احادیث المازنی
أحاديث المازني
ژانرها
كان أول من قيل لنا أنه معلم نحو رجلا قاسيا سيء الطباع سريع البادرة، وكانت له عصى قصيرة من الخيزران يدسها في كمه حتى إذا أمن أن يراه الناظر أخرجها وسلطها عل أجسامنا الصغيرة وأهوى بها على أيدينا، وجنوبنا، ورؤوسنا فلا يتركنا إلا بعد أن ينقطع نشيجنا وتخفت أصواتنا وتذهب عنا القدرة على الصراخ والاستنجاد فلم يكن أبغض إلينا من درسه.
ومن المضحك أن ذلك لم يكن يخيفا منه أو يزيدنا إلا إلحاحا في معابثته، وكنت أنا أثقل التلاميذ عليه وأبغضهم إليه، لأني كنت - وأحسب أني مازلت - شيئا صغيرا جدا وخفيفا مستدقا لا أستقر في مكان ولا أزال أنط من هنا إلى هنا ولا يكف لساني عن الدوران. فكان نصيبي من هذه العلقات النصيب الأوفر وحظي هو الأجزل.
وكان الناظر فيه سذاجة عجيبة لم تفتنا نحن الأطفال، وكيف كان يمكن أن يفوتنا التفطن إلى سذاجته ونحن مئات من الأطفال لنا مئات من العيون نفحصه بها، ومئات أخرى من الآذان والرؤوس تسمعه وتتدبر أمره وتجسه وتختبره.. فكنت أذهب إليه وأقول له على سبيل الملق والدهان «يا سعادة البك».
فيلتفت بوجهه الكبير إلي ويقبل علي بابتسامته البلهاء فقد كانت الرتبة جديدة وفرحه بها عظيما. ويسألني «مالك يا إمن (بالميم فقد كان أخنف) عبد القادر».
فأقول له «يا سعاد البك الشيخ فلان يا سعادة البك معه عصى يخفيها في كم القفطان ويضربنا بها يا سعادة البك».
وكنت صادقا ولكنه لم يكن يعرف أني صادق غير أنه كان يسمع «سعادة البك» تصافح أذنه مرات عديدة في نصف دقيقة فيطرب ويصرفه الطرب عن التثبت فيقول لي - متأمرا معي - «طيب. رح إنت إلى الفصل وعاكسه».
أي والله كان يحرضني على معاكسة الشيخ المسكين ليضبطه - كما يقال - متلبسا بالجريمة. أو كان يكتفي بأن يأمرني بالعودة إلى الفصل.
ثم يدخل هو ويفاجئ الشيخ بانتزاع العصى من كمه ويوبخه أمامنا - وينصرف. فتصيح أربعون حنجرة جديدة «هيه»! فيكاد الشيخ يجن وينهال علينا ضربا باليدين والرجلين، فتنكشف سراويلاته، فيعلو الصياح من جديد! ولكنه يكون قد تعب وأضناه الجهد وبهر أنفاسه العدو وراءنا فيقف وهو ينهج ويخرج المنديل من جيب القفطان ويمسح به العرق المتصبب ونحن جميعا نتكلم وليس بيننا واحد يصغي إلى ما يقال.
هذا كان أستاذنا في النحو. ولو أنه كان موفقا في التعليم لكان الناظر وحده كفيلا بإفساد الأمر عليه. فقد كان يتظاهر بالعلم بكل شيء وهو لا يعرف شيئا. فإذا تورط ولم يسعه إلا الاعتراف بجهله.
قال: «جاهل جاهل. لكن إداري تمام».
صفحه نامشخص