والأمر لا يقف عند هذا الحد، فهذا كاتب فرنسي من كبار الكتاب يحرض على القتل ويستمع له أنصاره ويستجيبون له ويهمون بسفك الدماء، فيؤخذ هذا الكاتب ويقضى عليه بالسجن قضاء لا مرد له، ولكن الناس لا يعتبرون ولا يزدجرون وإنما تمضي الصحافة في إذاعة البغض وإثارة الحقد وإفساد ما بين الناس من صلات حتى تنتهي إلى هذه المأساة التي دفعت الوزير الفرنسي إلى الموت، فأيهما خير: نظام يغل الصحافة ويعقل الأقلام ويعقد الألسنة ويكبح المعارضة كبحا ويميت الناس غيظا بما يضطرب في صدورهم من الآراء وما يغلي في رءوسهم من الخواطر، أم نظام يرسل الصحافة على حريتها والأقلام على سجيتها والألسنة على طبيعتها فيكتب الناس في غير حساب، ويقول الناس في غير رعاية للحق والعدل؟ أيهما خير: نظام السلطان العنيف الذي يرد الناس إلى ذلة كانوا يظنون أن عصرها قد انقضى، أم نظام الحرية المطلقة الذي يرد الناس إلى فوضى كانوا يظنون أن عصرها قد انقضى أيضا؟
كلا النظامين شر من غير شك، وما أظن إلا أن الناس جميعا يعرفون ذلك، وما أظن إلا أن كل فرد واحد فيما بينه وبين نفسه يود لو استطاعت الإنسانية أن تصل إلى نظام وسط لا يلغي الحرية فيلغي معها كرامة الإنسان، ولا يطغي الحرية فيطغي معها الأهواء والشهوات، ولكن كيف تستطيع الإنسانية أن تصل إلى هذا النظام وقد فسد عليها أمرها واختل التوازن بين قواها المختلفة، وأفلت عنان النظام فيها من يد العقل، واستأثرت به الشهوة فهي تصرفه تصريفا لا حظ فيه للروية ولا للتدبير.
مهما يكن من شيء فهذه حرية الصحافة، أو قل هذا الإسراف في حرية الصحافة قد استحدث فنا جديدا من الإجرام، فن القتل المعنوي كما يسميه بول نور، هذا الذي يأتي من الإسراف في القذف وإذاعة السوء حتى يحمل الناس على أن يقتلوا أنفسهم، وهو يستحدث في الوقت نفسه فنا جديدا من العقاب، فهؤلاء الفرنسيون أو المفكرون من الفرنسيين يريدون الحكومة على أن تشرع القوانين لتردع مثل هذا النوع من الإجرام، ومهما يكن من شيء فهذه الديمقراطية الأوروبية تلقى حربين مختلفتين: حربا تأتيها من الخارج من هؤلاء الذين ينظمون السلطان العنيف، وحربا تأتيها من الداخل من هؤلاء الذين يستمتعون بالحرية الديمقراطية إلى غير حد، أفتراها تسلم من هاتين الحربين؟ أفترى تخرج ظافرة من هذا العداء المزدوج؟ لا أدري، ولكن هل يتاح لنا - نحن الشرقيين الناشئين في الديمقراطية - أن ننتفع بمحنة الديمقراطية الأوروبية وأن نسلك بديمقراطيتنا الجديدة طريقا وسطا آمنة تعصمها من الطغيان كما تعصمها من الفوضى، تعصمها من أولئك الذين يصبون العذاب على الناس لأنهم يريدون أن يكونوا أحرارا، وتعصمها من أولئك الذين يسرفون في حقهم من حرية القول فيدفعون الناس إلى اليأس ثم إلى الموت؟
ديسمبر 1936
فجاءة فاجعة
أشرقت الشمس بنور ربها فملأت الأرض بهجة وجمالا، وملأت النفوس قوة ويقينا، وبثت في الأجسام حياة ونشاطا، وغمرت قلب تلك الفتاة بنور من الأمل حلو حار مطمئن طموح معا، أرسل على وجهها الجميل دعة ولينا وأمنا وحنانا، وكانت قد أنفقت ليلة هادئة مطمئنة بعد أن أنفقت يوما هادئا مطمئنا. عملت بياض النهار وشطرا من الليل في تمريض هؤلاء البائسين الذين تضطرهم الآلام والأدواء والفقر إلى المستشفى، فيلقون فيه من عناية الأطباء ورفق الممرضات والممرضين ما يرد عنهم عوادي العلل، أو يسلك بهم طريقهم إلى آخر الحياة في لين ورفق وعزاء. وكانت هذه الفتاة حلوة الروح، كريمة النفس، رقيقة القلب، تقبل على عملها محبة له، مؤمنة به، موقوفة النشاط عليه، كأنما تؤدي حين تؤديه واجبا دينيا مقدسا قد امتلأ به قلب صادق الإيمان.
