بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلم
الحمد لله الهادي إلى القصد، المبين سبيل الرشد، الذي خصنا باتباع السنة، وعمنا بمزايا اللطف والمنة، وشرفنا بالآيات والذكر الحكيم، وعلمنا ما لم نكن نعلم من سلوك الطريق القويم، وفصل به الحلال من الحرام، ورفع بنوره ظلمة الإشكال والإبهام، وجعله مضمارًا لمجاري الأحكام، وصيره ضابطًا لأفعال العباد، سالكًا بها منهج التوفيق والسداد، حتى لا تكون حركة ولا سكون، إلا وبها حكم من الشرع مقرون.
وبعد، فإنه لما كان كتاب الله تعالى الأصل لكل معلوم، وجب على من اتصف بصفات المجتهدين، وأراد تعرف أفعال المكلفين، أن يبدأ أولًا فيعرف المنسوخ منه من المحكم، فإذا عرف ذلك، أخذ في استنباط الأحكام منه، ولا شك أنه إذا أخذ ذلك علم من الأحكام ما تعارضت فيه أدلة الكتاب واحتمالاته، ووجد من السنة الواردة عن النبي ﷺ ما يعارض معنى الكتاب أيضًا فيجب أن ينظر [في] أقوى الأدلة، وأظهر
1 / 33
الاحتمالات، فإذا سلك هذه السبيل أمكن أن يسدد ويوفق. وكثيرًا ما يوجد من الأدلة والاحتمالات ما يكون أقوى عند قوم، وأضعف عند آخرين، وبحسب ذلك يقع اختلاف العلماء في المسألة الواحدة.
وإني لما تشوفت في عنفوان الطلب، ومبدأ التعلم إلى معرفة الأحكام الشرعية، تاقت النفس إلى هذه الطريقة، فنظرت في كتب أحكام القرآن المؤلفة في ذلك، فلم أجد فيها ما يشفي نهمة متعطش، ولا يقر عين طالب، لأني وجدتها، قليلًا ما نبه فيها على مآخذ حكم من ألفاظ الكتاب إلا في اليسير النزر. وأجل من اشتغل بذلك أبو الحسن كياه ﵀، فإنه سلك في ذلك الغرض المراد، لكنه ألم به إلمام الطير يحسو الثماد. ولما رأيت الأمر كذلك عنيت بالبحث عن ذلك، وطلب المسائل التي تستند إلى شيء من أدلة الكتاب العزيز، فاجتمع من ذلك كثير. فرأيت أن أجمعها في كتاب ليسهل على الطالب معرفتها، واقتصرت منها على ما هو أظهر تعلقًا، وأبين استنباطًا، ليكون مسبارًا لغيرها ودليلًا على مأخذ سواها.
وما عرض من اختلاف لأهل العلم في شيء من ذلك ذكرته ليعرف الناظر في كتابي ما اتفق عليه من الأحكام، وما اختلف فيه، وهذه إحدى فوائد معرفة الخلاف. والفائدة العظمى في معرفته أن يعرف الإنسان منها أدلة الشرع واحتمالاته، فإن أهل العلم ما اختلفوا في شيء إلا عن أدلة تعارضت، واحتمالات تخالفت، فقوي عند أحدهم دليل واحتمال لم يقو عند الآخر. ولهذا كان الشافعي ﵁ يقول بالقولين في السؤال عن مسألة واحدة في حالٍ واحدة، ومالك -رضي الله تعالى عنه-
1 / 34
وإن كان لم يقل مثل هذا، فكثيرًا ما كان يقول قولًا في مسألة، ثم يقول قولًا آخر في المسألة بعينها، وكذلك أبو حنيفة وغيره من العلماء، فإذا انحصر لك خلاف العلماء في مسألة علمت أن احتمالات الشريعة منحصرة لأنه لو كان هناك احتمال له قوة لقيل به.
ولما أخذت في بسط هذا المنهج من الأحكام رأيت أن أذكر مع ذلك ناسخ القرآن ومنسوخه، لتكمل به الفائدة، وتتم به للمتفقه العائدة، وإن قصرت في شيء مما اعتمدت عليه فبحسب بعد هذا المأخذ الذي لم أسبق إليه، وإن وقفت بي همتي دون مطلبي، فمبلغ نفس عذرها مثل منجح، والله الموفق للصواب.
