الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الأغلال
الأغلال
تأليف
فليكس فارس
صفحه نامشخص
الفصل الأول
(ينكشف الستار عن قاعة مزينة بأفخر الرياش، تلوح من شرفتها حديقة شتوية، الوقت مساء، وقد أنيرت القاعة بنور ضئيل.)
المشهد الأول (إرين وبولين أختان تتحادثان وهما جالستان إلى خوان، بولين تخاطب أختها بهدوء الناصح، وإرين تضطرب ثم تقف تذرع القاعة طولا وعرضا، وفي الحديقة ثلاثة رجال يدخنون.)
بولين :
ما هي شكايتك من زوجك؟
إرين :
شكايتي منه هي أنني لا أحبه.
بولين :
أتعدين إذن إعراضك عنه ذنبا عليه؟
إرين :
صفحه نامشخص
عشر سنوات مرت علي وأنا أحاول اختراق قلبه بحبي، فما أجدت محاولتي غير حبوط آمالي.
بولين :
ما يدفع بك وبأمثالك إلى الثورة إلا إعلان قانون الطلاق، فسقيا لزمان المحصنات الفاتنات المجاريات لحظهن في الحياة.
إرين :
لست ممن يخترن الموت في الحياة.
بولين :
هلا وجدت من حياتك نفسها منفذا إلى الحياة؟ إذا كان الله حرمك الولد، فما حرمك مباهج المجتمع؛ لك مسكن من أجل المساكن تقبعين فيه فلا يزورك إلا زوجي وأنا، فافتحي قاعتك للاستقبال، وافتحي تيار العالم ينقذك مما تولدينه لنفسك من أوصاب.
إرين :
لو أنني طالبة ملاذ لأخذت بعلاجك، ولكنني طالبة سعادة، وما يوصلني إليها السبيل الذي تصفين.
بولين :
صفحه نامشخص
لا أدعي أن زوجك روبير كمال مجسم، ولكنني أراك تحدجينه بعين مريضة ثائرة، فكيف تتوقعين أن يروق لك؟! إن دماغك يسكب سموما على قلبك، فأنت محيرة في أمرك.
إرين :
بالله يا بولين، لا تحولي الحقيقة التي ألمسها كل يوم إلى أشباح وأوهام، أفلا ترين أن زوجي كالحجر الصلد لا يتأثر لشيء ولا يشعر بشيء؟ أما أنا فلا أشعر منه إلا بحق سيادته، فكأنه لم يوجد إلا ليكون حاكمي المطلق وسلطاني البارد المستبد.
بولين (بتهكم) :
وهل يصح أن يحكمك أحد؟! أنت التي لم تخلقي إلا للشعور، ولمحبة كل شيء، والاضطراب من كل شيء، أنت التي تحيين من نسمة وتموتين من لفحة.
إرين :
ما أدعي بلوغ الذروة في الرقي، وما أتطلب من زوجي صفات أعاظم الرجال، ولقد كنت أرضاه حقيرا فقيرا، وأقنع بعيوبه لو أن فيه أقل شعور بالحياة، لو أنه يفرح أو يحزن، إذن لكنت أرفعه على هيكل روحي، ولكن زوجي متمم ذاته بذاته، مصفح لشخصيته، ويا ليته يبكي مرة واحدة لأسكب عليه كل ما أكبت من العطف والحنان في قلبي.
بولين :
أفما يتسنى لك إشعاره بعطفك عندما يثور بينكما الخصام؟
إرين :
صفحه نامشخص
إنك لا تعرفينه، إن أمثال هذا الرجل لا يثورون ولا يحتقرون؛ لأنهم يرون الحق في جانبهم أبدا، فلا تتزعزع ثقتهم بأنفسهم، وليتك تنظرين إلى زوجي حين يفيق من رقاده، فإنك لتلمحين على سيمائه التصميم على إعلان حقوقه طوال النهار، فهو يفرض حقه على الخدم، وعلى الخيل، وعلى الكلاب، ولا يمكن أن يرتكب خطأ في أي أمر كان مع أي كان، وما سمعته مرة يتحدث إلا وهو يسرد قصة يكون غيره فيها المخطئ وهو المصيب.
بولين :
ولكنه إذا وقف أمامك يصبح الحق في جانبك على ما أرى.
إرين :
أنسيت حقوق الزوج؟! إنه يلوح بها أبدا لفصل الخطاب بيني وبينه، فإذا هو المصيب وأنا المخطئة.
