فوقف الكاتب، وقال: «نعم يا سيدي.»
فدفع إليه الكتاب، ففضه، وأخذ يقرؤه ويترجمه والكل ساكتون يسمعون، وهذا فحواه:
ولدنا بالروح (فيرفي) ملك النوبة
جاءنا منك كتب غير قليلة تدعونا فيها إلى خلع طاعة حكامنا المسلمين والرجوع إلى سلطان الروم، ولو كان خيرا من سواهم لما خرجنا من طاعتهم ورضينا أن يحكمنا غيرهم، وهؤلاء العرب قد تعودناهم وتعودونا، وهم خير لنا من أولئك، ولا أنكر أن بعض الولاة المسلمين كانوا أهل ظلم وقسوة، ساموا أبناءنا الأقباط العذاب، ولكنهم على الإجمال أهل عدل ورفق، وأخص أميرنا الحالي أحمد بن طولون؛ فإنه ما انفك منذ تولى مصر يرفع المظالم ويكف الأذى عن طائفتنا، على أنك لو تدبرت ما لحقنا من الأذى على عهد هؤلاء العرب؛ لوجدت الحق علينا نحن، لفساد نياتنا وانقسامنا فيما بيننا، إذ يتهم بعضنا بعضا ويشي بعضنا ببعض الضغائن في الصدور. وأقرب شاهد على ذلك ما وقع لنا، فإن بعض الأساقفة قصر في واجبات الكنيسة، فحرمته فحقد علي ووشى بي إلى الوالي زاعما أني صاحب مال كثير، وأشار عليه أن يطالبني بأموال تلزمني للدولة، فضربوا علي ضرائب يعلم السيد المسيح أني عاجز عن نصفها وربعها، ولكن الوالي لا يصدق قولي. هذا مثل ضربته لك فاعتبر به. ورأيي أن نقنع بالرضوخ لحكامنا هؤلاء، فهم خير لنا من سواهم، وإذا وجدنا في بعضهم عيبا فقد كان في ولاة الروم قبلهم ما هو شر وأدهى. وفي الختام أهديك البركة والدعاء ونطلب إلى المولى أن يصلح نياتنا ويجمع قلوبنا فنحسن معاملة حكامنا لنا، والسلام.
كان الكاتب يقرأ ويترجم والحضور يسمعون والبطريرك مطرق ينتظر النتيجة. ولم يأت الكاتب على آخر الكتاب حتى انبسط وجه ابن طولون بعد أن كان منقبضا، فالتفت إلى البطريرك وقال: «لقد أسأنا عشرتك وسمعنا الوشاية فيك. والله لو كان كل أبناء طائفتك على رأيك لكانوا أسعد حالا وأنعم بالا، فوجب علينا التخفيف عنك، وقد أتت هذه الشكوى لك لا عليك.»
قال: «هذه إرادة الرب.»
فالتفت ابن طولون إلى مرقس، وقال: «هذه دعواك يا معلم مرقس قد سقطت، فأين هي الأخرى.»
فوقع مرقس في حيرة، ثم أراد أن يحتال لإيقاع زكريا، فقال: «إن أبانا البطريرك قد تبرأ بنص كتابه ولكن حامل الكتاب لا يبرأ؛ لأنه حمل الكتاب إلى ملك النوبة، وهو يظن فيه تآمرا، وقبل أن يكون وسيطا فيه. وما كان يسعى له أن يحمله، ولكنه نوبي يخدم مصلحة ملكه، ولو علم أن الكتاب بالمعنى الذي سمعنا لم يحمله.»
فقال ابن طولون: «الواقع أن الكتاب واضح المعنى والمبني، وليس في حمله إلا خدمة لحكومة المسلمين، جزاه الله عنا خيرا. والآن ننتقل إلى دعواك الأخرى، ولا بأس من بيانها بحضور البطريرك.»
فقال زكريا: «بل حضور غبطته ضروري.»
صفحه نامشخص