتي؟ هل عشت ضحية وهم كبير مخبول لم أفق منه؟ أم كنت أجد نفسي بالمرض الموروث في أهلي وجيلي، قال لنفسه وهو يشق طريقه على شاطئ النيل ويلمح الأمواج الملتمعة والمختلجة بأضواء المصابيح وألوانها: ليكن الأمر ما يكون، لن أتوقف عن العزف ولا عن الحياة، سأواصل وأواصل رغما عن كل شيء.
أحزان الكهل الطيب
قال لنفسه وهو يجتاز بوابة الحديقة التي يتردد عليها أحيانا ويسلم تذكرة الدخول للحارس الطويل الأسمر وعلى وجهه ابتسامة حكيم ممرور ومسامح: نزهة في الخريف تليق بكهل في خريف العمر. وهل عند الخريف الكهل ما يقدمه لكهل يقترب من الشيخوخة إلا الضوء الأصفر العليل، والنسيم الفاتر الذي يرف رفيف عصفور صغير ويتيم، وهامات النخيل والكافور المحنية من ثقل الحزن والضجر والتأمل الطويل والشوق الملهوف إلى نضارة الربيع وغناء الطيور ولعب الأطفال ومواكب العشاق؟ تبسم الكهل وهو يتلفت إلى اليسار ويرى بعض الزوار الملتفين حول النموذج المجسم المحاط بجدران زجاجية طالما أطل من خلالها على معالم الحديقة الشاسعة، ثم تطلع أمامه إلى التل الأخضر الذي ثبتت عليه ساعة تصر منذ زيارته الأخيرة للحديقة على أن تشير إلى منتصف الظهيرة أو منتصف الليل لا يدري.
سار على مهل فوق الأوراق الذابلة كأنها تذكرة بأوراق عمره المنقضي أو بآلاف الأوراق التي سودها خلال ما يقرب من أربعين سنة ولا بد أنها الآن تتعفن أو ترتجف من برد الوحدة والصمت والظلام في كتب مهجورة على الرفوف أو في المخازن المعتمة السوداء. كان قصير القامة ميالا إلى السمنة، وجهه الطفلي الأبيض المستدير تتوجه قمة بيضاء مشعثة تخلو من شعرة واحدة سوداء، وهو يتقدم على الطريق الصاعد ببذلته الخفيفة الداكنة التي لا تلفت الأنظار وكأنه جاء ليودع أصحابه من الأشجار والأزهار والعصافير والأطفال والعشاق المتناثرين، أو ليلقي وصيته الأخيرة عليهم ويفيض على الجميع دفقة حنان الأب الرءوم الذي يوشك على السفر إلى المجهول، ويمشي ويعمل ويأكل وينام وهو في كل لحظة على أهبة الوداع المحتوم. يتدلى من يده كيس من البلاستيك الأصفر يحتوي على حزمة مسودات ومشروعات ورءوس موضوعات يريد أن ينفرد بنفسه كعادته في ركن من أركان الحديقة ليراجعها ويحاول إحياء بذورها التي كادت تموت من طول الإهمال أو النسيان، ومع هذه المسودات نظارته الطبية وقلم رصاص صغير وقطع من الحلوى يمكن عند الضرورة أن تنقذه من غيبوبة الضغط المنخفض الذي طالما سحبه إلى الهاوية السفلية السحيقة. •••
أوصلته خطواته المتأنية الثقيلة على الطريق المرتفع إلى جوار لافتة على شكل سهم مكتوب عليه: إلى حديقة الصداقة. وبينما هو يتجه إلى الدرج الصاعد إلى تلك الحديقة التي تناثر فيها عدد من المعالم البارزة والنماذج الدالة على بعض الدول الشقيقة، إذا به يتسمر في مكانه كتمثال حجري أو خيال مآتة مذهول. سأل نفسه وهو لا يرى إلا ظهرها والطفلة الصغيرة التي تمسكها من يدها وتحاول - رغم صياحها - أن تتركها تصعد الدرجات بنفسها: أيمكن أن تكون هي؟ هل حانت اللحظة الضائعة وآن الأوان - بعد أربعين سنة قاسية - لكي أسلم عليها وأنظر في عينيها وأكلمها للمرة الأولى في حياتي؟ اقترب من الدرجات التي تصعد عليها هي وحفيدتها - إذ لا بد أن تكون حفيدة! - وهو يدقق النظر بقدر ما يسعفه بصره الكليل. لا ليس ثمة شك في أنها هي، ظهرها المنحني تحت تقل حدبة خفيفة في أعلاه، ساقاها السمراوان النحيلتان كأنها من أهل النوبة أو أسوان، شعرها الفاحم الطويل الذي طالما رآه ينسدل على ظهرها وجبينها العريض الناصع، وطالما جذبه الحنين لأن يغرق وجهه في ليله الرحيم الدافئ، يا شد ما تخللته الشعرات البيض وتوغلت فيه أشعة الخريف الصفراء، والخطوات الحازمة الصارمة التي يتردد معها الصوت الصارم الحازم وهو يأمر الصغيرة بألا تلتفت أبدا أبدا للوراء.
تأوه وهو يضع قدمه على أول سلمة في الدرج العالي: ليتك تتلفتين للوراء لتري جارك القديم، أم تراك ستعبرين عليه كما فعلت على الدوام وربما لم تتذكري الحبيب الخائب الذي لم يبادلك كلمة واحدة، ولم يسمع صوتك مرة واحدة، ولم تلمس يده يدك إلا مرة واحدة في لقاء عابر عندما كنت تقفين مع أمك وطفلتيك في مدخل الصيدلية الكبيرة في الميدان الكبير القريب من مسكنك ومسكني في الجوار. أجل! أجل! لا يمكن أن تكون إنسانة أخرى سواك، ولا يمكن أن أضيع هذه الفرصة - بعد أن ضاع العمر كله - دون أن يخاطب لساني لسانك وتنظر عيني في عينك ولو أدى الأمر أن أسير وراءك حتى نهاية العالم، لكن الارتباك الأزلي يبدأ منذ الخطوة الأولى في أثرك، ماذا أقول لك بعد أربعين سنة لم ترك فيها عيناي إلا بمحض الصدفة عند منعطف طريق أو في صحبة ابنتيك وزوجك أو وأنت تطلين علي من داخل سيارة دون أن يدل شعاع من عينيك أو حركة من فمك أنك تعرفت على الجار البائس القديم، وإذا افترضت أنني تشجعت أخيرا وهتفت أناديك باسمك، هل ستتذكرين ملامح وجهي أم ستنكرينها بعد أن حفرتها التجاعيد والأخاديد وصار الشعر في بياض الثلج، وسقطت الأسنان وانتفخت العينان من طول التعب والسهر على الكتب والأوراق؟ وكيف صرت أنت أيتها المحبوبة الظالمة المظلومة بعد أن دارت بنا الأرض أربعين دورة حول الشمس القاسية؟ هل سيصعقني نفس الشعاع الذي كان ينطلق من بريق عينيك السوداوين الواسعتين فيأسرني بأغلاله الفضية ويسحرني ويخرسني كالأبكم الأصم أو يجعلني أتوقف في مكاني كالشحاذ العاشق الذي ينتظر طلعة بنت الأمير في موكبها الرنان، ولا يطمع إلا في لمحة من ضوء نجمتها المستحيلة، ألن أشعر بالحرج الذي بدأ يجتاحني من الآن عندما أقف أمامك وأحاول أن أذكرك باسمي ورسمي وعملي وضياعي وتمزق قلبي ولحمي وأيامي منذ أن تركت مسكني المجاور وأغرقت نفسي - في محاولة يائسة لنسيانك - في بحور المعرفة والكتابة والقراءة فلم يسلم قاربي الصغير من الغدر والخيانة والضياع والاصطدام بصخور الشواطئ التي لم تكن أبدا هي شواطئ النجاة؟! سأراك بعيني كما رأيتك على الدوام؛ جنتي المحظورة وقمري المستحيل وأمي الصغيرة التي حرم من حنانها الطفل اليتيم، وسترينني أنت كما لا بد أنك رأيتني في المرات المعدودة التي شاء فيها بصرك أن يقع علي؛ نفس المقهور المكسور حتى من أقرب الناس إليه، نفس العاشق الخائب الذي لم يسر إلى جوارك مرة واحدة، وها هو يسير وراءك - يا للمفارقة المضحكة المبكية! - كما سار أورفيوس في العالم السفلي الذي نزل إليه بحثا عن حبيبته وزوجته التي اختطفتها آلهة الموت القاسية، لكن الآية انقلبت، وبدلا من أن يسير الشاعر والمغني الأسطوري في المقدمة وتمشي وراءه الزوجة والحبيبة الغالية، أراني ألهث وراءك منتظرا لفتة واحدة منك إلى الخلف، وأراك تشدين يدك على يد حفيدتك خوفا من أن تنزلق على المنحدر الأخضر الذي يفضي إلى طريق ضيق تحفه قناتان صغيرتان ويؤدي إلى الأعمدة المغربية الفاتنة المتلاحمة والمرتفعة كالخيمة الرخامية المثمنة الأضلاع في فناء جامع أو ساحة قصر أندلسي بديع. •••
تقفين تحت سقف المثمن الرائع وتلمسين الأعمدة، وتنفلت من يدك الحفيدة جارية خلف فراشات صفراء وخضراء وزرقاء بلون «فيونكة» شعرها الملونة، تمسكين بيدها وتجرينها تحت الخيمة الرخامية وأكاد أسمعك تشرحين لها وتفسرين وأنت تمرين بيديك على النقوش العربية التي تتثنى خطوطها تارة كأمواج البحر وتتدلى تارة أخرى كأوراق الشجر وفروعه وتتكور وتمتلئ كعناقيد الكرم، لكن الطفلة تتابع الفراشة ولا تتابعك، ولو لاحقتها إلى الخلف فلربما رأتني مختبئا وراء شجرة ضخمة تتقافز منها وإليها العصافير التي تزقزق بجنون، ولو رأتني البنت الصغيرة لهتفت منادية «جدو» العجوز أو جرت نحوي ووقفت أمامي صامتة واضعة إصبعها في فمها، عندئذ تأتين أنت أيضا وتتعرفين علي أو أعرفك بنفسي - وليتني أستطيع أيضا أن أقول: اليوم حققت لي الأمنية التي تمنيتها من سنين وسنين؛ أن أراك أمامي ويخاطب لساني لسانك وتلمس يدي يدك قبل أن يغلق علي القبر إلى الأبد - لكنك تتناولين يد الصغيرة وتمضين أمامك متجهة إلى اليسار حيث تشير الأسهم إلى معالم دول أخرى غير المغرب الشقيق. أركن إلى أريكة عدة دقائق وعيني تتابعك أنت والصغيرة، ثم أنهض وأسير وراءك خشية أن أفقد أثرك، ألاحظ الصغيرة تشد ثوبك وتنبهك إلى شيء. تربتين على رأسها وضفيرتها المتدلية على ظهرها وتميلين معها إلى اليمين، ثم تدخلين معها مرحاض النساء حيث تغيبان لحظات قبل أن تخرجا منه وتتجها مباشرة إلى الأمام، وتضيع فرصة رؤية وجهك فلا أرى - من مكمني تحت ظل شجرة جزورين عظيمة الجذوع والفروع - سوى ظهرك المنحني قليلا تحت وطأة الحدبة التي تعلوه، وتواصلين السير إلى اليمين وتعبرين ساحة مسورة تضم بيوتا تراثية قديمة مصنوعة من الخشب وتفوح منها على البعد رائحة الماضي الطاهر المبلل بعرق البسطاء وتدفئها أنفاس سكانها من الرعاة والفلاحين والصيادين. تمرين على هذه البيوت وتقفين قليلا أمامها، ثم تعرجين على الأبراج الثلاثة المرتفعة كالأقماع الحجرية الهائلة التي تمتد منها وتكاد تخرق سحب السماء أعمدة عالية وشامخة كالحراب، لا بد أنك عرفت أنها رموز على الكويت قبل عهد النفط وبعده، وما أبعد الفرق بين ما قبله وما بعده. •••
وتتجولين مع الصغيرة داخل السور وتحت بوابات المدينة القديمة والحديثة، ويرجع بي الفكر إلى السنوات التي قضيتها في جوارك وبالقرب منك، أتذكرين فزعي إلى الشرفة كلما سمعت وقع كعب حذائك الصارم - كمهرة عنيدة شرسة - على أرض الفناء الذي يفصل البيت الذي أسكنه عن بيتك، أتذكر أيضا كيف كنت تنادين على أمك أو شقيقك أو تكلمينهما دون أن تكترثي بإلقاء نظرة على المحب الواقف في الشرفة يتسول لفتة منك.