بولين :
اسمعي يا إرين، لقد كنت أنا الساعية في زواجك، كما سعت أمي فزوجتني من قبل، وليس زوجي بأفضل من زوجك؛ فهما فرسا رهان، لكل منهما ثروة طائلة، ولكل منهما ما تجني الثروة على أصحابها من الكسل والجمود، لقد قذف الآباء الطامعون المجاهدون في سبيل المال إلى الوجود بأمثال هؤلاء الأزواج الذين لا يخطر الزواج على بالهم إلا بعد أن تتحجر قلوبهم وتتعرى رءوسهم، فيهرعون حينئذ إلى الأديرة ليختطفوا من مقاعدها فتيات الجمال والمال. تلك هي طريقة الزواج في هذا الزمان، وليس لنا أن نبدلها. لقد اعترفت بالأمر الواقع؛ لذلك ترينني على أتم وفاق مع زوجي؛ لأن حبنا متشابه متبادل، ولا خيار في الواجب.
إرين :
إذن، أنت في عداد الزوجات اللواتي لا يتمسكن بأزواجهن إلا بقدر تمسك هؤلاء الأزواج بهن؟!
بولين :
صفحه نامشخص
لم أفهم!
إرين :
لا يصعب عليك فهم ما أقول، إذا أنت تذكرت ما قاله زوجك ونحن على العشاء حين كان ميشال دافرنيه يقص علينا أسفاره في بلاد اليونان، أفما قال ليثبت حبه للأسفار: لو أنني أصبت بفقد عقيلتي وكنت ولا أزال شابا، فإنني أذهب سائحا في تلك الأقطار.
أفما لاحت على وجهك علامات الرضى؟ فكأنك كنت تؤيدين رأي زوجك، وتجدين قوله طبيعيا لا غبار عليه.
بولين :
وأية غرابة ترين في هذا القول؟
إرين :
الحق أن لا غرابة في أن يفتكر الزوج سلفا في كيفية سلوانه لشريكة حياته إذا ماتت، وأقل غرابة من هذا أن يعلن الزوج رأيه بحضرة زوجته، وأن ترتاح الزوجة إلى مثل تلك الوقاحة.
بولين :
تذكري أن الخطأ كامن في المبالغة يا عزيزتي.
صفحه نامشخص
إرين :
أتجدين إخلاصي مبالغة؟! فما هو تقديرك للرضى المتبادل بين زوجين على تمثيل دور الزواج بالمخادعة والأكاذيب؟ لا، إنني لن أرضى لنفسي بمثل هذا الشقاء يستتر رياء بوشاح الحب والإخلاص.
بولين (وهي تبتسم بتهكم) :
إذا كنت لم أنتبه لما قاله زوجي، فما ذلك إلا لأنني كنت مستغرقة في التفرس بملامحك لأقرأ فيها تأثير ميشال دافرنيه بفصاحته الخلابة.
إرين :
لم أفهم.
بولين :
أما أنا فقد فهمت كثيرا، فوالله ما اهتاجت أعصابك إلا المقابلة بين جهل زوجك وعبقرية صديقك القديم.
إرين :
وإلام تذهبين بهذا الظن؟
صفحه نامشخص
بولين :
إلى أن هنالك غمامة صيف ستنقشع عن قريب، أرى الرجال يستعدون للخروج من الحديقة، ولعلهم قادمون إلينا، فخير لك أن تغسلي وجهك؛ فهو مكفهر، وقد بدا الاضطراب في عينيك.
إرين (تتوجه نحو باب الغرفة) :
بل خير لي أن أضع وجها مستعارا؛ لأتمكن من الظهور أمام الناس بالتصنع والخداع.
المشهد الثاني (بولين وفرجان زوج إرين)
فرجان :
لماذا تركتك امرأتي وحدك؟
بولين :
أفما أتيت أنت لتقوم مقامها؟
فرجان :
صفحه نامشخص
أتيت لأستأذنك في الخروج، إن حضرة المسيو دافرنيه ثقيل الوطأة علي بفلسفته وأخباره؛ ولهذا أبقيته لزوجك فردينان يتدبر الأمر معه.
بولين :
أنت تدعي الانشغال حين تخرج من البيت، ولكنك لا تذهب إلا إلى النادي.
فرجان :
لقد تعود أصدقاء النادي الاجتماع فيه، وليس لهم أن يخلفوا وعدهم.
بولين :
أفلا يخطر لك بعض الأحيان أن هنالك أمرا يجدر بك أن تهتم له؟ أفلا تفكر فيما يمكن أن يجول في مخيلة زوجتك وأنت تسلمها إلى العزلة والانفراد؟
فرجان :
أنا واثق من أنها على أحسن حال حين أفارقها، أفما رأيت اغبرار وجهها عندما كنا على العشاء؟ دققي في ملامحها بعد ذهابي، فلسوف يتضح لك أنها ستعود إلى المرح والسرور، تلك هي عادة أختك؛ إذا أنا اقتربت منها جللها الكدر، وإذا ابتعدت عنها انبسطت نفسها وزال عن وجهها القطوب.
