وكان أبو الحسن مصغيا يسمع، فلما فرغ إسطفانوس من كلامه أظهر سروره بما استفاده، وقال أنه كان يود أن يجيب دعوته ويرافقه، ولكنه يؤثر البقاء في المنزل إكراما لسعيد؛ لأنه قادم من سفر، وربما لحق بهم بعد حين إلى أن قال: «وإذا لحقنا بكم نعرف دهبيتكم من رايتها، أليست هي راية المارداني؟»
فخشي إسطفانوس إذا ألح في الدعوة أن يرافقه في الدهبية، وربما جاء سعيد معه وقد أصبح لا يطيق رؤيته غيرة منه على دميانة، فاكتفى بقوله: «نعم هي للمارداني وأرجوا أن تلحقوا بنا فيكون حظنا كبيرا.»
وسكت وانتبه أبو الحسن على أنه أطال الجلوس قبل العشاء فاعتذر وانصرف. ولما خلا إسطفانوس بمرقس نظر إليه نظرة استعطاف واستفهام. فضحك مرقس واتخذها ذريعة لإظهار فضله على إسطفانوس وقال: «لا تخف يا عزيزي لو طلب دميانة ابن طولون وكان نصرانيا لما سمحت بها لسواك.»
فأثنى إسطفانوس على تفضله وحسن رأيه فيه ووضع يده على كتفه تحببا كأنه يحاول ضمه وقال: «بارك الله فيك يا أخا الرجال. لقد طالما أثنى أبي على لطفك وفضلك وذكر العلاقات الودية القديمة بين أسرتينا.»
فاغتنم مرقس ذكر أبيه فقال: «إن أباك المعلم حنا ينسى القديم ولا يذكر غير الجديد، فقد فرحنا بتقدمه في ديوان الخراج حتى أصبح كاتب المارداني ولكن هذا قلما أفاده أو أفادنا.»
فأدرك إسطفانوس أنه يلمح إلى أمر يريده من أبيه، فقال: «لا تظن أبي ينسى أصحابه، ولا أظنك نسيت تخليه عن الضريبة المتأخرة على ضيعتك من أيام الظلم.»
فقال: «إنه فعل ذلك بأمر ابن طولون - كما تعلم - على أني لا أشك في أن أباك لا يدخر وسيلة في التخفيف عنا ولي عنده ملتمس لا يكلفه عناء. سأذكره لك بعد حين.»
وكانا يتكلمان وهما خارجان من القاعة بعد أن ودعا أبا الحسن، وكان الخدم قد أعدوا الطعام، فوضعوه على المائدة حالما علموا بخروج أبي الحسن، فقعد الصديقان ساعة أخرى للطعام والشراب، ثم آوى كل إلى فراشه.
الصعود في النيل
نهض الخدم في صباح اليوم التالي يحضرون اللحوم والخضر والفاكهة والخمور؛ لتحمل إلى الدهبية طعاما أثناء الرحلة. والتصعيد في النيل في فصل الربيع جميل جدا؛ لأن السفينة تجري فيه هادئة لا يزعجها نوء ولا يكدر ركابها رائحة البحر المالح، فلا يخافون خطرا ولا دوارا، يقضون نهارهم مستمتعين بمناظر الطبيعة، فإذا توسطوا النيل شاهدوا روعة الضفتين وما وراءهما من السهول الملونة بين خضراء وحمراء وصفراء على اختلاف حال الزرع من النمو أو النضج. وإذا جاوروا إحدى الضفتين استأنسوا تارة بأنين السواقي وخوار ثيرانها وطورا بسماء الماعز تسرح في بساتينها، وآونة بغناء الغلمان الذين يرفعون الماء بالشادوف ويوقعون ألحانهم على حركاته. وترى هنا غلاما راكبا حمارا يسوق أمامه بقرة وهناك رجلا يسوق بعيرا. ويعترض منظر السهول الخضراء كثير من الشجر والنخل الذي كأنه مظلات مغروسة في الأرض، أو كما قال الشاعر:
صفحه نامشخص