1 / 35
فاتحة الكتاب
مكية، وقيل: مدنية، واختلف هل يقال لها أم الكتاب وأم القرآن أم لا؟ وليس فيها ناسخ ومنسوخ.
1 / 36
البقرة
مدنية. وقد وقع فيها ﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم﴾ [البقرة: ٢١]. قال مجاهد: ﴿يا أيها الناس﴾، حيث وقع من القرآن مكي، و﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ مدني. وهذا الذي قال مجاهد صحيح في ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ وأما ﴿يا أيها الناس﴾ فقد يجيء في المدني. وفيها مواضع من الأحكام والنسخ.
(٣) - الأول: [قوله تعالى]: ﴿الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون﴾ [البقرة: ٣]
واختلف في هذه النفقة ما هي؟ فقال يزيد بن القعقاع وابن عباس: هي الزكاة. وقال ابن مسعود: هي نفقة الرجل على أهله. وقال الضحاك: هي كل نفقة وهذا هو الصحيح. ثم إن الله ﵎ بين في كتابه على لسان رسوله ﷺ درجات الإنفاق في التكليف وأحكامه في الثواب. وقول من قال: إن هذه الآية وكل آية تضمنت النفقة في القرآن
1 / 37
منسوخة بالزكاة غير صحيح؛ لأن ذلد ليس بنسخ وإنما هو تخصيص.
قوله تعالى في صفة المنافقين وإظهارهم الإيمان مع إسرارهم الكفر ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين﴾ الآيات [البقرة: ٨ - ١٦]. قال بعض المفسرين لهذه الآية: عدم الأمر بقتلهم يدل على جواز استتابة الزنديق لأن الله تعالى لم يأمر بقتلهم وإليه ذهب الشافي وأصحاب الرأي والطبري وأبو حنيفة في أحد قوليه. وهذا استدلال ضعيف لأن الآية لا تدل عليه بلفظ، ولا بمفهوم لفظ وغاية ما فيها عدم الأمر، وعدم الأمر ليس بحكم يقتضي حكمًا. وقال الشافعي وأصحابه: إنما منع رسول الله ﷺ من قتل المنافقين ما كانوا يظهرون من الإيمان بألسنتهم؛ لأن ما يظهرونه يجب ما قبله، كالكافر لا يصلي، فمن قال: إن عقوبة الزنادقة أشد من عقوبة الكافر، فقد خالف معنى الكتاب والسنة وجعل شهادة الشهود على الزنديق فوق شهادة الله تعالى على المنافقين، قال تعالى: ﴿إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله﴾ الآيات [المنافقون: ١ - ٨] واحتج ابن حنبل لهذا القول بحديث مالك بن الدخشم، وقل النبي ﷺ فيه: «أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم».
وأما مالك وأصحابه فيقولون: إنه لا تقبل للزنديق توبة ويقتل. وقال
1 / 38
مالك رحمه اللخ تعالى: النفاق في عهد رسول الله ﷺ هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة؛ لأنه لا يظهر ما يستتاب منه، وإنما كف رسول الله ﷺ عن المنافقين ايسن الحكم لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه إذ لم يشهد على المنافقين.
قال إسماعيل القاضي: لم يشهد على عبد الله بن أبي إلا زيد بن أرقم وحده، ولا على الجلاس بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه، ولو شهد على أحد منهم رلان بكفره ونفاقه لقتل.
قال بعض المفسرين: وليس في قول عبد الله بن أبي ﴿لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل﴾ [المنافقون: ٨] صريح كفر وإنما يفهم من قوته الكفر. وهذا أقوى من الاعتذار عنه بانفراد زيد بالشهادة عليه وفي هذا وهم من وجهين:
أحدهما: أن دلالة المفهوم من اللفظ كدلالة صريح اللفظ فيما يوجبه من الحكم.
والثاني: أن الله تعالى قد شهد على قائل ذلك بالكفر، فلو شهد عند رسول الله ﷺ [به على عبد الله بن أبي] شاهدان لقتله.
1 / 39
واحتج ابن الماجشون لمذهب مالك بقوله تعالى: ﴿لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض﴾ إلى قوله [تعالى] ﴿ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلًا﴾ [الأحزاب: ٦٠، ٦١].