فكان ابتسامها وحديثها وحركاتها حين تذهب وتجيء، وعنايتها بهؤلاء المرضى حين تختصهم بعنايتها، كان هذا كله يقع من هؤلاء الضيوف البائسين في المستشفى موقع الرحمة على القلب الشقي، وموقع الماء من الظمآن الذي يحرقه الظمأ ويضنيه الصدى، وموقع العزاء من المكروب، والغنى من المحروب، وموقع الأمل من اليائس الذي اشتملت عليه ظلمات اليأس، والقانط الذي كاد يهلك نفسه القنوط. كانت حياتها في المستشفى نورا يذود عنه الظلمة، ونعيما يرد عنه البؤس، وبهجة لقوم قد استيأسوا من بهجة الحياة. وكانت تتنقل بين غرفات المستشفى وحجراته مشرقة الوجه، باسمة الثغر، مطمئنة النفس، محزونة القلب مع هذا كله لما تشهد من ألم وما ترى من شر، فلا تكاد تدخل غرفة أو حجرة إلا أدخلت معها الرحمة والحب، ولا تخرج من غرفة أو حجرة إلا تركت فيها قسطا من أمل وحظا من عزاء.
وكانت إذا أنفقت يومها هذا في توزيع العناية والرحمة والحنان على المرضى والبائسين آوت إلى مضجعها حين يتقدم الليل ناعمة النفس، رضية البال، مطمئنة القلب، والتمست هذه الراحة التي ترد إلى الجسم قوته وإلى العقل نشاطه، وإلى القلب ذكاءه وشجاعته وحبه للخير وحرصه على البر واحتماله للمكروه.
وكانت تنفق ليلها في نوم هادئ ربما روعته من حين إلى حين أحلام سود تمثل لها آلام المرضى وعواقب هذه الآلام، وربما ابتسمت فيه أحلام بيض تمثل لها شفاء بعض هؤلاء المرضى واستئنافهم لحياة حلوة باسمة، وربما أشرقت فيه أحلام أخرى لا تتصل بالمرض ولا بالمرضى ولا بأهل هذا المستشفى، وإنما تتصل بأسرتها المتواضعة النائية عن المدينة التي تنفق حياتها في كد وجد، وفي أمن وأمل، وفي حزن غير قليل مصدره أثقال الحياة، وبعد الولد، وضيق ذات اليد، أو تتصل بهذا الأخ الشاب الذي لم يكد يتجاوز العشرين، والذي يقيم في المدينة غير بعيد منها ولكنه لا يكاد يلقاها إلا مرة في الأسبوع، حين يتيح لها العمل ويتيح له الدرس ساعات يلتقيان فيها فيتحدثان، وربما خرجا للتروض إلى ضاحية من ضواحي المدينة سعيدين بهذا اللقاء ناعمين بهذه النزهة المشتركة، ثم عادا مع المساء فصحبها أخوها حتى يبلغها المستشفى ويودعها وقد ضربا موعدا للقاء بعد أسبوع.
ولعلها كانت ترى في بعض ما ترى أثناء هذا النوم الهادئ صورا أخرى من الأحلام لا تتصل بالمستشفى ولا تتصل بالأسرة النائية ولا تتصل بالأخ القريب، وإنما تصور زاوية من زوايا هذا القلب المتواضع الكبير لا يعرفها أحد غيرها، وقلما تفكر فيها يقظة وقلما تحلم بها نائمة، ولكنها تعرض لها من حين إلى حين، لحظات قصارا في اليقظة أو لحظات قصارا في النوم، تعرض لها لأسباب نادرة طارئة غير منتظرة ولا مقدرة، إنما هي نظرة إلى بعض الوجوه أو تأثر ببعض الأصوات أو ابتهاج لبعض الابتسامات، وإذا الستار يرفع عن هذه الزاوية المستورة في قلب كل فتاة، وإذا هذه الصور تسنح شاحبة حينا، ومشرقة حينا آخر، تمثل آمالا ضيقة طورا وواسعة طورا آخر ولكنها تملأ حياة الفتيات نعمة وثقة وإيمانا بالحياة. ولم تخل ليلتها هذه من أحلام مروعة بعض الروع وأخرى مهدئة بعض الهدوء، ولم تخل ليلتها من حزن وأمل معا فقد كثر الذين حملوا إلى المستشفى من جرحى الفتنة، وكثر حولهم نشاط الأطباء والممرضين، وعظم بفضلهم إيمان هذه الفتاة بعملها وحرص هذه الفتاة على أن تفيض من رحمتها وحنانها وبرها أكثر مما أفاضت إلى الآن.
صفحه نامشخص