إننا حين نجلس الآن لنرسم تصميما نظريا مسبقا لتشكل الحياة السياسية، كنا كمن يخطط تصميما لعمارة سكنية، دون أن يكون لديه العلم بظروف السكان، أو كنا كمن يعد القفص للصيد، دون أن تكون لديه الفكرة السابقة عن نوع صيده؛ فربما جاء فيلا لا يسع له القفص، أو جاء فأرا غير جدير بالقفص.
إن الشكل الذي يقام ليتناسب مع اختلاف الآراء لا بد أن «يفصل» على الأجسام القائمة بالفعل، وليس هو كالملابس الجاهزة نصنعها مقدما قبل أن نتبين أحجام الأجسام التي ينتظر أن ترتديها. ومن هنا رأينا الأحزاب في كل بلاد الدنيا التي يحسب حسابها، وفي جميع الحالات - حتى حالات الحزب الواحد - تنشأ استجابة لمواقف فعلية حدثت، واقتضت أن يقام لها شكل سياسي يناسبها؛ أي إن الشكل السياسي ينشأ «بعد» الموقف الفعلي لا «قبله». حتى اتحادنا الاشتراكي نفسه نشأ استجابة لتطور معين في مجرى الحوادث. وإلا فلماذا تحولنا من «هيئة التحرير» إلى «الاتحاد القومي» ثم إلى «الاتحاد الاشتراكي العربي»، إلا أن يكون هذا التحول نتيجة لما حدث لا مقدمة سابقة عليه؟ أما بعد هذا كله، فإني أقول إن مشكلة المنابر هذه إنما هي مشكلة خلقناها نحن، هروبا من الإعلان الصريح بقيام الأحزاب، ثم توهمنا أنها مشكلة حقيقية تتحدانا لحلها، كما كان يحدث لنا ونحن صغار حين كنا نعقد قطعة من خيط، ثم نتحدى أنفسنا بفكها دون أن نقطع الخيط. وهكذا فعلنا الآن: قلنا «منابر» داخل الاتحاد الاشتراكي، فلما تبين ما في الفكرة من غموض وتعقيد، شكلنا لجنة لتلتمس طريقة للخلاص، مع أن مواجهة الأمر مواجهة صريحة أمينة تنتهي بنا إلى أحد أمرين لا ثالث لهما:
فإما نظام ذو رأي واحد، كالنظام القائم الآن، دون أن نضحك على أنفسنا بوهم المنابر داخل هذا النظام، وإما أحزاب تنشأ نابغة من تكتلات الرأي الفعلية التي لا بد أن تحدث بعد أن يتبلور الاختلاف الناس في طريقة معالجتهم للمشكلات التي تنشأ على الطريق حينا بعد حين.
ساعات الفراغ
جمع من الشباب كان يلهو في يوم فراغه، طلب مني - بحكم الأستاذية أولا، وبحكم وشائح القربى بيني وبينه ثانيا - طلب مني كلمة هادية أعتصرها من خبرة السنين، فقلت لأولئك الشباب عفو الخاطر: عليكم بساعات الفراغ، لا تضيعوها مع الهباء؛ فكم في التاريخ من رجل عظيم صنعته ساعات فراغه أكثر مما صنعته ساعات العمل في حرفته. كان أديبنا الكبير توفيق الحكيم نائبا في الأرياف بحكم المهنة، وعندئذ قضى ساعات فراغه في كتابة «يومياته» عن تلك الفترة من حياته، فبقيت لنا يوميات الفراغ، وذهبت عنا أيام العمل.
إنك لتقرأ عن أعلام الفقه والفكر والأدب والفن، في تاريخنا وفي تاريخ غيرنا، فيذهلك العدد الضخم من بين هؤلاء، الذين كانت لهم أعمالهم التي يكسبون منها الرزق. وأما الفقه والفكر والأدب والفن الذي تركوه بعدهم ميراثا للإنسان، فقد كان حصيلة ساعات فراغ.