قال [قتادة]: معناه إذا هم أعلنوا النفاق. وفي هذه الآية رد على غلاة المرجئة. قال بعض المفسرين: وهم الكرامية، في قولهم: إن مهر الشهادتين بلسانه يدخل الجنة وإن لم يعتقد ذلك بقلبه تعلقًا منهم بقوله ﷺ في بعض طرق حديث مالك بن الدخشم: «لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله فيدخل النار [وأني رسول الله]» وبغير ذلك من ظواهر الأخبار، لأنه تعالى قد نفى الإيمان عن المنافقين بقوله تعالى: ﴿وما هم بمؤمنين﴾ [البقرة: ٨].
(٢٢) - قوله تعالى: ﴿الذي جعل لكم اتلأرض فراشًا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم﴾ [االبقرة: ٢٢].
في هذه الآية مجاز كثير، فإنه جعل الأرض فراشًا، والسماء بناء، والفراش والبناء في اللغة يطلقان على غير ذلك، وإنما يطلق على الأرض فراشًا وعلى السماء بناء على التسبيه لهما بالفراش الحسي والبناء الحقيقي.
وقد أنكر المجاز في القرآن قوم، وهذا وأمثاله يرد قولهم. فلو حلف
1 / 40
إنسان أن لا يبيت على فراش ولا يرقد تحت بناء، فبات على الأرض وبات لا يحجبه عن السماء شيء لم يحنث؛ لأن إطلاق اللفظ ينصرف إلى الحقيقة.
وقوله تعالى: ﴿فاخرج به من الثمرات رزقًا لكم﴾ [البقرة: ٢٢]. اختلف في الرزق ما هو؟ فذهب الأكثر إلى أنه ما يصح الانتفاع به. وذهبت المعتزلة إلى أنه ما يصح تملكه، وليس الحرام عندهم برزق، وإن عاش الإنسان منه طول دهره. واحتج بعض الناس بهذه الآية على إبطال قولهم لأن الله تعالى أوقع اسم الرزق فيها على ما يخرج من الثمرات قبل التملك لها، أي أخرج منها ما يصلح أن يكون رزقًا لكم، وكذلك احتج على إبطال ذلك بعضهم أيضًا بقوله تعالى بعد هذا ﴿كلما رزقوا منها من ثمرة رزقًا قالوا هذا الذي روقنا من قبل﴾ [البقرة: ٢٥].
قال بعضهم: ودل قوله: ﴿الذي جعل لكم الأرض فراشًا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا﴾ [البقرة: ٢٤] على الأمر باستكمال حجج العقول وإبطال التقليد.
(٢٣) - قوله تعالى: ﴿وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله﴾ [البقرة: ٢٣]
هذا هو التحدي الذي لا معنى للمعجزة إلا به، ولا خلاف أنه ﷺ تحدى العرب بالقرآن لأنه أمر متواتر. وقد قال تعالى: ﴿فأتوا بعشر سور مثله مفتريات﴾ [هود: ١٣]. وقد اختلف في القدر الذي يقع به الإعجاز م نالقرآن، فذهب بعض المعتزلة إلى انه يتعلق بجميع القرآن، وهذا قول ترده الآيتان المذكورتان. وقال القاضي: يتعلق الإعجاز بسورة وألزم ذلك في
1 / 41
سورة الكوثر والإخلاص تشبثًا بظاهر قوله تعالى ﴿بسورة من مثله﴾ وقال في موضع آخر من كتبه، وارتضاه أبو إسحاق. وإنما يتعلق بسورة يعد قدرها في الكلام بحيث يتبين فيه تفاضل رتب قوى البلاغة، وهو لا يتبين إلا فيما طال بعض الطول، ولست أقطع في الكوثر وما قاربها بنفي ولا إثبات في إعجازها. وصحح بعض المتأخرين هذا القول. واختلف في الضمير في قوله: ﴿من مثله﴾ على ما يعود؟ فقيل: يعود على القرآن، وهو المعبر عنه بما في قوله: ﴿مما نزلنا﴾. واختلف الذين ذهبوا إلى هذا في معنى هذه المماثلة فقيل: معناه مثله في قدمه أو غيوبه وصدقه، وهذان القولان راجعان إلى مذهب من يرى أن تحدي النبي ﷺ إنما وقع بالكلام القديم الذي هو صفة للذات وأن العرب كلفت من ذلك بما لا يطاق.
