وما أشد ما كانت دهشتي عندما رأيتني في مدينة غريبة يتزاحم أهلها لرؤيتي، وكانوا كلهم يشبهون رفيقي، طوال الأجسام ضخام الرءوس نحيفي الأبدان، لا يختلف الرجل عن المرأة إلا في أن له شاربين دقيقين، أما اللحية فكنت أرى شعرات في مكانها أو لا أرى شيئا، وكانت أفواههم صغيرة، وبعد أن اختلطت بهم عرفت أن ليس لهم أسنان في الفك الأسفل، أما أسنان الفك الأعلى فلم يبق منها إلا أعجازها، وأخبرني هذا الشخص الذي كلف بمرافقتي عن أشياء كثيرة خاصة بي وبالمدينة التي نسير فيها، فحكى لي أني عشت عيشة نباتية، وأنا مسطح على فراشي دون أن أعي، وكيف أن هذه المعيشة كانت سببا في أن أعمر هذا العمر الطويل؛ لأني صرت بمثابة الشجرة لا أجهد إلا أقل الجهد، وكيف ربت أموالي حتى صرت الآن من أغنى الناس. ففي سنة 1925 كنت أملك 50 فدانا، ولم يكن ينفق علي بعد الفالج إلا ريع عشرة فدادين، وما تبقى من الريع يتوافر باسمي، حتى إن أولادي لم يرثوا شيئا مني لا هم ولا أحفادهم، وعلى الرغم من مقاضاتهم لي لم تستطع محكمة أن تقر على موتي؛ فتراكمت أموالي بهذه الطريقة، ثم قص علي تاريخ مصر في الألف السنة الماضية، وكيف حدثت فيها ثورات اشتراكية، وكيف أخفقت التجارب الأولى للحكومة ثم انتهت بالنظام الحاضر، وأخذني في اليوم الأول لخروجي من المستشفى وأراني بعض مناظر مصر أيام كنت أعيش فيها قبل أن أمرض، فعرض علي جملة أشرطة سينما فوتوغرافية، ورأيت بلادي كما كنت أعرفها، ثم عرض علي أشرطة أخرى من المائة السنة التالية، ثم الثالثة، وهلم جرا، إلى أن أبلغني مناظر «خيمي» أي: مصر في عصره.
وكان قد استقر في ذهني الآن أن ما رواه لي عن مرضي صحيح ، وقد كنت في حياتي السابقة أعرف شيئا عن نظرية التطور، بل أدعو إلى الإيمان بها، فلم يكن من الصعب إذن أن أستضيء بضوئها في الظروف الحاضرة، ولكن علمي بهذه النظرية أسقط كرامتي بعض الشيء، فإني كنت أنظر إلى نفسي كأني متأخر عن هؤلاء الناس نحو 1200 سنة، وكأني بينهم بمثابة إنسان متحجر حي، والحق أنهم كانوا ينظرون إلي - على الرغم من تأدبهم - هذه النظرة المهينة؛ فقد كنت أرى عيونهم تثبت في وجهي، وتتفحص هيئة دماغي، وكان صبيانهم يتجرءون أحيانا على لمس لحيتي، ويتعجبون من خشونتها كما كانوا يصرحون أحيانا أخرى بتعجبهم من صغر رأسي.
وعدت عند الأصيل إلى غرفتي فوجدت ممرضتي التي قدت لي طعاما من الفاكهة أيضا، وأخذت في الحديث معها، وكان قد غادرنا رفيقي، وشعرت ونحن في وحدتنا بالغرفة بشعور عائلي بيني وبين هذه الفتاة، وقد عرفت منها أنها عنيت بتمريضي نحو ثلاثين سنة، وكان هذا وحده كافيا لأن أدل عليها بحق الصحبة القديمة والعشرة الطويلة. ثم قصت علي حالي أيام مرضي، ولم تكن القصة طويلة؛ إذ كانت تتلخص في أني كنت في سبات حال بعض الحيوانات وقت تشتيها، حين تتحجر وتنام ثلاثة أو أربعة شهور لا تأكل فيها، ويقتصر نشاط جسمها على التنفس مع دورة دموية بطيئة جدا، ولما رأى الأطباء أني سأموت لا محالة إذا لم أتغذ صاروا يحقنون عروقي بمواد مغذية نحو مرة كل شهر تقريبا، فكانت الحقنة تمسك رمقي، واتبع الأطباء هذه الطريقة معي وجعلوني أعجوبة الدهر، حتى قيل لي: إنه قد ألفت كتب في حالتي هذه وتعليلها بجملة علل، وآخر ما ظنه بعضهم أني أختلف عن سائر الناس في تركيب بعض الغدد الصماء، وقد ارتأى بعضهم تشريحي بعد موتي، ولكني أخلفت ظنهم إذ صحوت.
