فالنبوءة الكبرى في عرف الماركسيين هي نبوءتهم عن اليوم الذي تزول فيه الطبقات التي تستولي على وسائل الإنتاج، ولا يبقى فيه أحد غير المعامل والعمال.
فمن اليوم قد تبين أن وسائل الإنتاج تئول شيئا فشيئا إلى أيدي خبراء الصناعة، وخبراء الاقتصاد، وخبراء الدعوة، ومن اليوم قد تبين أن إدارة المعامل وتدبير الثروة لا تئول إلى العامل الصغير بمجرد زوال رأس المال؛ بل تستولي على تلك الإدارة طبقة من ذوي الاختصاص الفني لا تستغني عنها الحكومة؛ بل ستكون هي الحكومة المتصرفة في الإنتاج، وفي المطالب المختلفة، وفي التوزيع والإشراف على طلب الخامات وتصريف المصنوعات، كما قلنا في حديث غير هذا الحديث.
وعلى نقيض ما يزعمه الماركسيون، يأتي الحاضر بتكذيب النبوءات الهدامة واحدة بعد واحدة، ولا يتقدم الزمن فترة بعد فترة إلا انهدم ركن من مذهب هدام، ولحقت به أركان لا تقوى على الثبات. •••
لو كانت المذاهب الهدامة فلسفة مقنعة لما عول أصحابها على الجهلاء الذين لا يفكرون ولا يهتدون إلى الحقائق ولو صبروا على التفكير فيها. فإن الحكم على حقائق التاريخ في أطوار الإنسانية جميعها مطلب عسير لا يقدر عليه الجهلاء الذين يجندهم الهدامون للتخريب والفتنة العمياء، ومثل هؤلاء قد انقادوا من قبل لكل ناعق، ولم يسألوه قط عن فلسفة ولا برهان مقنع، وحسبهم من الدعاة أنهم يقودونهم إلى الشر والفوضى، ويفتحون أمامهم مصرفا لما طبعوا عليه من نوازع الجهل والخراب.
وقد يتفق للهدامين أن يستجيب لهم طائفة من المتعلمين أو العلماء، فمن عرف هذه الطائفة أيقن أنها لا تخلو من أحد اثنين: فالعالم الذي يستجيب لمذاهب الهدم إما أن يكون من زمرة ممسوخة الطبائع، مطوية على الحسد والبغضاء، ممتلئة بالغرور الذي يسول لها أن تطاوع كل نقمة، وتستكثر الخير على كل إنسان، فإن لم يكن العالم المستجيب للمذاهب الهدامة من هذه الزمرة فهو مخدوع فيها يتحول عنها بعد العلم بحقائقها والاطلاع على مساوئها، كما قد تحول عنها كثير من الكتاب والحكماء الذين أقبلوا عليها مخلصين، ثم أعرضوا عنها مخلصين. •••
إن الاشتراكية العلمية إذن خرافة لا علم فيها، وقد يطول شرح هدف الاشتراكية، ويطول البحث في قواعدها ومبادئها، وفي مواطن الضعف منها، ولكن العقل الذي يعرف شيئا من العلم والفهم، لا يحتاج إلى شرح طويل ليعلم أن نظرة القوم إلى أطوار الإنسانية نظرة باطلة، وأن حكمهم على المستقبل القريب أو البعيد حكم مردود.
إنهم يدعون أن زعيمهم كارل ماركس قد فرض على المستقبل نظاما لن يختلف بعد آلاف السنين، وأنه قد أجرى حكمه على المجتمعات الإنسانية إجراء حاسما دائما، لن يقبل التبديل والتنويع، وقد تجوز على العقل الآدمي المستقيم كل خرافة من خرافات الأساطير، قبل أن تجوز عليه خرافة تزعم أن الفرد الواحد يسلط فكره على الدهور المقبلة إلى غير نهاية، فإن الغول والعنقاء لأقرب إلى العلم من هذه الدعوى التي لا علم فيها ولا تقدم، والتي يروجها دعاتها مع هذا، وهم يفخرون بأنهم هم العلميون، وهم التقدميون.
بارود لم ينفجر وطباعة لم تطبع
تواتر القول بأن اختراع المطبعة واختراع البارود قد كانا فاتحة عهد، أو نقطة تحول في تاريخ الحضارة الحديثة. وبين المطبعة والبارود مناسبة، أو مشابهة قريبة، وهي مشابهة «التعميم».
فقد أصبح الكتاب ميسورا لكل من يطلبه بعد نشر الطباعة، وقد كان قبل ذلك موقوفا على رجال الدين أو على الذين يتفرغون لنسخ الكتب ودرسها، وكلاهما يلجئ الطالب إلى تفرغ وانتظار.
صفحه نامشخص