وقيل: معناه مثله في وصفه ونظمه وفصاحته. وهذا القول راجع إلى مذهب من يرى التحدي إنما وقع باللفظ. والذين ذهبوا إلى هذا اختلفوا في المعجز منه ما هو؟ لأن ألفاظه احتوت على وصف محكم ونظم وفصاحة، وفمنهم من علق الإجاز بالمعاني الثلاثة، ومنهم من علقه بالوصف، ومنهم من علق بالنظم، ومنهم من علقه بالفصاحة. ويحتمل أن تتأول الآية على كل واحد من هذه الأقوال. وتعلق الإعجاز بالمعاني الثلاثة هو الذي اختاره المتأخرون من أهل السنة. وقال بعضهم: وهو الذي عليه الجمهور والحذاق وهو الصحيح في نفسه ولم يكن من قدرة العرب أن تحيط بمثل ذلك فتأتي به خلافًا لم نقال: إن العرب في قدرتها أن تأتي بمثله، فلما جاء النبي ﷺ صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه، وهو قول باطل يرده الاعتبار بما جبل عليه الناس من الذهول والجهل والنسيان، فكيف كان
1 / 42
يصح منهم أن يأتوا بمثله مما ذكر حتى لا يقع منهم فيه خطأ في تلك الوجوه. وقيل الضمير في قوله ﴿من مثله﴾ عائد على ﴿عبدنا﴾ وهو محمد ﷺ. ثم اختلفوا فقالت طائفة: أي أمي صادق مثله.
وقالت طائفة: من ساحر أو كاهن أو شاعر مثله على زعمكم أيها المشركون.
وقيل: المراد بمثله الكتب القديمة: التوراة والإنجيل والزبور.
(٢٤) - قوله تعالى ﴿فاتقوا النار التي وقودها النار والحجارة أعدت للكافرين﴾ [البقرة: ٢٤]
في هذا دليل صحيح أن النار مخلوقة بعد، ورد على من قال إنها لم تخلق حتى الآن، وهو قول بعض المعتزلة، سقط فيه منذر بن سعيد.
وكذلك قوله تعالى في الجنة في موضع آخر: ﴿أعدت للمتقين﴾ [آل عمران: ١٣٣] دليل على ان الجنة مخلوقة الآن خلافًا لمن قال فيها مثل قوله في النار. ودليل خطاب هذه الآية ﴿أعدت للكافرين﴾ أن العصاة لم تعد لهم هذه النار، لكنه دليل لم يقل به أحد. واختلف في تأويله فقال بعضهم: هذه النار التي وقودها الناس والحجارة، هي نار الكافرين خاصة ونار العصاة
1 / 43
غيرها. وقال الجمهور: بل الإشارة إلى جميع النار لا إلى نار مخصوصة، وإنما خص الكافرون بالذكر ليحصل المخاطبون في الوعيد إن فعلهم كفر، فكأنه قال: أعدت لمن فعل فعلكم وذلك ليس يقتضي ذلك أنه لا يدخلها غيرهم.
(٢٥) - قوله تعالى: ﴿وبشر الذين ىمنوا وعملوا الصالحات﴾ [البقرة: ٢٥]
قال أبو الحسن علي بن محمد: هو دليل على أنه هو أول مبلغ إليهم. وقال العلماء: إذا قال: أي عبد بشرني بولادة فلانة فهو حر أن الأول من المبشرين هو المعتق دون الثاني، لأن البشارة حصلت بخبره دون غيره. وهو ما يحصل به الاستبشار ويتبين على بشرة الوجه ولو قال أي عبد أخبرني بولادتها أعتق الثاني مثل الأول، ولذلك يقال: ظهرت تباشير الأمر لأوائله. ولا تطلق البشارة في الشر إلا مجازًا. وقيل: هو عام فيما يسر ويعم، لأن أصله فيما يظهر أو لا في بشرة الوجه من سرور أو غم، إلا أنه أكثر فيما يسر، فصار الإطلاق أخص به منه بالشر. وذكر غيره في البشارة أنها لا تقال في الشر إلا مقيدة، كقوله: ﴿فبشرهم بعذاب أليم﴾ [آل عمران: ٢١].
وقوله تعالى: ﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ فيه دليل أن الإيمان غير العمل خلافًا لمن يقول: إن الإيمان بمجرده يقتضي أعمال الطاعات.
