إن كان في سبق أهل الصين إلى اختراع البارود قليل من الشك، أو كثير فليس هناك قليل من الشك أو كثير في سبقهم إلى اختراع المطبعة بنوعيها، ونعني بالنوعين المطبعة الثابتة التي تطبع الصفحات دفعة واحدة، والمطبعة التي تعتمد على الحروف المنفصلة قبل تركيبها في الصفحات.
هذان النوعان من الطباعة وجدا في الصين واليابان وكورية، منذ اثني عشر قرنا أو تزيد، ولكن الطباعة بنوعيها، لم تنقل الصين من أطوارها التي كانت عليها في القرون الأولى للميلاد إلى أطوار القرن العشرين كما شهدتها البلاد الأوروبية.
فلماذا لم يحدث هذا الانتقال في الصين بفضل المطبعة، كما حدث في البلاد الأوروبية؟
لاختلاف الفكرة واختلاف الثقافة. فإن الفكرة التي اخترعت الكتابة الصينية قد جعلت لزاما على الطابع أن يستعد بمئات العلامات قبل أن يحيط بمقاطع الهجاء، فلم يكن في الطباعة تيسير، ولم يكن فيها إسراع ولا إيجاز، ولم تنفع أصحابها الذين سبقوا الغرب إلى اختراعها بعدة قرون.
أما اختلاف الثقافة، فهو ها هنا بيت القصيد.
في الغرب كانت الثقافة هي التي طلبت المطبعة؛ فوجدت المطبعة سدا لحاجة مطلوبة.
وفي الصين وجدت المطبعة، ولم تطلبها الثقافة، فوقفت المطبعة عند غايتها الأولى، وهي نقش الحرير وغيره من المنسوجات، ولم تكن المطبعة وحدها هي القوة الفعالة في توجيه الأفكار وتنبيه النفوس.
وها نحن أولاء نبصر المطابع بيننا على أحسن صنع وأحدث طراز، ونبصر كل يوم صنوفا من الكتب والمجلات والصحف تنشرها هذه المطابع، وتيسر عرضها، وتعلن القراء بظهورها، ولكنني أسعى إلى كتاب فأطلبه، وأبذل فيه ثمنه، وأمر بعشرات غيره فلا أطلبها، ولا أقبلها بغير ثمن، لأن المطبعة في الواقع هي الأداة التي تكمن وراءها الفكرة الإنسانية، وليست هي العامل الحاسم الذي يملي على الإنسان ما يقرأه، وما يحب قراءته، فضلا عما يأباه، ولا يلقي عليه نظرة، ولو كان بين يديه.
وقد قيل إن المطبعة هي التي هدمت سلطان الكهانة، ونسي هؤلاء القائلون أن سلطان الكهانة كان هو «العميل الأكبر» للمطبعة، ولا يزال حتى اليوم كذلك. فإن ملايين النسخ من الكتب الدينية لم تزل تصدر كل عام من المطابع منذ منتصف القرن الخامس عشر إلى يومنا هذا، ولو أننا أحصينا نسخ الأناجيل والشروح الدينية، وأحصينا نسخ الكتب الأدبية والعلمية لكانت مادة الدين أرجح من كل مادة منفردة في أبواب العلوم والفنون والآداب، ولو شاء قائل أن يقول إن المطبعة عززت سلطان الكهانة؛ لكان له من الإحصاء دليل لا يقل في صدقه ووفرة شواهده، عن أدلة القائلين بالهدم والتقويض.
والمطبعة هي هي في كل مكان، فما بال المطبعة في بلد تخرج للناس مليون مصحف، وتخرج في البلد الآخر مليون إنجيل؟! بل ما بال المطبعة في البلد الواحد تخرج هنا صحيفة محافظة، وتخرج إلى جانبها صحيفة حرة، وتخرج معهما صحيفة بين بين، ولا تمتد يد القارئ إلا إلى الصحيفة التي يعرفها، ويريديها، ويقبل آراءها؟!
صفحه نامشخص