العمل المقدس قداسة العبادة نفسها؛ وذلك لأنه على العمل يتوقف الغذاء والكساء والمأوى، ومن هنا كان الإلزام وكانت الضرورة. وأما هواية الفراغ فمرهونة باختيارنا؛ ومن ثم جاءت خطورتها؛ لأن الإنسان قد يختار لنفسه أن يدع ساعات فراغه تمضي وكأنها لم تكن جزءا من الزمن. نعم إن المثل الأعلى هو أن يكون العمل محببا إلى النفس حتى لكأنه الهواية، وعندئذ يكون وقت العمل امتدادا لوقت الفراغ امتدادا لوقت العمل، لكن ذلك الدمج نادر الوقوع.
وفي عصر الصناعة هذا، ليس الخطر هو خطر الآلات تغزو حياة الإنسان، ولكن الخطر الأكبر هو الزيادة المطردة في ساعات الفراغ؛ فما لم ندبر للشباب أمر فراغهم، كما ندبر لهم أمور حياتهم العملية المهنية، ضاع عليهم الجزء الأكبر من حياتهم سدى، وضاع علينا ما يمكن أن يضيفوه إلى ذخيرتنا من فكر وفن وأدب؛ إذ الفراغ هو صانع الحضارات بما يقيمه لها من هذه الذخائر. وفي هذا السياق من الحديث نذكر قولة «جيته»: إن الجانب الذي يحتاج منا إلى رعاية هو هذا الجانب الذي قد يبدو وكأنه بغير نفع لنا. وأما الجانب من الحياة الذي لا شك فيه نفعه، وأعني جانب العمل، فذلك مضمون له أن يتولى رعاية نفسه.
لقد كانت القسمة واضحة - فيما مضى - بين هذين الشطرين من حياة الإنسان؛ فهذا وقت للعمل، وهذا وقت للفراغ، لكننا نلاحظ في عصرنا ظاهرة جديدة، وهي نشأة قسم ثالث بين الطرفين، وهو قسم «الفراغ العامل»؛ أي الفراغ الذي يملؤه أصحابه بأنواع الخدمات الاجتماعية المختلفة، لا لأنها خدمات مأجورة؛ فهي في معظم الحالات تطوع حر غير مأجور، بل لأنها طريقة يقبل عليها الناس بمحض اختيارهم ليقضوا بها أوقات فراغهم فيما ينفع؛ كأن يتطوع الشباب في عطلاتهم الصيفية بمحو الأمية ما استطاعوا، بتنظيف الطرق، بتنظيم المواصلات، بمقاومة الذباب وغيره من الحشرات التي كانت تكون لها الأولوية على البشر في مصادر الطعام والشراب، إلى غير ذلك من صنوف الخدمات، وهي الآن في تزايد مستمر في كل أقطار العالم المتحضر. وماذا تسمي أمثال هذه الجهود في ساعات الفراغ، إلا أن يكون ضربا جديدا من الحياة يقع بين الطرفين التقليديين؛ طرف العمل المهني المفروض، وطرف الفراغ المتروك للهوايات الفردية.
وأحب أن أضيف إلى هذا كله، أن العمل برغم قداسته وضرورته، ليس هو الذي يقدم للإنسان ما يبرر وجوده؛ لأنه إذ يعمل فإنما يعمل من أجل غاية؛ فهذه الغاية التي تكمن وراء العمل هي مبرر الوجود. وأما ساعات الفراغ وما تنقضي فيه من هوايات لأصحابها، أو من خدمات تؤدي للمجتمع ففيها هي نفسها ما يبررها. ومن غضب الله على إنسان أن يفقده الحس الحضاري في ملء فراغه؛ لأنه عندئذ سرعان ما يجد نفسه نهبا للسأم والملل والشعور بتفاهة الحياة وعبثها.
صفحه نامشخص