هل فهمت أيامها من أكون وماذا أعمل؟ وهل عرفت من شقيقك - الذي دق جرس بابي مرة وجاء يبحث عن كرته التي سقطت في شرفتي واغتنمت تلك الفرصة وأهديته آخر كتبي وعلى غلافه صورتي ونبذة عني - هل عرفت منه أنني أعيش لأقرأ وأكتب وأضطر في بعض الأحيان أن أقرأ وأكتب لأعيش، كم كنت تمرين على نافذتي المفتوحة في النهار والليل وترينني ساهرا على لمبة مكتبي، وربما رأيت من بعيد رفوف الكتب التي تطوقني من كل الجهات، فهل سألت نفسك يوما من أكون؟ لم أكن مجرد كاتب قصص ومسرحيات ومقالات، ولم أكن مجرد رحالة بين البلاد والعصور والحضارات، ولا مجرد مترجم لشعراء وحكماء من الصين واليونان وبلاد الإنجليز والفرنسيين والجرمان، إنما كنت - ولك العذر لو كنت قد فهمت هذا وأدركه بصرك الحاد - حارس قبور يختنق في تراب الكتب وتراب أصحابها الأموات-الأحياء من مئات أو ألوف السنين. نعم كنت الحارس الأمين على قبور هؤلاء الأعزاء، أناجيهم بالنهار وأسامرهم بالليل وأفتح مدافنهم - أقصد كتبهم - وأتركهم يكلمونني ويضعون في يدي وقلبي تجاربهم ويواسونني وكثيرا ما يلعنونني ويعنفونني ويطردونني فأسترحمهم وأنا أقول: ليس لي سواكم، أنتم ملاذي في الحياة، وأملي بعد الموت أن تضموني إليكم ولا تضنوا علي بأن أكون عضوا صغيرا في ناديكم أو مجمعكم أو مدينتكم الفاضلة. هكذا كنت في تلك الأيام يا عزيزتي، وربما لهذا السبب تجاهلتني وأزريت بي ورفضتني عندما تقدمت لخطبتك - على استحياء ومن خلال بطاقة أرسلتها - و يا لخجلي من خجلي الفطري عندما أتذكر الآن ما فعلته قبل أربعين سنة! مع الرجل الطيب بواب عمارتكم فلم يأتني رد حتى هذه اللحظة التي أتعثر فيها وأنا أسير وراءك وأمني النفس بأن أرى وجهك وأناديك وأبادلك كلمة واحدة قبل أن أغيب في قبري إلى الأبد. •••
وتعرجين يمينا في اتجاه نماذج أخرى لمعالم مختلفة من بلاد شقيقة، تفتحين حقيبتك البنية الأنيقة وتناولين الحفيدة كيسا مطويا على سندوتش كبير، ثم تنتظرين قليلا وأنت تسندين ظهرك على إحدى الأرائك حتى تفرغ الصغيرة من وجبتها فتعطينها كيسا مملوءا بشرائح الشيبسي ثم كيسا آخر أخمن من بعيد من مخبئي في ظل شجرة وارفة ربما تكون شجرة كافور عتيقة؛ أنه يضم قطع الشيكولاتة والبونبوني الصغيرة، وتتجولان بين المعالم الدالة على إحدى دول الخليج، بين إبريق القهوة النحاسي الضخم ومعه مجموعة من الفناجين، وبئر دائرية واسعة جف منها الماء وامتلأت بالأوراق والأحجار والنفايات والفضلات، وساقية هائلة تقفين مع حفيدتك مبهورتين أمامها وتحاولين أن تشرحي وتفسري كما تدل على ذلك إشاراتك بالذراعين واليدين والأصابع. كل هذا وأنت تديرين ظهرك فلا أرى سوى انحناءة الحدبة في أعلاه، والشعر الفاحم الذي تخللته الشعرات البيض كأنها العروق الفضية في منجم حجري أسود، ولأني لا أرى وجهك فإنني أتصوره أمامي كما أشرق علي في ذلك اليوم البعيد وفي تلك اللحظة التي احتضنت الأزل والأبد وصارت بيت الخلود، أنت لا تتذكرين بالطبع تلك اللحظة ولا ذلك اليوم، وأنا لا أعيش إلا بهما وعليهما، ولا يواصل قلبي نبضه إلا بحرارتهما ودفئهما الذي لم يخب ساعة واحدة من حياتي، ولا فارقتني شعلتهما في أي مكان أو أي بلد عشت فيه أو عملت. دعيني أذكرك بذلك اليوم البعيد وتلك اللحظة الخالدة، دعيني أحك لك عما فعلا بي وما زالا يفعلان ريثما تستريحين مع حفيدتك في جلستكما على الأريكة حينا أو على السور الواطئ الذي يطوق البئر الواسع الجاف، وتقومان بعد فترة قصيرة وتتجولان في المكان المشبع برائحة الصحراء الشاسعة وعرق البدو الذين أحالوها إلى جنات وحدائق ومدن متدفقة بالحياة والعمل والجمال. تتابعكما عيناي من بعد قريب، وتقتفي أثركما وأنتما تمران على شواهد ونماذج ومعالم أخرى للبلاد التي تحاول أن توفق - منذ ظهور النفط - بين الأصيل والحديث، وتثبت أقدامها في الماضي العريق والحاضر المعاصر. أسمع صيحة تذمر تصبح بعد قليل شكوى استغاثة وأنين دعاء، وأراك تنحنين على الصغيرة ، تمسحين على شعر رأسها وضفيرتها وتربتين بحنان على ظهرها، لكن الاستغاثة والأنين يستمران فلا تجدين مناصا من حملها على كتفك حيث تريح رأسها وتطوق رقبتك بذراعيها، وتجلسين على طرف سور لا يرتفع أكثر من أشبار قليلة عن الأرض، وربما يكون حلقة دائرية تحيط بسور آخر مرتفع يوحي بأنه كان سور قلعة قديمة؛ إذ ينتهي بأبراج دقيقة موزعة على أطرافه المسنونة كالمثلثات الزاهية من كل نواحيه. نامت الصغيرة على كتفك، وها أنت تنقلينها إلى حجرك وتمرين بيدك الرحيمة على صدرها وتنحنين عليها بين لحظة وأخرى لتقبلي ثغرها ووجنتيها المحمرتين من حرارة الشمس، ومن مجلسي على الأريكة الخشبية تحت ظل الشجرة الضخمة أتابعكما بعيني اللتين تطلان في نفس الوقت على ذلك الأصيل البعيد وتلك اللحظة التي لم تزل تتوهج في داخلي كأنها نجمة الحقيقة التي لا تغيب.