(٢٦) - قوله تعالى: ﴿يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا﴾ [البقرة: ٢٦]
اختلف هل هو حكاية قول الكفار او هو خبر من الله تعالى؟ وعلى هذا القول ففيه الحجة البالغة لأهل السنة في أن الهدى والضلال من الله
1 / 44
تعالى خلافًا للمعتزلة في قولهم: إن الله لا يخلق الضلال ولا يريده ولم يختلف أن قوله: ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾ من قول الله تعالى.
(٢٧) - قوله تعالى: ﴿الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل﴾ [البقرة: ٢٧]
اختلف في تعيين العهد المذكور فقيل: هو ما أخذ على بني آدم حين أخرجهم من ظهر أبيهم كالذر، وقيل: هو ما أخذه الله تعالى على الناس بوساطة الرسل من التوحيد والعبادة. وقيل: ما أخذه الله تعالى على أهل الكتاب من الإيمان بمحمد ﷺ. وقيل: هو ما نصبه الله تعالى من الأدلة على توحيده، فهي كالعهد. وقيل: هي فيمن آمن بالنبي ﷺ ثم كفر به.
والنظر في هذه الآية أن لا يخص العهد فيها بشيء دون شيء، وتحمل على إطلاقه في كل عهد إلا ما خصصه الشررع بإجازة نقضه، كالحنث في اليمين بالله، لأن الأيمان والنذور من العهود. واختلف في العهد هل يكون يمينًا أم لا؟
(٢٧) - وقوله تعالى: ﴿ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل﴾ [البقرة: ٢٧]
اختلف فيه، فقيل: أراد صلة الرحم، قيل: أراد الذين والعبادة وإقامة الشرائع. والنظر أن تحمل الآية على كل ما جاء في الشرع الأمر بصلته، كصلة الرحم، وإتمام عبادة يدخل فيها الإنسان ونحو ذلك. وقد اختلف فيمن دخل في عبادة تطوع كصوم، وصلاة ونحو ذلك هل له أن يقطع ذلك أم لا؟ .
1 / 45
(٢٧) - وقوله تعالى: ﴿ويفسدون في الأرض﴾ [البقرة: ٢٧]
وجوه الفساد لا تنحصر، وقد فسرت الشريعة ما هو فساد مما ليس بفساد. ويؤخذ من هذه الآية أن من نقض عهدًا، أو قطع ما أمر الله أن يوصل أو أفسد في الأرض أنه يطلق عليه اسم الفسق. وأصله الخروج من الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، كذا هو في اللغة، وهو في الشرع الخروج من الطاعة إما إلى كفر وإما إلى عصيان.
(٢٩) - قولله تعالى: ﴿هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى العرش﴾ الآية [البقرة: ٢٩]
قوله: ﴿لكم﴾ قيل: معناه لتعتبروا، ويدل عليه ما قدم من ذكر العبر.
وقيل: معنى قوله ﴿لكم﴾ إباحة الأشياء وتمليكها، حتى قال بعضهم: هذا يدل على إباحة الأشياء في الأصل إلا ما ورد فيه دليل الحظر.
وقال ابن عطية في «تفسيره»: «هذا قول من يقول: إن الأشياء قبل ورود النهي على الإباحة» ثم ساق الأقوال الثلاثة في ذلك هل هي على الإباحة أو الحظر أو الوقف؟ .
وهذا وهم، لأن الذين اختلفوا [الخلاف الذي ذكره إنما اختلفوا] فيما لم يرد فيه سمع ما حكمه في العقل قبل أن يرد السمع، والحجة بالآية على قول الإباحة وهمٌ، لأن الآية نفسها هي الشرع. فإن دلت على الإباحة، فالشرع أعطى الإباحة لا العقل، وهي مسألة ثانية هلى الأشياء المسكوت عنها في الشرع- وهي التي لم يرد فيها حكم ولا دليل- محمولة على الإباحة بهذا الدليل العام، أم هي موقوفة على دليل يخصها؟ .
1 / 46
فحكى القاضي أبو محمد عبد الوهاب، عن محمد بن عبد الحكم، وبعض متأخري أصحابه: أن الشرع قد قرر أن الأشياء في الأصل على الإباحة، إلا ما استثناه الدليل. وقد قال بهذا المذهب رجال من أهل العلم.
وأكثر العلماء على خلافه، وأنه لا يعلم حكم شيء إلا بدليل يخصه أو يخضص نوعه.
