فالتفتت وتفرست فيه ثم قالت: «إنه خادمي العم زكريا وأظن أبي استبطأني فبعث به يستعجلني.»
فقال: «إن هذا العم سيأخذك مني أو بالحري سيفصل بيننا.»
فقطعت كلامه قائلة: «مؤقتا إن شاء الله.»
فردد قولها: «مؤقتا إن شاء الله» مرارا، ثم جذب اللجام حتى اقترب الجواد منه وقال وهو يحك جبهة الجواد: «أنت ذاهبة الآن إلى بيت أبيك، وستلهين عني بالخدم والجواري وبالأصدقاء، وأما أنا فلا أنيس لي إلا خيالك.»
فقالت: «لا يشغلني عنك شاغل بعد ما دار بيننا.» وكأنها أرادت إتمام الحديث فمنعها الحياء فقاطعها قائلا: «لن يطول الفراق - إن شاء الله.»
قالت: «ذلك إليك و...»
قال: «أنا ذاهب في الغد إلى الفسطاط؛ لأرى ما يأمر به أميرنا ابن طولون بعد أن أنهيت بناء العين وجر المياه وسبعين يوما يحتفل فيه بجرها فأنال المكافأة، وأرجو أن تسرك، وعند ذلك أتقدم إلى الأمر الذي جرأتني عليه بصادق فضلك. فأستودعك الله الآن.»
ومد يده إليها فمدت يدها فصافحها وضغط أناملها فأجابته بمثل ذلك وأومأت إلى القمر وهي تنظر في عينيه ولم تقل شيئا ففهم مرادها وقال: «وأنا أستشهد هذا الكوكب السيار على عهدنا.»
والتفت فرأى العم زكريا يتباطأ في مشيته عمدا كأنه علم بما بينهما فلم يشأ أن يفصل بينهما، فلما رآهما يتصافحان تقدم إليهما وحياهما هادئا رزينا.
وكان زكريا كهلا أجرودا أصله خصي أسود، نشأ في صباه عند ملك النوبة، ثم تنقل من يد إلى يد حتى وهب لدميانة ليلة ولادتها على أن يكون في خدمتها إلى آخر حياته، وقد أخلص لها الخدمة. وهؤلاء الخصيان إذا صدقوا في حبهم كانوا أقرب مودة لأسيادهم من الإخوة أو الوالدين، وكانت دميانة تأنس بزكريا وتكرمه وتناديه: «يا عماه.» وكان يعرف سعيدا معرفة جيدة ولم يفته ما يكنه لدميانة ولا ما في قلب دميانة له مع أنها لم تذكر له شيئا من ذلك. وكان يرى بينهما تناسبا، ويتمنى أن يتم زواجهما. فلما التقى بهما في تلك الخلوة بادرها قائلا: «لقد شغلنا عليك يا مولاتي لغيابك ولو علمت أنك التقيت بمولانا المهندس لما تحملت مشقة السعي إليك ولكن سيدي والدك استبطأك فأمر بتعجيل مجيئك.»
صفحه نامشخص