فالحالم مثلا يعبر في منامه عن شعور الضيق أو الخوف بقصة رمزية يتمثل فيها شيئا مخيفا في صورة وحش أو مارد مرهوب.
والكاتب الذي لم يعرف الحروف الأبجدية يرمز إلى المعاني بالشخوص والرسوم، ويعبر لك عن الكتابة بصورة الكاتب أو صورة القلم أو صورة المكتوب، وقد يلجأ إلى الاستعارة بعد عرفان الحروف لأنها نوع من التصوير الذي يساعد على اختصار التعبير.
وكهان الديانات يرمزون ويعمدون كثيرا إلى الكنايات والألغاز؛ لأنهم يجعلون لغة الدين لغة سرية ينفردون بها ولا يطلعون سواد الناس على دخائلها، فيختارون الرمز في التعبير وإن قدروا على الإفصاح والتصريح.
والنساك المتصوفون يرمزون لأنهم لا يستوضحون المعاني الغامضة التي تجيش بها نفوسهم في حالة كحالة الغيبوبة أو نشوة من نشوات الذهول، فيؤثرون التشبيه لأنهم عاجزون عن التوضيح، ويخاطبون من يعرف حالهم برمز من هنا وتورية من هناك؛ فلا يحتاج منهم إلى زيادة إيضاح.
وكان بعض الدول يقهر الرعية على عقيدة لا يدينون بها وقد يدينون بغيرها، فيشيرون إلى عقائدهم برموز يفهمونها ويجعلون للألفاظ الشائعة معاني غير معانيها المتفق عليها في اللغة المتداولة ثم ينبذون تلك الرموز إذا ارتفع عنهم الضغط والإكراه.
وقد يكون الرمز اختصارا لعبارة مفهومة أو صورة ظاهرة كرمز الرياضيين والكيميين بالخطوط والنقط إلى الأفلاك أو العناصر أو المقادير.
فالرمز شيء مألوف في تعبير الإنسان وفي طبيعة الإنسان، ولكنه مألوف على حالة واحدة لا يخلو منها معرض الرمز والكناية، وهي حالة الاضطرار والعجز عن الإفصاح، فلم يرمز الإنسان قط وهو قادر على التصريح والتوضيح، ولم يجد كلمة واضحة لمعنى واضح ثم آثر عليها الالتواء شغفا بالالتواء.
فإذا لوحظت هذه الحالة فالرمز أسلوب متفق عليه لا يحتاج إلى مدرسة تنبه الأذهان إليه. فالخيال لا يستشير مدرسة من المدارس لتشير عليه أن يحلم بالصور والتشبيهات أو يحلم بقواعد التحليل والتركيب في معامل الكيمياء، والشاعر لا يعاب إذا مثل لنا الكواكب والأزهار فألبسها ثياب الأحياء، ومن ضاق به اللفظ فعمد إلى التخييل والتشبيه فالناس لا يحسبونه من هذه المدرسة أو تلك؛ لأن المدرسة التي يصدر عنها في هذه الحالة هي مدرسة البديهة الإنسانية حيث كان الإنسان وبأي لغة من اللغات ألغز أو أبان.
وفحوى ذلك أنه لا حاجة إلى مدرسة لتعليم الناس كيف يرمزون ويكنون حين ينبغي الرمز وتنبغي الكناية، ولكنهم قد يحتاجون إلى مدرسة لتذكيرهم بحقيقة واحدة قد ينسونها في دفعة الإفراط والمغالاة، وهي أن الحياة تنطوي على كثير من الأسرار، وأن العالم نور وظلام وجهر وخفاء، وأنه يفاجئنا أحيانا بمعاني لا تترجم عنها الألفاظ ولا غنى فيها عن الإشارة والاستعارة، أو عن تمثيل الظل بالظل، والحجاب بالحجاب.
وقد كانت الآداب الفرنسية بحاجة إلى هذا التذكير في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ولم تكن هذه الحاجة مقصورة على الآداب الفرنسية في الواقع؛ لأنها كانت حاجة من حاجات التطور العقلي في العالم بأسره، ولكنها أظهر ما تكون حين يكون الاندفاع من الأطراف إلى الأطراف.
صفحه نامشخص