احمد عرابی زعیم مفتری علیه
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
ژانرها
وكان مما يقضي به منطق الحوادث أن يلتقي الوطنيون والعسكريون، فهم أبناء أمة واحدة يجمعهم على كره رياض والاستياء من العهد كله ما كان يحيق بهم جميعا من المظالم، وما كانوا يستشعرونه جميعا في أنفسهم من أن مرد ذلك إلى الحكم المطلق الذي يسير عليه توفيق ووزيره ومن ورائهما تدخل الأجانب.
ولذلك ما كاد عرابي يخطو خطوته حتى حقت له الزعامة كما بينا، فقد اتجهت إليه القلوب، إذ هزت الناس جرأته وحميته، وأحس الناس في دخيلة نفوسهم أن الثورة قد هيئ لها الرجل الذي يقودها.
ولئن زين لبعض الناس أن يقولوا إنه ما كان ليستطيع أن يفعل هذا لو لم يكن يستند إلى الجيش فإنا نقول لهم ولم لم يضطلع بالقضية رجل غيره من رجال الجيش، ولم يكن أعلاهم مرتبة؟ ولقد كان معه زميلان حين وثب وثبته فلم لم تنسب الحركة إلا إليه، ولم لم يجر على الألسنة اسم غير اسمه؟ ومن أدراه أن الجيش لن يخذله إذا جد الجد؟ وهل قعد به تفكيره في ذلك وهو ما دار بخلده بالضرورة حين أقدم على هذا الأمر الخطير عن أن يخطو خطوته؟ وهل كان يغنيه ما أخذه على زملائه من المواثيق والأيمان إذا خاف الجند جانب الحكومة فقعدوا كما قعد آلايه هو عن التحرك من العباسية إلا بعد العشاء؟ ألا إنها الحمية التي تقوم عليها كل زعامة من الزعامات ...
وندع للشيخ محمد عبده أن يبين لنا كيف اتجهت النفوس إلى عرابي، قال في مذكراته عن الثورة العرابية: «شاع هذا الخبر بين الناس على حسب العوائد في مصر، وعلم الكثير من الأعيان والعلماء والموظفين بإصرار الضباط على طلب ماس بالوزارة، وأحسوا بخلاف بين الخديو ورئيس نظاره، فهب عند ذلك جميع الراغبين في تغيير الحال من علماء وأعيان وذوات كرام ومقربين من الجناب العالي، واتحدت وجهتهم في الغاية وإن اختلفت الدواعي والبواعث، فطلاب مجلس النواب يؤملون في التغيير أن ينالوا تشكيله، والمتضجرون من استبداد بعض المأمورين، والخائفون من أن يؤخذوا بالشبه يرجون بالتبديل كشفا لكربتهم وأمنا على أنفسهم، والواجدون على السلطة الأجنبية يرجون شفاء شيء من وجدهم، والذوات الكرام الطامعون في رجوع سلطتهم على أبدان الرعية وأموالها يطمعون في إرضاء شرههم، والأجانب الربويون يتطلعون إلى انقلاب تزيد به الشدة المالية حتى تتسع لهم طرق الكسب الماضية، وقنصل فرنسا البارون درنج يسعى في الانتقام من رياض باشا ويحب أن يأتي خلف له يمكنه مجاراته في مطالبه، والجناب الخديو لا يكره أن يتخلى رياض باشا عن رئاسة النظار، بل تلك أمنية من أمانيه.
فأخذت هذه العوامل جميعها تشتغل لتقوية جانب الضباط وتشجيعهم على الإلحاح في الطلب، وكل من وصل إليهم من أولئك بنفسه أو أمكنه أن يبعث إليهم من يعبر عن أفكاره يؤيد لهم عدالة الطلب، وموافاته للرغائب الوطنية، وأن ما يأتيه ناظر الحربية لا يمكن الصبر عليه ثم كانت تأتيهم الأخبار بأن الجناب الخديو لا يأبى إجابة طلبهم، بل يحب أن يمكن لهم أمنيتهم، وإنما رياض باشا هو الذي لا يريد ذلك. والله أعلم من أين كانت تأتيهم هذه الأخبار، مع أن رياض باشا كان يريد تحقيق الأمر حسب ما طلبوا في تقريرهم كما قدمنا.»