كنت قد سكنت - قبل أيام قليلة ودون أن أدري - إلى جواركم، وشاء الفضول وحب الاستطلاع الخجول ذات أصيل أن أنظر من نافذة حجرة النوم الصغيرة لأستكشف على استحياء عالم الجيران الجديد. هل كانت مصادفة رتب القدر ضرورتها المحتومة؟ وكيف يتفق لقاء الأعين في لحظة واحدة قصيرة كأنها بداية تاريخ ونهايته، ومنطلق حياة ومنتهى مأساتها، وتلاقي فرحة طاغية مع غصص تعاسة وحسرة لا آخر لهما؟ كنت أنظر - صدفة ودون قصد - إلى الدور الأعلى في البيت المجاور والمواجه لي، وكنت أنت هناك - وبحكم الصدفة - تطلين من وراء الزجاج. حدث بسيط ومكرر يمكن أن يحدث للآلاف في آلاف الأيام من الماضي والحاضر والمستقبل. فما الذي جعلها لحظة خالدة في حياتي؟ ما الذي جرى لي حتى تصبح هي حاضري الأوحد المستمر منذ ذلك الأصيل، بل منذ تلك اللحظة العابرة كأنها ومضة شمعة أو نجمة بعيدة، ولمحة برق خاطف لم يكف أبدا عن اشتعاله وارتعاشه في سماء القلب؟ هل تصورت في تلك اللحظة التي رأيتك فيها من نافذة شرفتك العالية أنك ترسلين إلي ابتسامة أعذب من شعر العالم كله؟ وإذا كنت قد أخطأت ولم تكن الابتسامة سوى وهم توهمته ، فهل كانت رؤيتي لوجهك الطفولي المستدير من وراء الزجاج كافية لكي تحمل إلي مئات وعود الحب وعهود الوفاء، ومئات رسائل البهجة والسعادة؟ وكيف أفسر ما حدث وهو لم يدم سوى لحظة واحدة قدر لها أن تصبح بالنسبة لي بيت الأبدية؟ آه يا حبيبتي المفقودة إلى الأبد! كأنها كانت رؤيا في ليل مظلم، أو حلما مقدسا امتلأت كأسه بالبهجة والنشوة وفاضت حتى الحواف بسعادة غير أرضية ولا يستحقها واحد من أبناء الأرض الفانين، وها أنا بعد مرور أربعة عقود كأنها أربعة أغلال ثقيلة قيدتني في أسرها أسائل نفسي وأعاود السؤال بينما تتوهج تلك اللحظة في عمق أعماقي الباطنة كنجمة الحقيقة الساهرة المؤرقة على الدوام: هل كان حلم يقظة لم أصح منه حتى الآن؟ وابتسامتك التي لم تزل تأتيني مرتعشة عبر عواصف العمر وظلمات أيامه ولياليه، لماذا لا تنفك تنفذ في قلبي كسهم مشتعل يتوغل في صميم الدم واللحم والعظم دون أن يجرح أو يخدش، بل يظل يداوي ويواسي ويسكن ويطمئن؟
لتكن حلما أو رؤيا، شعاعا أو شمعة لم تخب كما خبت قبلها مئات شموع الماضي والحاضر، ألما أو أملا أو وهما محزنا أو مضحكا، لتكن ما شاءت لها الصدفة القدرية أن تكون، تلك كانت اللحظة التي خلدتها وخلدتك معها في باطني، في كل مكان أو بلد زرته أو عشت فيه وعملت، في كل خطوة مشيتها ورحت أتلفت بحثا عنك في كل الوجوه والعيون، في كل الطرق ومنعطفات الطرق وكل محطات الكون المتناهي اللا محدود. •••
أخذ يفرك عينيه محاولا أن يصحو من حلمه السعيد البعيد. مسح بكفه على رأسه ووجهه وأسنده على ذراعه وهو يرمق الجدة الحبيبة وحفيدتها في جلستهما على السور الجيري الأبيض بجانب البئر الجاف وقال لنفسه: لكأني رأيتها تجلس معي على هذه الأريكة، نعم تجلس بجواري وأواجه وجهها وعينيها وأقول لها وتقول لي. معجزة تمت في الحلم كهذه المعجزة التي تتراءى أمامي الآن، وماذا يقول اثنان يلتقيان بعد أربعين سنة لم ير فيها أحدهما الآخر إلا عرضا وبالصدفة؟ وهل أذكر الآن ما قلته للصامتة البعيدة عني وإن كانت جالسة إلى جواري على هذه الأريكة الحديدية ذاتها؟ قلت وقلت وقلت. رحت أشرح وأفسر وأستغفر وأندم وألعن قدر حياتي وكوكب النحس الذي ولدت فيه يوم قضي علي أن أولد، وأتكلم دون توقف عن طريقي المملوء بالعثرات وسيرة حياتي التي ضيعتها ولا أذكر أنني عشتها أو جربت فيها ساعة هناء حقيقي. رأيت بنفسك كيف كنت وحيدا منزويا معتكفا ممتثلا لقوة أكبر مني، قوة تلبستني وحرضتني على أن أعيش متوحدا في سجن القراءة والكتابة، بالطبع لم أكن مقطوعا من شجرة، لكن الشجرة بكل غصونها وفروعها لم تكلف نفسها بأن تلقي علي ظلالها، هكذا عشت على مرتب ضئيل بائس، تضاف إليه من هنا أو هناك عدة جنيهات ندر أن تزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة، وبعد أن أحببتك بجنون تقدمت إليك كشبح خائب لم يتوقف لحظة ليسأل نفسه كيف ومن أين؟ مع أني كنت قد جاوزت الثلاثين وحصلت على أعلى شهادة وبدأت أكتب وأكتب وأترجم وأشارك بقدر ما أستطيع، وماذا أفعل في طبيعة ورثتها وعجزت عن تغيير بذورها وأصولها الكامنة المستقرة في خلاياي؟ لم أجرؤ مرة واحدة من المرات - التي كنت أراك فيها صدفة على محطة «الباص» أو في طريق عودتك من كليتك - لم أجرؤ على التقدم إليك والكلام معك. ربما لم تحسي أبدا بالزلزال الذي كان يرجني ويهزني ويرسل كل توابعه لتنفضني وتضرب قلبي وعقلي بلا رحمة. مع أن أمك التي كنت أكلمها وأحس أن وجهها شبيه بوجه أمي قد ذكرت لي اسم كليتك، ولم تكن زيارتك والحديث معك ليكلفاني أكثر من فعل حازم لم تقو عليه عزيمتي التي يشحب وجهها كلما وقعت عيني عليك، وبعد أن تخرجت ذكرت لي الأم الطيبة أنك توظفت وحددت مقر عملك، لكن الحرج انتابني وخفت أن أوقعك في الحرج أمام زملائك وزميلاتك. نعم يا عزيزتي الغالية! تركت أفراس الفرص تمر من أمامي وتعبرني دون أن أمد يدي وأشدها من خصلات شعرها لتتوقف حتى أتسلق ظهرها وأمضي بها بلا تردد لكي نطرق أبوابك، لم أفعل شيئا من هذا، هل تغفرين اليوم وتسامحين؟ أم أنك لا تتذكرين شيئا عن ذلك الأورفيوس البائس والهائم في عالمه السفلي؟ وماذا يجدي الآن أن أحكي لك حياتي بعد أن عرفت بزواجك وتركت مسكني بجوارك وانتقلت من خزانة الكتب القومية التي كنت أعمل بها لأعمل بالجامعة ثم انتدبت للخرطوم وصنعاء؟ وأقدم استقالتي من عملي وبلدي وأذهب للعمل في الكويت، وأتزوج وأنجب بنتا وولدا والأولاد، كما تعلمين، هموم، وأذوق طعم السعادة الوهمية حين تقبض اليد على الريال والدينار والدولار، ما جدوى أن أحكي لك عن كل هذا وأنت لا تعرفين أنك أنت الحضور الحي في كل نبضة قلب يتلفت كل لحظة إلى تلك اللحظة التي اخترقت كياني كسيف أو سهم نوراني نفذ فيه على متن شعاع قاس ورحيم من عينيك؟
هز رأسه وعاد يفرك عينيه وهو يحاول أن يصحو من حلمه أو وهمه، وعنت منه لفتة إلى اليمين وإلى الأمام فوجد السور خاليا من كل أثر للجدة والحفيدة. خيل إليه أن اللحظة الزمنية تحولت إلى غراب أسود كبير من تلك الغربان التي كانت تحوم في سماء الحديقة وتنعق في سمعه: اصح أيها الرومانسي الخائب! قم يا «أورفيوس» البائس وابحث عن «أويريديكه» التي اختفت فجأة من عالمك السفلي! •••
كاد يجن جنونه عندما تأكد له أن الحفيدة والجدة قد غادرا المكان. أي شؤم هذا؟ هل كان من الضروري أن أغيب عن حاضري الوحيد وأغفو هيهات أرى فيها نفس الحلم الذي طالما تجلى في نومي وأحلام يقظتي ثم عبر كالريح التي مرت على العشب اليابس؟
جرى، بقدر ما أسعفته السن، نحو السور الذي كانا يجلسان عليه قبل قليل، تلفت حوله فلم يجد سوى الأشجار العالية الصامتة وبعض معالم إحدى الدول الخليجية إلى اليمين، العمودان الشامخان اللذان تتوسط كلا منهما كرة زجاجية ضخمة، مغطاة بقشور أشبه بقشور السمك، وتمرق منهما حربة فارعة تكاد تخرق السحاب. رجعت نظراته تفتش في المكان الذي يقف فيه. لا أحد يلوح في أفق البصر سوى عاشقين فقيرين من تلاميذ المدارس يجلسان متعانقين تحت مظلة خشبية، أخذ يجوب المكان ويدقق النظر في البئرين الجافين كأنما ينتظر أن يكونا مختبئين فيهما، وخرج من البوابة الهائلة التي يعلو إفريزها نسر عظيم فارد جناحيه وعلى صدره مركبان شراعيان فوق موضع القلب مباشرة، كانت الشمس قد مالت للمغيب وسكبت أشعتها الذهبية في كل مكان، وكان لا بد من الخروج من حديقة الصداقة والبحث في الحدائق الأخرى لبلاد أوروبية وآسيوية. فكر أن يمر أولا على تمثال الفلاحة القريب الذي طالما وقف هو نفسه مذهولا أمامه، وطالما أعجب بوقفتها الشامخة وابتسامتها الطيبة ونظرتها المتطلعة - تطلع أجدادها وجداتها - إلى البعيد والما وراء، وأسرع إلى هناك في الجانب الشرقي الأقصى من الحديقة وأخذ يذرع المكان جيئة وذهابا دون أن يجد أثرا للغائبين في غفلة منه. اتجه عبر شارع طويل مرصوف رصفا حديثا إلى قلب الحديقة الذي يحتله كازينو ترتفع فيه الأصوات الزاعقة على الدوام بالأغاني الهابطة، وسار يمينا إلى مبنى المراحيض مرجحا أن تكون الجدة قد أخذت الصغيرة إلى