وفائدة هذا الاختلاف أنه إذا وقع الاختلاف في حكم في الشرع هل هو على الحظر أو على الإباحة؟ حكم فيه هؤلاء بأنه على الإباحة. وهؤلاء ليسوا يقولون إن الأشياء في العقل على الإباحة، ولكن زعموا أن السمع أحل جميعها ثم استثنى السمع سائر ما حرم، فمتى لم ينص عل ىتحريم كان الأصل تحليله بالشرع، لا بحكم العقل. واحتجوا بقوله تعالى: ﴿قل لا أجد في ما أوحي إلي محرمًا﴾ الآية [الأنعام: ١٤٥] وبحديث سلمان «الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله، وما سكت عنه فهو مما يعفى عنه». ومثل ما ذكره
1 / 47
عبد الوهاب في هذه المسألة إذا تعارض عند المجتهد دليلان في حظر وإباحة، ولم يكن ترجيح. وكذلك موجب ومبيح، كذلك محرم وموجب، ومنهم من يميل إلى الإباحة مكا قدمنا، ومنهم من يميل إلى الموجب، ومنهم من يميل إلى الحظر، ومنهم من يتوقف خ=حتى يأتي بدليل آخر، وكذلك يتصور في كل تعارض من الوجوه المذكورة الثلاث الأقوال.
(٢٩) - قوله تعالى: ﴿ثم استوى إلى السماء﴾ الآية [البقرة: ٢٩]
وهذه ﴿ثم﴾ إن حملت على بابها من الترتيب اقتضت أن الأرض وما فيها خلق قبل السماء. وقد قال بذلك قوم. وقوله تعالى في سورة النازعات بعد ذكرخلق السماء ﴿والأرض بعد ذلك دحاها﴾ [النازعات: ٣٠] يقتضي ظاهرها أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد قال به قوم. وكذلك ما في سورة فصلت، والصواب أن يجمع بين الآيات، فيقال: إن الأرض خلقت قبل السماء على ما في سورة البقرة، ثم خلقت السماء، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء على ما في سورة النازعات، وفصلت. ويحتمل أن
1 / 48
تكون ﴿ثم﴾ في هذه الآية لترتيب الأخبار لا لترتيب الأمر في نفسه. وإذا كان هذا لم يعطيا أن السماء خلقت بعد الأرض، وإذا لم تقتص ذلك أمكن أن تحمل الآية الأخرى على ظاهرها فيصح القول الآخر. والأمر يحتمل ولا قاطع فيه من الشرع. وقد جاءت بذلك أخبار آحاد. وإذا لم يكن ففي الترتيب خبر متواتر والآيات محتملة فلا قاطع في المسألة. ويحتمل أن تكون الأرض والسماء قد خلقهما الله تعالى خلقًا واحدًا دون تقدم ثم دحيت الأرض بعد السماء، ودحيت قبل السماء. ويترتب ما في الآيتين على هذا ويخرج خروجًا حسنًا والله تعالى أعلم، وهو قدير على ما يشاء إذ كل ذلك جائز في العقل.
(٢٩) - وفي هذه الآية قوله تعالى: ﴿ثم استوى إلى السماء﴾ [البقرة: ٢٩]
والاستواء يوهم تكييفًا وتشبيهًا. فمن الناس من استمر على هذا التشبيه واعتقده تشبثًا بالظاهر وهم الكرامية وجماعة من أهل الحديث وغيرهم. ومنهم وهم الجمهور من نفي التشبيه والتكييف. واختلفوا في هذه الآية وما جانسها فمنهم من رأى تأويلها وصرفها إلى معنى لا يوهم تشبيهًا. ومنهم من لم ير لتأويلها وجهًا وقال: تمر كما جاءت من غير اعتقاد تشبيه ولاتكييف. والذين ذهبوا إلى تأويلها اختلفوا في التأويل اختلافًا بحسب ما يحتمله اللفظ في كلام العرب وإطلاقهم فقيل: معنى استوى في هذه الآية استولى، وأنشدوا:
قد استولى بشر على العراق ... . . . . . . . . . . . . . . .
1 / 49
وقيل: علا أمره وقدرته وسلطانه وهو اختيار الطبري. وقال ابن كيسان: معناه قصد إلى السماء أي بخلقه واختراعه. وقيل: معناه كمل صنعه فيها كما تقول: قد استوى الأمر. وقيل: معناه أقبل. وحكى الطبري عن بعضهم أن المستوي هو الدخان.
