افکار و مردان: داستان اندیشه غربی
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
ژانرها
إمكان الخلاص، والفرصة لتجنب الموت عن طريق بعث المسيح، تلك هي هبة الله، ولا بد للمرء أن يكون مسيحيا صادقا لكي يظفر بالخلاص، ولا بد من أن يمر بتجربة «التحول»؛ أي الإدراك الروحي لهبة النعمة التي أتى بها المسيح. ويجب أن يكون عضوا في كنيسة، في موقف طيب، وأن يؤدي بعض الطقوس المعينة. وعندما تتلقاه الكنيسة يخضع لمراسم التعميد المقدسة، التي تطهره من آثامه عن طريق بعض الطقوس، ويشارك بالعشاء المقدس في إحياء المعجزة التي جاء المسيح بالخلاص للبشرية عن طريقها وذلك بين الحين والحين. وإذا ما سقط في الإثم عاد إلى الكمال الروحاني بالاعتراف إلى أحد القسس، وبالتوبة المقدسة. وزواجه أيضا أمر مقدس. وأخيرا، والموت يقترب، يقوم له أحد رجال الدين - إذا أمكن ذلك - بمسح جسده كله بالزيت المقدس، ليعده بطريقة كريمة للقاء حسابه الأخير.
وإذن فإن للمسيحي شريعته التي ينبغي له مراعاتها، كما أن له قواعده الخلقية - وهي أقل دقة - التي يتبعها. ولم تعد المسيحية في القرن الرابع طائفة من الناس المتواضعين أو العصاة، تمارس الاشتراكية في السلع المستهلكة، وتزدري المكانة في المجتمع والثراء؛ فقد يكون المسيحي غنيا، وقد يكون ما نسميه في هذه الدنيا ذا نفوذ، بل لقد كان هناك بالفعل أخلاقيون مسيحيون شكوا من أن المسيحيين الأغنياء كانوا يحاولون أن يشتروا لأنفسهم الخلاص، بالرغم من فشلهم في العيش طبقا للمثل المسيحية في حياتهم، وهذه المثل هي، إلى حد ما، نفس المثل التي تنادي بها أكثر الديانات السامية: الأمانة، والرحمة، والصحو، وحياة تميل إلى الزهد، ولكنها ليست بالنسبة إلى المسيحي العادي حياة الأكفان والرماد. وأود أن أؤكد أن حياة الحواس لم تكن عند المسيحي العادي كما كانت في كثير من الديانات الشرقية وهما من الأوهام. ولم تكن شرا كلها، بل ولم تكن بشكل واضح مجرد مرحلة من مراحل تقدم الروح، ولم تكن بالتأكيد مرحلة من مراحل التقمص الروحي الذي ورد في أية ثقافة من ثقافات الشرق المعقدة. إن هذه الدنيا لا يمكن أن تكون كلها سوءا في نظر المسيحي؛ لأن الله هو الذي خلقها. وهذه الدنيا في نظر المسيحي تهيئ الفرصة لأن يحيا المرء حياة طيبة تعد صاحبها لحياة الخلاص الكاملة.
وبالرغم من أن المسيحية باعتبارها كنيسة عظمى قد قبلت التفاوت الاجتماعي والاقتصادي في هذه الدنيا، فإن العقيدة المسيحية لم تكف عن توكيد المساواة بين جميع بني الإنسان أمام الله. إن الأرواح البشرية لا يمكن أن تمنح الرتب. وسوف تبعث يوم الحشر، إما بين المنعم عليهم، وإما المغضوب عليهم، ولن يكون للمرتبة أو الثروة أو النفوذ أي تأثير في هذا الحكم الرهيب. ويجب أن نقر حقا - لكي نكون واقعيين - أن تعاليم المسيح تميل إلى أن تقول للمسيحي العادي إن علو المرتبة، والثروة، والنفوذ، إن لم تكن حواجز في طريق الخلاص، فهي على الأقل معوقات. وفي رأي بعض الناس أن مذهب المساواة بين الأرواح هذا أمام الله الذي تؤكده المسيحية باطراد هو إما كلام لا معنى له، وإما نوع من المخدر لكي يبقى الفقير فقيرا، ونستطيع أن نتواضع أكثر من ذلك ونستنبط أن هذا المذهب قد أمد ثقافة الغرب بنوع من التقدير الأدنى لكرامة الإنسان، أو بالفصل الواضح بين الكائنات البشرية وغيرها من الكائنات الحية.