هناك، لكنه بعد انتظار قلق لبضع دقائق مضى يخترق مجموعة من المظلات البديعة التي اجتمع على أرائكها الحديدية خلق كثير؛ آباء وأبناء يأكلون أو يشربون الشاي أو يلعبون الورق أو يثرثرون ويتنادون ويهتفون بأطفالهم الذين انهمكوا في لعب الكرة غير بعيد منهم، فتش في كل مكان وتفرس في كل الأوجه. كان الجميع ينظرون إليه في أسى ورهبة، ويشيرون بعد مروره أمامهم إشارات يمتزج فيها الأسف مع الدهشة والاستغراب، وصمم على التخلص من كل ذلك الزحام بالتوجه إلى التلة العالية التي تحمل نماذج مصغرة من بعض معالم فرنسا وألمانيا وهولندا، وكان من عادته أن يلجأ إلى إحدى الأرائك الحديدية المصفوفة إلى جوار بعضها تحت تعريشة عنب كبيرة ووارفة، وقبل أن يتجه إلى أريكته المفضلة مال على عمود خيل إليه أنه لم ينتبه إليه في المرات السابقة، كان العمود مثبتا على حامل حديدي أشبه بقاعدة أعمدة الإنارة، وفوقه لوحة نحاسية صفراء مؤطرة ببرواز منمق ومزخرف بالحديد المشغول بتفصيلات أوراق شجر وحبات أعناب متكورة وممتلئة، وقف ليقرأ ما كتب عليه بخط جميل وباللغتين الفرنسية والعربية: «إن القاهرة - التي يمكن أن نسميها بلغتنا المدينة الظافرة - قد استطاعت أن تقهر الزمن الزائل والنسيان لتصبح ركيزة من ركائز التاريخ والثقافة.» لم يكد يتم قراءة العبارات من نص خطبة عمدة باريس بمناسبة توقيع اتفاقية الصداقة بينها وبين القاهرة حتى فوجئ بيد صغيرة تجذبه من سرواله. أطرق ببصره إلى الأرض فوجد الصغيرة ذات الضفيرة المتدلية من خلف رأسها والوجه الشاحب المائل إلى السمرة والفستان الرمادي الذي تعلوه سترة زرقاء غامقة بأزرار صفراء على الجانبين. قالت وهي تشير إلى اللوحة العالية: من فضلك يا عمو ... مال عليها منحنيا بظهره فاردا كفه للامساك بكفها الصغيرة وهو يقول: أمرك
تعجب في نفسه من الطفلة التي قدر أنها لم تتعد مرحلة الحضانة ومع ذلك تمتلك كل هذا الفضول، أمسك يدها بحنان ورفعها إلى صدره ليقرأ لها الكلمات العربية تحت النص الفرنسي أو بالأحرى ليتهجاها على مهل، ولم يكد يبدأ في تلك المهمة الصعبة والمحببة إلى قلبه حتى سمع صوتا نسائيا أجش يأتيه من الخلف ويعتذر قائلا: آسفين يا سعادة البيه، البنت الصغيرة لا تستريح ولا تريح، كده يا بنت تتعبي جدو؟
تطلع إلى الوجه الصغير المدور الشديد السمرة يبرز في وسطه أنف كبير مقوس فوق شفتين غليظتين وذقن مدبب لم يخل من شعرات سوداء دقيقة. نظر في العينين الضيقتين اللتين تطفو عليهما سحابة حزن وعتامة غير خافية، ووقف أمام الهيكل المحني النحيل الذي لم يبق فيه أثر لجمال زائل أو فتنة قديمة. ألجمته المفاجأة فلم يند عنه سوى صوت خافت مرتعش بالصدمة التي داهمته على غير توقع: أبدا يا ست هانم، هي بنتي أو حفيدتي على كل حال، وقبل الصغيرة التي طوق ذراعاها عنقه في خدها وأنزلها إلى الأرض وهو يستأذن في أدب شديد ويخرج منه صوت ضعيف مشروخ: حصل خير يا هانم، مساكم الله بالخير، مع السلامة. •••
أخذ يردد بغير وعي «مع السلامة، مع السلامة» حتى بعد أن اتجه نحو الدرجات الحجرية التي هبط منها الطريق العريض المتلوي الذي يؤدي إلى البوابة الخارجية، لا ليست هي، وكل ما حدث لم يكن إلا حلما ووهما ككل ما مر بحياتك. تمنيت في آخر العمر قبل أن تغيب شمسك كما غابت الشمس الآن عن الحديقة وبدأ الليل يزحف على أشجار الكافور والجزورين الضخمة التي تشبه كل منها غابة وحيدة صامتة، تمنيت أن تتحقق أمنيتك الوحيدة، أمنيتك الضئيلة البائسة قبل أن يغلق القبر عليك إلى الأبد، الأبد؟ يا للسخرية المبكية من لحظة الأبدية التي تحملها كالجوهرة الساطعة داخل كيانك، ومع ذلك فأنت لا تسأم القول لنفسك: مع ذلك سأحملها معي حتى إلى قبري، وسأرعاها وأطعمها وأسقيها في عش القلب حتى لحظات الاحتضار.
ماذا تفعل الآن وماذا بقي لك؟ لم يبق إلا الصمت. هكذا قال البطل.
1
المتهور النبيل الذي توحدت به طول حياتك وربما تفوقت عليه في الحزن والوحدة والعذاب والاكتئاب.
نعم لم يبق إلا الصمت، أن تعيش حاضرك الممكن وتحاول أن تملأ كأسه الهشة العابرة بالعمل والعمل والعمل، كما تحاول أن تتعلم من جديد كيف تصرف فعل يكون، الماضي كان حاضرا فشلت في أن تتشبث بخصلات شعره، والمستقبل سيكون حاضرا ربما لا تعيش حتى تجربه وتحياه، وهذا الحاضر الذي تقاطع فيه الاثنان تحت كوكب النحس، ماذا يبقى لك منه إلا حلم لحظتك الأبدية التي تملؤها بوهم الخلود أو بحقيقته حتى لا تنهار هي أيضا كما انهار كل شيء وتصدع فوق رأسك أيها الطلل الحي؟ ها هو الليل يزحف على الأشجار والأزهار والعصافير والنماذج المصغرة والأكشاك والعشاق الذين ما زالوا صامدين تحتها برغم الليل الأسود وبرغم الحاضر العابر المتبدد دائما وإلى الأبد، على مهل تسير نحو بوابة الخروج وأنت تتطلع إلى أحواض الزهور والورود التي بدأت تغمض عيونها وتفتح قلوبها للندى القادم مع الفجر، وعلى مهل تسأل نفسك: هل ستستطيع أن تعيش بقية أيامك كما تعيش الوردة على النور؟ هل سيمكنك أن تولد وأنت شيخ
2
وترحب بكل لحظة قادمة وأنت تقول: كل شيء طيب أيها الكهل الطيب، كل شيء طيب في النهاية ورغم كل شيء.
القبلة الأخيرة
1
كأني ما زلت أراك يا حبيبتي وأنت واقفة هناك وراء الباب الموارب، تنتظرين أن يرجع الابن الجاحد الذي خرج مسرعا ليستقل العربة التي ستقله للعاصمة، وحرمك وحرم نفسه من قبلة لم يكن أحد منكما يدري أنها ستكون القبلة الأخيرة.
2
في ضحى يوم شتوي بارد قبل ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمان قلت لنفسك: أزور بيتنا في البلد زيارة خاطفة قبل أن ينفذ فيه حكم الإزالة الذي أصدره أخي الأكبر مع مجلس المدينة. كانت أصوات الهدم والردم والخبط وضربات المعاول والمطارق والفئوس قد تناهت إلى سمعي عند هبوط العربة من المزلقان واستدارتها إلى اليسار لتقف أمام عتبة البيت مباشرة. خلصت نفسي من زحام العربة التي كنت قد انحشرت فيها وسط مجموعة كبيرة من الفلاحين الطيبين الذين لا يملون الشكوى من الحكومة وإلقاء الذنب في كل المصائب على رءوس المسئولين، وضعت قدمي على الأرض بعد جهد جهيد ووقفت أمام عتبة البيت وفي يدي حقيبة صغيرة بها بعض الأوراق التي توهمت أنني سأستطيع النظر فيها أثناء السفر، ومعها الخطاب الذي أرسله إلى أخي ورجائي فيه أن أقف بجانبه وأتنازل عن حقي في البيت تقديرا لظروفه. لم أشأ أن أكلمه في الهاتف أو أرد عليه بخطاب آخر، صممت على السفر والرجوع في نفس اليوم بعد رؤية البيت وبعث الحياة في أجساد الذكريات الميتة.
لم أجد حاجة لطرق الباب بالسقاطة الحديدية العتيقة المثبتة عليه منذ سنين طويلة كقبضة يد نحيلة، كان الباب مفتوحا ورائحة الغبار الخانق تهب من الداخل ومن أكوام الهديم والرديم المتراكمة على شكل مساطب أو أهرامات صغيرة سواء في مدخل البيت أو خارجه، وقفت أنظر حولي وأتلفت في كل اتجاه، هذا هو نفس الباب الذي كانت تفتحه لي أمي عند عودتي في إجازة الصيف وتقف وراءه لتطل علي قبل ركوبي العربة التي تعيدني إلى الدراسة الثانوية أو الجامعية أو إلى العمل الذي التحقت به قبل رحيلها بسنوات قليلة. ما كان أطيبها وأحنها علي أنا آخر العنقود الوحيد الذي رفض حتى الآن أن يتخلى عن وحدته. هل أنسى كيف كانت تفتح ذراعيها بمجرد دخولي من الباب وتضمني إلى صدرها في حضن طويل وتغمر وجهي بالقبلات وهي تنهنه قائلة: يا نضري يا حبيبي، يعني كان لا بد من الغربة وحرقة الدم في الكتب والعلوم؟ يا ليتك تقعد معنا يا بني على طول وربك هو الرزاق للعالم والجاهل الذي لا يعرف الألف من كوز الذرة. وتأخذ يدها تربت على ظهري وتتحسس عظامي وهي تقول بصوت كالأنين: يا عيني عليك يا بني! كوم عظم يا ناس؟ هات الشنطة واسبقني على فوق، فيها هدوم للغسيل، طيب وما له، ياما جاب الغراب لأمه. في هذه الأثناء يكون صديقي بستان القط الأسود قد حضر على صوت كلامي وضحكاتي وأخذ يشب ويتمسح في رجلي وثيابي وأمي ترمقه بغضب وهي تهدده بيدها المتوعدة: والله لولا معزتك عنده كنا وضعناك من زمان في جوال ورميناك في الترعة، غدار ابن غدار، يأكل الأرانب المولودة ويسطو على صواني السمك في الفرن، تقول بستان! غير اسمه يا حبيبي، سمه خرابة بدل بستان، نمر أو وحش صحيح!
