افکار و مردان: داستان اندیشه غربی
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
ژانرها
والعلاقة الإقطاعية ذاتها - التي يرتبط فيها الناس برباط السيد والتابع طوال الفترة التي سادها نظام النبلاء - مثال رائع لإصرار العصر الوسيط على أن سلم المراتب لا يستند إلى مجرد القوة. وقد ابتذل معنى «التابع» بمرور الزمن، ونكاد نعتقد اليوم - بمقدار ما بقي هذا الاصطلاح حيا - أنه يعني العبودية المفروضة على صاحبها. ولا يزال الناس - فوق هذا - يخطئون إذ يحسبون أن العصور الوسطى كانت فترة من فترات الفوضى والاستبداد الشخصي. والواقع أن أتباع السيد كانوا من بين الرجال المهذبين وحدهم. وكانت العلاقة ترسم في حفلات معقدة في بدايتها. وكانت علاقة «ولاء» - وكانت تعتبر دائما علاقة متبادلة، فيها أخذ وعطاء؛ أي إنها كانت في الواقع نوعا من علاقات العقود المبرمة بين طرفين. وكان التابع يدين للسيد بخدمات معينة، والسيد يدين للتابع بخدمة كبرى، هي الحماية. ويعتبر أسلوب الحياة المعقد الذي يعرف بالفروسية، الذي تطور تدريجا في هذه الطبقة الإقطاعية، من أشد النظم البشرية إصرارا على الكرامة الشخصية والمكانة التي يتمتع بها الأعضاء الجدد في نظام الفروسية.
وحتى هنا لم تتفق النظرية مع تطبيقها. وقد كان للتطبيق شأن كبير بانبثاق المجتمع الحديث عن المجتمع الوسيط. كانت العلاقة الإقطاعية نظريا نظاما ثابتا لسلم المراتب، كنظام الجيش، يبدأ بأدنى الفرسان وينتهي بالإمبراطور (أو لعله كان البابا). فإذا كان الكونت تابعا للدوق، والدوق للملك، فإذن فلقد كان على كل منهم واجبات وله حقوق، تؤدى بطريقة واضحة سبق وضعها. وإنما كانت تنشأ المشكلة إذا امتلك الكونت أرضا عليها واجبات إقطاعية لدوق آخر ، أو للملك مباشرة، أو حتى لمن هو أدنى منه في المرتبة. عندئذ ينشأ الخلاف، وفي اضطراب العلاقات الإقطاعية قد يجد التابع نفسه مقاتلا ضد سيده - على الرغم من تناقض ذلك مع النظرية. وأقول بإيجاز، إن نظام الإقطاع ربما كان من الجائز أن يتجمد في صورة مجتمع طبقي ثابت، إلا أنه لم يفعل ذلك؛ لأن أعضاءه قلما كانوا يرضون عن مكانتهم في سلم المراتب، بل كانوا أحيانا غير واثقين البتة بالدرجة التي يحتلونها في هذا السلم؛ فقد كانت هذه المكانة في النهاية، في أذهان الناس في العصور الوسطى، تعتمد على الحق دون القوة. وبالرغم من أن «الحق» هنا - كما كان في غير ذلك من المواضع في العصور الوسطى - كان من اليسير جدا وفي أغلب الأحيان يفهم على أنه «العادة»؛ أي الأسلوب الذي جرت عليه الأمور، إلا أن استناد الحق إلى إرادة الله في النهاية كان ماثلا دائما يعبر عنه قانون الطبيعة.
وأعود ثانية إلى ذلك الحكم العام الشامل الذي ساد العصور الوسطى، وأعني به النظام الطبيعي، أو قانون الطبيعة وهو قانون أرضي يقترب بقدر ما يستطيع الإنسان من قانون السماء، وهذا المبدأ الذي يتميز به الغرب من الأدلة الميسورة دائما التي تساق لتأييد فكرة التغير، والتغير الثوري إن اقتضى الأمر؛ لأنه يبرز في جلاء - كما بينا من قبل - فكرة النظام الأفضل، وهو مع ذلك نظام واضح - ما دام «طبيعيا» أنه ممكن التحقيق، وليس نظاما مثاليا من العالم الآخر. وإذا كانت الفكرة - عند كثير من الناس - عن الأمر الطبيعي، تختلف كل الاختلاف - كما حدث في القرن الثامن عشر - عنها عند من يعلونهم اجتماعيا وسياسيا، كان الموقف ثوريا. أما إذا كان هناك على الأقل اتفاق عام بين المتعلمين على ما هو طبيعي، كما كانت الحال عموما في القرن الثالث عشر، فإن المجتمع يكون مستقرا نسبيا. ولكن فكرة القانون الطبيعي - في أواخر القرن الثامن عشر عندما زاد من حدة العداوات الطبقية النامية الحروب، والأوبئة، وغير ذلك من أسباب الخلل في زمن تسوده القلاقل - انقلبت إلى إيحاء بالعصيان ضد أصحاب السلطان الذين لا يحققون النظام - أو العدالة - الذي يسعى القانون الطبيعي إلى تحقيقه. وقد كان القرن الخامس عشر - بالرغم من الفوارق الواضحة في المصطلحات وفي العادات والتفكير إلى حد ما - يتفق في كثير من الأمور مع القرن الثامن عشر.
