قال: «أتعلم أن هذا التنكر بعث على زيادة النقمة عليك.»
فانتبه زكريا لما سمعه من الهجان فقال: «علمت ذلك من كلمة قالها أحد اللصوص ولكنني لم أفهم السبب.»
فقال: «أتحب أن تعرف السبب؟» وصفق فجاء شماسه مهرولا فقال له: «انزل بنا إلى الطبقة السفلى لنرى الكتاب الذي جاءنا بالأمس من ملك النوبة.»
فمشى الشماس أمامهما ونزل بهما في سلم سري داخل القصر حتى بلغ إلى حجرة رأيا فيها كتبا متراكمة وفي جملتها صندوق فيه أدراج كثيرة تناول الشماس كتابا منها دفعه إلى البطريرك، ففتحه وقال: «هذا كتاب ملك النوبة أرسله إلينا يدعو فيه إلى خلع طاعة المسلمين والاتحاد معهم عليهم باسم دولة الروم. وقد علمت من فحواه أنه أرسل كتابا قبله لم يصل إلينا. ولعله قد وقع في أيدي المسلمين واطلعوا عليه. وقد فهمت من رسول ابن طولون أنهم عارفون بهذه المراسلات، فظنوني موافقا هذا الملك على غرضه وأنا بريء من هذا؛ لأني لا أرى خيرا يرجى منه. فلما رأوك بهذا اللباس وأنت نوبي ظنوك رسولا إلي من ملك النوبة.»
فتنبه زكريا لهذا السبب وقال: «صدقت يا سيدي إن محاولتنا التخلص من سلطة المسلمين لا فائدة منها، ولا سيما بعد أن تولى ابن طولون فإنه ...»
فقطع البطريرك كلامه قائلا: «إنه لا بأس به، ورغم ما ذكرته لك من أمره معي؛ فإني لا أحمله تبعة عمله، وإنما التبعة علينا نحن، فإننا نحرض حكامنا على ظلمنا بسوء عملنا وفساد نياتنا.» قال ذلك وهو يكاد يغص بريقه. وكأنه أكبر أن يظهر هذا الضعف فعمد إلى تغيير الحديث فقال لزكريا: «لقد شغلناك عما جئتنا من أجله، وامتد بنا الحديث فقل. ماذا تريد منا؟»
وكانا قد خرجا من القصر واقتربا من غرفة البطريرك، فدخل البطريرك وجلس وأشار إلى زكريا أن يجلس ويقول ما يريده، فجلس وأخذ يقص حديث دميانة وما قاسته من معاملة أبيها وخطيبها حتى يوم فرارها إلى حلوان ، وكيف سطا البجة على هذا البلد ونهبوه وسبوا أهله وهي معهم وأنه جاء ليوسطه لدى ملك النوبة لإنقاذها.
وكان البطريرك يسمع الحديث وهو مطرق يهز رأسه حينا بعد حين استنكافا من تصرف مرقس وإسطفانوس، فلما سمع خبر أسر دميانة قال: «دميانة أسرت؟ إنها لا تستحق ذلك؛ لأنها تقية ورعة كأن فيها بركة من تسميتها القديسة دميانة - عليها السلام - ولكن الله يجرب خائفيه. وقد سمعتك تطلب وساطتي لدى ملك النوبة؟»
قال: «نعم يا سيدي إن حسن في عينيك هذا.»
قال: «هذا فرض علي لعدة أسباب: أولها أني إنما قبلت هذا المنصب حتى أقوم على خدمة شعبي وأبذل ما في وسعي لراحتهم وسعادتهم، وكذلك لأني أحن إلى هذه الفتاة وأحبها لتقواها وورعها. فضلا عن أني أحب أن أجيب ملك النوبة على كتابه، ولا أثق بمن يوصل كتابي إليه وربما أنك ولدنا وتعرف البلاد، فسأكتب له أجيبه على ما دعاني إليه من القيام على الدولة، فأقبح رأيه وأدعوه إلى الطاعة، وأذيل الكتاب بالتوصية اللازمة حتى يساعدك فيما تريده.»
صفحه نامشخص