وأضحك على الذكرى وأنا أنظر إلى المندرة على يميني، ويقطع علي خيوط ذكرياتي صوت مجلجل أعرفه على الفور: الدكتور وصل يا أولاد، نادوا على الحاج يا جماعة، تفضل يا دكتور، تفضل في المندرة وأبعد عن التراب.
كان هو صوت جارنا عطية الحلاق الذي لا أدري كيف ولا متى لمحني فأسرع إلي وأخذني بالأحضان.
دخلت المندرة فوجدت كل شيء فيها كما كان. الكنب نظيف ومرتب، والحصيرة الملونة مفروشة على الأرض كأنها سجادة كبيرة للصلاة. هنا كم صلينا خلف أبي، وكم جلسنا نستمع إلى الدرس الديني الذي كان يتلوه علينا شقيقي الأزهري ، بينما تتابعه عينا أبي من وراء النظارة السميكة بكل الفخر والاعتزاز، وهل أنسى الرعب الذي كان ينفضني ويرجف قلبي وأعضائي وهو يحدثنا عن عذاب القبر أو عن أهوال يوم القيامة؟ (لا أذكر أبدا أنه تطرق مرة للكلام عن الجنة ونعيم الفردوس!) في هذه المندرة نفسها، كم كان يحلو السهر في رمضان، وكم كانت تعمر بالجيران والأحباب والأعيان والفلاحين والفقراء المجهولين الذين يأتون للسمر ويستمتعون بفنجان القهوة أو القرفة أو طبق الخشاف، والكنبة المقابلة. كيف أنسى جلسة أمي عليها بجوار النافذة المواربة، ترى الدنيا وتطل على الناس أو تنتظر عودة شقيقي - الذي أنتظره الآن - من غربته في المدينة التي هرب إليها من وجه أبي وبعث له ولشقيقه الأكبر بأكثر من خطاب يهدد فيه بالانتحار إن لم تتحقق مطالبه بالاستقلال بنفسه بمحل تجاري خاص به وحده، والأم تنتظر بجانب الشباك وهي تجفف دموعها بين الحين والحين، وتتحسس الأساور والمباريم التي أعلنت للجميع أكثر من مرة بأنها مستعدة أن تعطيها له بمجرد رجوعه بالسلامة وتقبيل يد أبيه التقي المسامح بالرغم من غضبه الجبار، وفي داخل المندرة من هذا الباب الصغير كانت الخزنة الصغيرة التي ...
ويحضر شقيقي معفر الشعر والملابس كأنه خارج من قلب عاصفة ترابية. مرحبا مرحبا وهلت الأنوار، أهلا بالحكمة والعلم والأدب والناس الطيبين. العصفورة قالت لي إنك ستحضر بنفسك. أنت دائما لا تخيب عشمي فيك، سلامات، سلامات، إن شاء الله تقعد معنا يومين، بالحضن يا رجل، بالأحضان ...
قلت محاولا أن أقطع السيل المتدفق: يومين؟ أنت متفائل جدا يا أخي، لا بد من الرجوع عصر اليوم. قال مستنكرا: قبل ما الأولاد يشوفوك ويسلموا عليك؟ قبل ما تذوق أكل الحاجة وتسلم عليها؟ أنا أرسلت لها بالفعل لتجهز الغداء. سنذهب إلى الشقة التي استأجرناها ووضعنا فيها العزال الضروري حتى تنتهي من البناء، أنا كنت على ثقة من حضورك، ومتأكد من وقفوك بجانبي أنا وأولادي.
قلت ساهما وأنا سارح على أجنحة الذكريات: أولادك هم أولادي يا حاج، هل هذا كلام؟ المهم ترضي أخواتك البنات وأولاد المرحوم أخيك الكبير ...
قال مؤكدا: الجميع راضون والحمد لله، ولمن أتعب وأبني إلا لكم؟ أليس هو بيت العائلة في البداية وفي النهاية؟ ألا يقدر الجميع أنني أمثلكم هنا في البلد وأنوب عنكم في المناسبات؟ ثم إنكم ...
أشرت إليه قائلا: لا تكمل، أنت بخير والحمد لله، أولادك سيعوضون كل شيء ويحصلون على أعلى الشهادات، ثم إن ربنا أراحك من العلم وتعبه، لقد اغتنمت فرصة خلو اليوم من المحاضرات وقلت أخطف رجلي على البلد، غدا صباحا عندي اجتماع للقسم، ومساء اليوم نفسه مناقشة رسالة علمية، لا يمكنك أن تقدر مدى التعب والمسئوليات و... قال أخي مقاطعا ومستدركا: وجرنا الكلام في ذيوله فلا شربنا ولا أكلنا، زمانك على لحم بطنك من الصبح، يا ولد، يا ولد يا عدوي، الشاي يا ولد، اخطف رجلك على البيت وهات الكعك والقرص وبقية الإفطار، قل لهم يستعجلوا في تجهيز الغداء لأن الدكتور مستعجل. قلت معترضا: قلت لك وقتي محدود ولا داعي لغداء ولا عشاء، وإلى أن يأتي الشاي سأصعد السلالم وألقي نظرة على المقاعد القديمة وعلى حجرة نومي أنا وصديقي بستان. ضحك أخي وقال: صديقك راح وراحت أيامه، المهم تاخد بالك وأنت طالع السلم لأنهم الآن يفكون السقف المسلح وربما ... قلت: لا تخف، المهم عندي أن أطل على مرابع الطفولة والصبا والشباب، وأن أقبل ذا الجدار وذا الجدار كما يقول ... هتف أخي ضاحكا: المجنون! قيس المجنون!
3
أصعد السلم الذي طالما طلعت ونزلت عليه وأنا طفل وصبي وشاب. ها أنا ذا ألتقط أنفاسي بصعوبة بعد أن بدأ الشعر يشيب وامتلأت الرأس بالحكمة والحمق، بالجدل والدجل وملاحم الثرثرة في كل شيء، وأجلس على البسطة أمام الفجوة الكبيرة التي ثقبوها أثناء الهدم لما كان من قبل سقفا تقفين يا أمي وتتحركين عليه. في الصباح الباكر وقبل صلاة الفجر تقفين هناك وأنت ترفعين ذراعيك إلى السماء وتدعين: أصبحنا وأصبح الملك لله، يا رب يا علام الغيوب استرها مع أولادي، أصلح أحوالهم يا ربي وأوقف لهم أولاد الحلال في كل طريق ، يا رب يا عالم بكل شيء ولا يخفى عليك شيء، أحسن يا رب ختامنا كما أحسنت بدايتنا وارزقنا الحمد لك والشكر لك يا قادر يا كريم، وتبدئين رحلة العذاب والشقاء بعد أن تصلي الفجر وتتلي الآيات القليلة من قصار السور التي استطعنا - إخوتي وأنا - أن نحفظك إياها بالتكرار المستمر على مدار الشهور والسنين، تطلعين للاطمئنان على الدجاج والبط والحمام في السطوح، وترفعين يدك بالدعاء لله يحميها من العرس والقطط والثعابين، وتجددين لها العلف والماء، ثم تنزلين إلى السطح مرة أخرى وتنهمكين في العجين والخبيز والغسيل وتحضير الفطور ثم الغداء، وتجرين يا حبيبتي من حجرة الخزين إلى حجرة الفرن والكانون، ومن تجهيز الشاي والجبن والفول والعسل إلى تحضير صواني السمك أو البطاطس أو المكرونة مع السلاطة للغداء، وتظلين طوال اليوم تعملين وتعملين وتنبحين صوتك على النائم واليقظ وعلى القريب والبعيد دون أن تفتر لك همة أو يرتخي جفن أو تهمد يد أو قدم أو ذراع، وفي آخر المطاف يا حبيبتي لا تجدين غير الزمجرة والبرطمة والتبطر على نعم الله، وما أندر ما تلقيت كلمة شكر أو حمد من إنسان. حتى يخيم الليل ويأتي العشاء فتصلين ورأسك تهتز وتميل على صدرك فترفعين صوتك بالتكبير لكيلا تغفلي أو تنامي أمام من لا يغفل ولا ينام، ويذهب الجميع إلى أعمالهم باستثنائي أنا المدلل وثالث التوءمين اللذين آثرا العقل وذهبا إلى بارئهما بعد ولادتهما بشهور وتركاني لحياة يقول عنها المغني المصري القديم مع المنشد في الكورس الإغريقي في أنتيجونا: ليتني ما ولدت أبدا، أو ليتني رجعت بمجرد ولادتي إلى رحم العدم الذي خرجت منه. نعم أنا الوحش الثقافي الصغير الذي لم يعرف الراحة، ولا الاستقرار حتى كتابة هذه السطور. معتكف أنا كالعادة في غرفتي الصغيرة ذات السرير الصغير والمكتب الضئيل الذي ثبتت فوقه على الحائط لمبة نمرة عشرة تسمح بأن أقرأ عليها وأكتب، وأقوم وأنظر في الحجرة التي كانت موضع سري وحياتي وعالمي الخاص. ما زالت على ما هي عليه، لولا أن التراب قد علا كل شيء؛ ملاءة السرير والجريدة والكتب والدوريات القليلة على المكتب، وحتى زجاج اللمبة كاد أن يصبح قطعة من الطين أو من سواد الليل. في هذه الحجرة كم ذاكرت وقرأت وحاولت أن أكتب؛ تصاريف الأفعال الإنجليزية والفرنسية كم حفظتها وسمعتها، أفلاطون ومحاوراته التي اطلعت عليها صدفة وبغير سابق إنذار فصرت من محبي الحوار ومجربيه في محاوراتي الساذجة ومسرحياتي الرديئة، هل أذكر أيضا كيف رحت - من الابتدائي والثانوي حتى الجامعة - أنظم الشعر السيئ حتى أقلعت عنه تماما بعد أن تأكد لي فقري في الأصالة والخيال المجدد والتفرد الحقيقي في الأسلوب والرؤية والتعبير؟ في كل المناسبات تقريبا كتبت قصائد خلصتني أمي منها - كما قلت بعد ذلك في مقدمة أحد كتبي الذي ارتبط اسمه باسمي - خلصتني منها وحمت بها الفرن أكثر من مرة بدلا من عذاب الحطب والقش والجاز والكبريت. كنت أيام الثانوي أعشق مجلة الرسالة وأهيم بأسلوب صاحبها وتعلمت كذلك من زملاء شقيقي الأزهري كيف أصبر على قراءة الرافعي وأفك طلاسم تركيباته المصطنعة بلا مضمون فكري وراءها، حتى أعارني بقال صغير وصديق لابن شقيقتي كتابا أو اثنين لصاحب «النبي» والأرواح المتمردة والأجنحة المتكسرة والمواكب، فزلزلني وأشعل الحرائق في كياني بصورة الثائرة اللاهبة، وبعد سنين في قراءة صاحب الأيام وعلى هامش السيرة وقادة الفكر وغيرها وغيرها وقعت صدفة أيضا على أهل الكهف وزهرة العمر وشهر زاد وسليمان الحكيم؛ على الحكيم الذي فك أسري من سلاسل البلاغيين والإنشائيين، وعلمني أن أقلع للأبد عن معارضة شوقي والمعري أو التفكير أصلا في نظم الشعر، وما أعظم هذا الدرس في الأدب والمسرح الفلسفي، وفي البناء الحواري والجدلي المدهش الذكي، وبدأت محاولات أخرى لم تزل مستمرة في الكتابة للمسرح الأدبي الذي لم تكد تعبأ به الفرق والخشبات الرسمية والشعبية، وها أنا ذا الوحش الثقافي الذي لم يبرأ من توحشه ونهمه ولهفته على الحرف المكتوب في معظم حقول المعرفة. من هنا ومن تعدد الاهتمامات إلى حد التشتت والضياع لم يكن أحد يعترف بقصصي ومسرحياتي، ربما حازت بعض دراساتي ومقالاتي، لا سيما بعد أن سافرت في منحة للخارج وجنيت على نفسي بالدكترة التي صرت مع الزمن ضحية لها وحق علي حتى اليوم الضلال في متاهاتها ودروبها المسدودة أو المفضية إلى صحارى أتجول فيها وأتنقل من سراب إلى سراب، لكن حسرتي الحقيقية يا أمي، كانت منذ ذلك اليوم الذي أتذكره الآن قبل أن يهدم هذا البيت وتردم فيه حتى الذكريات، ذلك اليوم الذي كان آخر يوم أراك فيه وحرمت نفسي وحرمتك، لكن لأبدأ ذلك اليوم من أوله، لأحرق قلبي مرة أخرى بالسهم القاتل الذي نفذ فيه بيدي لا بيد غيري.
