وتشرح لي معنى الملاك بأنه المحب للخير، المانع للأذى، النظيف الجسد والملبس. فولي أمري الحقيقي هو المسرح، ثم الكتاب عندما يجيء وقته، وآخرون لا يمتون بصلة إلى أبوي.
لذلك سرعان ما أحببت المدرسة لدى إلحاقي بها؛ انتشلتني من الوحدة، وجادت علي بالرفاق. وكان علي أن أعتمد على نفسي في كل خطوة، أستيقظ مبكرا، أتناول إفطاري البارد من الجبن والبيض المسلوق في الطبق المغطى بالفوطة، أرتدي ملابسي، وأغادر البيت في هدوء؛ حتى لا أوقظ أبوي النائمين. أرجع عصرا، فأجدهما يستعدان لمغادرة البيت إلى المسرح، أبقى وحدي، أؤدي واجباتي المدرسية، ثم أتسلى باللعب المنفرد والقراءة - المصورة ثم المكتوبة - ولا أنسى هنا فضل عم عبده، بياع الكتب المستعملة الرابض بمجلسه عند مسجد سيدي الشعراني. وأتناول عشائي المكون من الجبن والحلاوة الطحينية، ثم أنام. لا أحظى برؤية والدي إلا فيما بين العصر والأصيل، وحتى تلك الفترة القصيرة يضيع جانب منها في الاستعداد للخروج، ولا يبقى للمؤانسة والرعاية إلا القليل. وتعلق بهما قلبي وأشواقي؛ سحرني جمال أمي وعذوبتها وحنانها، والملائكية التي تدعوني إليها، وبدا لي أبي كائنا رائعا بمداعباته الرقيقة، وضحكاته السخية، ولم يفسد جو اللقاء المحدود بتحذير أو إرشاد أو تهديد، وآثر دائما أن ينفقه في دعابة ومرح، ولم يزد عن أن يقول لي أحيانا: تمتع بوحدتك، أنت ملك البيت، ماذا تريد أكثر من ذلك؟ الولد الوحيد الذي لا يعتمد على أحد؛ كذلك كان أبوك، وستكون أروع منه.
فتسارع أمي قائلة: إنه ملاك، كن ملاكا يا حبيبي.
وأسأل أبي: هل كان جدي وجدتي يتركانك وحدك أيضا؟
فيجيب ضاحكا: أما جدك فقد تركني إلى الآخرة قبل أن أعرفه، وأما جدتك فكانت موظفة بالداخلية.
وتقطب أمي، فأشعر أن وراء الكلام سرا ما، وتقول: مات جدك مبكرا، ولحقت به جدتك، فوجد أبوك نفسه وحيدا. - في هذا البيت نفسه؟ - أجل!
ويقول أبي: لو نطقت الجدران لحدثتك بأعجب الحكايات.
كان بيت الوحدة، ولكنه كان بيت الوئام أيضا. وقتذاك، كان أبي وأمي زوجين متوافقين أو هكذا بدوا لعيني فيما بين الأصيل والعتمة، يتبادلان الحديث والدعابة، ويشتركان في عاطفة صادقة نحوي، وكان أبي يميل إلى الانطلاق في التعبير، فتوقفه أمي بنظرة تحذير ألحظها أحيانا فأتساءل. ولحظة ذهابهما كانت لحظة أليمة، لذلك كنت أنتظر يوم الخميس بنفاد صبر؛ لأذهب معهما وأشاهد المسرحية. وكلما تقدمت في التعليم والقراءة، طالبت بمزيد من القروش لشراء الكتب، حتى كونت مكتبة من قصص الأطفال المستعملة ... وقال لي أبي: ألا يشبعك أنك تشاهد المسرح كل أسبوع؟
ولكني لم أكن أشبع، ووثبت بي الأحلام إلى آفاق جديدة، حتى قلت له ذات يوم: أريد أن أكتب مسرحية!
فقهقه عاليا، وقال: احلم بأن تكون ممثلا، فهو أفضل وأربح. - وعندي فكرة أيضا. - حقا؟
صفحه نامشخص