افکار و مردان: داستان اندیشه غربی
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
ژانرها
وقد سمحت فعلا الكنيسة المسيحية - من الناحية التاريخية - بتنوع أساليب الحياة، بل وسمحت بقدر من التنوع في تفسير الحياة تفسيرا عقليا، في ظل الإطار العام للمسيحية. وكلنا يعرف تكاثر الطوائف الذي بدأ منذ الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر واستمر بعد ذلك. والمدى واسع بين الموحدين و«العبدة المقدسين» وأتباع الكنيسة الأسقفية العليا، وهو مدى يمس النواحي العقلية والعاطفية. ولم تكن الوحدة مذهبا لا مناص من اتباعه، ولم تكن وحدة شاملة، ولم يقصد بها التشابه في كل مكان، لم تكن كذلك حتى قبل لوثر، في تلك الأيام التي كانت الكنيسة الكاثوليكية تقدم فيها للغرب وحدة دينية.
وقد كان القداس، والمذاهب، وطريقة تعليم أصول الدين، وكثير غير ذلك متشابها بطبيعة الحال، وكانت لغة القسيس في الصلوات هي اللاتينية. وكانت هناك حكومة كنسية منظمة طبقا لسلم متدرج، يمكنها أن تفض المنازعات، وبوسيلة عنيفة - إذا اقتضى الأمر ذلك - وهي استبعاد حزب من الأحزاب من المجتمع المسيحي. وقد تم كل ذلك بحلول القرن الرابع، وهو من مميزات المسيحية في العصور الوسطى. ودعنا الآن ننظر في قطاع كامل ممكن من العبادات الفعلية في القداس في الغرب خلال القرون الأولى من المسيحية بعد استقرارها. إنك ترى الرهبان في الدير يتوقفون عن أعمالهم الصامتة في الحديقة أو المكتبة، كما ترى في بلاط الزعيم الجرماني - الذي اقتطع لنفسه جزءا غنيا عندما تدهور الحكم الروماني - قسيس الأمير يقدم العشاء المقدس لبلاط الأمير، الذي يضم محظياته الكثيرات. وفي روما يرأس البابا بنفسه قداسا عظيما في كنيسة لاتيران، ويحضره المتسولون، والتجار، والجنود، والموظفون، وكل من تبقى في المدينة المتداعية. وفي القرية الفرنسية الصغيرة ترى القسيس يتعثر في طقوس لا يكاد يفهمها أمام جمهور من المصلين يتكون من الفلاحين الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة. وبالقرب من ذلك، في إحدى «الفيلات» المحصنة ضد عصابات السلب والنهب العديدة المتزايدة، ترى السيد، وهو روماني غالي فخور بثقافته، ملحد في قلبه وفي حياته الخاصة، يتثاءب في أثناء القداس الذي ساقته إليه زوجته. وعلى ضفاف الراين، ترى فرقة صغيرة من الجند وهي تستمع إلى قداس من قسيس ملتحق بالجيش يلقيه قبيل انطلاق الجند في دورياتهم. والنقطة التي أود إبرازها هي أن أسلوب الحياة، أو «ما يمارسه» الراهب، والزعيم، والمحظية، والتاجر، والمتسول، والفلاح، والرجل المهذب، والجندي، كان مختلفا جدا في واقع الأمر، ومتصلا بطرق شتى بما يسمى في أصول الدين المسيحي ب «هذه الدنيا».
وقد اندفعت المسيحية - رغم هذا - اندفاعا شديدا نحو ما يسميه الفلاسفة بالوحدانية. وإن ما يجعل الرجل وحدانيا - في الصميم - هو اعتقاده أن الكون يدور في تصميمه بطريقة ما حول «الجنس البشري»، أو على الأقل حول ناحية من نواحي الإنسان، أو قدرة من قدراته؛ فالمسيحي لا يستطيع أن يقبل النظرة التعددية التي تقول بأن الإنسان كائن عضوي بين كائنات كثيرة أخرى، في كون لم يصمم للإنسان، أو لأي كائن عضوي آخر. أو قل هو كون لم يخطط في الواقع من قبل. المسيحي يريد أن يفهم؛ لأن المسيحية ديانة عقلية رفيعة، ولكنه يريد أن يفهم فهما كليا، كاملا، لا فهما جزئيا كفهم رجل العلم، ويستطيع بعض المسيحيين في الواقع أن يكتفوا بالخضوع التام لإله يفهم كل شيء، ولا تستطيع مخلوقاته أن تفهمه. غير أن هذه العقيدة في عجز الإنسان عجزا مطلقا عن الفهم كانت تعد في تاريخ المسيحية بعد استقرارها هرطقة، أو هي على حافة الهرطقة الخطرة. وهذا الموقف شبيه بموقف المتصوفين الذين يرون أن هذا العالم المحسوس ليس إلا وهما باطلا.
