دفعني حديثه في جوف الوحدة أكثر مما كنت؛ إنه يتصور أني بمنجاة من التجارب، لعله غاب عنه ما يحدث في بيتنا، وغاب عنه أيضا جهاد النفس في معركة المراهقة، النزاع الذي لا يهدأ بين السمو والشهوات، بين أشعار المجانين والخيام، بين تحية العابثة في الحجرة العليا وطيفها الزائر للخيال، بين الطين وقطرات السحب البيضاء. •••
إن ما يفعل بالحجرة المجاورة لحجرة طارق عجيب؛ بيع أثاثها القديم، اشتري لها أثاث جميل من مزاد علني، توسطتها مائدة خضراء، غطى بلاطها المعصراني بساط كبير، قام في جدارها الأوسط بوفيه؛ إنه استعداد غامض. وأسأل أمي فتقول: أبوك يعدها للسمر مع أصدقائه، كما يفعل الرجال.
رمقتها بارتياب، فما عاد اسم أبي يوحي إلا بالارتياب، فقالت: سيسهرون سهرتهم عقب إغلاق المسرح.
تعودت أن أقبع في الظلام في حجرتي لأرى الأشياء؛ لا ترى الحوادث على حقيقتها في بيتنا إلا من الظلام! وقد جاء الصحاب في هزيع موغل من الليل. رأيتهم يتقاطرون، في المقدمة والدي، الهلالي، إسماعيل، سالم العجرودي، فؤاد شلبي، طارق، تحية. تسللت إلى الدور الأعلى في الظلام، قد تحلقوا المائدة ودار الورق؛ إنه القمار كما رأيته في المسرح. مآسي المسرح تنتقل إلى بيتنا بأبطالها أو ضحاياها، هؤلاء الناس يتصارعون فوق الخشبة، أما هنا فيقفون صفا واحدا في جانب الشر، إنهم ممثلون، حتى الناقد ممثل أيضا، لا شيء حقيقي إلا الكذب. إذا جاء الطوفان، فلن يستحق السفينة إلا أمي وأنا. إن يكن للنية قيمة إذ لا عمل لنا. حتى أمي تعد الطعام والشراب. وأقول لها: ما كان ينبغي أن تقومي بخدمة السفلة.
فتقول كالمعتذرة: إنهم زملاء، وأنا ربة البيت. - أي بيت؟ ما هو إلا ماخور وناد للقمار.
فتقول بأسى: أتمنى لو أهرب، لو نهرب معا، ولكن ما الحيلة؟!
فأقول بحنق: لذلك أكره النقود! - لكنها ضرورية؛ هذه هي المأساة. على أي حال، فلا أمل لي سواك. •••
ما الخير؟ ما الخير بلا عمل؟ لا ينشط إلا الخيال، الخيال ميدانه المسرح. البيت غنيمة في يد السفلة. حداثة سني ليست بالعذر المقبول. إنه العجز، لذلك مر النصر كخبر. في الأقران من الطلبة حياة لا أشارك فيها إلا بالحماس والخيال، تتحول الكلمات الجميلة إلى صور لا أفعال، إنهم يرقصون رقصة الموت على حين أصفق أنا خارج الحلبة. ويجيء فؤاد شلبي بدرية ليتناجيا في الحجرة الثالثة، تحت إطار البسملة المهداة من جدي. وقلت لأمي: شلبي ودرية أيضا! علينا أن نذهب!
فقالت محمرة العينين: ليس قبل أن تستطيع ذلك أنت. - إني أختنق. - وأنا مثلك وأكثر. - هل الأفيون هو المسئول عن ذلك كله؟
فلم تنبس، فقلت: ربما كان نتيجة وليس السبب. - أبوك مجنون.
صفحه نامشخص