احمد عرابی زعیم مفتری علیه
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
ژانرها
هذه آراء أقل ما يقال فيها بعد ما أشرنا إليه من ملابسات كتابتها أنه كتبها «غير ناظر في كتاب ولا راجع إلى مقال سبقه به غيره» كما ذكر في مقدمة مذكراته التي كتبها للخديو عباس، أعني أنها آراء يعوزها الدليل من الحوادث أو الشواهد، على أننا إذا أخذناها على علاتها فماذا نخرج به منها إلا أن عرابيا رأى الظلم محيطا به فأراد أن يعتصم بالعدل في صورة مجلس نيابي؟ ولم لا تكون مصر كلها ممثلة في شخص عرابي، فكانت تحيط بها المظالم وتخشى الطغيان، ولم يكن لها من عاصم إلا حكم الدستور؟ ولقد بينا مبلغ ما كانت تعانيه مصر منذ حكم إسماعيل، وإذا دفع الإنسان الخوف من الظلم إلى مقاومة الظلم فهل يكون ذلك دليلا على جبنه ورغبته في الهرب أم يكون دليلا على شجاعته وتحديه المخاوف؟
إن الذي يعنيني من هذا الذي ذكره الأستاذ الإمام هو أن أبين ما لحق عرابيا من الظلم، حتى من أقرب الناس إليه، عسى أن يحذر القارئ مما قد يجده من غير الإمام من هذا القبيل، وعسى أن يطرح من ذهنه ما قد يكون قد علق به، وما أحسب أن في تاريخ الزعماء من تجمعت عليه المظالم كما تجمعت على عرابي في حياته وبعد موته، كذلك لست أذكر حركة جردت من معانيها السامية حتى تركت فارغة شوهاء تنكرها النفوس كهذه الحركة القومية التي بخسها المبطلون حقها هذا البخس الشنيع.
كانت الثورة العرابية ثورة قومية جمعت بين المدنيين والعسكريين من أبناء أمة واحدة أيقظتها المظالم، وإذا كان العسكريون أو زعيمهم عرابي قد طالبوا بالدستور خوفا على أنفسهم كما يذكر الشيخ محمد عبده، فلماذا طلبه المدنيون؟ إن كانوا طلبوه خوفا على أنفسهم كذلك من مغبة معارضتهم الخديو ووزيره، وكان ذلك معناه عند الشيخ الجبن فإنه لا قومية ولا وطنية هناك، ويكون شأن الوطنيين في هذا ومنهم الشيخ محمد عبده شأن عرابي وأعوانه ...
إن الوطنيين والعسكريين قد أحاطت بهم المخاوف من كل جانب، فطلبوا الدستور وطلبه عرابي فيمن طلبوا، وقد استعان به الوطنيون، ولست أفهم لماذا يفرق الشيخ محمد عبده بين الباعث لعرابي على طلبه وبين باعث الوطنيين؟ لقد كان يجوز أن تعلق بكلامه بعض الوجاهة لو لم يثبت أن الوطنيين اتصلوا بعرابي وطلبوا عونه، أي لو أن عرابي وحده قد التجأ إلى الاعتصام بطلب الدستور كفكرة طارئة أملاها عليه الخوف وليس في البلد حركة دستورية، أما أن تكون المطالبة بالدستور حركة عامة سابقة لشكوى عرابي وزميليه ويكون هو قد شايعها بوجدانه متضامنا مع زعمائها لإيمانه بمبدأ الشورى ولما كان ينصب على الجميع من مظالم بيناها في موضعها، ثم يصور لنا طلبه كما صوره الإمام فذلك ما لا نستطيع أن نحمل عقلنا على قبوله، ولو أن عرابيا كان من طبعه الخوف والهرب لما أثار تلك الحرب على الشراكسة، ولما أقدم على رفع الشكوى إلى رياض ولا على تدبير حادث قصر النيل ولا على الذهاب إلى عابدين بعد إخراجه من السجن، أجل ما كان ليفعل شيئا من هذا جبان خائف، فهي أفعال لن ينهض بها إلا مقدام. قال الشيخ محمد عبده فيما علق به سنة 1903 على ما كتبه عرابي من تاريخه لبلنت حين أطلعه عليه:
1 «كانت الأشهر السبعة بين حادث قصر النيل ومظاهرة 9 سبتمبر أشهر نشاط سياسي عظيم شمل جميع الطبقات، وأكسبت عرابيا فعلته كثيرا من ذيوع الصيت، ووصلت بينه وبين المدنيين من أعضاء الحزب الوطني، مثل سلطان باشا، وسليمان أباظة، وحسن الشريعي، وشخصي، وكنا نحن الذين أبرزنا فكرة تجديد المطالبة بالدستور، وكانت وجهة نظره يومئذ أن ذلك يهيئ له ما يعصمه ويعصم زملاءه العسكريين من انتقام الخديو ووزرائه، وقد أخبرني بذلك مرارا أثناء الصيف، وبناء على ذلك أعددنا ملتمسات للمطالبة بالدستور، وشفعنا ذلك بحملة في الصحف، وقد لقي عرابي سلطانا في الصيف مرات كثيرة وقد اهتم به سلطان - وقد كان عظيم الثراء - اهتماما شديدا وأرسل إليه كثيرا من الهدايا كالمنتجات الزراعية والخيل وما إليها، وذلك كي يثير حماسته، ولكي يظفر بمعونته في الحركة الدستورية، ولقد دبرت مظاهرة عابدين بالاتفاق مع سلطان.»
وخلاصة ما يستخرج من هذه الفقرة أن الوطنيين والعسكريين اتفقوا على المطالبة بالدستور، وأن الوطنيين أرادوا أن يستعينوا بقوة العسكريين، وأن الباعث للعسكريين كان رغبتهم في إيجاد ما يعصمهم من انتقام الخديو، وأي عيب في هذا الباعث؟ وهل كان غيره منذ نشأت الحركات الدستورية باعثا للأمم على المطالبة بالحكم الدستوري؟ إن كل منصف لا يسعه إلا أن يرى فيما وصف به الشيخ محمد عبده عرابيا من صفات الفزع والخوف والهرب تزيدا لا مبرر له ولا ينهض من الحوادث دليل عليه، بل إن الحوادث جميعا تنقضه، فالأمر هين بين ينحصر في أن عرابيا وإخوانه رأوا في الحكم الدستوري عاصما لهم من الجور كما رأى ذلك الوطنيون، ومنهم الشيخ محمد عبده ... •••
التقى الوطنيون والعسكريون فكان من التقائهما واتجاههما وجهة واحدة، حركة قومية غايتها الدستور والحرية. ولقد نجحت تلك الحركة نجاحا باهرا يدعو إلى أكبر الإعجاب، وبلغت غايتها دون أقل مكدر يوم عابدين، ولولا ما كان من موقف توفيق بعد ذلك ومن كانوا يتربصون بالبلاد من الثعالب وبنات آوى لسارت مصر قدما في طريق الحرية والنهوض ...
وما يشين هذه الحركة مشاركة العسكريين فيها، فليست في ذلك بدعا من الحركات، فما خلت حركة قومية من عنصر الجند إما متطوعين أو من الجيش القائم، وهل يعيب حركة استقلال المستعمرات الأمريكية مثلا أن وشنطون الجندي كان زعيمها؟ وهل يشين الثائرين من الأحرار على استبداد الملك شارل الأول في إنجلترا استعانتهم بكرمول وجنوده؟ وهل كان في انضمام الجيش في فرنسا إلى أكثر الحركات الثورية ما يذهب بجلال هذه الثورات؟ ذلك ما لا يقوله منصف ...
حق لمصر أن تفخر بأنها ثارت ثورة قومية حرة في القرن التاسع عشر؛ عصر القوميات والثورات، وتلك هي الثورة العرابية التي مهدت لها عوامل وأسباب تجعلها أشبه ما تكون بأجل الحركات القومية في أوربا ...
وسيخنق الاحتلال هذه الحركة القومية، ويطفئ شعلتها، ولكن جمرتها تبقى تحت الرماد إلى أن ينفخ فيها سعد من روحه فتشتعل وتتوهج حتى ما يستطيع مستبد ولا طاغية بعد ذلك أن يخمد نارها أو يطفئ نورها ...
صفحه نامشخص