وهذا الاندفاع نحو الوحدانية (ولا أقصد مجرد الوحدانية في الدين) أصبح إذن إحدى خصائص المسيحية العقلية الكبرى. وقد قاومت المسيحية بحزم شديد الدعوة إلى قبول ثنائية «رسمية» برغم الفوارق الهامة التي بينها اتجاه التفكير في المسيحية الأرثوذكسية بين هذا العالم والعالم الآخر، بين الجسم والروح، بين الطبيعي وما وراء الطبيعي. والواقع أن الهرطقة التي ربما كان الأرثوذكس يخشونها ويمقتونها أكثر من غيرها من الهرطقات التي ظهرت في القرون الأوائل الأولى، هي الثنائية الصريحة، وهي لا تكاد تكون مسيحية البتة، وإنما هي فارسية في نشأتها، وتعرف باسم «المانيكانية». وقد حلت المانيكانية مشكلة وجود الشر بسماحها للإله (النور) وخصمه الشيطان (الظلام) أن يفضا النزاع بحل وسط. كان الإله في هذا المذهب خيرا، ولكنه لم يكن قادرا على كل شيء، وعلى أتباع الفضيلة في هذه الدنيا أن يحاربوا في جانب الإله، ولكنهم لا يضمنون النصر، وهذا الموقف - الذي أثبت تاريخيا أنه جذاب لكثير من الناس - قد لفظته المسيحية الأرثوذكسية، ونبذه في حزم، كما لم ينبذه أحد، أعظم الآباء اللاتينيين، وهو القديس أوغسطين، الذي كان مانيكانيا قبل تحوله إلى المسيحية.
وهذا الاندفاع نحو الوحدانية كان معناه من الناحية العملية أن المسيحية الأرثوذكسية باعتبارها هيئة متحدة - لم تتابع اتجاها من اتجاهاتها المميزة، أو حكما من أحكامها، أو أسلوبا من أساليب الحياة ، حتى نهايته. ولو أنها فعلت ذلك لتحتم عليها أن تتخلى عن مطلبها الأعظم في الكثلكة، أو العالمية؛ فإن مذاهب الوحدانية لا تؤدي بأية حالة من الحالات إلى التوفيق والشمول بأي نوع من أنواع التتابع المنطقي - بل إنها على عكس ذلك تماما؛ فالمثالية الوحدانية أو المادية الوحدانية يمكن أن تكون ضيقة الأفق، متعصبة، لا تقبل عقيدة غير عقيدتها. وإنما هي الحاجات الفعلية للكنيسة الكاثوليكية الكبرى في إمبراطورية عالمية - الكنيسة الكاثوليكية التي تتبع بمعنى ما دور مثل هذه الإمبراطورية، وإنما هي هذه الحاجات التي جعلت الوحدانية المسيحية واسعة الأفق، شاملة لكل شيء، على غير منطقها، بل وعلى غير ما يتوقع الإنسان. إن المسيحية في صميمها - بكل تأكيد - وحدانية مثالية تنتمي إلى العالم الآخر، ولكن شيئا ما كان دائما يقيمها وسط حرارة هذا العالم وأرضه؛ ففي الغرب نرى - حتى الرهبان الذين فروا من هذا العالم المادي - قد اشتغلوا بتطهير مستنقعاته المادية وأرضه الخراب، كما اشتغلوا بتحسين محصوله، ونسخ كتبه وتصنيفها. نعم إنهم أماتوا الجسد، على الأقل ودام الدافع الروحاني للهيئة التي ينتمون إليها قويا. ولكن بعد ما ضعف هذا الدافع كان هؤلاء الرهبان أنفسهم يأخذون من هذه الدنيا بنصيب كبير حسبما واتتهم الظروف، مما ترتب عليه تنظيم هيئات جديدة مصلحة.