4
كان يوما غريبا وعجيبا، أشعر كلما فكرت فيه منذ رحيل أمي أن كياني كله يضطرب ويرتجف من جذوره. هل أحسست لحظة واحدة بأنه سيكون يوم الفراق الأبدي المحتوم؟ هل دب في قلبي هاجس الخوف من أن أرجع في الزيارة التالية فلا أراها، بل أذهب إلى المدفن العتيق وأركع أمام قبرها وأنا أتزلزل بالألم وأرتعش في قبضة الإحساس الموجع بالندم، وأبكي بكاء مرا لا أظن أنني جربته قبل ذلك أو بعده؟ حتى بستان - صديقي ورفيقي القط الأسود - كان أيضا في ذلك اليوم في غاية من الاضطراب. أخذ ينونو منذ فتحت عيني في الصباح وكأنه يريد أن يعاتبني: أحقا ستتركنا وتغادر وربما لا أراك بعد ذلك؟ وراح يتبعني في كل خطوة، يتعثر بين رجلي ويجعلني أتعثر في جريي من حجرة المكتب إلى حجرة البوفيه، مهموما بتجميع الكتب والأوراق والمسودات التي دونتها أثناء وجودي في الإجازة القصيرة التي كانت مشحونة بالاطلاع والكتابة والتحضير للندوة أو اللقاء المنتظر مع الأصدقاء، حاولت أن أهدئه وتصورت لحظات أنه ربما يكون مفجوعا كعادته، وذهبت لأمي المشغولة هي الأخرى في غرفة الفرن وأعددت له طبقا وضعت فيه اللبن والجبن والخبز فشمه ممتعضا وانطلق في أنينه ونواحه، آه! كيف لم يلهمني الحدس المعتاد بأن اللحظات الباقية من ذلك اليوم هي اللحظات الفارقة والفاصلة، وهل اعتقدت حينئذ - معتمدا على الكسل العقلي الدائم - أن كل شيء سيبقى على ما هو عليه، أو أنني سأرجع يوما - بعد شهور أو حتى أسابيع قليلة - فأجد أمي وأبي وإخوتي وأخواتي وكأن التغير لم يعد هو قانون الطبيعة والحياة، أو كأن العبارة التي تقول إن دوام الحال من المحال قد فقدت مصداقيتها في بلدنا العصي على التغيير؟!
كنت قد صحوت من نومي مبكرا وفكرة السفر والتبعات التي تنتظرني في القاهرة تطاردني وتلاحقني منذ أن نمت نوما مضطربا واستيقظت على الآلام المبرحة في الرأس والمعدة. نعم! كانت تبعات ثقيلة كلفني بها الأصدقاء في جمعيتنا الأدبية والفنية ولكنها كانت خفيفة على قلبي وحبيبة، وكنا قد ألفنا هذه الجمعية ورحنا نجتمع كل مرة في مسكن أحد أساتذتنا أو في مسكن واحد منا. نتناقش في الأحوال الثقافية والسياسية ونستمع لقراءات متنوعة؛ قصائد وقصص ومقالات ومشروعات كتب موعودة. كان كل واحد منا يكلف من قبل الأعضاء أو من ذات نفسه بالمشاركة في هذه اللقاءات التي كنا نعتبرها المظهر الوحيد لحريتنا بعد أن صادرت الثورة - التي قامت قبل ذلك بسنوات قليلة - جميع الحريات وحلت الأحزاب وأعلنت قوانين الطوارئ وأحكمت قبضة الاستبداد العسكري على كل شيء وكل إنسان. لم نكن خلية سرية بأي معنى، ولم نكن نعمل تحت الأرض أو نصدر المنشورات، وباستثناء بيان قصير في الصحف أعلنا فيه مطالبتنا بالحرية والديمقراطية وعودة الأحزاب وحق التعبير الحر لم يكن لنا أي نشاط سياسي محدد. قنعنا بإثبات حريتنا المحدودة في تجاربنا الشعرية والقصصية والمسرحية والبحثية والتزمنا - في وقت كان فيه الالتزام على كل لسان! - بأن الأدب حرية وأنه للحياة.
كنت قد استطعت في تلك الإجازة القصيرة من عملي الممل بالقاهرة؛ أن أكتب قصتين وأترجم قصتين أخريين عن الإيطالية التي كنت قد بدأت في تعلمها مع الألمانية وقطعت فيهما شوطا معقولا، وكان الأصدقاء - حين شعروا بميولي الاشتراكية المثالية التي يشاركني بعضهم فيها - قد كلفوني بأن أعرض عليهم نبذة عن تيارات الاشتراكية الطوباوية ومدنها الفاضلة ومشروعاتها الخيالية في أواخر القرن التاسع عشر، ثم كلفت نفسي فضلا عن ذلك بأن أتحدث إليهم عن الوجه الإنساني الحر لماركس كما يتجلى في كتابات شبابه، لا سيما في مخطوطاته الاقتصادية الفلسفية التي كنت قد عكفت على الاطلاع عليها في إطار اهتمامي بمشكلة الاغتراب (كم كنا مغتربين في تلك السنين! كم حاولنا أن نؤكد انتماءنا للحرية وللإنسان العادي الذي كنا على يقين بأنه لا يشعر بنا وربما لن يحس أبدا بوجودنا).
بدأت على عجل في ترتيب حقيبة ملابسي وكتبي، كل شيء في ذلك اليوم كان ملهوفا ومتسرعا وكأنما يتم مع آخر الأنفاس. رحت أجري بين حجرة مكتبي الصغيرة التي تكدست فيها الأوراق والمسودات وبين حجرة البوفيه - بشمعدانها الأثري الجليل الجميل! - التي كنا، شقيقي الأزهري وأنا، قد ملأنا رفوف الدولاب الثقيل فيها وأدراج البوفيه نفسه بكتبنا ومجلاتنا المتباينة المشارب والاتجاهات والاهتمامات. انهمكت في اختيار بعض الكتب وبعض أعداد الرسالة التي قدرت أنني ربما أحتاج للرجوع إليها سواء في كتابة مقالاتي أو ترسيخ ميولي القصصية والمسرحية والفلسفية أو لمجرد الرغبة في الاطلاع حبا في الاستمتاع بالقراءة لذاتها لا لأي غرض آخر، ورحت أجري، وبستان دائم التعثر في رجلي، دائم الشكوى والاستغاثة والأنين، بين الحجرتين، أحمل صفوفا من الكتب وأقف لمراجعتها قبل وضعها في الحقيبة، وأستبقي منها أشياء وأستبعد أو أؤجل أشياء لوقت آخر أو فرصة أخرى، كنت - لجهلي وغفلتي وغبائي - أعتقد بيقين أنهما حتما قادمان.
نادتني أمي من على السطوح وطلبت مني أن أحضر لأكل لقمة قبل سفري.
قلت لها إنني مشغول وليس لي نفس. ألحت وكادت بحة صوتها أن تنقلب إلى البكاء فجريت والتقطت كوب الشاي بالحليب مع ملعقتين من العسل وقطعة من القرص التي كانت منهمكة منذ الفجر في إعدادها مع الكماج والفطير المشلتت الذي كنت قد أوصيتها عليه قبل ذلك أكثر من مرة حبا وكرامة لأصدقائي وزملائي، لم أكن في حال تسمح لي بأن أنتبه للعناء الذي بذلته، من قبل أن أصحو أنا من النوم بساعات، في طلوع السلم إلى السطوح لاختيار بطة ودجاجة آخذهما معي مع الجبن والزبد والخبز الصابح والفطائر المتنوعة بجانب كم لا بأس به من كعك العيد الذي كانت قد ادخرته خصيصى لي. ذبحت ونظفت وحمرت، عجنت وخبزت وستفت كل شيء في العلب والأكياس، تصبب العرق على جبينها وسالت الدموع الكثيرة من عينيها وهي تنفخ في نار الفرن والكانون وتعالج وابور الغاز وتستحثه على التقاط الأنفاس، ولا بد أنها قد تحملت الألم الذي لا يطاق وأرهقت القلب المرهق الذي أعلن عن احتجاجه قبل ذلك بشهور عندما لاحظت ولاحظ الجميع تورم قدميها وساقيها وضرورة الابتعاد عن الإجهاد والتزام الراحة بقدر الإمكان، لكن من أين تأتي الراحة في هذا البيت وهذا العالم وهي وحدها ولا يسعفها أو يساعدها أحد سوى شغالة صغيرة وجارة عجوز قد تود عليها من حين إلى حين لتساعدها في الخبيز أو الغسيل وإن تكن على الدوام غير مضمونة وليس لها عهد ولا أمان، لم أفطن لشيء من هذا كله لأنني كنت مشغولا عنها وعن كل شيء بأفكاري المتسلطة علي والمحاصرة لي حصارا أشد من ذلك الذي كان يضرب في العصور الوسيطة حول المدن التي يجتاحها الطاعون.
