عمر الشدياق اسطفان كثيرا، فعزا العوام طول حياته إلى عفته، فمنهم من يؤكد أنه ما اشتهى امرأة قط، ومنهم من نزهه عن ذلك تنزيها. ولولا زجر الخوري للغلاة لقالوا: إنه حبل به أيضا بلا دنس.
وكانت امرأة طاعنة في السن من نساء القرية تنظر إلى زوجها الشيخ، وتصر شفتيها وتسكت كلما سمعت ما يقول الناس عن الشدياق، ولا تزيد على القول: أعرفه عندما كنا وليدات نرعى المواشي.
وفي ليلة عيد الميلاد سنة ألف وثمانمائة و... كان الشدياق اسطفان قد فات التسعين، فتململ في فراشه بعد ظهر ذلك النهار. وتنبهت ابنة أخيه مرتا إلى همهمته، فهي تنتظر الساعة، والانتظار صعب، فمغمغ قائلا: مرتا، هاتي اسقينا.
وأخذ الإبريق بيديه الثنتين، ومع ذلك لم يحكم توجيه أنبوبته إلى الهدف فشرب هو واللحاف، ولما أبطأ لهاثه تنهد وقال: سامع حس ناس، من عندنا يا مرتا؟ - عندنا متى يا جدي. - متاه، كيف الطقس؟ - الشمس مريضة يا عمي، ولكن النهار دافي جدا. - وهذا الذي جاء من أميركا إيش خبر عن الغائبين. - الليلة يسهر عندك مع الضيعة. - أهلا وسهلا، سمعت يا مرتا. - نعم سامعة. النقل حاضر.
وأخذ الشدياق ينسحب من تحت لحافه رويدا رويدا، وبعد جهد قعد في فراشه فبدا - حين تكوم - كأنه كرسي عمود في قلعة متهدمة. وأراد النهوض فعجز، ولكنه تماسك وابتدأ يصلي وهو يحاول شد صرمايته التي لم يرق لها أن ينتعلها. وظل يعالجها ويتلو صلاته بحرارة، حتى استظهر عليها، فمشى إذ ذاك يجر رجليه وكأنهما ليستا منه. ولولا تقوس ظهره لخلته ماردا أفلت من قماقم سيدنا سليمان؛ لحية بيضاء كأنها صوف فروة عتيقة، أصبحت خصلها جدائل لما بينها وبين المشط من عداوة. فهي بنت عم شعر الشنفرى لحا، وإذا ارتفع نظرك عنها قليلا وقع على حاجبين كأنهما رفرف فوق أنف مروس معقوف كمنقار نسر.
كان ملبوس الشدايقة غنبازا أسود مقلما، ولكن الهرم الذي اعترى غنباز الشدياق اسطفان أخذ الكثير من لونه وحلت محل أقلامه أنهار من الخواء نمت عن بطانة بيضاء. ومشى الشدياق غير محكم الزنار، فتجمع برداه، عن يمين وعن شمال، كستار مسرح مفتوح نصف فتحة، أما الممثلون فقد تواروا واضمحلوا. وما بلغ الباب القبلي حتى انهار على فروة مدت له. ثم أخذ يستوي على مهل حتى تمثل بشرا سويا، واستند إلى حائط البيت رازحا تحت أثقال التسعين التي تمطت بصلبها وناءت بكلكلها على منكبيه.
ونظر إلى الطبيعة بعينين جفت ماويتهما فرآها صفراء مغبرة فقال: عجيب! كيف اصفرت الدنيا، ما كانت هكذا منذ أيام. وحك صلعته كمن يشغل باله أمر خطير، وأطرق إطراقة طويلة. ورفع رأسه فإذا بدمعة تكرج في ثلم من وجنته لتنهار عند مدخل لحيته.
وطفق الشدياق يجهش ثم تعالى بكاؤه فلفت أنظار العابرين والعابرات. وشاع في القرية أن الشدياق اسطفان يبكي، وهو من لم ير قط باكيا فتضاربت في ذلك أقوالهم.
رأى الشمس جانحة لتتوارى خلف الجبل فانتحب. أدرك أنه إلى ما تصير إليه صائر، فراح يناجي نفسه: هي تغيب وتشرق، أما أنت يا اسطفان فإلى ظلمة القبر. لا شروق ولا غروب. إنه يضيق صدره وهو في فراشه اللين فكيف به متى وسدوه التراب. إنه يبرد، وهو نائم حد الموقدة فكيف به متى نام في قلب الأرض حيث يبقى في ظل الموت إلى الأبد.
ورأى نصف قرص الشمس قد أوشك أن يتوارى خلف الجبل فأرسل زفرة حرى. وأخذ يتحلحل ليعود إلى مرقده قبل أن يختفي كانون الله ويقرصه البرد.
صفحه نامشخص