رأى الوطنيون ما أصاب رجال الجيش من ظفر سريع، بينما قد لحقهم هم الفشل، واستطاع توفيق أو استطاع في واقع الأمر رياض أن يأخذ عليهم مسالك القول والعمل، فسرعان ما اهتدوا إلى الطريق الذي يوصلهم إلى أغراضهم فتقربوا من عرابي وتوددوا إليه، فأخذ شريف يراسله ويعقد بينه وبينه أواصر المودة، وحذا حذو شريف زعماء حركة الإصلاح في الأزهر وزعماء النواب مثل سلطان باشا ذلك الذي كان يمثل الأعيان كذلك لأنه منهم، واتضح لهؤلاء أنه يجب عليهم أن يستعينوا بهذه القوة الجديدة لإقصاء رياض عن موضعه، وبعث الدستور الموؤود وتحقيق الإصلاح المنشود.
ويقول بلنت عن ذلك في كتابه: «وفضلا عن أن عرابيا قد رأى أعيان الفلاحين يسعون إليه، فإنه قد رأى المطالبين بالدستور كذلك يجعلون منه حليفا لهم، وقد كان الكثيرون منهم أعضاء في الطبقة الحاكمة، وكانوا في قرارة أنفسهم يقاومون حرية الفلاح كما يقاومها رياض نفسه ... وكان شريف رئيس هؤلاء الدستوريين، وقد أدى به مجرى الحوادث في الصيف إلى أن يجد نفسه ذا صلة وثيقة بعرابي وإن لم تكن صلة مباشرة، وذلك كوسيلة لبعث الدستور الذي هو وسيلته لاستئناف سلطته، ولما كان عرابي على الدوام ميالا إلى مبدأ الدستور منعطفا إليه فقد لبى مرحبا بالفكرة، وزاده إقبالا عليها أن سلطان باشا نفسه - أقوى أعيان الفلاحين يومئذ - كان من أشد أنصار الدستور، وقد اتخذ دور الوسيط في الصلة بينه وبين شريف.»
والآن نقول: إن الثورة العرابية في حقيقة أمرها هي التقاء الوطنيين والعسكريين على هذه الصورة التي بيناها، ولسنا بحاجة بعد ذلك فيما نعتقد إلى كثير ولا إلى قليل من القول لنرد على الذين يزعمون أن الثورة العرابية لم تكن إلا حركة عسكرية بعثتها دوافع شخصية، فأما الذين يزعمون هذا الزعم عن جهل فما نرتاب في أنهم يرجعون عن زعمهم بعد هذا، وأما الذين ساءت نيتهم فزعموا هذا الزعم مغرضين فما لنا إلى إقناعهم وسيلة ...
إن تجريد الثورة العرابية من صفتها القومية الدستورية هو من صنع كتاب الاحتلال، ومن ذهب مذهبهم من المخدوعين ومن المبطلين، وماذا كان يصنع الاحتلال غير هذا ليبرر وجوده؟ لقد شوه القضية وحصرها في فتنة عسكرية حمقاء هوجاء، وبذل غاية جهده واستعان بجاهه ليصرف الأذهان عن أي معنى من المعاني السامية في ثورة عرابي الذي ألقي به وبالأبطال من زملائه في منفى بعيد بدعوى أنهم من العصاة المفسدين في الأرض، ثم دأب كتاب الاحتلال وصنائعه على تضليل أبناء الجيل الذي أعقب الثورة، وجاراهم في ذلك من الكتاب المصريين - وا أسفاه! - الجهلاء الذين انخدعوا بما عمل الاحتلال على إقراره في الأذهان، والضعفاء الذين راعوا جانب توفيق ثم جانب ابنه من بعده. ذلك الذي ما كان يستطيع أحد أن يجهر بالثناء على عرابي في عهده، وملئت كتب المدارس بالأغاليط والأباطيل، حتى ما يذكر الذاكرون اسم عرابي وثورته إلا قرنوها بمعاني الطيش والسفه والاحتلال ...
ولكن الحق إن أخفي عن الناس ردحا من الزمن، لا يستطاع إخفاؤه عنهم إلى الأبد، وإلا ما كان حقا، فجوهر الحق في أنه لابد منتصر مهما طال عليه الأمد ومهما استعدى عليه الباطل من ألوان الخداع والبهتان.
صفحه نامشخص