ثم قامت ترسم إشارة الصليب في الهواء فوق رأسي. وصليت كما شاءت، فنمت نوما لذيذا ورأيت أحلاما أقاحية كنت أتلفت فيها عن يمين وعن شمال لأرى إذا كان أبي ينظرني ويسب دين لحيتي مرة ثانية.
وكان في الضيعة رجل داهية من أقاربنا. فقير الحال ولكنه ابن جلا، نبيه كلمته مسموعة. جاء يسهر عندنا مع الساهرين. وذكروا المدارس فامتدح مدرسة الدبس جدا، ثم وجه الكلام إلى والدي قائلا: إذا كنا نريد أن يقوم منا خوري مثل البشر ابعث مارون إلى مدرس الدبس.
وأمن ابن عمي على كلام خاله هذا وقال: عمي حنا رجل مكفي ومارون مليح. من يعلم ربما صار مطرانا.
وما زالا بأبي حتى انتخى وتبسم، والتفت بي وبوالدتي كأنه تذكر تلك الآية التي هبطت عليه أول أمس وقال: طيب، مدرسة الدبس مدرسة الدبس . أبشري يا أم مارون. جهزي حوائج ابنك.
فتهلل وجه الأم لهذا الفوز العاجل، وبعد أسبوع كنت في مدرسة الحكمة بين تلاميذ من كل البلاد حتى قبرس، كدت أنكر نفسي بعد ما خلعت غنبازي الجوخ الأسود وشروا لي الكتان وصدرية المخمل المزررة وزناري المقلم، ولبست ثوبا إفرنجيا أنيقا. راح الشدياق وجاء الأفندي. وكان الطوق المكوي يشد الزيار على رقبتي الغليظة، فأخال الياقة كأنها الخناق وأبدو لعيني كأنني الهر المشنوق. بعد ذلك الشروال الرحراح وحريته الواسعة النطاق لبست الثوب المزمك، فشعرت كأن كلا مني في حبس، وصرت أسيرا مكبلا كحرباء الأخطل. ولكني فرحت بخلاصي ونجاتي من الفخ الذي نصبوه لي.
وشاع في المدرسة أنني أنظم الكلام الموزون المقفى الذي كانوا لا يزالون يسمونه شعرا، فتجمعوا علي كأنهم حول دب يرقص، وكان منهم رشيد، وأحمد تقي الدين، ومرشد خاطر، وحبيب جرجس - الدكتور حبيب اسطفان - وسعيد عقل الشهيد، وأمين رزق ابن صفي، وغيرهم ممن نسيت أسماءهم. استنشدوني فأنشدتهم بعض فرائدي الدرية في العذراء مريم وابنها يسوع، والقلبين الأقدسين، ويوبيل الحبل بلا دنس، ثم تشطير: لو كان للأفلاك نطق أو فم لترنمت بمديحك يا مريم، وتخميس، عجيب أنك العذراء حبلى برب قد تعالى في العجائب. هذه كنا نرتلها كل أحد في صلاة (الأخوية)، ثم باقة أزهار لملكة آيار، فضحك رشيد تقي الدين ضحكته الصارخة كنكتته وحزبيته، وقال لعصابته الطاهرة: الشب مليح، ولكن ينقصه علم، دربوه يا شباب.
فتعلمت منهم ما ينقصني، فطرت معهم في أفقهم وعرفوا بعدئذ أني أستاذ كبير، ولكنني كتمت علمي تواضعا، وصرنا عصبة تهتز الأرض تحت أرجلنا، والويل لمن يعلق بلساننا. كانوا يلهجون كثيرا ب (خدعوها بقولهم حسناء)، فوجدتني في نعيم وشكرت ربي على حرية اضطهدت لأجلها، وتذكرت القصاص الذي أنزله بي رئيس مدرستي السابقة - المنسنيور أرسانيوس - لأجل قصيدة غزلية شطرتها ونشرتها في جريدة الروضة تحت عنوان: قتيل الغرام.
وفي ذلك الزمان كان سيد الموقف الأستاذ شبلي الملاط، فبيروت كلها تنوه به، وموشحة (الجمال والكبرياء) ملء الأفواه، وعلى كل لسان:
طفلة فوق سرير من خشب
في زوايا بيت صياد قديم
صفحه نامشخص