5
واقتربت لحظة الفراق والرحيل. أتممت إعداد حقيبتي ووضعت فيها الملابس والكتب والأوراق الضرورية. ألقيت على حجرتي الصغيرة نظرة وداع وحملت الحقيبة - وبستان لا يزال يتعثر بين رجلي ولا يكف عن التساؤل والأنين - ووقفت قليلا على بسطة السلم الخشبي المواجه للسطح المسلح وأنا أنادي: أماه، أنا ماشي. سمعت صوتي وخرجت مزرودة الوجه منتفخة الوجنات من الحر والصهد وهي تقول ضاحكة مستنكرة: ماشي؟ والسبت الذي أحضره، للعفاريت أستغفر الله العظيم؟ قلت متعجبا: سبت؟ أنا لم أطلب شيئا يا أمي، هل تصورت أن مصر فيها مجاعة؟ قالت وهي تقترب والشغالة الصغيرة تسحب السبت على الأرض بعد أن تعذر عليها حمله: مجاعة إيه لا سمح الله؟ ربنا يعمر مصر دائما بأهلها، لكن أنت يا بني وحيد ووحداني، من يا ترى يغسل لك هدومك وينظف مطرحك ويسوي لقمتك؟ قلت مقهقها: لا تخافي على ابنك، أنا آكل وأشرب والمرتب كاف والحمد لله، سيدة بنت أختك ترسل لي شغالتها مرتين في الأسبوع، تنظف وتغسل وتطبخ وتضع الأكل في الثلاجة، المهم لا تقلقي أنت يا أمي. قالت بعد أن ثبتت نظرتها الصامتة الحزينة على وجهي: يا ترى يا بني، هل سأعيش حتى أشيل ابنك أو بنتك على صدري؟ أغرقت في الضحك وأنا أقترب منها وأربت على صدرها: وتشيلي أولادهم أيضا، لكن بعد أن أحقق نفسي وأنجح في الدكتوراه. صمتت قليلا كأنها تحاول أن تفهم وسألت: وتصبح مثل الحكما؟ ألم تتخرج من الجامعة وتأخذ الشهادة الكبيرة؟ والدكتوراه لإيه يا بني؟ قلت وأنا أربت على ظهرها: دكتوراه في الآداب يا أمي؛ يعني دكتور في الجامعة لا في الطب، أنا وزملائي نعمل ليل مع نهار يا أمي، جيلنا والأجيال بعدنا لن تستريح حتى تتحقق الثورة الشاملة. فغرت فاها مندهشة وعقدت غضون وجهها وجبينها كأنما تتذكر شيئا تعرفه أو سمعت عنه: ثورة إيه يا بني؟ والثورة التي حصلت من سنتين ثلاثة ... قلت مؤكدا كأنني أخطب في جمع غفير: ثورة العسكر منعت الثورة الحقيقية، الثورة الإنسانية الشاملة التي تبدأ من الجذور وتغير كل شيء، جيلنا والأجيال التي بعدنا لا بد أن نحقق هذه الثورة التي تخلصنا من الفقر والتخلف والمرض والتعاسة. قالت بعد أن هزت رأسها وتلفتت حولها في حيرة: ربنا يقدم ما فيه الخير يا بني ويصلح الأحوال ويوقف لك ولأصحابك أولاد الحلال يا قادر يا كريم، يالله يا بنتي ننزل السبت على تحت.
تقدمت من السبت الجاثم كالوحش الثقيل على الأرض، قلبت فيه قليلا وأنا أقول محتجا: كل هذا للجائع المحروم؟ ماذا فيه بالضبط؟ وكيف أحمله وأوصله إلى البيت؟ قالت وهي ترفع السبت وأساعدها على وضعه على رأس سنية الصغيرة: لقمة تقوتك يا بني يومين أو ثلاثة؛ فرخة وبطة وقرص وفطير لك ولأصحابك، توكل على الله يا بني وأي عربة أجرة توصلك للبيت بالسلامة.
نزلت وراء الشغالة وأنا أنفخ من الغيظ. حقيبتي في يدي والوحش الذي لا أستطيع أن أنقله بيد واحدة على دماغ الصغيرة، وبينما نحن ننزل درجات السلم إذا بدق شديد على الباب. فتحت وإذا بجارنا عطية الحلاق يهتف مستنكرا : العربة تنتظرك من مدة والناس ركبها القلق، اترك لي السبت وسأضعه في الدواسة وفي مصر يوصلك التاكسي إلى البيت، يالله يا دكتور توكل على الله.
ضربت لخمة شديدة ووجدتني في ربكة وحيرة بين السبت والحقيبة والشغالة والحلاق، وكنت أنت قد سرت حتى الباب المفتوح على الشارع ووقفت وراء ضلفته المغلقة حتى لا تراك العيون في الطريق.
وتحركت خلف الصغيرة والحلاق وأنا أهتف: على مهلكم، أشوفك بعافية يا أمه، ثم وأنا أنزل سلالم العتبة الثلاث وبغير أن ألتفت ورائي أو أنتبه إلى ذراعيك المفتوحتين: مع السلامة، مع السلامة يا أمه.
6
وكنت أنت يا حبيبتي متوارية عن الأنظار وراء الباب الموارب. آه! كيف غاب عني أن أجري نحوك وأضمك وتضمينني بين ذراعيك وأقبلك القبلة التي لم أكن أعرف أو أشعر بأنها ستكون هي القبلة الأخيرة؟
7
ومرت يا حبيبتي أكثر من أربعة عقود من الزمان على ذلك اليوم الغريب. رحلت أنت بعده بشهور قليلة وصرت في قبرك الفقير كومة عظم ورماد، وهدم البيت وبني مكانه بيت كبير من ثلاثة طوابق ومحلات على الشارعين، وسافرت أنا إلى الخارج وتدكترت ورجعت وفي رأسي آلاف خلايا النحل التي لا تكف عن السعي لأقرأ وأعلم وأكتب وأكتب وأكتب. آلاف الصفحات كما أعرف اليوم. ربما كانت - باستثناءات نادرة - هباء وهشيما أو كانت غرسا في غير أرضه، وأتلفت إلى الوراء وأسأل نفسي: هل كان كل ما فعلته في تلك الأيام وفي سنين طوال بعدها، هل كان يا حبيبتي يساوي أن أحرمك وأحرم نفسي من قبلة لم يدر بخاطري أبدا أنها ستكون هي القبلة الأخيرة؟!
إيكاروس
- رأيتك يا إيكاروس عندما سقطت في الماء، رأيت رأسك الصغير كحجر بلا ملامح أو كوجه فأر عجوز يحتضر، وسمعت - نعم سمعت - شهقة الموجة التي جاشت على سطح البحر الإيجي بعد أن ارتطم جسدك الشاب بسطح العنصر الأبدي السيال. سألت نفسي إن كنت قد شهقت أيضا أو تأوهت، وتفحصت لوحة الفنان لعلي أتبين دموعا تسقط من عينيك اللتين بللهما الرذاذ المتناثر حولك، أو ألمح النورس الأبيض الصغير الذي اختل توازنه لحظة وارتجف جناحاه المرتبكان في الهواء ثم استأنف الطيران. هل اقترب منك ولامس جبهتك؟ هل شعر بمغامرتك الجسورة فطاف حولك وربما هبط على رأسك لكي يقبلك على طريقته، أو يهمس في أذنك بأغنية تمجد معجزتك وتقول لك بلغة الطير المحب الغيور: أنت يا أول إنسان يطير، أنت يا أشجع الشجعان! وسيد النسور والنوارس والصقور والعصافير والعقبان! مرحبا بك في مملكة السماء يا بن الأرض والإنسان ... لكن من يدري؟ ربما أدرك على نحو غامض أنك لا تتحرك ولا تصدر عنك إشارة ولا تحرك يدا ولا رجلا، وربما انتبه إلى أنك بدأت تهوي إلى القاع. - كل هذا رأيته وسمعته في لوحة الفنان؟ تكلم، تكلم. - وأكثر منه بكثير، وسأحكي لك بعد قليل ... - وهل ستحكي قصتي أنا وأبي مع السجن والسجان؟ هل عرفت شيئا عن الطاغية الجبار الذي افترسه الجحود والنكران؟ - الأسطورة معروفة يا إيكاروس، وأبوك المهندس والفنان معروف ومشهور. - والجزاء الذي لقيه على فنه العظيم؟ وحقد الجبار على أبي لأنه بنى المتاهة العجيبة ليقيم فيها الثور المقدس الذي عشقته زوجته باسيفاي وهامت به إلى حد الجنون؟ - والبقرة الخشبية التي صنعها أبوك أو صنعتها تحفة فريدة زادته جنونا على جنون، وخيط أريادنه ... - حتى هذا الخيط أشعل نيران غضبه، لم يستطع أبي أن يرد طلبا لابنة الملكة التي أحبت بطل الأبطال ثيسيوس ولم يطاوعها قلبها أن تتركه للثور المقدس المخبول. كان ثيسيوس قد صمم على الهبوط إليه في المتاهة ومعه سيفه ودرعه وعدته، وأرادت الحبيبة أن يخرج حبيبها وهو بطل الأبطال وحبيب أثينا وشعبها وملكها المتوج الذي ستجلس على يمينه. فهل كان لأبي أن يتركه للتيه في المتاهة؟ هل يستحق العقاب من أراد الإحسان؟ - وأمر بوضعكما في السجن ... - قل السجن المخيف كأنه جب أو كهف للمجرمين والمنفيين، لا تدري كم تعذبنا أنا وأبي، وكم تحملنا شماتة الجلادين وهم يمرون على الأبواب وينظرون من خلال القضبان مكشرين عن أنيابهم كالذئاب، ومن العذاب والسجن الخانق جاءت الفكرة ... - فكرة الجناحين الشمعيين، أليس كذلك ؟ - لنحلق فوق السجون والمنافي، فوق الطغاة والجلادين، فوق الأرض والبشر أجمعين. - ووقف أبوك يتابع تحليقك في الهواء وصعودك إلى السماء، كان يضع يده على جبهته ليذود عنها ضوء الشمس ولهيبها، لكنك لم تفطن لمغزى الإشارة والتحذير، واندفعت ... - طار هو إلى صقلية ليعيش في رعاية ملكها الذي سمع عن معجزاته في البناء، واندفعت أنا كما تقول كنسر فتي متهور، حلقت وحلقت أريد أن أصل إلى منبع الدفء والضوء، إلى مصدر الطاقة المهلكة المميتة، تحديت الشمس وتحدتني، وها أنت تراني ممددا فوق سطح الماء، أغرق فيه وأنحدر إلى الأعماق بعد أن صهرت الشمس جناحي. - نعم أراك ويتمزق قلبي حزنا عليك وعلى العالم والناس ... - ولماذا العالم والناس؟ ألم يشعروا بصدمة السقوط فيأسوا علي؟ ألم يتعاطفوا مع أول طائر بشري يسقط من عليائه كنسر متعب عجوز خذله جناحاه فسقط في البحر الهادر بدلا من أن يموت على مهل في عشه المنيع على قمة الجبل؟ - لا شيء من ذلك يا إيكاروس؛ فالعالم حولك لم يتحرك، لم يشعر بك. - والناس في البر وفي البحر؟ والصيادون والملاحون والفلاحون ... - ليتك تشهد معي اللوحة يا إيكاروس، ليتك تعرف ما حدث وما كان من الممكن أن يحدث. - قل لي ماذا حدث وماذا فعلوا حين رأوني. - وهل رآك أحد حتى يفعل شيئا؟ هل شعر بك أحد حتى يدخل حزن أو غضب في قلب واحد؟ آه يا إيكاروس! لم يحدث شيء، لم يحدث شيء. - تكلم، كيف استقبلوا موت الطائر الأول؟ كيف أحسوا به؟ - لم يحس أحد بشيء، والعالم بقي على حاله، لا ينقصه شيء، لا يزعجه شيء. - تكلم، صف ما تراه. - ماذا أصف وماذا أدع؟ إن اللوحة تنطق يا إيكاروس، تفصح عن صمت العالم، عن نسيانه. - دع الصمت يتكلم، دع النسيان يتذكر، اشرح لي ما تراه فلم يبق من الوقت إلا القليل. - نعم ما زلت أراك في جانب اللوحة ورأسك الأسود الصغير يرتجف، وساقاك البيضاوان تثيران دوامة صغيرة سرعان ما تهدأ وتلتئم، وذراعاك الهامدتان مع جناحي الشمع الممتدين المصهورين قد رقدا كريشتين كبيرتين على سطح الماء بلا حراك، كل شيء يقول إن المغامر الجسور يحتضر. - أسرع إذا ولا تتردد. - لا أدري بمن أبدأ يا إيكاروس، ولا أريد أن أزيد ألمك. - لا يؤلمني إلا أن تسكت وتتركني أموت. - دون أن تعرف أن الذين مت من أجلهم لم يحسوا بك؟ أنهم أداروا ظهورهم لك؟ أنهم واصلوا حياتهم الرتيبة ولم يلتفتوا إليك؟ - لا أصدق ما تقول، كيف؟ كيف؟ - ها هو الفلاح البارز في اللوحة يسير خلف محراثه وحصانه، هادئ هو وعاكف على عمله وكدحه اليومي، يمشي متأنيا في سترته البيضاء النظيفة ذات الثنيات المرتبة الدقيقة، لا شيء في حركته يدل على أنه سمع شيئا أو لاحظ أي شيء، والأرض المحروثة تحته بخطوطها البارزة المتوازية تبدو مستقرة لم تشعر بزلزال سقوطك في الماء ولم تهتز فيها ذرة تراب واحدة، والفلاح المجد يواصل عمله ويحلم بالحساء الدافئ مع العشاء، والفراش الدافئ بعد السهر مع الزوجة والأبناء. - انظر أيضا، أليس في البحر أو على الشاطئ صياد؟ ماذا فعل عندما رآني؟ - بقي على الصخرة التي يجلس عليها ويمد سنارته في الماء، ربما ارتعشت السنارة قليلا في يده بعد أن غمرتها الأمواج المنداحة من موقع الصدمة والسقوط، وربما تأوه الطائر الصغير الواقف على غصن الشجرة القريبة وهو يتربص بالسنارة والصياد وينتظر أن تفلت من الصيد الثمين سمكة ينقض عليها، لكن الصياد في مكانه لا يريم، لا يبدو عليه أنه يرى شيئا أو يشعر بشيء. - والسفن والمراكب العابرة، ألم يتوقف أحدها ليسأل أو ينظر أو يمد طوق النجاة للغريق؟ - هي سفينة واحدة تتجلى أشرعتها البيضاء التي تنفخها الريح، ربما أحسسنا من الحبال الممتدة والمتشابكة أن هناك من يشدها ويحركها ليمتلئ الشراع بالهواء وتنطلق في رحلتها البحرية إلى ميناء بعيد أو قريب، لكن الملاحين لا يظهرون على ظهر السفينة ولا في الزوايا والأركان، وماذا تنتظر من ملاحين تتشابك أحلامهم كما تتشابك الحبال في أيديهم؟ إنهم يحلمون بالميناء الذي سيصلون إليه، والحانات التي سيسرعون إليها ليعبوا النبيذ والبيرة والروم، والبنات الصغيرات اللاتي سيرقصون معهن وربما يزفون إليهن في عرس الليلة الواحدة أو اليوم الواحد وفي الزواج المؤجل للزيارة القادمة ... - أعرف شأن الملاحين وأعذرهم، لكن ماذا فعل الرعاة فوق التلال المشرفة على البحر؟ هل نظروا فتعجبوا وذهلوا؟ وهل ارتبك قطيع الأغنام وتوقف عن الثغاء والتهام العشب؟ - الراعي العجوز أو الشاب ظاهر في الصورة وسط قطيعه المتناثر من حوله، أنه يستند إلى عصاه ويتابع الشياه المنكبة على الكلأ أو الخراف اللاعبة والمتناطحة في سلام، وهو يرفع رأسه إلى أعلى وربما يكون قد بلغ أذنيه صوت ارتطامك بالماء أو صوت انطفاء الجذوة المشتعلة عند سقوط الجناحين الشمعيين في لجة اليم المتدفق الجياش، لكنه لم يفعل أكثر من ذلك يا إيكاروس، ورأسه الذي ارتفع قليلا سرعان ما أطرق إلى الأرض وراح يتابع أفراد القطيع الطيب الأليف. - والناس؟ الناس في القرية وفي الكنيسة المجاورة؟ في الشوارع وفي النوافذ المطلة على البحر؟ أمام الأبواب وفوق الأسطح وعلى متون الخيل والحمير؟ - الناس هم الناس يا إيكاروس، يتابعون أيامهم الرتيبة المملة دون أن يحسوا بالرتابة والملل. إنهم يعملون، ويأكلون، وينظرون من النوافذ، ويتكلمون ويسكتون وينامون ويتكاثرون دون أن يتوقفوا لحظة ليسألوا أنفسهم: إلى متى وماذا بعد؟ ربة البيت تواصل عملها الذي لا ينتهي ولم يبلغ إلى سمعها شيء، والقسيس في الكنيسة الصغيرة التي يظللها شجر السرو وأشجار الصفصاف راح يواصل تراتيله من الكتاب بلا توقف. هل كان يؤدي مراسيم الزواج أو طقوس الدفن أو شعائر التعميد أو الميلاد؟ وحتى لو كان قد سمع شيئا فهل كان سيوقف تلاوته ويمشي إلى الباب ليطل على الخارج؟ لا يا إيكاروس، الكل مشغول ولا أحد لديه الوقت. - وأنا الذي طرت في السماء ليتعلموا مني الطيران، حلقت بجناحي فوق كل السجون لكي يسخروا من كل السجون، أردت أن أثبت لهم أن الإنسان يمكن أن يتحول إلى نسر أو صقر أو حتى عصفور يعلو فوق الطغاة والمعذبين والجلادين، يبدل أرضا بأرض وسماء بسماء، ويرفرف فوق القرى والمدن والغابات، فوق الأنهار والبحيرات والسهول والوديان والجبال والهضاب والتلال ليحط في المكان الذي لم تطأه من قبل قدمان، ويهبط على الأرض التي لم ترجها أقدام العتاة والمتجبرين. - وها أنت تسقط كالجذوة المتفحمة في ماء البحر الذي سيسمى باسمك يا إيكاروس، وسيعلو ذكرك في أمكنة أخرى وبين أناس آخرين، لا تبتئس لمصيرك ولا تكترث بمن لم يكترثوا بك. - إن كانت مغامرتي قد فشلت فلن تفشل من بعدي كل المغامرات. إذا كنت قد سقطت كورقة شجر منزوعة في مهب الريح والعواصف فقد طرت فوق البشر والأشياء والكلمات والمعارك الكبيرة والصغيرة والبيوت والقرى والمدن والأبراج والحصون، تحديت الملك الطاغية وسخرت من سجونه، لكنني لم أقو على تحدي العقرب الأزلية فنفثت السم في عروقي، وصهرت شمع جناحي وضحكت من غروري وجنوني، لكنني أموت غير نادم على شيء، سيأتي بعدي من يحلق أبعد مما حلقت، من يغامر ويخاطر أروع مما غامرت وخاطرت. - لم أكن أتصور أن المغامر الأول حكيم أيضا، ولم أكن أتوقع أن تتحول مرارة السقوط إلى شهد ورحيق للآتين، لكني أتجرأ وأسألك سؤالي الأخير ... - أسرع فالطائر يسلم أنفاسه ويستعد للتحليق في دوامة القاع السحيق. - التبس علي الأمر ولا أدري هل يجدي القول أو المكتوب، واحترت فلا أعرف هل أسميك أشجع الشجعان أم أتذكر جفاء العالم والبشر فأناديك يا أغبى الأغبياء يا إيكاروس!
1
صفحه نامشخص