ومع ذلك فإن العصور الوسطى - حتى في سنواتها الأولى، وحتى في أوجها - لم يكن من المستحيل فيها أن تتحد الفوضى وخلل النظام في الواقع (أو في التطبيق) مع الوحدة في المثل كما تصورها الكتب الدراسية الأمريكية أحيانا. ولم تكن العصور الوسطى في الغرب قطعا زمنا يسود فيه الإيمان بالمطلق. الله وحده - في نظريات العصور الوسطى - هو المطلق. أما البشر الذي يعمل عن طريقهم فوق الأرض فليسوا سوى عملائه. وهم كبشر يمكن أن يحكم عليهم غيرهم من البشر إذا هم عارضوا قانون الله - أو قانون الطبيعة. ومما جعل الحكم المطلق المستقر جد مستحيل في المعاملات الغربية في العصور الوسطى انقسام السلطة بين القوى العلمانية والقوى الروحية، والمطالب المتعارضة لألوف السادة الإقطاعيين، والرجوع إلى العرف ليكون حكما في كل مكان. إن جذور الديمقراطية الحديثة تمتد إلى العصور الوسطى، في حين أن مبدأ الإيمان بالمطلق لم يحتل مكانة بارزة إلا في القرون القلائل الأولى من العصر الحديث.
الفصل السابع
العصور الوسطى (ثانيا)
هناك فكرة شائعة بأن العصور الوسطى - وأعني بها ألف العام كلها التي تقع بين نهاية الثقافة الإغريقية الرومانية والنهضة - لم تضف شيئا إلى مجموعة المعرفة التراكمية التي نسميها العلوم. وهذا الرأي خاطئ؛ فنحن نعرف اليوم بأن الأسس الاجتماعية، والاقتصادية، بل والعقلية، للعلم الحديث في الغرب، قد وضعت في العصور الوسطى. ومنذ القرن الثاني عشر مهد ظهور المدن والتجارة، ونمو طبقة مغامرة من أصحاب المشروعات التجارية الراغبين في تحسين الوسائل التقنية، كما مهد جمع رأس المال الذي يسمح بالإسهام في هذا التحسين، كل ذلك مهد للظروف الاجتماعية التي يمكن أن يرقى فيها العلم. ومن الناحية العقلية كانت العادات الفكرية تستند إلى دراسة المنطق، والرياضيات، والآداب، وهذه العادات بعدما اتجهت نحو المدركات الحسية المألوفة، تحولت تدريجا إلى العلم الحديث.
وفي الحق أن الرأي الذي يقول بأن العصور الوسطى لم تكن عصورا علمية، بل إنها كانت عصورا ضد العلم، له أساس من الواقع. وقل من هذه الآراء واسعة الانتشار، أو المكررة، ما كان «كله» خطأ. وكثير من كبار المفكرين في العصور الوسطى كتبوا قدرا كبيرا بأسلوب يناقض تماما ما نعده أسلوب العلم. وكان روح العصر - بمعنى ما - لا يؤدي إلى التفكير العلمي الرسمي. ولكنا هنا - كما ينبغي لنا في أكثر المشكلات المعقدة من هذا القبيل - يجب أن نحتاط من ناحيتين؛ فإن مجال الرأي الواقعي كله، ومداه في موضوع معين، يجب التثبت فيه بقدر الإمكان، ويجب أن نحاول معرفة ما يعمل ومعرفة ما يقال ويكتب على السواء. ومثل هذه الدراسة تبين لنا أن عملا نافعا كثيرا على المستوى التأملي أو الفلسفي قد تم في العلوم في أواخر العصور الوسطى، بل وإن أكثر من ذلك قد تم على المستوى العلمي للتكنولوجيا والاختراع.
إن التطرف في الاتجاه نحو العالم الآخر لا يتفق البتة والعلوم، بل ولا يتفق والمعرفة، وتستطيع تأييدا للرأي القائل بأن العلم كان ميتا موتا كاملا في العصور الوسطى أن تسوق عدة نصوص، كالنص الشائع المنقول عن سنت أمبروز، وهو: «إن البحث في طبيعة الأرض ومركزها لا يعيننا في أملنا في الحياة الأخرى.» وتستطيع أن تجد حشدا من المعادين للعقل، والمتصوفين، والرجعيين من كل الصنوف في هذه السنوات. ولكنك تستطيع أيضا أن تجد عددا من هؤلاء في أية فترة من فترات التاريخ الغربي، حتى عصرنا هذا. والواقع أن العلوم الطبيعية لم تبلغ القمة في قيمتها العقلية إلا خلال الأجيال القليلة الماضية. والمسألة دائما هي مسألة توازن بين النظريات المتعارضة. وكانت القيمة الكبرى في أواخر العصور الوسطى تعطي لنوع المعرفة الذي نسميه «المدرسية». وليست المدرسية ضد العقل بأية حال من الأحوال. إنما هي في الواقع مصدر من مصادر العلم الحديث.
ومن المؤكد حقا أن «المدرسية» في العصور الوسيطة كانت في جملتها تختلف اختلافا تاما عن العلم الحديث؛ فالمدرسية تركز اهتمامها في الاستنباط من المبادئ التي تأخذها بالنقل. أما العلم فيركز اهتمامه في التجربة لاختبار ما يعد حجة في نوعها (أي النظريات السابقة في موضوع معين). ولكن أرجو ألا تنحازوا في الرأي كما انحاز أتباع بيكون الذين أنكروا المدرسيين. وليس العلم كله «استقراء»، وليس البتة جمع واقعة إلى واقعة حتى تفرخ الوقائع بالمعجزة تفسيرها. العلم استنباطي إلى حد ما، وهو بهذه الصفة يدين بالكثير لتنقيب المدرسين. وهنالك في الواقع تلك الفئة التي ترى المدرسية الوسيطة بداية النهاية للعقيدة الصوفية الصادقة، أو بداية لذلك الجهد الحديث المضني - في ظنهم - ل «فهم» الكون الذي سار شوطا بعيدا ربما يمكن الإنسان «اليوم» من أن يهدم على الأقل كونه الخاص.
صفحه نامشخص