الوسائل الثقافية كثيرة ومنوعة، ولكل منها خصائصها المميزة، التي قد يصدق عليها ما لا يصدق على سواها، برغم أنها جميعا تنخرط في حياة ثقافية واحدة وموحدة، كما تنخرط الخيوط المتعددة الألوان في رقعة واحدة من النسيج؛ فقد يقال عن الألحان في الموسيقى ما لا يقال عن الألوان في التصوير، أو عن الكلمات في التعبير الأدبي، ولكن تباين هذه الوسائل لا يمنع أن تكون جميعها أجزاء متكاملة في كيان واحد، هو الكيان الثقافي عند شعب من الشعوب.
على أن هذه الوسائل الثقافية - رغم تكاملها إحداها مع الأخريات - فهي ليست متساوية في أقدارها من حيث سعة الانتشار وعمق الأثر. وليس من شك في أن أداة «الكلمة» قد كانت في المقدمة بين سائر الأدوات، سعة انتشار وعمق وتأثير، وربما ساعدها على ذلك، أنها تجمع في طبيعتها كل الطبائع الموزعة على الوسائل الأخرى؛ ففيها النغم، وفيها التصوير، أو بعبارة أخرى هي تجمع بين فن التعبير وفن التشكيل في آن معا.
ولشرح ذلك أقول: إن العمل الفني - على إطلاقه - إما أن يكون ذا طبيعة زمنية؛ بمعنى أن القطعة الفنية لا بد لها أن يمتد استعراضها لدى المتلقي فترة زمنية معينة، كالمعزوفة الموسيقية، أو قصيدة الشعر أو الرواية، أو المسرحية؛ فهذه كلها أشياء لا تكفيها لحظة زمنية خاطفة، ليلم المتلقي بكل أجزائها دفعة واحدة، بل لا بد لها من فترة تمضي منذ يبدأ سماعها أو مشاهدتها إلى أن ينتهي. وإما أن يكون العمل الفني ذا طبيعة «مكانية»، وذلك عندما يكون معروضا كلية دفعة واحدة في رقعة مكانية واحدة، وعندئذ تكفيه اللحظة من المتلقي ليعلم كل ما هنالك، حتى ولو احتاج بعد ذلك إلى تحليل العناصر المكونة لها تحليلا متأنيا، وذلك هو الموقف بالنسبة إلى صورة، أو تمثال. ولقد اصطلحنا على أن نطلق على العمل الفني ذي الطبيعة الزمنية اسم «الفن التعبيري»، وعلى العمل الفني ذي الطبيعة المكانية اسم «الفن التشكيلي».
وكل وسيلة من الوسائل الثقافية إما تقع في مجال التعبير أو في مجال التشكيل، إلا «الكلمة» فهي تشكيل وتعبير معا، أو قل إنها مكانية وزمانية معا، مما يجعلها - كما أسلفنا - أوسع الوسائل انتشارا وأعمقها أثرا؛ فقد يسبق إلى وهم المتسرع، بأن الكلمة الواحدة المعينة، مثل قولنا «نهر» أو «صحراء» أو أية لفظة شئت، إنما هي كائن واحد في عالم الواقع، ذو شكل واحد وهوية واحدة، ولكن وقفة قصيرة من النظر والتحليل تظهر لنا فروقا شاسعة بين صور أربع في حياة الكلمة التي عددها واحدة؛ فهي في صورتها «المنطوقة» مصنوعة من موجات يهتز بها الهواء، وفي صورتها «المسموعة» ذبذبات في جهاز السمع، وفي صورتها «المكتوبة» كتلة من مادة - كالمداد أو الرصاص أو الطباشير - كأية كتلة مادية أخرى في الطبيعة، ثم هي في صورتها «المقروءة» ذبذبات في جهاز الإبصار. وواضح أن لكل من هذه الصور مميزاتها الخاصة. على أن هذه الصور الأربع - عادة - تقترن معا اثنتين اثنتين. فإذا كانت «منطوقة - مسموعة» كانت أدخل في مجال التعبير ذي الطبيعة الزمنية. وأما إذا كانت «مكتوبة - مقروءة» فهي عندئذ أدخل في مجال الفن التشكيلي ذي الطبيعة المكانية.