وأخيرا فإن المسيحي - وبخاصة في القديم وفي العصور الوسطى - قبل نمو العلم الحديث، كان يعتقد أن الله ورسله (من ملائكة وقديسين) يسهمون دائما في كل ما يجري في هذه الدنيا. أجل إن المسيحي كان يميز بين الحدث الطبيعي - وهو أمر عادي - والحدث فوق الطبيعي، وهو أمر غير عادي. ولكن لم تكن لديه قطعا آراء علمية أو عقلية عن الأحداث العادية في هذه الدنيا، بل لم ير أن المتوسط شيء عادي. كان يرى أن الله يستطيع أن يصنع أمورا - بل هو قد صنعها - لا يستطيع الإنسان والحيوان وعناصر الطبيعة أن تصنعها من تلقاء نفسها. وإن شئت فقل إن المسيحي كان يؤمن بالخرافة، وإنه كان يعيش في عالم من المخاوف والآمال غير المعقولة. كان يهوذا الإسخريوطي عند الرجل المسيحي الثالث عشر من مجموعة محزنة للغاية؛ فلم يشأ أن يربط نفسه بأي شيء قد يعيد بأية صورة سوء هذا العدد. وإذن فقد كان الأمر غير الطبيعي في ذهنه واقعيا كالأمر الطبيعي، وبل وغالبا ما يمكن التنبؤ به مثله كذلك - هذا إن لم يكن غير الطبيعي شائعا شيوع الطبيعي. ويمكنك أن تقابل غير الطبيعي بالوسائل العتيقة الدينية المجربة. إن الشيطان قد يعود بطبيعة الحال، ولكن المسيحي كان يعرف وسيلة - بل وعدة وسائل في العصور الوسطى - يطرد بها الشيطان. وليست الأمور الطبيعية، أو الأمور غير الطبيعية، في هذه الدنيا في نظر المسيحي الصادق معادية في أساسها. كلاهما جزء من خطة الله. والمسيحي الصادق كان «يعرف» على الأقل ما يكفي لأن يلائم بين سلوكه في هذه الدنيا وبين الأحداث الطبيعية وغير الطبيعية على السواء، وكان «يعتقد» بما يكفي لأن يجعله يحس أن أمامه فرصة طيبة للخلاص - وذلك بالرغم من أن المسيحي لا ينبغي له قط أن يثق كل الوثوق، وفي بذاءة وصلف - في خلاصه.
أسباب انتصار المسيحية
إذا أنت سألت: لماذا شقت المسيحية طريقها بين المذاهب الكثيرة المتنافسة في العالم الإغريقي الروماني؟ كان الجواب على ذلك يسيرا؛ وذلك أن المسيحية صادقة، وأن الصدق يسود بإرادة الله. ولكن المسيحيين - حتى الطيبين منهم - على الأقل منذ بداية الكتابة التاريخية والاجتماعية الناقدة الحديثة، عجزوا عن مقاومة الإغراء بأن يقدموا لانتصار المسيحية أسبابا تاريخية طبيعية ملموسة. وقد تنوعت الإجابات وكثرت، وكثيرا ما كانت كراهية المسيحية دافعا إليها. ومن ثم فإن بعض العقليين من غير المسيحيين اعتقدوا أن المسيحية قد انتصرت لأنها اجتذبت إليها الطبقة العاملة المستعبدة في العالم الإغريقي الروماني بجهالتها وخرافتها وضعفها. وأصر بعضهم على أن المسيحية قد قدمت لكل امرئ شيئا ما، وأنها أخذت بغير خجل عن كل منافسيها. وأكد بعضهم ما نسميه اليوم جانب الهروب في المسيحية، وجاذبيتها للمتعبين واليائسين من الرجال والنساء في مجتمع مريض.
ويجب أن نؤكد هنا - وفي كل صفحات هذا الكتاب - أننا إذا اعتبرنا انتصار المسيحية حدثا طبيعيا في التاريخ، فإن عوامل كثيرة جدا كان لها أثر في هذا الانتصار. وليس بوسعنا - بما لدينا من علم ومعرفة - أن نزن هذه العوامل وأن نقيسها ونصوغها في معادلة. وليس بوسعنا إلا أن نؤكد بأن ظهور المسيحية لا يمكن أن يكون له تفسير دون أن يكون هناك عنصر من عناصر الصدق، ولا نستطيع هنا إلا أن نستعرض العناصر الأرضية المألوفة، وأن نحاول الملاءمة بينها على صورة تقريبية.