ولست أرمي من هذا كله إلى القول بأن المسيحية نفاق منظم، كما اتهمتها أجيال عديدة من النقاد العقليين المرة تلو الأخرى. وإنما أردت أن أقول على الأقل إن كثيرا من الرجال الذين تصدوا لقيادة المسيحية المنظمة قد اكتسبوا من قديم نوعا من الصبر الحكيم مع الكائنات البشرية، وهو صبر يشبه صبر الطبيب الممتاز - إنهم ما لبثوا يعتقدون في مملكة الإله، ولكنها لم تكن مملكة على هذه الأرض، ولم تكن بالتأكيد في زمانهم. أفلا يكون إذن من الحكمة في هذه الدنيا أن تؤخذ مخلوقات الإله كما هم - إلى حد ما - دون محاولة لتغييرهم بعنف شديد؟ ثم إن القديس بولس نفسه قد أقر بأن العذرة قد تكون أفضل الأمور، ولكنها فيما يظهر ليست ممكنة عند كل فرد في العالم، حتى مع اقتراب العودة. إن بولس نفسه يؤثر لأتباعه أن يتزوجوا على أن يتحرقوا.
وإذن فإن العناصر المثالية التي تتصل بالعالم الآخر في المسيحية لم تبلغ حدا يمكنها من تحويل «الكنيسة» إلى طائفة صغيرة لا تعترف إلا بأعضائها، طائفة مصممة على أن تعيش وفقا لأعلى المثل، أو أن توجه الجماهير - وذلك أشق - إلى أن تعيش وفقا لأعلى المثل، وقد سمحت المسيحية إلى حد ما، عن طريق الرهباني وعن طريق إصرارها على توافر مؤهلات خاصة في القساوسة الدنيويين، بدور تقوم به الأقلية المثالية، ونجحت - كما سوف نرى في الفصل المقبل - حتى عهد لوثر في السيطرة على أولئك الذين كانوا يريدون فعلا أن ينزلوا السماء إلى الأرض، سماء إلههم الخاصة بهم - وذلك بامتصاص هذه الفئة أحيانا، وبنبذها أحيانا أخرى. غير أن هذه الأوجه من العقيدة المسيحية التي تتعلق بالعالم الآخر لها برغم ذلك أهمية قصوى؛ ذلك أن هذه الأوجه هي النغمات الصادقة للمسيحية، التي تجعل منها - مجتمعة - شيئا أكثر من الملاءمة التجريبية الانتهازية مع عالم معقد. وقد كتبت ملايين الكلمات في هذا الموضوع. وليس بوسعنا هنا إلا أن ننتقي بعض الملاحظات الواضحة.
ومن أوضح هذه الملاحظات، بل لعلها نوع من الأساس في المسيحية في شتى صورها، ملاحظة يمكن أن نعبر عنها تعبيرا بسيطا إذا قلنا إنها عدم الثقة بالجسد، ونبذ ما للشهوات الطبيعية البشرية، وما للغرائز البشرية من قدرة على توجيه السلوك البشري. وقد ذكر انعدام الثقة هذا بطريقة عقلية - وإن تكن من الواضح أقرب إلى أن تكون أسلوبا عاطفيا عميقا منها إلى نظرية من النظريات - في أحد تعاليم المسيحية الكبرى، وهو الخطيئة الأولى، أو «ميل الإنسان الطبيعي نحو السوء» (وسوف نرى في فصل مقبل أن أشد أنواع الهرطقة الحديثة هولا مما جابهته المسيحية المذهب الذي يقول ب «ميل الإنسان الطبيعي نحو الخير»، وهو المذهب الذي شاع أول ما شاع بين الناس في عصر النور في القرن الثامن عشر). وهذا الشعور بعدم الثقة في الإنسان الطبيعي، الذي يتكون من لحم ودم، يسري خلال المسيحية كلها، ويتخذ صورا متعددة. ويميل عصرنا هذا الذي تسوده آراء فرويد إلى الاعتقاد بأن المسيحيين الأوائل كانوا مشتغلين بأمور الجنس، وأن خطيئة آدم وحواء الأولى كانت الاتصال الجنسي، وأن الشهوة عند الإنسان الطبيعي التي لا تضع المسيحية فيها أي نوع من أنوع الثقة هي الشهوة الجنسية. وليس من شك في أن هناك جانبا كبيرا من الأدب المسيحي يؤكد هذا الانطباع. ونستطيع من مجموعة هذا الأدب المسيحي أن نستخلص عددا من الحالات التي قد يشغل تاريخها محللا نفسانيا طوال حياته.