نقول هذا كله ليتهيأ به ذهن القارئ للمقارنة التي نجريها بين حياة الإنسان الثقافية عندما تكون وسيلتها الأولى هي «الكتاب»، وتلك الحياة عندما تكون وسيلتها الأولى إذاعة بالصوت وحده، أو بالصوت والصورة المرئية معا. ولماذا نقارن؟ لأن بيننا اليوم من أخذ يتساءل فيم عناء الكتابة والقراءة في عصر أصبحت فيه أشرطة التسجيل الصوتي بهذا اليسر كله وهذا الشيوع كله؟ فأجيبهم أنا كاتب هذه السطور بأنه لا ثقافة إلا إذا كان كتاب، أعني إلا إذا كانت كتابة وقراءة. لماذا؟
لأننا ننظر في حياة الناس الثقافية كلها، فلا نكاد نرى موقفا واحدا لا يتضمن الكتاب (أو قل «الكتابة») بطريق غير مباشر حتى وسائل التسجيل الصوتي نفسها، يندر جدا ألا تكون مسبوقة بنص مكتوب، قرأه قارئ ليتم التسجيل الصوتي. يضاف إلى ذلك أن عملية الكتابة والقراءة منطوية على خصائص ذات أثر في التكوين الثقافي ، مما نستحيل أن يتحقق لو اكتفينا بالصوت المسموع وحده؛ وذلك لأن العملية الرمزية التي تؤديها الحروف والكلمات والجمل - عندما تكون مكتوبة ثم مقروءة - تتضمن حركة عقلية لا تتوافر للإنسان إلا وهو في درجة عليا من درجات النماء والتطور. وأما الصوت وسماعه، في قدرة الطفل منذ العام الأول بل هي قدرة في طبيعة الحيوان. وحين يقول القائلون عن الإنسان إنه يتميز دون سائر الحيوان باستخدامه للرموز، فهم إنما يعنون رموز اللغة أول ما يعنون، ثم هم يشيرون في تلك الرموز اللغوية إلى الرموز المكتوبة المقروءة أول ما يشيرون؛ وذلك لأن عملية الكتابة (فالقراءة) فيها من التحليل والتركيب أكثر جدا مما تتضمنه من ذلك عملية النطق (فالسمع) ففي وسع الطفل ذي العامين أن يسمع جملة كاملة ثم ينطق بها دفعة واحدة، مع أن هذه الجملة نفسها لا تستطاع كتابتها إلا بعد إدراك تحليلي لكلماتها وحروفها؛ أي إنه لا بد من معرفة الأجزاء الأولية وطرائق تركيبها.
ونضيف إلى فاعلية العقل في عملية التحليل والتركيب أثناء الكتابة والقراءة فاعلية أخرى ليس لها ما يوازيها في التلقي عن طريق السمع إلا إلى حد ضئيل، وأعني بها ذلك الحوار الصامت الذي ينشأ بين القارئ والكاتب. وأما في حالة الاستماع إلى الإذاعة، فالسامع أقرب إلى واقف مر به قطار، أطل من نافذته راكب يتكلم، فإما سمعه ووعاه، وإما ضاعت منه الفرصة إلى الأبد.
ولم أقل شيئا عن المادة العلمية حين تكون متصلة ومستفيضة، وحين تكون مكتوبة في أرقام ومعادلات وإحصاءات وخرائط، وحين يكون الموضوع عن فن التصوير والنحت والعمارة، وحين يكون الكتاب معجما أو موسوعة أو أي مرجع آخر نلجأ إليه حينا بعد حين ... ولو كانت ثقافات الأقدمين في شرائط صوتية لا مدونة في كتب، فهل كان يمكن إحياؤها؟ إلا أن الكتاب الكريم «قرآن» وأولى آياته:
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم ... .
فلسفة الشهادة
صفحه نامشخص