ومعبد المدينة هو بالطبع أهم بناياتها، ويحوي من بدائع الفن ما يحويه غيره، ولكن أندريا كان كما قلنا رجل دين، وقد زار جنيف ووقع تحت تأثير «كالفن»؛ فهو لذلك يجعل العبادة في المعبد إجبارية، والاجتماعات العمومية تعقد في هذا المعبد، كما أن «الكوميديات» الدينية تمثل فيها.
والآن وقد ذكرنا شيئا عن الصناعة والتعليم والعائلة، فلنقل شيئا عن الحكومة؛ ففي المدينة مجلس مؤلف من 24 عضوا، والهيئة التنفيذية لهذا المجلس مؤلفة من ثلاثة أشخاص، هم: الوزير والقاضي ومدير التعليم، وأولهم يمثل ضمير الأمة، والثاني الفهم، والثالث الحقيقة، وإليك ما يقوله الآن عن عقاب المجرمين: «إن قضاة المدينة المسيحية يتبعون هذه العادة، وهو أنهم يعاقبون بأقصى العقوبات تلك الجرائم التي تقع من إنسان نحو الله، ثم يعاقبون بأقل قسوة تلك الجرائم التي تقع من أحد نحو الناس، وأخف ما يعاقب عليه أحد هو تلك الجرائم التي تقع بالأملاك، وأهل المدينة يكرهون إراقة الدماء؛ وهم لذلك لا يستبيحون لأنفسهم عقوبة الإعدام؛ لأن كل إنسان يمكنه أن يقتل، ولكن لا يقدر على الإصلاح إلا خير الناس.»
أضغاث أحلام
«بيكون»
1 «و«كامبانيلا»
2
كلاهما مشهور بحلمه، وأولهما إنجليزي وثانيهما إيطالي، ولكنك إذا تفحصت أحلامهما عن المثل الأعلى للهيئة الاجتماعية ألفيت هذه الأحلام أضغاثا مجموعة من تلك الرؤى الرائعة التي ألهمها أفلاطون ومور من قبلهما، مع زيادات طفيفة تدلنا على روح الزمن الذي وضع فيه هذان المؤلفان كتابيهما.
فكامبانيلا يحلم بما يسميه «مدينة الشمس» وراء خط الاستواء، وهي لا تختلف عن جمهورية أفلاطون إلا من حيث شيوعية النساء وشيوعية الأملاك، وإنما نجد في كامبانيلا بعض عبارات تنبئ بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فهو يقول مثلا: إن عند سكان مدينة الشمس زوارق تسير على الماء، لا بقوة الربح ولا بقوة المجاديف، وإنما ب «اختراع عجيب» ثم إن أحد سكان المدينة يحدثه فيقول: «آه لو أنك تسمع ما يقوله المنجمون عندنا عن الأزمة القادمة؛ فسيكون في القرن الواحد منها من التاريخ أكثر مما في أربعة آلاف سنة ماضية، أجل، ستكون فيها مخترعات الطباعة العجيبة، والمدافع والمغناطيس ...» ولما كانت المخترعات كثيرة في «مدينة الشمس» وسائرة في طريق النجاح، فإن أهل المدينة ليسوا في حاجة إلى استعمال الرقيق، ثم هم أغنياء لا يحتاجون إلى شيء وفقراء؛ لأنهم لا يملكون شيئا وعلى ذلك فهم ليسوا عبيدا للظروف، وإنما هم أنفسهم يستخدمون هذه الظروف .
ففي هذا الكلام إيماء إلى المستقبل الذي كان يحس به كامبانيلا. فقد بدأ ضمير الإنسان يستيقظ في زمنه ويتساءل: هل ما قررته الآلهة القديمة من الرق جدير بأن يقره الإنسان الجديد؟ وهل لا تقوم المخترعات يوما ما بعمل الإنسان بحيث تزول عنه لعنة آدم أو توشك؟ ثم يجيب كامبانيلا بالإيجاب ويلغي الرق، ويقصر العمل الذي يحتاج إليه الناس إلى أربع ساعات فقط؛ وذلك لأنهم كلهم يشتغلون، ولأن المخترعات توفر لهم وقتهم.
وأحلامنا على وجه العموم تبع لمزاجنا ومألوفنا، وعلى ذلك نقول: إنه لما كان مور وأندريا متزوجين لكل منهما عائلة، كانت العائلة أساسا من أسس الهيئة الاجتماعية التي تخيلها كل منهما، ثم لما كان أفلاطون وكامبانيلا أعزبين، كانت شيوعية النساء أحد أركان الهيئة الاجتماعية التي رآها كل منهما في رؤياه، الإنسان يتخيل وفق طبعه ومألوفه، ولكن يجب أن نقول: إن أفلاطون نفسه - مع أنه كان أعزب - لم يكن يؤمن كل الإيمان بشيوعية النساء، وإنما هو قصر هذه الشيوعية على الطبقتين السائدتين، أما طبقة المزارعين والصناع - وهم بالطبع جمهور المدينة أو الأمة - فإنه لم يقبل شيوعية النساء بينهم؛ مما يدل على أنه كان يدرك أن الزواج الذي يؤسس العائلة ضرورة لكثرة الأمة. وهو في حرمانه رجال طبقة الأوصياء وطبقة المقاتلة من الزواج وتأسيس العائلة، إنما ينقاد إلى تلك الفكرة التي تقول: باستحالة خدمة غرضين؛ وهي الفكرة التي أوجدت الرهبان، وهي التي تجعل رجل الفن يمنع أحيانا كثيرة لمصلحة فنه عن الزواج، فكما أن الراهب المسيحي لا يتزوج إرصادا لنفسه على خدمة الدين، ووقفا لمواهبه على العبادة، كذلك كان يرغب أفلاطون في أن يرى الوصي أعزب يقف كل جهوده على مصلحة الأمة لا على زوجته وأولاده، فالقاعدة عند أفلاطون هي الزواج، أما الاستثناء فهو الإباحة المقيدة. •••
صفحه نامشخص