بولين :
صفحه نامشخص
خير لك أن تنظر في مداواة العلة من أن تتلهى بوصف أعراضها.
فرجان :
ماذا تريدين أن أفعل؟ لقد لاح لإرين أن تستحسن هذه الطريقة، وما أنا بمضيع أوقاتي في حل الرموز.
بولين :
إذا كانت هذه هي طريقتك أيضا فالخرق بينكما سائر إلى الاتساع.
فرجان :
يؤلمني ذلك، ولكن ما يهمني شيء إذا كان ضميري مرتاحا إلى طريقتي، وهل لك أن تقولي لي ما هو قصوري تجاه إرين؟
بولين :
أنت مقصر، وبرهاني على قصورك أنك لم تنلها السعادة.
فرجان :
صفحه نامشخص
وهل تظن أختك أنني أنا سعيد بمشاهدتي سحنتها الشاحبة القاتمة؟ كلما زادتني قطوبا زدتها هجرا، لقد قررت أن ألهو خارج بيتي إلى أن يثوب رشد زوجتي إليها.
بولين :
وما يحل بإرين يا ترى أثناء لهوك؟
فرجان :
إنني أمنحها وقتا للتبصر في أمورها.
بولين :
أتريد إخضاعها بالعنف؟
فرجان :
إنها زوجتي وأنا القيم عليها.
بولين :
صفحه نامشخص
هي لنفسها أولا يا فرجان.
فرجان :
لقد اتخذتها زوجة لي لأوفر لها الحياة الهنيئة، فقمت بواجبي، فما أنا أطالبها إلا بالهدوء والسكينة واللذة التي يتمتع كل الناس بها.
بولين :
ليست إرين ككل الناس.
فرجان :
إنني آسف لذلك، فلا يلومن الإنسان الشاذ غير نفسه، إنني لست مطالبا بالخروج على القاعدة المتبعة، أريد أن أتمتع بالحياة كما هي، وإرين تمضي أيامها بالاستغراق والتفكير، أما أنا فأكره قرع الأوهام، ولا أفهم ما هي الأفكار التي يشغل الإنسان فيها دماغه إذا لم يتجه إلى تنظيم حياته؟ على أختك أن تصلح نفسها، ومن واجبك أن تدعيها إلى ذلك.
بولين :
كنت أحاول هذا الأمر منذ هنيهة.
فرجان :
صفحه نامشخص
وماذا كانت حجتها ضدي؟
بولين :
لم يكن لها من حجة عليك غير الحجة التي تدلي بها أنت من فمك.
المشهد الثالث (بولين - فرجان - إرين) (تدخل إرين فيبدو عليها الاضطراب إذ ترى زوجها.)
فرجان (همسا لبولين) :
انظري، تأملي (بصوت عال)
لقد عادت رفيقتك، فها أنا ذا أهرب (يظهر الارتياح على وجه إرين) .
فرجان :
تأملي واحكمي. (ينحني فرجان مسلما ويخرج.)
المشهد الرابع (بولين - إرين)
صفحه نامشخص
إرين :
لقد كنت أنا مدار الحديث بينك وبينه.
بولين :
وما عساه يكون سوى ذلك؟ لقد اتخذت لهجة الاعتدال في النصح.
إرين :
والنتيجة؟
بولين :
هي النتيجة نفسها التي توصلت إليها تجاهك.
المشهد الخامس (بولين - إرين - فالانتون - زوج بولين - ميشال دافرنيه) (يدخل الرجلان من الحديقة.)
فالانتون (مخاطبا ميشال) :
صفحه نامشخص
إذن، لم أتوصل إلى إقناعك.
ميشال :
ولن تتمكن من زعزعة اعتقادي.
فالانتون (موجها الخطاب إلى زوجته وأختها) :
كنت أقنع صديقي بوجوب زواجه.
إرين :
ممن؟
فالانتون :
لم نصل إلى حد تعيين العروس، فقد كنت أقول لميشال: لقد بلغت الثلاثين، وأنت رجل مثقف ولك شهرة ومقام في الكلية، فمن السهل عليك أن تجد عروسا ذات جمال ومال. وقد مرت عليك أيام طويلة في باريس ولم أرك تفكر لا في الاندفاع إلى العروس ولا في التسلي بالملاهي.
بولين :
صفحه نامشخص
آه.
فالانتون :
إذن، لست عاشقا يا صديقي، ولا شيء يحول دون زواجك، فما عليك إلا أن تصمم على الزواج، ثم تجيل أبصارك فيمن حولك من الفتيات، حتى إذا اخترت إحداهن تفكر بعد زواجك في خلق الحب بينك وبينها، تلك هي القاعدة، ولا خير في العمل بسواها.