وقد يكون من الأقرب إلى الإنصاف أن نقول إن أكثر الفكر المسيحي لا يضع ثقة في الإنسان الطبيعي كله - شهواته للطعام، والشراب، واللعب، والقتال، والزهو، وكذلك الانهماك في الجنس. وقد كانت المسيحية الكاثوليكية دائما تجعل مكانة للإنسان الفذ الذي يحب أن يخضع الجسد، وإن كانت لم تشأ - بطبيعة الحال - أن تسمح للفرد بإخضاع جسده إلى حد الانتحار. وكانت المسيحية البروتستانتية أقل من ذلك نجاحا مع أمثال هؤلاء الناس الذين اضطروا في ظل البروتستانتية إلى تحويل دافع الزهد عندهم نحو إصلاح سلوك الآخرين فوق هذه الأرض. ولم تتخذ المسيحية الكاثوليكية أي إجراء بطولي مع الإنسان العادي. والواقع أن أسلوب الحياة الكاثوليكية التقليدي لم يختلف - من الناحية العملية - عن أسلوب الحياة عند الإغريق في عهد الثقافة العظمى، كما قد يحسب رجل من رجال الفكر المحض، يبدأ بفكرة الخطيئة الأولى وبالأدب المسيحي القديم. وقد ذكرنا أن الإغريقي في العصر العظيم كان يرى أن الإفراط في الأكل والتفريط فيه، وأن النهم والامتناع، هذا وذاك كلاهما شر، وأن الرجل العاقل يأكل باعتدال ويتخير الطعام. وكذلك الأمر أيضا عند الكاثوليكي الطيب. وكان النهم من غير شك عند المسيحي أسوأ كثيرا من الامتناع عن الطعام - أو هو على الأقل أكثر احتمالا، وهو لذلك أشد خطرا. وبقي بعد هذا في أساس المشاعر المسيحية (وربما كان في البروتستانتية وحدها) مما يتصل بهذا الموضوع شيء ينعكس انعكاسا حسنا في القول المشهور: «خير للمرء أن يأكل ليعيش من أن يعيش ليأكل.» ولكن الرأي القائل بأن المسيحية عقيدة كئيبة، وأن المسيحي ليس له أن يستمتع بالطعام، والشراب، وممارسة الحب، في هذه الدنيا، رأي خاطئ. إن الاتجاه نحو الزهد موجود في المسيحية، وإذا أنت أصغيت إليه بأذن ودية، أو أذن معادية، رن في أذنك في كلتا الحالتين. غير أن هناك نغمات كثيرة أخرى، ترن في وقت واحد على أوتار معقدة تعقيدا لا يصدق.
وثمة نغمة أخرى، وهي نغمة الإيثار، أو انعدام الشعور بالذات. وهنا أيضا نلتقي بإحدى المشكلات المجردة الكبرى في الفلسفة، وهي مشكلة الفردية أو الجماعية. وهنا أيضا نجد في أدب المسيحية الفخم مجالا يكاد يكون كاملا، يمتد من طرف إلى طرف؛ فرأي يقول بأن المسيحية عقيدة فردية جدا، تهتم بخلاص الروح عند كل فرد من الأفراد. والمسيحي في لحظات التجلي ينفرد بالله، ويكون مسئولا أمام الله وحده. والدولة، والمهنة، والأسرة، كلها أمور تشغل الذهن في هذه الدنيا عن الطريق القويم. ويمكن أن نستشهد بيسوع ذاته ضد روابط الأسرة: «وإذ هو يتحدث إلى الناس تجد أمه وإخوته واقفين في الخارج، يريدون أن يكلموه. فقال له أحدهم: انظر تجد أمك وإخوتك واقفين في الخارج، يريدون أن يكلموك. ولكنه أجاب قائلا لمن سأله: من تكون أمي؟! ومن يكونون إخوتي؟! ثم مد يده نحو تلاميذه، وقال: هؤلاء هم أمي وإخوتي ... لأن من ينفذ مشيئة الآب في السماء يكون أخي، وأختي، وأمي.»
صفحه نامشخص