هناك أولا سلسلة كاملة من العوامل التي تدور حول عنصر التوفيق في المسيحية، وهذا العنصر التوفيقي (وأقصد بالتوفيق الجمع بين العناصر المستمدة من الأديان المختلفة) يتناوله مبسطو الأمور باعتباره التفسير الكامل، في حين أنه لا يعدو أن يكون جزءا من التفسير فحسب. فإنك قد تجد في روايات الألغاز الإغريقية، وفي قصة إيزيس، وقصة مترا، وفي اليهودية، وفي العقائد الأخرى من العالم الهلينستي «نماذج» من كل ما اعتقد فيه المسيحيون - كطقوس الطهارة والإله الذي يموت ثم يبعث، والعذراء التي تحمل، ويوم الحساب، وحفلات الربيع، وحفلات الانقلاب الشتوي، والشياطين، والقديسين، والملائكة. أما ما لا تجده خارج المسيحية فهو ذلك «الكل» الذي يكون العقيدة والعبادات المسيحية. فإذا قلت إن المسيحية استعارت من الثقافات الأخرى، فإن ذلك من الناحية التاريخية الطبيعية ليس بالتفسير الكامل للمسيحية، وهو كقولنا إن دراسة مصادر مؤلفات شيكسبير تفسير كامل لعظمتها. ويهمنا أن نذكر هنا بطبيعة الحال أن المسيحية فيها من عناصر العقيدة والعبادات ما هو مستمد من مصادر متنوعة، بل قد يكون من الحق أن القلة المعروفة والكثرة المجهولة التي شكلت العقائد المسيحية في القرون الأولى كانت ماهرة من الناحية العملية في اختيارها مسحة أرفية هنا، ومسحة مترية هناك، في العقيدة الجديدة. غير أن هذه الصورة، صورة الآباء الأوائل يرسمون خطوط المذهب الجديد قصدا، كأنهم مديرو شركة أمريكية يخططون للسوق إنتاج سلعة جديدة، هذه الصورة غير صحيحة من الناحية التاريخية والسيكولوجية، فوق أنها مبتذلة تسيئ إلى الشعور. كلا، إن الآباء الذين أسسوا المسيحية لم يكونوا من واضعي الخطط المتعمدين، ولم يكونوا قطعا يفكرون على نسق هؤلاء. إنما كان عملهم التوفيقي إلى حد كبير عملا لا شعوريا. نعم إن المسيحية تشترك في جانب منها مع قصة إيزيس - مثلا - غير أن ذلك لا يرجع إلى أن المسيحيين رسموا عامدين مريم العذراء على صورة ما ورد في قصة إيزيس، وإنما يرجع إلى أن إيزيس ومريم كلتاهما عاونتا على سد الحاجة إلى صورة للأم المواسية.
ثم إن هناك - ثانيا - بعض الصدق في قولنا إن المسيحية - بما وعدت من خلاص في عالم آخر لتعويض ما في هذه الدنيا من فقر وظلم وآلام - أثبتت أنها عقيدة شديدة الجاذبية للعامة في الإمبراطورية الرومانية المتداعية، كما أن هناك أيضا بعض الصدق في الإيمان - الذي يتصل بهذا القول اتصالا وثيقا - بأن المتعبين، والسئومين، والمنهوكين والمثاليين بالطبيعة من الطبقات الممتازة، يرون في المسيحية إما طريقا خلابا للهروب من عالم لا يحبونه وإما تحديا مثيرا للنهوض بهذا العالم. والمسيحية تفسح مجالا واسعا لإرضاء البشر، ليس بسبب التوفيق بين مصادرها فحسب، بل كذلك بسبب رفضها البات أن تختار إما هذه الدنيا وإما الدار الآخرة دون توسط. ومن الحق أن كثيرا من أسباب الرضا هذه كانت من النوع الذي يشير إليه السيكولوجي في العصر الحديث بألفاظ مثل التعويض والهروب، والتي أطلقنا عليها دائما لفظا مألوفا جميلا، هو السلوى. وإذن فقولنا إن المسيحية ديانة للضعفاء، والبسطاء، والمظلومين، قول صادق، والأناجيل صريحة في ذلك.
ومن ناحية ثالثة أحرزت المسيحية تقدما ملحوظا بين الطبقات العليا ورجال الفكر، سواء أكانوا من الإغريق أم من الرومان. وإنا لنجد في وقت مبكر جدا أمثلة مبعثرة هنا وهناك لرجال ونساء من أسر كريمة تحولوا إلى هذا المذهب الجديد المزدرى. وليس من شك في أن مثل هذا التحول من وجهة نظر رجال الاجتماع شديد الشبه بتحول ابن صاحب رأس المال إلى الشيوعية في العصر الحاضر. وواضح أن المسيحية في قرونها القلائل الأولى لم ترق للراضين المطمئنين. أما أولئك الذين تحولوا إلى المسيحية فقد سبق لهم أن خرجوا على التقاليد التي نشئوا عليها. بيد أنه من الخطأ أن تتحدث عن جاذبية المسيحية باعتبارها جاذبية عاطفية محض؛ فإن القواعد الدينية الناشئة لهذا المذهب الجديد بلغت درجة من التعقيد والتقدير العقلي تكفي لأن تجتذب رجالا من ذوي الميول الفلسفية. وإذن فإن من عوامل النصر النهائي للمسيحية قواعدها الدينية التي اتحدت في نهاية القرن الثاني اتحادا قويا بالتقاليد الفكرية الإغريقية. والواقع أن الإغريق المتأخرين أحلوا المحاورات الدينية محل المحاورات السياسية القديمة في المدينة الحكومية إلى حد كبير، وامتدت هذه المحاورات الدينية - كما امتدت المحاورات السياسية من قبل - حتى بلغت طبقات من السكان ليس من عادتها أن تشتغل بالبحث المجرد. ولما بلغ الجدل الآري قمته لم يكن عجيبا أن يسألك حلاقك في القسطنطينية أو الإسكندرية عما إذا كنت تظن أن الابن كان في الحقيقة قديما قدم الآب.
صفحه نامشخص