وليس في هذه الهيئة الاجتماعية حكومة سياسية أو إدارية من أي نوع كانت، وليس هناك قضاء، ولكن ليس معنى ذلك أنه ليس بين هؤلاء الناس من لا يغضب أو يحقد، ومن لا ينتهي به الغضب والحقد إلى ارتكاب الجرائم، ففيهم من يفعل ذلك ولكنه لا يعاقب بل يترك لضميره، وللعار الذي يلصق به أمام الرأي العام، الجرائم قليلة؛ لأن الخير وفير، فإنجلترا كلها ليس فيها سوى نحو خمسة ملايين نفس بدلا من ثلاثين مليونا يسكنونها الآن، وإذا قل السكان وكثرت الخيرات، انتفى شيء كثير من أسباب النزاع بين الناس، وعندئذ لا يحتاجون إلى الاستباق إلى المصانع الكبرى والتزاحم على الأعمال كما يجري بيننا الآن.
ويرى القارئ من هذه العجالة أن «موريس» يسرف في حسن الظن بالناس، وأن الشيوعية فيه تغلب على الاشتراكية، فهو لا يبالي بإيجاد قواعد للنظام، ولا يفكر في الحكومة، وعنده أن البلدة الصغيرة قادرة على إدارة جميع شئونها بنفسها، وإذا نحن فرضنا أن ذلك ممكن ما دامت البلدة صغيرة لا يزيد سكانها عن ألف أو ألفي نفس، فهل يمكن أن يدوم هذا العدد؟ كأن ليس بين النساء امرأة بلهاء تنسل كالأرانب بدون أن ترعى مصلحة الجماعة، أو كأن ليس بين البشر أدواء وافدة تحتاج إلى نظام يكاد يشبه في قسوته الأحكام العرفية، أو كأن ليس هناك نظام للتعليم أوفى من نظام آخر ويحتاج في تنفيذه إلى ما يشبه حكومة صغيرة؟
ولكن «موريس» رجل فن، يريد قبل كل شيء أن يرى الجمال والمتانة في المساكن والمصنوعات، وقد رأى من انتشار الآلات والمصانع الكبرى في القرن التاسع عشر ما أفسد عليه هذين الغرضين، فهو يكره القرن التاسع عشر بنزعته القوية إلى الاستفراد والمزاحمة، ويبغي ما يقابل هذين المبدأين فيميل بطبعه إلى الشيوعية، ويفرط في ميله إليها، واستحسانه لها بمقدار إفراط الناس في ذلك القرن في إكبار شأن الاستفراد.
ثم لننظر الآن إلى «هدسون»، ونحن في انتقالنا من موريس إلى هدسون نقفز قفزة كبيرة، فإن موريس من الأرض، عادي التفكير، قد تكون اشتراكية روسيا الحاضرة بعد تحوير طفيف شبيهة بحلمه، ولا بد أن كتابه يعد الآن فيها من الأناجيل المقدسة، أما هدسون فإنه في السماء يتخطى بنا آلاف السنين، فالقرن التاسع عشر أقرب من أن يلتفت إليه موريس، والاشتراكية أتفه من أن تشغله، فهو ينظر إلى تطور الإنسان من الحيوان في الماضي، ويود أن يستولد من هذا الإنسان آلهة جديدة.
والوحدة الاجتماعية لهذه الرؤيا هي بيت قروي كبير مؤلف من عشرات الغرف؛ ولهذا البيت تاريخه القديم وآدابه وفنونه، كأنه دولة صغيرة، وله أيضا شرائعه التي يتبعها سكانه ويسهر على تنفيذها «أبو البيت» الأكبر وهو الذي يحكم بعزل أحد الأفراد مثلا لجريمة ما. وحول هذا البيت مزرعته، وله كلابه وخيوله التي تطورت فصارت تتفاهم مع الإنسان وتؤدي غرضه بأيسر إشارة، وهم يعيشون في هذا البيت كل منهم في غرفته، ولكنهم لا يعرفون الزواج، وهم يقضون الشهوة الجنسية قضاء عقيما غير مثمر؛ لأن وظيفة الإثمار خاصة بامرأة واحدة هي «يعسوب البيت» على نحوه ما نرى في كوارة النحل حيث تحتكر الملكة، أو يعسوب النحل، وظيفة التناسل فيكون أبناء الجيل الجديد لها دون غيرها، فإذا قرر أفراد البيت انتقاء «الأم» عمدوا إلى إحدى فتياتهم فيضعونها في مكتبة خاصة، حيث تعرف من الأشياء والأسرار ما لا يجوز أن يقف عليه غيرها من السكان، ونحن نفهم بذلك أن السكان يختارونها لصفات وسمات بارزة فيها لا ترى في غيرها، وأن الأسرار التي تعرفها في المكتبة خاصة بقداسة وظيفة التناسل، وأنها يجب أن تنتقي أفضل الرجال ليكونوا آلهة للجيل القادم، وأن الكتب التي تقرؤها تخبرها عن صفات الفضل والنبل التي يجب أن تتوافر في الرجل حتى يحوز شرف الأبوة لأحد أفراد الجيل الآتي، وليس في هذه الكوارة الآدمية من له حرمة هذه الأم؛ فهي تعيش بين إكرام الجميع لا مرد لكلمتها، وهي تقضي حياتها في التناسل فتنجب للبيت نحو 30 أو 40 طفلا في حياتها، حتى إذا ماتت اختير غيرها لتأدية عملها. وهكذا يسير البيت، أو هذه العائلة الكبيرة، جيلا بعد جيل؛ فتحذف منه الصفات السيئة وتنتقي وتخلد الصفات الحسنة؛ لأن الأم قد درست موضوع التناسل والوراثة، وعرفت أن واجبها أن ترفع بيتها درجة في سلم التطور، فكل من به نقص في الخيال أو الذكاء أو الصحة أو الأخلاق لا يكون له حظ الأبوة، وإن كان له من النساء الأخريات ما يشبع فيهن شهوة جسدية عقيمة، ونفهم من هذا النظام أن سكان البيت قد لا يزيدون عن 80 أو100 شخص، ولكنهم دويلة صغيرة فيها من يختص بالعلوم أو الزراعة أو الفنون أو الصناعات الأخرى.
