قالت: «فأي أمر تريد أن تتلقى؟»
فوجم الوزير، ونظر أمامه والتفت عن يمين وشمال، كأنه يتلمس من يلهمه الرد على الأميرة. فلما لم ير أحدا قال في صوته المتهدج: «فهل يأذن مولانا في أن نجمع مجلس الحرب؟»
قال الملك: «هو ذاك.»
قالت الأميرة: «وما عسى أن يصنع مجلس الحرب؟»
قال الملك: «يصنع يا ابنتي ما تصنع مجالس الحرب في مثل الحال التي اضطررنا إليها، فهناك أوامر يجب أن تصدر، وجنود يجب أن تعبأ، وأمور يجب أن تهيأ.»
قالت فاتنة: «فأرح نفسك يا أبت من مجلس الحرب، فلسنا في حاجة إليه. لن تصدر الأوامر، ولن تعبأ الجنود، ولن يهيأ لهذه الحرب شيء. اذهب أيها الوزير فأذن في الجن ألا يراعوا؛ فليس عليهم من بأس، وإن هذه الحرب التي بدأت منذ الآن ستنتهي دون أن يصيبهم منها مكروه، بل أنا أرجو أن يصيبهم منها خير كثير.»
هنالك وثب الملك وقد ثاب إليه حزمه وعزمه وعاد إليه حده وجده، كأنما هب من نوم عميق طويل فاستقبل يقظة حافلة بجلائل الأعمال وعظائم الخطوب، فقال: «اعبثي يا ابنتي ما شئت أن تعبثي، وجربي ما أحببت أن تجربي، وتهيئي لهذه الحرب الغريبة التي دفعتنا إليها كما تريدين؛ ولكن دعينا نعد للحرب عدتها ونستقبلها كما تعودنا استقبالها؛ فإن تنجح وسائلك لم يكن في استعدادنا شر ولا في احتياطنا ضرر، وإن تخفق تجاربك لا تؤخذ الرعية والمملكة من تقصير الساسة وإهمال القادة.» ثم التفت إلى وزيره قائلا: «ادع لنا مجلس الحرب، وما أرى إلا أنك قد فعلت.»
قال الوزير: «فإن قادة الجند وساسة الملك بباب مولانا ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول.»
قال الملك: «فأدخلهم إذا.»
وأقبل القواد والحكام والمشيرون، فحيا كل منهم وأخذ مجلسه حيث ينبغي له أن يجلس، ثم أخذوا يتدبرون ويفكرون ويتشاورون، ولم تكن عنايتهم بحماية الأمن الخارجي أشد من عنايتهم بحماية الأمن الداخلي؛ فقد تسامع أفراد الرعية وجماعاتها بهذه الحرب في أقل من طرفة عين، فبعضهم أشفق منها فأخذ يحتاط للمستقبل، وبعضهم أدركه الذعر فأخرجه عن صوابه وتجاوز به القصد فيما ينبغي أن يعمل أو يقال، وبعضهم انتهز فرصة كان ينتظرها فإذا هو يكيد ويمكر ويتربص الدوائر بالدولة القائمة أو بالحكومة العاملة لهذه الدولة، وبعضهم كان أقرب من هذا همة وأقصر نظرا وأشد إيثارا لنفسه بالخير وأحرص على تحقيق منافعه العاجلة، فأخذ يقامر ويغامر ويجمع المال ويكنز الذهب والفضة ويدخر المؤن، غير حافل بما سيكون لذلك من أثر في حياة من حوله من الأفراد والجماعات، وإنما ركب شهوته واتبع هواه لم يفكر إلا في إرضاء مطامعه وتحقيق منافعه. ولم يكن بد من الاحتياط لهذا كله والضرب على أيدي هؤلاء جميعا، ولم يكن بد من أن يأمن الخائف، ويطمئن المذعور، ويحمى من لا حامي له إلا النظام والقانون، ولم يكن بد لتحقيق هذا كله من أن تصدر الأوامر وتتخذ الأهبة، ولكن ملوك الجن يا مولاي ليسوا كملوك الناس؛ لا يتعرضون للإهمال ولا يوصمون بالتقصير ولا ينتظرون أن تلم بهم الكوارث وتفاجئهم الحوادث، ولكنهم يستعدون لكل حادثة، ويتأهبون لكل كارثة، ويسبقون الخطوب بالاستعداد لدرئها، تنفذ بصائرهم إلى ما وراء الحاضر كما تنفذ أبصارهم إلى ما وراء الجو الذي يعيشون فيه، وهم من أجل ذلك لا تدهمهم داهمة، ولا تلم بهم ملمة إلا استخرجوا قوانين قد هيئت، وأوامر قد أعدت، وكلفوا تنفيذ القوانين وإجراء الأوامر جماعات من أعوانهم قد أعدوا لهذا كله من قبل، ولم يعرف أحد أنهم أعدوا له أو كلفوا القيام عليه.
صفحه نامشخص