ولتحقيق القول الصحيح من هذه الأقوال موضع غير هذا وهو في كتب الكلام ليس كل ما قاله المفسرون صحيحًا، لأن كثيرًا منهم إنما ينظرون إلى المعنى ولا يلتفتون إلى الألفاظ. وتصحيح اللفظ على المعنى أولى ما اعتبر. وقد رأيت بعضهم أحصى في قوله تعالى: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ [طه: ٥] أكثر من عشرة أقوال. وإذا حققت لم يصح منها إلا اليسير.
(٣١) - قوله تعالى: ﴿وعلم آدم الأسماء كلها﴾ الآية [البقرة: ٣١]
احتج قوم بهذه الآية على أن اللغة كلها توقيف من الله تعالى، وردوا
1 / 50
بذلك على من قال: إنها كلها اصطلاح من أصحاب اللغة وعلى من قال أولها توقيف أي قدر ما يقع به التفاهم، ثم ما بعد ذلك اصطلاح وهذه الأقوال الثلاثة كلها جائزة عقلًا، وليس على واحد منها دليل قاطع في الشرع. والآية التي احتجوا بها محتملة، فلا حجة فيها. والذين ذهبوا إلى أنها توقيف من الله تعالى، واحتجوا بالآية منهم من قال: إن تعليم آدم إياها المذكور في الآية إنما هو إلهام علم ضرورة وقال قوم: بل تعليم بقول، فإما بواسطة ملك أو بتكلم قبل هبوطه الأرض فلا يشارك موسى ﷺ في خاصته، ووجه احتمالات هذه الآية التي ترفع الحجة بها أن الأسماء قد قال قوم إنه أراد بها التسميات، وهو قول المحتجين بها. وقال قوم: أراد الأشخاص أنه عرضها عليه. وقال أكثر العلماء: علمه تعالى منافع كل شيء، ولما يصلح.
واختلف أهل القول الأول أي الأسماء علمه؟ فقال قوم علمه جميع الأسماء بكل لغة وغلط في هذا قوم حتى قال ابن جني عن أبي علي الفارسي: علم الله آدم كل شيء حتى أنه كان يحسن من النحو مثل ما أحسن سيبويه.
واختلفوا هل عرض عليه الأشخاص عند التعليم أم لا؟ وقال قوم: لم يعلمه جميع الأسماء، وإنما علمه أسماء النجوم. وقال قوم: أسماء الملائكة. واختار هذا ورجحه لقوله ﴿ثم عرضهم على الملائكة﴾ [البقرة: ٣١] وحكى
1 / 51
النقاش، عن ابن عباس: أن الله تعالى كلمه كلمة واحدة عرف منها جميع الأسماء.
وقال قوم: علمه أسماء الأجناس.
وقال ابن قتيبة: علمه أسماء ما خلق في الأرض. وقال قوم: علمه الأسماء بلغة واحدة.
وقوله: ﴿ثم عرضهم على الملائكة﴾ [البقرة: ٣١] يقوي قول من يقول إنما أراد بالأسماء الأشخاص، ويأتي على هذا أنها التي عرض على الملائكة. ومن الناس من قال: إن لفظ الأسماء يدل على أشخاصن فلذلك ساغ أن يقول الأسماء، ثم عرضهم، وقد قرئ: «ثم عرضها» وقرئ «ثم عرضهن» وهذا يوافق القول بأنها التسميات ويأتي عليه القول بأن الذي عرض على الملائكة الأسماء دون الأشخاص.
وقوله تعالى: ﴿انبئوني بأسماء هؤلاء﴾ [البقرة: ٣١] يؤكد أن الذي عرض على الملائكة الأشخاص، وقد استدل قوم بهذا على جواز تكليف ما لا يطاق، قالوا لأنه تعالى علم أنهم لا يعلمون، ثم أمرهم أن ينبئوه بها. وقال آخرون: لا دليل فيه لأنه ليس على جهة التكليف، وإنما هو على جهة التقرير والتوقيف. وهذا القول غير بيِّن، والذي يظهر لي فيه أنه أمر تعجيز لأنه تعالى أراد أن يريهم عجزهم عن معرفة الغيب. وقد استدل
1 / 52