وليس في هذا النظام ما يخالف الطبيعة البشرية كما يتوهم القارئ لأول وهلة، فإن «العائلة» لا تزال موجودة بوجود الأم التي هي صلة القرابة بين جميع السكان، ثم إن الأبناء لا يعرفون لهم أبا معينا؛ فالمنفعة الشخصية والأثرة الأبوية منتفية؛ وبذلك ينتفي التنازع بين أفراد البيت، ثم إن الشهوة الجنسية غير مقيدة؛ لأن لجميع الأفراد أن يتمتعوا بها بشرط ألا تعقب نسلا، وقد عرف الإنسان نوعا من الزواج يدعى «الضمد» كان العرب يمارسونه في آسيا، حيث يتزوج ثلاثة أو أربعة من الرجال (يكونون في العادة إخوة) امرأة واحدة وينسب الأولاد للأخ الأكبر. •••
ولنلق الآن نظرة عاجلة على طوبى «ولز»، وهي أحدث الطوبيات إذ نشرت سنة 1906، ولسنا ننسى طوبى أخرى أحدث منها عهدا وضعها «برنارد شو» في قالب درامة، ولكنها لهذا السبب تستعصي على التخليص، و«ولز» كاتب طوبوي كثير الأخيلة والأحلام، لا يخلو كتاب له من مثل أعلى ينشده ثم يتخيله، ثم يأخذ في تفصيله وبسط ما جل فيه وما دق كأنه يصف شيئا محسوسا.
وهو يتخيل طوباه في عالم مثل عالمنا، ولكنه ليس منقسما أمما وطوائف تتنازع للتوسع والاستعمار؛ إذ هو أمة واحدة لها حضارة واحدة تدير سككها الحديدية ويريدها إدارة عامة وتجري عليها شرائع عامة؛ ولهذا العالم تاريخ يشبه تاريخ الأرض، ولكنه انتهى بثورة أو ثورات أحدثت هذا النظام الجديد، ومحت الحدود بين الأقطار القديمة، والسكان يستعملون الآلات إلى أقصى حد، وهم في فنونهم لا ينظرون للوراء، فلست تجد في المباني طرازا ينحو قديما أو يومئ إلى حضارة بائدة، والأرض وسائر مصادر الثورة ملك شائع للجميع تستغله الهيئات المحلية دون الأفراد، ومن أهم ما يتسم به سكان هذا العالم أن لكل فرد سجلا يحتوي على اسمه ورقمه وطابع أصبعه وأسماء الأماكن التي تنقل فيها، والغرض من هذا السجل درس أحوال الفرد وكفاياته في الحياة وفي الوراثة؛ لأنها تستعمل بعد موته.
وينقسم الناس في هذا العالم أربع طبقات، وهم الطبقة العاملة الذين يتولون الإدارة والحكم، والطبقة الشعرية وتتألف من رجال الذهن الذين يحترفون التفكير والتخيل، ثم طبقة البلداء الذين يقومون بالأعمال الوضيعة، والرابعة هي طبقة المنحطين من مجرمين ومدمنين ونحو ذلك. وهؤلاء يحذفون إلى جزيرة خاصة منفردة حيث يعيشون ويمارسون رذائلهم كما تشتهي نفوسهم بعيدين عن سائر الناس، وهم إنما يبقون ويتناسلون بمقدار ما فيهم من خير، وإلا فمصيرهم إلى الفناء؛ وذلك لأن الرذيلة إذا مورست قتلت صاحبها، فهي بالنسبة للجماعة داء ودواء معا لأنها تنفي عنها صاحبها.
ولكن فوق هذه الطبقات الأربع طائفة أخرى تقوم بالتعليم والإصلاح وتحرس نظام العالم، تشبه طبقة أفلاطون المؤلفة من الحكماء، وهذه الطائفة تدعى طائفة السامراء، والسامرائي يختار بعد اختبار طويل تفحص فيه قواه العقلية والجسمية من شباب العالم الذي جاز الخامسة والعشرين، فيفرض عليه نظام في اللباس والطعام والرياضة. وفي كل عام يخرج السامرائي إلى الغابة، لا يحمل كتابا أو سلاحا أو قلما أو نقودا، وعليه أن يقتات من الغابة ويتأمل في خلوتها وقد حرم جميع المتع الدنيوية، ثم يعود بعد ذلك إلى الدنيا وقد اكتسب من الطبيعة متانة في الخلق وعافية في الجسم ونظرة أوسع لمصالح العالم، وهؤلاء السامراء يسمع لكلامهم، وتنفذ إرادتهم، لا تخالفهم طبقة من الطبقات الأربع، وهم أشبه شيء في نظامهم بطائفة اليسوعيين، فكما أن هؤلاء قد ضحوا بملاذ الدنيا، وارتضوا النسك خدمة للمسيحية في عالمنا، فكذلك يدخل السامرائي في طائفة مضحيا بكل شيء في العالم، يتفرغ لإصلاحه ودرس أمثل الوجوه التي ينبغي أن تسير عليها إدارته، سواء أكانت في جامعة أو عائلة.
صفحه نامشخص