بولين لميشال :
وبماذا أجبت على هذا النصح؟
ميشال :
أما أنا فلا أرى في الوجود إلا ثلاث حوادث هامة هي: الولادة فالزواج فالموت، وكلها متساوية تخضع لنظام واحد، فإذا كان الإنسان لا يجيء الحياة مختارا ولا يبارحها مختارا، فالزواج لا يرسو أيضا على الاختيار، وهو صنو الولادة والموت. من منا لم يأت الحياة صاغرا، ولن يبارحها صاغرا؟ لذلك أريد أن يكون الزواج تابعا للبداهة، لا أثر فيه لتصنع الإنسان وإرادته، أريد أن تكون كلمة الإيجاب والقبول في الحب كلمة مقدسة تدفعها الطبيعة من مستودع أسرارها، كما تدفع الطفل إلى الصراخ حين يستقبل النور، وكما تدفع المحتضر إلى الأنين وهو يبارح الحياة.
إرين :
إن الطبيعة تسود ولادتنا وموتنا، ولكني لا أراها تهتم كثيرا بتزويجنا.
ميشال :
صفحه نامشخص
بلى، إنها لتهتم؛ إذ إنها تفتح قلبنا لشخص واحد ينحصر الوجود فيه لدينا. تلك هي القوة التي تنور قلب الإنسان مرغما؛ فهي أشبه القوى بالناموس الإلهي الذي يفتح الأعين للنور ويغمضها للقبور.
بولين :
ولكن الإنسان مخير في زواجه؛ فهو يقدر ألا يتزوج، وهو مخير في زواجه بلا حب، حتى إنه ليتزوج بالرغم من الحب.
ميشال :
ذلك لأن الطبيعة التي تستقر فيها ناموس الحياة والموت قد شاءت أن تركز ناموس الزواج على قاعدة الشعور الخفي؛ فهي تنبه الإنسان بواسطته متوسلة باكية، ثم تهيب به مسيطرة موجعة.
إرين :
ولكنها مع ذلك لا تقوى على ردع الإنسان عن الزواج الموافق لأحوال الأسرة والمنفعة الشخصية.
ميشال :
إذا نحن ترفعنا عن الطبيعة فلا نفلت من سيطرتها إلا إلى حين؛ فهي تتحكم في الحياة من حيث لا ندري. فإذا لم يذهب الزواج بالرجل والمرأة إلى الحب عن طريق المودة والرحمة، فإن الحب يربط أحد الزوجين أو كليهما برباط الزواج الحقيقي خارجا عن أنظمة الناس، بالرغم من كل قاعدة مرعية.
فالانتون :
صفحه نامشخص
أما أنا فلا أفهم من الزواج غير شريعتين: شريعة الكنيسة والقانون المدني.
ميشال :
لا زواج حيث لا حب، ولقد شاءت التقاليد أن تجعل الحب سلعة تسام وعملا يتفق عليه متعاقدان بموجب عهد، ولقد يكون مثل هذا الزواج راسيا على حق الإيجاب والقبول، ولكنني أنكر عليه كونه أخا الولادة والموت.
بولين :
لعلك تعلمت هذه المبادئ في مدرسة أثينا!
ميشال :
بل تعلمتها في مدرسة الحياة، وأنت تعرفين كيف قضيت حياتي.
فالانتون :
أما كنت أول رفيق لأخت عقيلتي أيام طفولتها؟
ميشال :
صفحه نامشخص
لقد كان مسكنها قرب مسكني عندما كان لي أب وأم، وعندما حرمني الله الأب والأم قاسمت جارتي الصغيرة ألعابها. (يدخل خادم ويقول إن عربة مدام فالانتون حاضرة أمام الباب.)
فالانتون (للخادم) :
حسن، فلتنتظر. (يخرج الخادم.)
بولين (لميشال) :
لقد كنت ضعيفا متألما وأنت صغير ...
ميشال :
تلك قسمتي من الدنيا، وما الضعف إلا إرث يتلقاه الأبناء عن الآباء.
إرين :
ولكن ميشال كان سيئ الطبع.
ميشال :
صفحه نامشخص
لا أذكر أنني كنت سيئ الطبع يا سيدتي.
إرين :
أما أنا فأذكر كل ما كنت تخترعه لتكديري، وعندما كنت أبكي كنت تقطب وجهك وتذهب دون أن تبالي بقهري.
ميشال :
لعل الصبيان هكذا يبكون. (ينهض فالانتون مشيرا إلى زوجته بالذهاب.)
فالانتون (مخاطبا إرين) :
إنني أعتذر لاضطراري إلى الذهاب؛ لقد أتعبني الصيد اليوم، وعلي أن أعود غدا إلى الصيد أيضا.
إرين :
ولم لا تأخذ لنفسك راحة من هذا العناء؟
فالانتون :
صفحه نامشخص