دق قلبي دقات عنيفة عندما قال أبي لأمي: دبرنا له مدرسة. والتفت إلي وهو يجر كلماته: غدا تصير الشدياق مارون، فلم أبد ما كان ينتظره من الارتياح فأعرض عني.
ودخلت المدرسة مع من دخلوا فكانت الفاتحة أن أكلت قضيبين سخنين على سفح ظهري، فأرخيت لرجلي العنان فاستقبلني والدي العملاق بأحد قضبانه.
كان غفر الله يعمل بنصيحة ابن سيراخ القائل: إذا أحببت ولدك فهيئ له القضبان حزما حزما. ثم قادني بأذني كالعنزة الشاردة، وهناك على أعين التلاميذ قال الكلمة المأثورة للمعلم: اللحم لك والجلد والعظم لي. ثم التفت بي وقال: فهمت يا كلب. ومنذ ذلك الحين صرت أطوع من الخاتم في الخنصر، وأنعم من المخمل.
ويوم أحد الوردية الكبيرة خرجنا من الزياح، فإذا بزمارين معهم دب يغنون له ويرقص على وقع الدف والقصب، فعجبت من طواعية الدب واستوائه كالبشر، يعرض العصا بين كتفيه كالناطور، ويمشي مشية الصبايا والعجائز، ينام ويقوم كما يكلفه صاحبه. حتى إنه يدخن بالغليون.
قلت لوالدي: الدب كيف تعلم كل هذا؟! فضحك وقال لي المثل المعروف: العصا تعلم الدب الرقص.
ففهمت تعريضه بي وقلت في نفسي: إذا كانت كقضبانك تعلم أكثر من دب.
هذي واحدة من ذكريات مدرستي الأولى، مدرسة تحت السنديانة، حيث كنا نصطف خطا طويلا حد حيط الكنيسة، الأعلى فالأعلى علما. وفي تلك المدارس كانت تسوسنا العصا أستاذة الدب. أما عقاب الجرائم الكبرى فكان (الفلق) ليتك تذوق طعمه. الفلق خشبة تكمش الساقين كالعض، لتعرض القدمين إلى قضيب المعلم فينصب بلا شفقة. إنني لم أذق هذا العلاج، والفضل لحزمة قضبان الوالد التي إذا مات منها سيد قام سيد.
وواحدة ثانية من ذكريات أول مدرسة داخلية، أذكر ولا أنسى أبدا أنني بكيت أول ليلة بكاء مرا حتى بللت دموعي مخدتي وتعكرت من الغيظ عيناي، كما قال داود بعد فعلته تلك، كنت كالغريب في تلك المدرسة فاستوحشت جدا، وعللت النفس بالسلو، فإذا بي في الغد ألتفت صوب بيتنا فأبكي. سخر مني رفاقي وسموني البكاء. ولكني فقتهم درسا حين نسيت ملاعب صبوتي فراح ذلك الاسم.
ومرت الأيام فجاء أحد المرفع فتذكرت الخروف الذي ذبحناه عام أول، وارتمينا بشحمه ولحمه كعذارى امرئ القيس. تذكرت الكبة النية، والهريسة، والكروش المحشوة، وجميع أصناف المآكل اللبنانية، فبكيت حتى درى أحد رفاقي فقال لي: تبكي يا مارون؟ فأجبته: لا. باصر بنومي. فضحك وضحكت.
وسمع حديثنا الراعي أي الناظر العام، فلم يزد على قوله: شر الصباح ولا خير المسا. ناموا.
صفحه نامشخص