وكانت الفتاة تخاطبي بصوت جميل فيه بحة مستملحة، وكانت طويلة، ضخمة الرأس، لا يكاد يكون لها صدر يشبه صدور النساء البارزة، وكانت تلبس لبس بني عصرها، فالساقان والذراعان والرأس عارية، والحذاء بلا جورب، وليس على جسمها من الملابس سوى قطعة من نسيج واسع متخلخل أشبه شيء بالكاوتش يغطي ما بين العنق والساقين، وكان الرجال والنساء سواء في ذلك، أما شعر الرأس فكان يرخى حتى يغطي الوجه والقفا.
وألفت هذه الفتاة التي عرفت أن اسمها «راديوم»، وشعرت منها كأنها قد ألفتني، وكان في نظرتها لي شيء يحببها إلي؛ إذ لم أكن أرى في عينيها ذلك الاحتقار الذي كنت أراه في سائر أهل «خيمي» عندما كانوا يتفرسون في هيئة رأسي وكونها دون رءوسهم في الحجم. وكانت تشرح لي كل شيء خاص بأحوالهم ومعاشهم ونظامهم، وكنت كل يوم يزيد ارتباطي بها وتعويلي عليها، حتى كنت أقف في جانبها كالطفل في جانب أمه.
وشرحت لي غذاءهم فوجدت أنهم لا يعرفون الطبخ ولا يذبحون الحيوان؛ لأنهم قد استنبتوا من الأثمار فواكه مختلفة، منها ما ينفع غذاء، ومنها ما يستعمل دواء، وبعض غذائهم كالنشا والسكر كانوا يستخرجونه من الجماد، أي: بالتركيب الكيماوي، وكانت الزراعة في أيدي ناس خبراء، لكل منهم معمل يستولد فيه البذور الجديدة ويقايس فيه الأغذية المختلفة مع طعومها الحلوة والمزيزة والملحة، ولم تكن عنايتهم بالأثمار من حيث الغذاء فقط، فقد كانوا يلتفتون أيضا إلى الأرج واللون، بحيث لا يقعد الإنسان إلى طعام حتى يرى ما يغذو العين والخياشيم كما يرى من الطعم ما يلذ اللسان.
وكانت مساكنهم في غاية العجب، وبعضها مؤلف من طبقات، يحتوي المسكن على نحو مائتي نفس تقريبا من أولئك الناس الذين يميلون إلى الألفة والاجتماع، بينما كانت هناك منازل منفردة بين الحقول يعيش فيها المغرمون بالعزلة أو المنكبون على درس موضوع خاص يستغرق كل وقتهم ويصرفون إليه جميع قواهم. وكانت حياتهم تسهل على الإنسان الانفراد؛ لأنه كان يجد في وحدته كل ملاذ الاجتماع؛ إذ كان يجد في غرفته جهازا للتليفون الأثيري، فيسمع من الخطب والمحاضرات والأخبار ما يشاء ليلا أو نهارا، وكان إذا أراد أن يخاطب صديقه، مثلت له صورته وسمع صوته وهو قاعد في غرفته لا يريم، ولم يكن بالمدن ذلك الغبار أو الضوضاء الذي كنا نراه؛ لأن الشوارع كانت جميعها مغطاة بالخشب أو الكاوتشوك، حتى الطرق الزراعية كانت كذلك تقوم على جوانبها المصابيح الكهربائية، فلم تكن البيوت تحتاج إلى كنس وتنظيف لا ينقطعان، ثم كان أثاث المنازل يساعد على النظافة؛ لأنه صار كله تقريبا من الكاوتشوك، وكانت الغرف تدفأ وتضاء كما كان بها أيضا مراوح تدار باللاسلكي، وكان لكل فرد تقريبا أتومبيل خاص أو طيارة صغيرة، وكلاهما يدار أيضا باللاسلكي.
ويمكن أن أقول: إن حياتهم كانت على وجه العموم انفرادية من الوجهة الحسية، ولكنهم كانوا في انفرادهم أكثر اجتماعا منا من الوجهة المعنوية، فإني لم أعرف بينهم إنسانا لم يسمع غناء كل يوم أو لم يشاهد درامة تمثل في مكان قد يبعد عنه بألف ميل، أو لم يخاطب أصدقاءه النائين عنه في أقطار أخرى مرة كل أسبوع على الأقل، ويرى وجوههم ويضاحكهم ويجادلهم، فلم يكن ثم ما يدعو إلى أن يعيش هؤلاء الناس معا، ثم كان لكل منهم مركبة هوائية أو أرضية تنقله إلى حيث يشاء بأسرع من الريح.
ولكني مع إعجابي بهم لا أنكر أني امتعضت كثيرا عندما علمت أنهم لا يعرفون الحياة العائلية كما كنا نفهمها.
ومما زاد امتعاضي أن وجدت «راديوم» في غاية الجهل وسوء العاطفة نحو هذه الحياة، فقد كانت عواطفي توسوس إلي وساوس لذيذة عن حياة زوجية مع «راديوم» فأتمثلها معشوقتي وزوجتي، تسكن إلي وأسكن إليها، في مسكن يكون عشنا نأوي إليه معا، ويكون لنا من ثمرة الحب المتبادل صبيان روقة نتمتع برؤيتهم أطفالا ونشعر في تربيتهم بلذة الأبوة.
صفحه نامشخص