قالت: «إن قلبي كان دليلي منذ رأيت تلك السفينة. وهل ابن طولون فيها؟»
فأطرق سعيد وسكت لحظة ثم قال لها همسا: «هو فيها، لكنه لا يريد الظهور للناس وقد أوصاني بأن أكتم مجيئه؛ لأنه جاء بناء على ترغيبي؛ فقد كان دعاني في هذا الصباح ليكلمني بشأن العين والاحتفال بجر الماء إليها، فانتهزت هذه الفرصة المواتية وذكرت له الاحتفال بعيد الشهيد وما يجري فيه من الغرائب ورغبته في مشاهدته ليلا، فرضي وأركبني معه على أن يشاهد ذلك سرا، فلما رست بنا السفينة استأذنته في زيارة الكنيسة ريثما يخيم الظلام ويبدأ الاحتفال، فجئت ومررت بالفسطاط الذي كنت أحسبك فيه، فرأيت أباك وصاحبه في زمرة من الشاربين والمغنيين وعلمت أنك أتيت الكنيسة فجئت.»
فقالت: «إنها منة لا أستحقها. فأنت باق هنا إلى الصباح؟»
قال: «سأبقى في السفينة عن بعد. كيف أنت الآن؟»
فهاج سؤاله أشجانها فأطرقت وتنهدت، وأرسلت دمعتين رآهما سعيد تنحدران على خديها، فأحس بهما كأنهما جذوتان وقعتا على قلبه فقال: «ماذا أرى؟ ما بالك؟ ما الذي يخيفك يا دميانة؟» وأدرك سبب بكائها فاستأنف الكلام قائلا: «لا تخشي أحدا إذا كنت شجاعة كما أعهدك، إن ذلك الغلام سيرجع القهقرى كما رجعت سفينته أمام سفينتي الليلة، إنه لا يستطيع أن يلثم موضعا وطأته قدمي.» قال ذلك وبانت عليه أمارات الأريحية والأنفة.
فأعجبت به ولكنها كانت تخاف أباها، فانقبضت نفسها وتجلدت، فقالت: «أراجع أنت إلى السفينة الآن؟»
قال: «لا بد من ذهابي قبل الغروب إلا إذا أمرتني بالبقاء لأمر تخافينه، فلا أبالي رضي الوالي أم غضب.»
قالت: «أما بقاؤك معي فغاية مرادي.» وتوردت وجنتاها وأتمت الحديث قائلة: «ولكنني لا أريد أن تغضب ابن طولون وهو الذي قدمك ورفع منزلتك ولكنني ...» وسكتت.
قال: «لن يطول افتراقنا؛ فإننا عما قليل نحتفل بجر مياه العين، وبعد ذلك نجتمع ويكون اجتماعنا دائما - إن شاء الله - هذا إذا كنت تريدين.»
فتنهدت وقالت وهي تخفض صوتها لئلا يسمعها أحد: «تسألني إذا كنت أريد؟ هذا أمر لا أجيب عنه سل قلبك يدلك عليه ولكن ماذا أفعل؟» وشرقت بدموعها.
صفحه نامشخص